إذا انطلقنا من أنّ حزب الله يمثّل المقاومة، فسنصل إلى أنّ انسداداً يحكم العلاقة بين المقاومة والانتفاضة السورية. لا نشكك في أنّ حزب الله أدّى دوراً مهماً في مقاومة الاحتلال الصهيوني للأرض اللبنانية، ودعم مقاومات أخرى مثل حماس، لكن هذه الرمزية التي تحصّلت له لا تؤكد أنّ مواقفه صحيحة من الانتفاضة السورية. فـ«المصلحة» من جهة، و«الوضع الطائفي» من ناحية أخرى، ودور إيران من ناحية ثالثة، هي كلّها التي فرضت هذا الموقف منه.
ربما هناك مسائل من حقه أن ينطلق منها، لكن على ألا تكون المصالح الضيقة، أو أنّه حينها يتجاوز وضعه المقاوم ويغلّب مصالح أخرى. فما يبدو غريباً في موقف السيد حسن نصر الله هو أنّه يتعامل مع الانتفاضة في ليبيا على أنّها ثورة (وهي كذلك) رغم تدخل حلف الناتو العلني، ومشاركته في «تحرير ليبيا»، ويرفض الانتفاضة السورية انطلاقاً من «المخططات الإمبريالية»، وإمكان التدخل العسكري الدولي الذي قد يحدث في وقت ما. كيف يمكن أن يكون ذلك المنطق مقنعاً؟
في ليبيا تدخلت الإمبريالية، وها إنّ تقاسم النفط يتحقق، وسيبدو أنّ مسألة الإمام موسى الصدر هي الفيصل الذي فرض تأييد «تحرير» ليبيا من العقيد القذافي، وبالتالي لا بد من تجاهل مسألة تدخل الحلف الأطلسي. في سوريا، الوضع مختلف لأنّ السلطة حليفة، وتسهّل إيصال السلاح، وتحقق الدعم السياسي، لكن هذا التناقض يخلخل رمزية المقاومة، لأنّه مهما قيل عن «المؤامرة»، وعن مشاركة «قلّة» في التظاهر، وعن أنّ أغلبية الشعب هي مع «الإصلاح»، فإنّ ما يبدو واضحاً هو أنّ الدول الإمبريالية لا يبدو أنّها تريد التدخل العسكري، وأنّها باتت أضعف من أن تفعل ذلك (ألم يقل لنا السيد حسن إنّ أميركا في انهيار؟). إذاً لمَ التهويل والتخويف من التدخل ما دام ليس موجوداً، أو ليس واضحاً إلى الآن؟
كذلك، توضح الأشهر التسعة الماضية أنّ الانتفاضة ليست من فعل «قلّة»، وإلا لاستطاعت السلطة «سحقها»، بل هي انتفاضة شعب. وهنا من المضحك الحديث عن الأرقام، إذ إنّ كلّ الثورات لم تشمل كلّ الشعب، بل نسبة الربع أو الثلث (في مصر بلغ العدد في الحالة القصوى، وبعد كسر قوة الأمن المركزي، الربع تقريباً)، فكيف حين يكون التظاهر مواجَهاً بالرصاص والدبابات والشبيحة، أي بالقتل المباشر؟ تلك هي الحالة التي تجعل من الشعب السوري أكثر من بطل، وأرفع من أن يُتّهم بأي اتهام. ورغم ذلك فإنّ معظم المناطق تتظاهر كل يوم وبالآلاف، وهي تعرف أنّ الاستشهاد ممكن، وبدرجة كبيرة.
وأظن أنّ الوضع الاقتصادي المزري، والفساد الشامل، الذي يلف سوريا أمر معروف لدى «المقاومة»، ومعروف كذلك أنّ الشعب الذي يُفقر ويهمّش يثور. فلماذا ثورته في سوريا هي غير ثورته في مصر أو تونس أو ليبيا؟ ولماذا لا يحسب حساب 80% من السوريين المفقرين، الذين يعيشون العسف منذ عقود؟
معروف أنّ أكثر من 30% هي نسبة العاطلين من العمل، وأنّ دراسات الدولة ذاتها كانت تشير قبل الانتفاضة بسنتين إلى أنّ الحد الأدنى للأجور يجب أن يكون 31 ألف ليرة (كانت تساوي حوالى 630 دولاراً) رغم أنّ الحد الأدنى كان 6000 ليرة (130 دولاراً)، وهي الأجور التي كانت تجعل السوري الأسوأ عربياً، حسب دراسات منظمات دولية. الريف أفقر، حيث كانت نسبة الفقراء في 2004 تقريباً 38,3% من مجموع الفقراء، وارتفعت في 2007 إلى الضعف، وزادت أكثر بعد ذلك، نتيجة اكتمال الانفتاح الاقتصادي وارتفاع أسعار المازوت والأسمدة. وهو الأمر الذي جعل الريف (إضافةً إلى المدن المهمشة) أساس الانتفاضة.
هذا وضع شبيه بوضع الشعب في تونس ومصر وليبيا، وكل البلدان العربية، وهو في أساس الانتفاضات كلّها. ما قيمة السياسة بالتالي إذا كان الوضع كذلك؟ وهل المؤامرة الإمبريالية هي التي أنتجت هذا الوضع المزري، أم الذين نهبوا الاقتصاد وسيطروا على أكثر من 30% من الدخل القومي (كما أشار الصديق الممانع قدري جميل)؟ أليس ذلك من نتاج الفئة المتحكمة في الاقتصاد والسياسة، والتي أسست السلطة الاستبدادية من أجل حماية النهب الذي مورس طيلة العقود الأربعة الماضية؟ هذا التمركز في الثروة بيد أقلية هي السلطة، وممارسة الاستبداد من أجل ضمان النهب والتحكم في الاقتصاد، هو الذي أفقر 80% من الشعب. فهل ندافع عنها ضد الشعب؟ أو أنّ التوافق السياسي حتى وإن كان على «دعم المقاومة» يبرر الوقوف ضد 80%، الذين هم مع المقاومة، وهم أساس كل فعل مقاوم للاحتلال والإمبريالية؟ وهنا لا يجوز تلبيس الشعب مواقف قوى سياسية معارضة، أو حتى الحكم الشكلي على الحراك الشعبي. وأظن أنّني مع الشعب وضد كثير من قوى المعارضة ومن سياساتها وتصريحاتها. فلست مع التدخل العسكري، كما لست مع «المرونة» مع البلدان الإمبريالية، لكنّني أعتقد بأنّ هذا الشعب الذي ينتفض هو الذي يستطيع وحده مواجهة الإمبريالية، والدولة الصهيونية. ولا تستطيع نظم نهبت شعوبها واستبدت بها، لا المقاوَمة ولا الممانَعة، ويمكن لَحْظ وضع الجولان، والحديث عن استراتيجية السلام، ومحاولة فتح خطوط التفاوض على نحو مستمر، وما إلى ذلك الذي تقوم به السلطة (وتصريحات رامي مخلوف لصحيفة أميركية).
ربما كان مأزق حزب الله أنّ تكوينه الذي انبنى على طائفة، وعلاقاته مع إيران، والاستراتيجية التي انبنت على ضوء ذلك، تجعل تغيير السلطة في سوريا مشكلة حقيقية. وربما هذا هو جذر الموقف الذي يتبناه الحزب، ويدفعه إلى الدفاع العنيف عن السلطة، وتجاهل الانتفاضة، حتى قبل أيّ تدخل إمبريالي (الذي لا يبدو أنّه مطروح أصلاً)، رغم عدم تحسسه من تدخل الناتو في ليبيا، والتعامل مع الانتفاضة كانتفاضة شعب. وأكرر أنّني مع انتفاضة الشعب الليبي وضد تدخل الناتو حتماً. كما أنّني مع انتفاضة الشعب السوري وضد أي تدخل إمبريالي. فحين تصبح المسألة مسألة شعب مفقر، يجب أن تسقط كل الحسابات الأخرى. فالشعب هو أساس كل مقاومة لا النظم مهما كانت. وانطلاقاً من ذلك يمكن صياغة موقف واضح يدفع الانتفاضة لكي تنتصر دون السماح بأي تدخل إمبريالي، وكشف كل من يدعو إلى التدخل العسكري، ودفع الشعب إلى رفض كل محاولة في هذا السبيل.
لذلك لا بد من أن يجري النظر إلى ما يحدث في سوريا كجزء مما بدأ في تونس، وامتدّ إلى مصر واليمن وليبيا، ولا يزال يتوسع إلى المغرب والجزائر والأردن والبحرين والعراق، وسيمتد إلى السعودية والسودان وبلدان الخليج. وهو نهوض عربي ليس من أجل إزالة النظم المافياوية المستبدة فقط، بل من أجل الاستقلال الحقيقي عن الإمبريالية ومواجهة الدولة الصهيونية، والعودة إلى الحلم العربي. هو نهوض عربي عام من أجل التحرر والاستقلال والوحدة. لا شك في أنّه سوف «يدفن» النظم، لكن يبدو أيضاً أنّه سوف يجرف قوى وأحزاب هي عبء على الانتفاضة، لذلك لا تزال تتعلق بأذيال الماضي.
هذا هو السياق الذي تنهض فيه الانتفاضات، من تونس إلى سوريا، وهو السياق الذي أصبحت الطبقات الشعبية، لا أي حزب أو سلطة، هي التي تفرض إيقاعه. وهو السياق الذي يقوم على إسقاط النظم المافياوية، والقطع مع الطغم الإمبريالية، التي ترعى تلك النظم، وفتح أفق التحرر والتطور. وسيكون الحديث عن «استعداد لحرب إقليمية كبرى» كما يعدنا الصديق إبراهيم الأمين (الأخبار 18/11/2011) جزءاً من وهم يعمم من أجل التغطية على ما يجري في سوريا، من خلال توقع حرب تستعد لها «المقاومة» وسلطة أنهكت جيشها في حرب ضد الشعب، ودفعته إلى التفكك، ولم تكن تفكّر لحظة في إمكان بدء حرب ضد الدولة الصهيونية. كنا نتمنى أن يكون ذلك ممكناً، لكن لأنّه غير ممكن تنهض الشعوب. هنا الأفق الجديد. مع ملاحظة أنّ ميزان القوى في الوضع السوري ذاته لا يسمح بتغيير يتحقق على حساب المقاومة، والشعب هو الذي حضن المقاومة في كل الأوقات التي كانت السلطة مستعدة فيها للتضحية بها.
* كاتب عربي