تستند القاعدة الأساسية في التخطيط للحرب على مبدأ "الكلفة والمردود"، وبذلك تحدد معايير النصر والهزيمة، ولبيان ذلك لابد من استعراض تداعيات العدوان على العراق من ثلاث أبعاد أساسية: أولها كلفة تدمير العراق ومؤسساته والتضحيات البشرية وقد بلغت 73 تريليون دولار، والبعد الثاني خسائر جيش الاحتلال والتردي المهني في ظل الخصخصة الجشعة، وحجم الإنفاق والأكلاف المهدورة وتداعيات الحرب الاجتماعية، والبعد الثالث الانهيار الشامل في النسق الدولي ودخول العالم حالة الفوضى وحرق الدول وبيع الأوطان لحساب الشركات المتعددة الجنسيات، مع تفاقم الأزمات الاقتصادية المركبة في أوربا والولايات المتحدة والشرق الأوسط وأبرز ملامحها: أزمات الرهن العقاري وإفلاس مئات المصارف والمصانع والشركات وتعاظم البطالة التي بلغت 280 مليون، ناهيك عن تعاظم الفقر والمجاعة وتزايد أعداد المهجريين من جراء حروب الشركات وأسواق الحرب المنتعشة، وقد انسحبت آخر الكتائب الأمريكية في 18/12/2011 مخلفة عراق منهك وثروات مرهونة لعشرات السنين، وخارطة سياسية متصدعة وأمن مفقود وشبكات عنف هلامية تتسع وتنشطر لتنسف كيان العراق وترسخ ثقافة المليشيا والإرهاب السياسي والإقطاعيات العشائرية والعوائل الحاكمة المتاجرة بالمذهب والطائفة.
الهروب إلى الأمام
مارس الرئيس الأمريكي باراك أوباما الهروب السياسي إلى الأمام بعد الفشل الذريع في إدارته لملف الشرق الأوسط وخصوصاً ملف العراق والذي ورثه من سلفه بوش، ويبدو آن الانسحاب الميداني من العراق وبشكل عشوائي دون الاستناد على مرتكزات الجلاء القانونية وفقاً للقواعد الآمرة في القانون الدولي يعد تعدي على حقوق العراق واستحقاقاته الاعتبارية والسياسية والقانونية والمالية وفقاً للمعاهدات الدولية، ويرتقي الانسحاب الميداني لمستوى الهزيمة العسكرية بعد أن شرعت الإدارة الجمهورية عام 2003 باستخدام القوة خارج إطار الشرعية الدولية وبمبررات مفبركة عن قصد لتضليل الرأي العام لغزو العراق.
ألقى الرئيس الأمريكي خطبة دعائية انتخابية بمناسبة انتهاء العدوان على العراق وذلك من قاعدة فورت براغ بولاية نورث كارولينا مرحباً بالقوات الأمريكية العائدة ، وقال إن الجيش الأمريكي يغادر العراق مرفوع الهامة، ووصف العدوان على العراق بـ"انجاز الرائع"!! ويبدو أن الرئيس الأمريكي أغفل التقارير الدولية التي توثق جريمة الحرب وحجم الضحايا من المدنيين العراقيين الذين سقطوا بنيران قواته المباشرة وغير المباشرة بعد أن أكدت الإحصائيات الدولية على قتل 1450000 ضحية غالبيتهم من المدنيين العزل وفقدان ما يقارب 800000 ألف عراقي وتهجير 4500000 خارج العراق و2400000 نازح داخل العراق ومليون أرملة وأربعة ملايين يتيم ودخول أكثر من مليوني عراقي المعتقلات الأمريكية والعراقية (ديمقراطية السجون)، وقد قال اوباما لجنوده خرجتم مرفوعي الهامة.. كيف؟!! وفي كل شارع وزقاق وبيت هناك ضحية عراقية طفل وامرأة وشيخ أو عائلة قتلتهم قواته جميعهم أم هذه جرائم ديمقراطية ليحاسب عليها القانون.
شبكة أنفاق مهلكة
يدخل العراق في شبكة أنفاق مهلكة تستهدف وجوده وهويته ومكانته في ظل التشظي السياسي، وطوئفة القانون، وتعاظم وهم القوة الذي يتمترس خلفه الطائفيون الجدد، وهم يشكلون خارطة العنف العراقي الملتهبة، وتؤكد الواقعية لا وجود للديمقراطية في العراق بالرغم من التصريحات الدعائية، ونشهد انسلاخ النظام السياسي العراقي من نظرية الدولة والإجماع الوطني، إلى التسلط الطائفي وتطويع القانون واحتكار السلطة، وطوئفة القوة داخل السلطة وخارجها، وتعاظم مظاهر عسكرة المجتمع، وتذل فيه الهوية الوطنية وتتعالى فيه الهويات الفرعية، وتنعكس تلك المسالك سلباً على العراقيين في كل مكان، وأصبح العراق يقاد بحكومة الظل من الأجهزة الأمنية وأجهزة مكافحة الإرهاب والحواشي المنتفعة.
أصرت قوات الاحتلال والشركات الأمنية على ترسيخ عقيدة أمنية هجينة وافدة (الحرب على الإرهاب) وتلك عقيدة تستعدي مواطنيها وتجعلهم وقوداً لتجارة شركات الأمن القومي، حيث اعتمدت عقيدة بناء القوات على فكرة الجنرال بترايوس الذي أنشاء قوة خفيفة قادرة على القتال مع القوات الأمريكية وفق منهجيتها مما ترك فجوه مهنية كبرى، ويصرح ممارسي الدعاية بأن العراق بلد مستقر بينما تؤكد الحقائق أن ثلث العراق مسلح بمختلف المسميات والواجهات المحتربة، ولعل الأمن في كافة الدول يخضع للقاعدة الأمنية غاس "غياب الخوف واختفاء التهديد وسياده الاطمئنان والسلم المجتمعي"، وهذا لم يتحقق طيلة سنوات الاحتلال حيث جرى التطهير الطائفي عام 2006-2008 بالتزامن مع الهجمات الإرهابية وبوجود قوات الاحتلال وقد أسهمت الأخيرة بشكل مباشر في استخدام العنف المفرط وانتهاك حقوق الإنسان وشياع مظاهر القتل خارج القانون والتعذيب الوحشي المنظم واسترخاص الدم العراقي، وانعكس سلباً على السلم الأهلي.
خارطة مسلحة
أبرز التحديات الحالية هي غياب العقيدة السياسية الوطنية والإستراتيجية الشاملة والعليا لبناء القدرة الدفاعية العراقية، والتي تعد العمود الفقري للسيادة مع تعاظم بنية الفساد والإفساد المسلحة، ويعد التحدي الأكبر في العراق بعد الانسحاب العسكري اتساع خارطة العنف السياسي، وانتشار وانشطار المليشيات الطائفية المسلحة والجماعات الخاصة المرتبطة بإيران، وتتحرك تلك التنظيمات بانسيابية عالية وحصانة دون مسائلة، وتفرض على الدوام الاضطراب السياسي والأمني على المشهد العراقي، وتحقق بذلك الوجود الذكي الإيراني والأمريكي معاً، وتلك المظاهر لا تتسق مع المادة 9 من الدستور التي تحرم عمل المليشيات المسلحة.
تشير الخارطة المسلحة في العراق إلى فوضى عارمة في القيم المهنية والمفاهيم والتعبئة، إضافة إلى مليون ونصف مسلح حكومي هناك مجالس الإسناد العشائرية البالغة 372 مجلس مرتبط بالحكومة، ناهيك عن الصحوات وشركات المرتزقة، وكذلك عصابات الجريمة المنظمة التي تنتشر على أرض العراق وجميع تلك التنظيمات المسلحة تشكل عناصر الفوضى المسلحة والأزمات الوشيكة ولعل أحداث ديالى الأخيرة ونزول المليشيات إلى الشارع بالتعاون مع القوات الحكومية جسد صدمة متقدمة تؤكد هشاشة الأمن وطوئفة المسالك وانهيار القانون وغياب الدولة.
يشكل الفكر الانفصالي والانتهازية السياسية للأحزاب الكردية برميل بارود قيد الانفجار، وهناك 80 ألف كردي مسلح (بشمركة) في كردستان العراق لا سلطة للحكومة المركزية عليها ، وتمول من خزينة العراق المركزية، وتهدد الأحزاب الكردية بين الحين والآخر باجتياح كركوك ومناطق من ديالى، كتصدير للأزمة وصرف الأنظار عن المطالب الشعبية بالتغيير السياسي، وقد ذكرت دراسة لمركز أمريكان انتربرايز بعنوان "هل الأكراد حلفائنا" أنه لا وجود للحياة الديمقراطية في كردستان في ظل تفاقم الفساد والمنافع العائلية وقمع الحريات الصحفية.
يؤسس الانسحاب الميداني العسكري من العراق لمرحلة جديدة من الوجود الأمريكي الذكي بالعراق، حيث يجري تغليب القوة الناعمة على الخشنة، مع تعزيز القدرة المكتسبة والشبحية، خصوصاً إذا علمنا أن الجيش السياسي المرتبط بالسفارة هو من قوات النخبة ، كما أن قوة الواجب (القطعات النظامية) متواجدة عبر المنافذ الخضراء بالمنطقة وفي القواعد القريبة، ليمكن القول أن الحرب انتهت بشكل قانوني، بل هو مدخل لحروب من نوع آخر في ظل ملئ الفراغ الإيراني، ولعل خطيئة العراق تتمثل بعدم أحكام النهايات السائبة بعد الحروب بشكل قانوني، ليوثق الحقوق والاستحقاقات بمعاهدات صلح دولية، وستكون الأيام القادمة عصيبة للغاية على العراق في ظل الهندسة السياسية والأمنية المعكوسة التي أرساها الاحتلال المركب، وتفاقم الانفراط المسلح، والتفريط بالقيم الوطنية والحقوق والاستحقاقات التاريخية، ولابد من استراتيجية مسئولة تعيد رسم السياسة والقوة وترسي العدالة الاجتماعية، وتتخطى التهديدات والتحديات، ويتم ذلك بخارطة طريق وطنية لبناء ما دمره الاحتلال، وخلافاً لذلك فان العراق سينزلق إلى الفوضى المسلحة والتقسيم وربما سيكون مسرح صراع دولي وإقليمي يقودنا إلى المجهول.