من الأسئلة التي تدخل في نطاق اللا-مفكر فيه، أو المستحيل التفكير فيه هي: لما لا تكون الثورات العربية اليوم مجرد وهم يضاف إلى كثير من أوهامنا حول الدولة الإسلامية، الاستقلال، الاشتراكية، الديمقراطية، اقتصاد السوق والتنمية المستدامة...؟ لقد خضنا متفرقين ومجتمعين كثيراً من تلك التجارب ويمكن الجزم أننا لم نجح في أي منها، فلما لا تكون ثورات اليوم واحدة من تلك التجارب الفاشلة. نعم، إن الأوضاع اليوم جد ملائمة للثورة، إذ لم يطق المواطن العربي حالة الجمود واليأس، أي تلك الحالة التي تسببت فيها "أنظمة سياسية" أدارت الحكم وفق منطق الاستقرار واللامخاطرة. منطق الأمن القطري والقومي، ما أدى إلى لاحراك، لاحرب ولاسلم. صارت الشعوب تقتات إما على ثروات زائلة، وإما على السياحة ـ وأي سياحة ـ أو على قروض وهبات الدول المانحة وكأنها "متسولة زمانها". هذه الظروف وغيرها توجب الثورة، بل وأكثر من الثورة لمواجهة مخططات "الإصلاح" الوهمية التي تتبناها الأنظمة العربية.
إن الكل يشهد اليوم هذه الثورات العارمة والشاملة التي طالت الكثيرين، وربما ستطال مستقبلاً الجميع، فقد عبرت تلك الثورات باختصار عن الطلاق المعلن والبائن بين الشعب والنظام، ولكن لم تسجل بعد مراسيم زواج الشعب مع طرف محدد، أم هو زواج مع "الديمقراطية"؟؟ الديمقراطية التي صارت اليوم مستهلكة وغير قادرة على تحقيق التمثيل الفعلي لكل الشرائح الاجتماعية. كما أن الشعوب والدول التي استفادت من الديمقراطية لم تقطف ثمار نضالها الثورية مباشرة، إذ تطلب نزع المؤسسات القديمة وبناء أخرى جديدة عقوداً من الجدل، الخلاف، الفقه التشريعي والعمل المتواصل.
قبل اندلاع الثورات العربية، سمعنا منذ ما يقارب ثلاث سنوات كلاماً كبيراً وخطيراً حول الأزمة الاقتصادية العالمية، والتي مست بداية الولايات المتحدة الأمريكية، ثم تأثرت بها وبدرجة أقل أوروبا، كما بدأنا نحن البلدان العربية نحس برياحها بارتفاع قيمة السلع التموينية. وقبل تلك الأزمة الاقتصادية كانت الدول المصدرة للبترول تبيع البرميل الواحد بما يقارب 150 دولار، وكانت الدول المستوردة تشتري بذلك السعر، والذي لم يكن ليرضيها بكل تأكيد. ولكن هل لهذا علاقة مع الأزمة الاقتصادية ومع الثورات؟ نعم، لهذا علاقة مع الأزمة الاقتصادية ومع الثورات بعض الشيء، فمن جهة يمكن لتلك الدول باعتبارها منتجة ومصدرة للمواد الاستهلاكية أن ترفع من قيمة منتجاتها. وذلك مبرر، نظراً لأن الإنتاج يحتاج إلى طاقة، وفي حالة ما إذا ارتفعت تكلفة الطاقة، ارتفعت التكلفة الإنتاجية. في المقابل، وفي حال الدول المستهلكة يمكن أن تبادر إلى الاستهلاك العقلاني، بالامتناع أو على الأقل التقليل من استيراد المنتجات الكمالية. وفي المقابل، يتوقع أيضا من المنتجين أن يُوقفوا أو على الأقل يُقللوا من إنتاج تلك السلع، ما يعني حتماً زيادة البطالة لديهم. والمخرج من ذلك لا يكون إلا عن طريق تفعيل الصراعات في العالم وإحلال حالة عدم الاستقرار في الحلقات الضعيفة منه. وأضعف الدول تنال شرف الدخول في مخططات إعادة التنظيم وإعادة التوازن. والملاحظ، أنه في كثير من الحالات أن المبتغى الاقتصادي ينال بالوسائل السياسية.
إن حالة عدم الاستقرار التي تعرفها كل الدول العربية تقريباً، تستدعي اليوم إنفاق الملايين من الدولارات من أجل إعادة البناء كما هو الحال في تونس ومصر، ونفس الشيء مرتقب في ليبيا، سوريا واليمن. كما أن الإنفاق سيكون من أجل ضمان استمرارية الاستقرار بالنسبة للدول التي لم تركب بعد موجة الثورة، وذلك بزيادة الأجور، صرف العلاوات والتنمية المستعجلة كما هو الحال في المغرب، الجزائر والعربية السعودية... والإنفاق يعني ببساطة إعادة صرف أموال البترول المدخرة خلال الفترة التي عرفت فيها أسعار البترول ارتفاعاً كبيراً. وهذا الإنفاق لا يعني أكثر من شراء سلع منتجي الدول العظمى، ليس من أي منتجين، ولكن ذلك سيكون حكر فقط على الأوروبيين والولايات المتحدة الأمريكية، الأوصياء والراعون المباشرون للثورات العربية. في حين أن الصين ورغم مصالحها الاقتصادية في المنطقة العربية لم تتمكن من تأييد هذه الثورات، لأن طبيعة نظامها السياسي لا يسمح بذلك، ومن هنا المفارقة الكبيرة التي تعرفها الصين بين بنيتها الاقتصادية وبنيتها السياسية. وتستغل أمريكا هذه المفارقة الموجودة في البنية الصينية من أجل مناورتها بسرقة الأسواق العربية التي اجتاحتها الصين منذ أكثر من 20 سنة.
كما، وتأمل أمريكا لاحقاً أن تمتد هزات التغيير إلى الصين، فلو حصل ذلك، فإن الاقتصاد الأمريكي سينتعش بشكل رهيب، وسيجعله ذلك يعمل على إنجاز كثير من مشاريعه، حتى تلك المتعلقة بغزو الفضاء وإعمار بعض الكواكب... ولكن موعد الصين لم يحن بعد وربما لن يحين أبداً، الأكيد أن إيران على القائمة، لن تكون شأن الرئيس الأمريكي الحالي أوباما، بل شأن من يليه، حيث أن عملاً عسكرياً شبيها بما حصل في العراق سيتم الإقدام عليه بغية تدمير المفاعلات النووية والقدرات العسكرية الإيرانية، ما سيضمن حماية وأمن دائميين لإسرائيل، وانتعاشا اقتصاديا أمريكيا. ولا يمكننا أن نتغاضى أيضاً أن الاقتصاد الأمريكي مبني على تصنيع الأسلحة، والسلاح كسلعة لا يستعمل، لا يجدد ولا يتلف إلا خلال الصراعات، الأزمات والحروب. وإن حضر السلاح على ليبيا هو مجرد واجهة فقط، فبدعوى حماية المدنيين تم تحريك الترسانة العسكرية الغربية بكل ما يتضمنه ذلك من تدريب للقوات، رفع الجاهزية لديها، تبرير وجودها، تبرير الإنفاق عليها، اختبار العتاد الجديد، قياس فعالية ودقة الضربات. وإلى جانب كل ذلك يصير استعمال الذخيرة الحية حافزاً لإنتاج المزيد منها، كما أن تدمير القدرات العسكرية الليبية سيستدعي مستقبلاً إعادة تسليحها كما حصل سابقاً مع العراق ودول أخرى، حينها تكون المصانع الأمريكية قد صنعت لهم ما يلبي احتياجاتهم.
ومع الثورات العربية ظهر خطاب جديد حول أهمية الجيوش الوطنية في المحافظة على الاستقرار ومرافقة الشعب لبر الأمان، بالنسبة لمصر، تونس واليمن صار ذلك جلياً، يعني ذلك أنه مستقبلاً لا بد من تدعيم هذه الجيوش بالتدريب، العتاد، الأشخاص ورفع الميزانية المخصصة لهم؟ إن البورصات العالمية والمراصد الاقتصادية اليوم بدأت تتكلم عن انتعاش الاقتصاد الأمريكي وانخفاض البطالة، ولم نعد نسمع عن الأزمة الاقتصادية العالمية، ألا يمكن أن نربط بشكل مباشر بين طرفي المعادلة؟ هل كانت تلك الثورات عفوية أم أنها مؤامرة مخطط لها؟ بلا شك، إنها مؤامرة لعب فيها الإعلام دوراً كبيراً وخطيراً. إن الإعلام اليوم يصنع الحدث، يزيف الحقائق، يقلب الرأي العام رأساً على عقب، سواء كان الإعلام الداخلي أو الخارجي، الوطني أو الدولي. والمأساة في كل ذلك أن الشعوب لن تستفيد شيئاً من وراء تضحياتها، لأن ذلك سيستدعي عملاً طويلاً وشاقاً، سيستغرق وقتاً لن يمنحه لها التاريخ، فبعد 50 سنة من الآن لن يكون الخطاب العالمي أو المحلي منشغلاً بالشأن السياسي (الديمقراطية، الحكم، التداول على السلطة، حرية التعبير...) بل سيوجه اهتمامه للمشكلات الإيكولوجية ومشكلات الطاقة الملازمة لزوال المحروقات مثل الغاز، البترول والفحم...
إن هذه الثورات ستخدم أمريكا بالدرجة الأولى، والمعضلة الكبرى أنه سواء قمنا بتلك الثورات أم لم نقم بها فإننا خاسرون، وفي كلا الحالتين ستكون أمريكا هي الرابحة. وينطبق الحال نفسه على حروب التحرير التي لم نجن بعد ثمارها، بدليل أننا في صدد القيام بثورة ضد الحكام والأنظمة التي نشأت من عمق تلك الحركات الثورية. لقد تم صنع التاريخ وحسم فيه بين الحربين العالميتين، وقد كانت الأمم العربية حينها مستعمرة ولم تكن طرفاً فاعلاً في صنعه، كما أنها الآن لا تصنع التاريخ. إن الدول الغربية تلعب لعبة تتجاوزنا ليس فقط من الناحية الذهنية بل ومن الناحية المادية والميدانية. إننا واقعون في مخططات كبيرة تشترك فيها عدة أطراف ودول ذات مصالح متكاملة أحياناً ومتناقضة أحياناً أخرى.