ترافقت التصريحات الاستشراقية الأمريكية الأخيرة، التي تتجاهل التاريخ الفلسطيني والمعالم الزمانية والمكانية للقدس، مع البدء بتنفيذ أكبر مخطط تهويدي للمدينة، يتغيا اختراع تاريخ مزيف جديد. في ذات الوقت يغرق الخطاب العربي في ديماغوجية الجواب وانعدام الفعل.

«غينغريتش» ونظرية اختراع التاريخ!

مأمون شحادة

إن عناصر القومية لأي مجتمع من المجتمعات تتكون من اللغة، والثقافة المشتركة، والتاريخ والمصير المشترك الواحد، فالقومية عامل مساند للرابطة المدنية وإن تشكّلت، لأنها تمثّل الجسر الواصل ما بين الماضي والحاضر، ولكن هل الأدلجة الأمريكية المبنية على الرابطة المدنية تفتقد تلك العناصر؟ إن المجتمع الأمريكي بتكويناته المزجية يفتقد عنصر القومية ومؤدلج بكثير من اللغات والثقافات، بعكس المجتمعات التي تمتلك مفهوماً قومياً ترتبط من خلاله بمفهوم الأمة الواحدة التي لها هوية جمعية تجمع بين أفرادها.

انطلاقاً من هذه القاعدة التعريفية نوجه سؤالاً للسيناتور الأمريكي غينغريتش: من هو المُلفَق على التاريخ والمخترَع؟ المجتمع الأمريكي؟! أم المجتمع الفلسطيني؟! كذلك نتمنى أن تحدثنا عن الثقافة الأمريكية المشتركة، والتاريخ والمصير الأمريكي المشترك الواحد، لنتعرف على تصريف أفعال "حضارتكم" التاريخية القديمة بعيداً عن أفعال الحاضر والمضارع المبنية على دماء الهنود الحمر!! إن وصفكم المجتمع الفلسطيني بـ"مجموعة من الإرهابيين وشعب تم اختراعه" إنما يدل على أن ذاكرتكم القصيرة أصيبت بالزهايمر التاريخي وجنون العظمة، فالشعب الفلسطيني لم يقم بإبادة شعب للحلول مكانه، كما فعل رعاعكم بالهنود الحمر، وكذلك غير خالٍ من عناصر القومية التكوينة.

إذن، فمن هو الإرهابي؟ ومن هو الشعب المخترَع؟
أمام هذه الأحقاد الدفينة بين ضلوع عتمة الليل وتهويد القدس، وبناء تاريخ فوق التاريخ، سؤال يدق أجراس عقولنا قبل أن يدق طبول شعاراتهم على أنغام كلمات السيناتور غينغريتش، ما الذي تبقى من القدس؟ وأين الضمير العالمي المستتر من بوصلة لا تشير إلى شعب ما زال تحت الاحتلال؟ أسئلة ليست بعيدة عن ملامسة واقعنا العربي الدفين، الذي يعشق المفعول به، بعيداً عن لغة الفاعل، وهو مشدود للكسر، بعيداً عن الضم، ولسان حاله معلق بين نصف الدفء ونصف الموقف، فهو لا يقتطف من قصيدة قباني إلا مقطعاً واحداً: "لا تفكر أبداً فالضوء أحمر"!!

إن القضية الفلسطينية تحتاج إلى موقف كامل وواضح للرد على تصريحات غينغريتش، وليس قرارات تسابقية لضخ المضخوخ إلى دولة الكيان الإسرائيلي ما بين المفعول به والمفعول لأجله، فالشبه بين نصف الدفء ونصف الموقف، كالشبه تماماً بين أصحاب القرارات التسابقية وجلاد تهويد القدس. نحن لا نريد خطابات تعزف على وتر القلقلة، والقيل، والقال، والقيلولة الخطابية، والديماغوجية، وأصحاب الفخامة، وأصحاب القداسة، ومجالس التكوين والتكوير والتحلية، فالكل في مصاب الخطابات جلل. أمام هذه التصريحات الأمريكية التي تجهل قراءة التاريخ وتعريفاته، نجد أن تزوير المعالم الزمانية والمكانية للقدس-وفق هذا الجهل- بدأ حيز التنفيذ بتدشين أكبر مخطط تهويدي للمدينة، لبناء اختراع تاريخي فوق التاريخ، وكأن المذبحة الأمريكية بحق الهنود الحمر أصبحت نموذجاً يحتذى به، فمستوطنة "هراه- برتسليتسه" المزمع إقامتها لربط مستوطنات مدينة القدس أخذت تزحف لتهويد أولى القبلتين مثلما يزحف الخطاب العربي المتصحر إلى اخضرار مستقبل أمة الضاد.

ولكن! أين نحن من بوصلة لا تشير إلى القدس؟ وأين نحن من قرارات تعفّن الحبر على أوراقها؟ وأين نحن من تلفاز عربي لا يشير إلى القدس إلا بلغة الغناء والحقيقة الضائعة؟ وأين نحن من نظرية بناء تاريخ فوق التاريخ؟

ليس من الغريب أن نجد الخطاب العربي محنطاً أمام كلمات السيناتور الأمريكي، ذلك لأن الأينيّات كثيرة، والكيفيات قليلة -بل معدومة-، وما بين أين وكيف، يصطدم واقع مدينة القدس بمستوطنة جيلو، ومستوطنة جبل أبو غنيم، ورمات شلومو، وبسغات زئيف، وجفعات هاميتوس، ومعالي زيتيم، لتجد المدينة نفسها ما بين سنديان الاحتلال ومطرقة الخطاب العربي الديماغوجي.

السؤال المطروح على جسد الأمة العربية، إلى متى ستظل الشعارات العمياء لا ترى إسقاط الحرف العربي من جسد مدينة القدس؟ وإلى متى ستظل الخطابات الصماء تغض الطرف عمّن يسعى لإجهاض مدينة الإسراء، مثلما يسعى السيناتور غينغريتش لإسقاط التاريخ من عروبتها وإسلاميتها؟!