نزلت إلى تونس، كنت وحدي إلا من صوت طفلتي الصغيرة يرن في أذني، ووجه زوجتي التي أخفت حزنها لابتعادي عنها، عن عينها.
قالت حاول ان تدخل على الماسنجر أو الفيس بوك حتى لا نفتقدك كثيراً.
ركبت تاكسيا ًلأبدد وحدتي لأعرف المدينة، لأثرثر مع أحد:، أي أحد، في الليل عندما أتعب سأعود الى المقهى: الحضن الدافيء للغرباء.
قال السائق ما هي اخبار المظاهرات في مصر؟ سمعت انكم هناك تستطيعون أن تسبون الرئيس، ماهي حركة كفاية؟
قال محمد ولد سيدي لمرابط صديقي الموريتاني الذي تآلفت معه سريعاً:
لا تحكي مع سائقي التاكسي بعد ذلك، وبصوت خفيض أكمل، كل كلمة تصل للبوليس في نفس اليوم إن لم يك في نفس الساعة.
أتآلف بسرعة مع الموريتانيين والسودانيين وافكر كثيراً في أن أحصل على جنسيتهما منذ فترة بعيدة، طيبون بالجملة ومثقفون وفي غاية الكرم.
ذات يوم طفت بالسيارة مع درة صاحبة المقهى الذي اكتب به، كانت تقف عند أعوان البوليس - افراد قوى الأمن على رأي اخواننا في الهلال الخصيب.- تدعوهم من الشارع أن يأتوا إلى المقهى ليشربوا شيشة وشاي، تقول وهي تهش وتبتسم، عندما لاحظت تساؤلاً على وجهي:
حتى لا يخربوا المقهى، يلعن دين والديهم ..
لكنها منذ عامين تقريباً تعلق صورة زين العابدين بن علي .. خيارنا الوحيد 2014.
أضحك بسخرية لأخفف عنها وأقول خيارنا الوحيد وبدون سنوات: عندنا يقولون: إديها كمان حرية.
وجدت الفيس بوك مغلقاً - لم تصدقني زوجتي منى سلمان المذيعة بقناة الجزيرة واعتقدت أنني أتهرب منها، وأن حسناوات تونس بجانبي طوال اليوم، أنقذتني من بين أنيابها صحيفة الحياة اللندنية، نشر ت خبراً في نفس التوقيت عن منع الموقع في تونس،، على إثر ذلك بعد أن ظهرت نصف براءتي – الزوجات لا يمنحنك الثقة ولو كن واثقات فيك - أعلنت الجزيرة الحرب سريعاً وقدمت السيدة منى في نفس الأسبوع حلقة من برنامجها منبر الجزيرة لمدة ساعة عن غلق الموقع، وأيد الموضوع اتصالات من توانسه من بلاد عدة بأسماء مستعارة على الأرجح، وطلعت أصوات أخرى تقول إن الموقع متاح، بينما هو على شاشتي في عداد الموتي والمسحوقين.
في نفس الليلة فتح الموقع وقامت كتيبة النظام التي تقف خلف من يحكم تونس بالعواء طوال الليل وبأن الموقع متاح منذ إعتلاء بن علي للسلطة، لكن الخونة – من أمثالي بالطبع – هم الذين يريدون تشويه صورة تونس، الحمد لله، لم يستعيروا التعبيرات السورية من عينة إضعاف الشعور القومي وتسريب الوهن إلى ضمير الأمة – لديهم تعبيراتهم بالطبع ولديهم الخبراء على كل شكل وصنف ولديهم ختم الرب. حكومه كاملة ترد على الموضوع وتلعن قناة الجزيرة والإعلام المدسوس والمأجور وألفاظ أخرى من طراز التحريض وحفنة الكارهين والشراذم الإعلامية المهم أنني ظهرت بريئاً أمام حكومتي السيدة منى وشاركت آخرين في إشعال النار من بعيد.
لكن حريقا أكبر منهم كان في الطريق.
أدر أصبعك بعيداً عن أعيننا.
أحرق البوعزيزي نفسه بعد أن صودرت عربة الخضار، لكن الحقيقة المرة أنه أحرق نفسه بعد أن تلقى صفعة من اليد الغليظة.
قال بن علي: حين أخبروه
فليمت، فليمت.
مات غيره كثيرون من قبل.
هناك من تحدث عن البطالة وهناك من يتحدث عمن سجن وحوصر في قوته وقوت أهله وفي حركته في الشارع والبيت وفي الحمام منذ سنين دفاعاً عن حرية التعبير لكن ما هو أقرب الى الصواب أن الناس خرجت في الأساس ضد اليد الغليظة للدولة البوليسية، ضد اليد الغاشمة التي طوقت اعناقهم وسحقت كرامة الشعب التونسي.
خرج بن علي على الناس في التلفزة كما يسميها اخواننا التوانسة، غاضباً عاصفاً، أعطى وعوداً من مقعد القوة، دق الطاولة بيدة مرتين بعنف لوح بإصبعه، توعد بسيف الحجاج: وصرخ: بكل حزم بكل حزم.
كان الرد الثاني بعد البوعزيزي جاهزاً من مطرب الراب حمادي بن عمر عاصفا أيضا، مضاد له في العصف والاتجاه: اغنية بعنوان الجنرال، قال في أهم جملة فيها:
أدر أصبعك بعيداً عن أعيننا.
اعتقل لثلاثة أيام، قالوا انه قد افرج عنه، لم يظهر له أثر وأهله قالوا: كله تمام، ما صار شئء.
واليد الحقيرة التي صفعت أطلقت النار، أطلقت الكرطوش.
تناثر دم الشهداء على الأرض واحتدمت الاحتجاجات أثناء عملية تشييع الجنازات التي أرادتها السلطة خفية، وأرادها الأهالي وقوداً لغضبتهم
السلطة تقتل والناس تتظاهر، بدا أن هذه هي المعادلة الجديدة.
كان الدم هو البطل، ولطفي حجي، صديقي مراسل الجزيرة، يضرب في المطار كلما دخل او خرج؟
وخرج بن علي ثانية. بعد أن دس العصابات داخل المدينة لتنهب وتحرق.
قال انهم ارهابيون وعصابات ملثمة.
وجاءه الرد سريعا من المسرحي المعروف فاضل الجعايبي:
لسنا ملثمين ولسنا عصابات.
كان الجعايبي قد تلقى في نفس اليوم هو ورفاقه بركات اليد الغليظة التي لاحقتهم وركلتهم في الشوارع.
ورفعت جليلة بكار يدها المزدانة بدم الشهداء والمصابين تلوح: لا عودة بعد اليوم.
أعلنت حالة الطوارئء وبدأ حظر التجول
وكان الخروج الثالث:، خرج بعد ميعاد بدء حظر التجوال بساعة كي يضمن أن الجميع في البيوت، مسمرين أمام الشاشة:
بدا متوسلاً ومتسولاً وقال:
أنا فهمتكم، أي نعم فهمتكم، فهمت الكل
العاطل والمحتاج والسياسي ... وانهالت وعوده بينما كان شتاء الغضب يغطي أطراف العاصمة.
وخرج الناس الى الشوارع، كسروا حظر التجول، وانطلقت الزمامير واندس أعوانه، جاهزون وربما التقطوا الإشارة سريعاً، وتناثرت بضع هتافات خافتة بائسة
قلت لسيدة تقف الى جانبي:
من هؤلاء ولماذا يهتفون:
انت مصري؟
مصري وتونسي.
- انا اريد تخفيض سعر السكر والحليب والدقيق والمكرونة والبيض
.. فقط؟
- وقطع يد رجال البوليس. والإدارة.
وأردفت: الفساد .. الفساد..
.. والبوليس؟
صمتت.
يجب قطع يد البوليس اولاً حتى تستطيعين أن تقطعي اليد القذرة للدولة.
- الله يهلكهم.
(للإحاطة، كان بن علي قد أوفى بوعده وأرجع الجمهور التونسي الذي قام بتهشيم ملعب كرة القدم في مبارة كرة القدم بين الأهلي المصري والترجي التونسي دون محاكمة وأوفى بوعده)
وفتحت المقاهي وشرب الناس الشيشة، وناموا على أمل بالهدوء، في الصباح كانت الدماء تجري بسرعة على اقدام اصحابها في الاتجاه الى قصر قرطاج، واشتعلت العاصمة، التي كان كل هم السلطة الغاشمة الا تصل الاحتجاجات اليها، وظهر التحدي الحقيقي حين اجتمع الناس امام وزارة الداخلية، الوزارة التي كانوا يتحاشون المرور امامها، وانهالت هراوات البوليس الكهربائية، وصعد التيار في كل رأس في تحد علني.
ظهر الطاغية بمظهر المسكين، وقال أن هناك من غالطه وأعطى له المعلومات بالخطأ (وأنهم سيحاسبون .. سيحاسبون) وهناك من قال أن الرئيس بشر واعترف بالخطأ وهذا هو بداية الإصلاح الحقيقي، حيلة كادت تنطلي على الجميع، وفوجئت شخصياً عندما ظهر أحمد نجيب الشابي وهو يقف في صفوف المعارضين الأوائل لبن علي من زمن وهو أيضاً صاحب التعبير الشهير عن انتخابات بن علي الأخيرة حين قال في قناة الجزيرة أنها مسخرة مسخرة مسخرة، وهو الذي ذاق الأمرين من عسف السلطة والبطش به، فوجئنا به يقول أنه يقبل تنازلات بن علي إذا كانت هناك آلية تضمن ذلك. سقط بن علي من العيون الذين قاموا بالثورة لم يبلعوا الطعم ولا استهوتهم دعايتة وتنازلاته ولا أرهبهم زبانيته وبلطجيته الذين ملأوا الشوارع، وانهمروا منذ ساعات الصباح الأولى إلى الشوارع.
في الشارع شيء وفي القصر شيء آخر
في الشارع كانوا ينادون: خبز وماء وبن علي لا، وفي القصر كانت ليلى بن علي تصدر أمرها للخدم بتجهيز الغداء، ثم انسربت خلف زوجها وطفليها الى أقرب هيليكوبتر، تاركة المائدة دون ساكنيها، بينما السكان الحقيقيون كانوا في الشارع بأقل قدر من الطعام وأكبر طبق من الحرية.
لم يصل الجمعة إلا نفر قليل وإن ظل بعض الدعاة يدعون لنصرة بن علي كما هو معتاد كل أسبوع.
لم تنفعه الدعوات الكاذبة.
وخرج بن علي الى الأبد
صرخ سمير بن علي الصحفي، واحد من الكتاب المعارضين الذين ذاقوا الأمرين، وهو يبكي: سقط هبل أخيراً سقط هبل. (سمير لقبه بن علي لسوء حظه، كان يضحك ويقول احتمي به من البطش، لكن اليد الغليظة بطشت به حين رفض التوقيع على ترشيح بن علي الآخر رئيساً للفترة القادمة)
كان لافتاً للنظر أن أحد الصحفيين ترك القلم والورقة وجهاز الكمبيوتر ووقف في قلب العاصمة متحدياً حالة الطوارئ ليصرخ تونس حرة، بن علي خرج، تونس حرة، زين الهاربين هرب.
لم ينتظروا الصباح، الصباح الحقيقي بدأ، شرعوا ينزعون صورته من كل مكان في شارع الحبيب بورقيبة – الشارع الرئيسي في قلب العاصمة - وكانت المفاجأة كلما نزعوا صورة وجدوا أخرى تحتها، وحين نزعوا الثانية كانت هناك ثالثة، وراحت سكرة النشوة سريعا وهبطت فكرة الخوف من المجهول
ذهب الديكتاتور وبقيت الديكتاتورية ..
كان الغنوشي رئيس مجلس الوزراء قد ظهر في بيان خافت ينعى رحيل بن علي بلغة باردة مرتعشة كأنه غير مصدق أو غير موافق (في أرجح الأقوال أنه فوجيء مثلنا بأن بن علي هرب في الصباح) وبجانبه رئيس البرلمان المبزع الذي تولي الرئاسة المؤقتة بعد يومين، والثالث (يا للهول كما يقول يوسف وهبي في إحدى مسرحياته)هو عبد الله القلال رئيس مجلس المستشارين بسلامته والذي كان وزير داخلية بن علي في وقت قريب.
قلت: يا خبر أسود
رد سمير: لماذا
قلت له القلال وزبانيته مازالوا في السلطة لن يسلموها بسهولة، سيقتلون الثورة.
قال واحد يقف خلفنا
ولِد القحبة، قتّال الأرواح .. قتّال الأرواح.
في الليلة الأولى لم ننم، نصفها بين القنوات المختلفة ونصفها في الشارع، كان العسس المحلي قد استعاد صورته التي قرأناها في الكتب والثورات، وقفنا في الشارع مدرس وصحافي ونجار وعطار وصاحب حانوت وحارس بيت، الذي يحمل هراوة والذي يحمل عصا بمسامير، وثالث ورابع وعاشر يحملون قطعاً حديدية متنوعة لندافع عن حينا ليلتها- حي المروج - حي بعيد عن وسط المدينة بنحو عشرين كيلو متر في الاتجاه الى مدينتي الحمامات وسوسه.
لم نعد نحتاج لوسط المدينة ليلتها، انهينا المظاهرة الكبرى وانتصر الشعب وانتشينا.
قال المدرس الذي يعشق العربية، علمنا الناس كي تقف معنا، كنا ننتظر المصريين ولكنني لا الومهم، كان على الشعوب العربية كلها أن تقف ضد النظام المصري لو تغيرت مصر لتغيرنا كلنا من زمان.
شاهدنا الناس الغلابة المحرومين ينهشون مجمع (المونوبري للمواد الغذائية) المملوك لزوج إحدى بنات الرئيس، لم يعبأوا بحظر التجول ولا بطلقات الرصاص ولا انتشار الجيش ولا بالحديث عن عصابات، أخذوا ما حرموا منه، ما تيقنوا أنه حقهم المسلوب وعادوا لبيوتهم.
كنا نمر على حي النور بسيارتنا مسرعين، سكانه يلقون الطوب وقطع الحديد على السيارات، حي فقير يشعر سكانه أنهم منهوبون من الحكومة والنظام ولم يستطع أحد من سدنة الأخير أن يقترب منه أو يدخله لسنوات.
واستمر حظر التجول
نمنا في المقهى، لا يمكن ان ينام كل منا بمفرده في بيته، طبخنا ما استطعنا، وحين شرعنا في الأكل اكتشفنا أن الخبز غير موجود.
قال سمير بن علي ضاحكاً
أخذ الخبز معه ومضى.
اقترحت على صاحب المقهى أن يأتي بالخبز من سيارة الجيش المرابطة على مقربة.
لماذا؟
أكيد هم يملكون خبزاً باقيا من جرايتهم
وقد كان.
أكلنا وضحكنا ولو كان عندنا شراب غير الشاي والماء لشربنا، نمنا، وفي حوالي الرابعة قبيل الفجر دق الباب بعنف ودخلوا علينا، اعتقدنا انه رجع وانهم سيعتقلوننا صحفي مصري وصحافيون معارضون وصهللة حتى قرب ساعة.
سمعنا صوتاً يصدر من البنك المجاور لنا اتضح ان آلة التنبيه ضد السرقة والموجودة في البنك الملاصق لنا تماماً، راحت تصدر صفيراً عالياً متواصلاً، وقد شكوا اننا نقبنا الحائط الذي يفصل بيننا في وبين البنك لنسرق النقود.
قال أحدنا بتهكم واضح: الفلوس راحت مع المخلوع.
قلت لا البنك يبكي.
.. إسلام نعم إسلاميين لا
في الصباح بدلنا المقهى حتى لا نشعر بالملل،
قال مبارك صاحب مقهى العتيق وهو الاسم الذي اختاره للمقهى الشاعر الكبير آدم فتحي: قناة الجزيرة تريد ان تدخل الاسلاميين علينا، في اشارة واضحة لما بثته القناة من تصريحات متعددة لراشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الاسلامية، والتي كانت محظورة حتى ليلة كتابة هذا المقال. مبارك مثقف يعرف كل الفنانين والمثقفين الذين يأتون صحبة آدم الى المقهى ويحكي حكاياتهم، ما إن يبدأ آدم في حكاية حتى يكملها مبارك.
قال جاري: نريد دولة علمانية ..اسلام نعم اسلاميين لا.
نريد دولة لائكية،
علمانية تقصد؟
نعم، انت تعرف أننا نستخدم المصطلحات الفرنسية.
انعطف الحديث نحو ساركوزي وموقف فرنسا المخزي، الذي وقف مع بن علي ولم يصدر تصريحا واحداً يملأ العين او يشفى الصدور اويجعل الديكتاتور يتراجع عن سفك دم شعبه، ظل الموقف مهيناً، وكللته وزيرة الخارجية الفرنسية بتصريح بارد عن أهمية وتونس واهمية الاستقرار،
في مصر ظل أنيس منصور بذكائه الحاد ةيردد جملة يتيمة منذ ثلاثين عاما: استقرار الإستمرار واستمرار الإستقرار.
قال الرجل: ساركوزي ميبون (شاذ في أعف الترجمات).
قال آخر: لقد ظل يشم في مؤخرة القرد حتى آخر لحظة.
لكن الحقيقة التي لامراء فيها أن قناة الجزيرة – رغم اختلافنا معها تجاه العديد من المواقف إلا أنها سجلت نفسها في موقع البطل الثاني خلف دماء الشهداء، ووقفة الناس في الشارع كل يوم وصمودهم.
ملاحقة الجزيرة الحدث لحظة بلحظة وزرع مراسلين من الناس ومن المناوئين ليس من التوانسة فحسب بل من كل المناوئين للديكتاتورية والطامحين إلى الحرية هو الذي جعل الحدث في بؤرة الضوء وصار من المستحيل على أحد أن يوقفه.
وإمرأة تقف أمام المقهى تصفق بيديها وترقص وتقول:
يا جزيرة لا تكذب زين العابدين بطل.
المقهى ملاصق للمخبز، وعدد الذين يقفون في الطابور أضعاف الذين يجلسون في المقهى.
كانت الناس تتسابق في الأيام التي سبقت خروج بن علي تخزن كل شيء الحليب والبيض والتونة والدجاج إن وجد، لكن طوابير الخبز بزت كل شيء، وتخيلت اننا في القاهرة.
يتحدث الناس عادة في السياسة في النسوان والرجال في النقود وفي كرة القدم، في تونس لم يستطع أحد الحديث في السياسة بكلمة لن يقول لك واحد كلمة، اللهم الا رشيد خشانة ومن على شاكلته، والنساء والرجال متوفرون في علاقات مريحة بعيداً عن العقد العربية وروزنامة الاسلاميين، ولا نقود الا في جيب بن علي وحاشيته والمنضمين اليهم صاغرين أو بدون كرامة، لم يبق إلا كرة القدم، الناس كلها تناضل في كرة القدم، تعصب لا مثيل له ولا حتى في مصر، لن تفاجئ اذا عرف احدهم انك مصري او جزائري او مغربي:
فزنا عليكم بأربعة اهداف لواحد
يحدثك كأن المباراة وقعت بالأمس، رغم انها وقعت عام 1978 يوم كان يوسف القعيد يكتب روايته الثانية.
في برنامج في قناة الجزيرة الرياضية كان احد المذيعين التوانسه يسأل لاعبا عما إذا كان يذكر تمريرة اللاعب الفلاني سنة تسعين، التمريرة الحاسمة التي جاء منها الهدف، بوغت الضيف وحاول ان يدعي انه يتذكر ساعتها لطمت على وجهي. يفعلون ذلك حتى وهم بعيدون الآف الأميال عن بلدهم، الناس تتحدث عن عجيزات النساء وهدف ابو تريكة والتمريرة الحاسمة ومساحيق الغسيل.
عشت لسنين الآم اصدقائي رشيد خشانة ولطفي حجي وغيرهما هؤلاء الذين واجهوا سلطة غاشمة تقف وراءها فرنسا من جهة وامريكا من جهة اخرى. منذ حوالي ثلاث سنوات فقط شرع نفر في إقامة رابطة لحقوق الإنسان، رابطة فقط، بحثوا عن قاعة – أية قاعة - لعقد اجتماع تأسيسي، وكانت الإجابة إما بالصمت أو بالإشارة وتكشيرة في أفضل الأحوال، اجتمعوا واقفين في الشارع أمام فندق أفريقيا باعتبار إفريقيا قارة والديمقراطية بدأت تنهشهها وتصلح مكاناً للإنعقاد.
.في ثوان، ظهرت الأيدي الغليظة، أوسعتهم قوى الأمن ضرباً بشجاعة، أمام أعين الناس الصامتين ثم المنسربين في الشوارع المجاورة.
احتجت وزارة الخارجية الفرنسية بعد يومين احتجاجاً بارداً كعادتها تجاه اليد التونسية الحنون.- تأخر ساركوزي شهراً هذه الأيام لفروق توقيت مقاومة القمع.
لأكثر من عشرين يوماً لم تأت صحيفة واحدة في تونس على ذكر خبر يتيم عما يجري، منذ لحظة احتراق البوعزيزي حتى لحظة احتراق النظام، لا ترى خبراً يتيما أو حتى هارباً من صحيفته، وان اجترأت صحيفة بعد عشرين يوماً فهي تستطلع راي بعض المصطفين في صفوف الحزب الحاكم عن احداث سيدي بوزيد دون ان يعرف قارئها عن اي احداث تتحدث وكأننا في دولة كينيا في القرن التاسع عشر او في سوريا في القرن القادم، الثاني والعشرين.
في الماضي كانت الناس تنجم، أما الآن فالمسألة على طاولتك في غرفتك وفي حمامك.
تونس بلد العرافين، تمتليء الصحف بأطنان يومية باسماء العرافين ومكاتبهم وقدرتهم على قراءة الطوالع، يطلع عليك أول كل عام سيل عرمرم عن هذا الذي تنبأ بمقتل الأميرة ديانا، وبوفاة الرئيس عيدي امين على سريره، لم يجرؤ أحد أن يتنبأ بما سيحدث لزين العابدين، ولو في منام أو صحو كما لم يتنبأ احد بأن دولة قطر ستفوز بتنظيم كأس العالم. ولم يجرؤ أحد من الذين رأوا شبيه ذلك في مناهم أن يعترفوا حتى للشيطان بذلك.
ماحدث كان خارج توقعات العارفين والمستيقظين.
في مصر واقعة شهيرة حدثت مع سمير رجب وهو رئيس تحرير رديء في افضل التوصيفات من توابع عهد الرئيس مبارك (لاحظ انني احافظ على مقام الرئاسة كلما خاطبت رئيسا عربياً حتى ولو كان زين الشياطين كما أوصانا بذلك سيد الصحافة العربية الأول الأستاذ هيكلً)، المهم حلم زميلنا الصحفي السيد هاني أن سمير رجب قد خرج من موقعه المزمن كرئيس لتحرير صحيفة الجمهورية بعد نيف وعشرين عاما، وان رئاسة التحرير ستوؤل لواحد سمين بعض الشيء، لم يذكر اسمه، لكنه تحت الضغط المادي والمعنوي اعترف بأنه محمد على ابراهيم (لعلك لاحظت أن الاسم ممتليء تقريبا كجسم صاحبه) وهو ما صار بعد ذلك، الأهم أنه بعد الاعتراف بالحلم بليلة تم تكسير عظام السيد هاني، ومكتبه وقطعت أسلاك تليفونه، وهو ماحدث مع محمد علي ابراهيم بالضبط، فقط زيد عليه أن رميت محتويات مكتبه في الشارع. قيل والعهدة على الراوي أن الرئيس مبارك قال إن سمير رجب أفضل من الأستاذ هيكل، وأردف هيكل كان يكتب مرة واحدة في الأسبوع أما سمير رجب فيكتب كل يوم.
قالت جارنا في القرية لزوجته حين سمع بذلك:
غطيني وصوتي.
في تونس كل الصحفيين الذين يعملون في كل الصحف هم نسخ رديئة جداً من سمير رجب – ممسوخة إلا من رحم ربي وعض بنواجذه على همه، إلا نفر قليل ورشيد خشانة مدير مكتب الحياة اللندنية الممنوعة في تونس بالطبع، الذي عض على إصبعه متحدياً قمع النظام واحذية بطانته وظل يطبع صحيفته يصدر عدداً ويمنعون أعداداً.
كنت أشتري عددين أو ثلاثة من الصحيفة التي لا يوجد بها إعلان واحد ولا يجرؤ أحد أن يقترب منها، اقول عددين أو ثلاثة حتى يشعر رشيد أن هناك من يشتري صحيفته، كنت أراقب من يشتريها وهو يرتعش ومن يبيعها وهو يرتعد، كانت دائم مخبأة تحت الصحف، وفي أفضل الأحوال يأتيك الرد، في المرتجع، أو لم تأت بعد.
قال البائع بعد سنين من الصداقة: أخاف أن يكون الذي يشتريها واحد مدسوس علينا من الجماعة.
اسأل رشيد أحياناً عن شيءعادي ارسلته، فيجيب لا، ثم يكمل:
يبدوا ان الجماعة اخذوها عندهم.
أخذ الجماعة كل شيء تقربياً.
في مؤتمر المعلوماتية والتكنولوجيا الذي اقيمت فعالياته في تونس منذ سنوات قليلة، طنطنت الأجهزة بتونس التي تسبق العرب أجمعين في المعلوماتية - وهذا صحيح إلى حد كبير (لاحظ ان السلطة لا تكذب هنا، والمثل المصري يقول يفوتك من الكذاب صدق كثير)، لكن العلامة الفارقة أن السلطة كشرت عن أنيابها وضربت الصحفيون الفرنسيين والبلجيكيين، أقول ضربتهم، اعتدت عليهم بالضرب المبرح لأنهم انتقدوا منع المعلومات في قلب مؤتمر المعلوماتية.
رد فرنسا شيراك كان أقوى من رد ساركوزي، بيان شديد جدا وتهديد بسحب الصحفيين.
نامت ديكتاتورياتنا سعيدة هانئة بأسباب كثيرة من بينها هذا التواطؤ الفج من أنظمة الغرب الديمقراطية، والتغطية عليها وعلى جرائمها.
هرب بن علي إلى غير رجعة
لكن الناس رغم الفرح قوية وخائفة، قوية لأنها أصرت على تنحية وازالة كل رموز الحزب الحاكم حزب التجمع – لا حظ أنني لا أكمل اسمه كما يفعل كثيرون ويضيفون الدستوري الديمقراطي - والخوف دفعها لألا تصبر على حكومة وحدة وطنية لستة شهور فقط، هم خائفون من سرقة أحلامهم في أول الطريق لذا تعالت أصوات مرتعشة تتمنى أن يؤول الأمر للجيش خوفاً من المجهول.
قال جاري في المقهى وهو يكاد يبكي: لم نقم بالثورة لنسلم الحكم إلى الجيش مهما كان وطنياً، لا نريد عسكرة للحكم بعد ان اكلتنا الدولة البوليسية، يكمل:
نحترم الجيش الذي وقف موقفاً وطنيا شجاعاً واستطاع في ايام قليلة ان يفرض الاحترام، واقبل فقط بالجنرال رشيد عمار رئيساً للجمهورية اذا انتخبه الشعب.
رفض رشيد عمار أن يطلق الجيش على المتظاهرين، وقال لبن علي بحزم واضح الطريق اتجاه واحد فقط، ورغم ان بن علي أقاله إلا أن ما تسرب أنه بعد يومين أصر على مقابلته وقال له بالحرف وبفرنسية واضحة لم يقلها الفرنسيون:
Tu es fines
انتهيت.
قلت هل تنتخبه إذا ترشح؟
قال لا، ولكني سأطالب بتمثال له وتمثال للبوعزيزي ، ثالث لقناة الجزيرة وتوابعها من فيس بوك وتويتر وحتى قناة الحوار الفضائية - التي اتهمها برهان بسيس أحد أذناب الحكومة – (التوصيف له ولي من قبله)،- بأنها فضائيات الكراهية
كنت قد نقلت طلبا من احد مسئوولي قناة فضائية كبيرة ممنوعة في تونس بأنهم على استعداد لإستضافة من يشاءوون ولو كان من قبيلة الحكم بشرط واحد.
بسرعة قلت: شرط ألا يكون برهان بسيس.
في كل دولة عندنا واحد مخصص للرد على المعارضين، برهان بسيس في تونس، عماد فوزي شعيبي في سوريا، في مصر إثنان بالطبع، جهاد عودة ومجدي الدقاق (اثنان لفروق التوقيت ولأنها كبيرة) في لبنان بالطبع كثر بعدد الطوائف، وبعض الطوائف منقسمة أيضاَ
كانت قناة الجزيرة واقفة على أظافرها تنتظر الصور، في الأيام الأولى كان الارسال صعباً تفتح المواقع بخلع الضرس، اضررنا أن نلجأ الى الفيس بوك الذي ساعدت زوجتي – الله يكرمها – في أن يصبح متاحاً، وضعنا الأفلام على صفحتي وأعطيت باس وورد الصفحة لزميلنا في الجزيرة لينقلها ويخبرنا لنزيلها، قبل أن يفطن اليها الجماعة، وهكذا نزيل ونضع غيرها.
كان يوم الجمعة متسارعاً نبحث عن الأفلام من كل عابر، من كل من يحمل كاميرا أو هاتفاً معقولاً، الحدث يصاعد والسلطة تحاول إخفاء المصير وضابط البوليس السمج يقول لصديقه بصوت عالً لنسمعه نحن: إشاعات إشاعات.
قلت لزوجتي، اسحبي الفيلم الأخير بسرعة!
اجابت: ليس هناك فيلم ولا يحزنون، ليس إلا مقالات لأصدقائك
سحبه الجماعة في غمضة عين وخفت ان يقفلوا الصفحة وتهيأت وسمير علي للإعتقال.
كان ذلك في الوقت الذي كان بن علي قد قفز إلى طائرته بطفليه وزوجته.
شيعته الصحف في اليوم التالي بجنازة غير متوقعة، بنعش فارغ من جثتة، مكتظ بجثث ضحاياه، والذين كتبوا برقيات عزائه هم الذي كتبوا لسنوات برقيات قمع الشعب وسحله.
ورأيت المرأة التي كانت تحجل وتغني ووقفت على حيلي أحجل وأغني أمامها:
يا جزيرة لا تكذب زين الهاربين هرب.
سونيا والغناء والأستاذ هيكل
يعمل التوانسة على فترتين وراء لقمة عيش مضنية ووراء قروض فاحشة، أدخلهم النظام في دوامتها وتركهم يعومون وحدهم، يعود من يعود منهم ظهراً لداره لتناول غداء سريع ثم يعودون للعمل وفي السادسة تزدحم الشوارع يرجعون إلى بيوتهم منهكين لا يفكرون في الخروج ثانية ولا يقدرون، لا الجهد يساندهم ولا جيوبهم تساعدهم، لذا افكر أحياناً بشكل جنوني أن هذاهو أحد – أقول أحد الأسباب- التي ساعدت في تعلم التوانسة العزف على العود، السهرات في البيوت غير مكلفة وتلم الأحباب ويشيع الغناء ليطرد كآبة العيش والخوف من المجهول
الغناء يقاوم القمع، القتلة لا يحبونه، إنه يحيي الروح وهم يريدون قتلها.
هنا في تونس يمكن لك أن تتيقن أن محمد عبد المطلب مازال مطرباً مسموعا وكارم محمود ومحمد قنديل واسماء اختفت من بلادها – زياد رحباني غير معروف على قدر اهميته وتجربته لأنني أعتقد أنه يغني لي وحدي ولجرابيع مثلي-.
يتساءل الشاعر الكبير آدم فتحي في أحدى اغنياته عن صالح عبد الحي وعن المطرب عبد الحي سلامة مع انك يمكن ان تلف القاهرة كلها ولا تجد شريطاً واحداً لعبد الحي ولا أحد يتذكر عبد الحي سلامة على الإطلاق في كل أنحاء المحروسة ولا سمع به!
عاد مارسيل خليفة إالى الظهور بعد أن اختنقت أغانيه في سوريا، عادت جوليا بطرس وأميمه الخليل، شغلوا كل المحطات وتذكر الناس ريتا والعصفور الذي طل من الشباك وشمس الحق التي ظهرت وغيرها.
كانت سونيا – وهي بالمناسبة صاروخ بشري معد للإنطلاق - قد أخبرتني أنها كانت زمان تضع شرائط مارسيل خليفة في الكاسيت، تغني معه وتكتب الأغاني وراءه كلمة كلمة تقفل وتفتح حتى أوجعها إصبعها، لكنه منذ مجيء بن علي استراح اصبعها، واختفى مارسيل
وانا امازحها سلامة اصبعك، انشاء الله يغور من في بالي ويقطعوا إصبعه، وهي تضحك تمر أمامنا تغني بقوامها الفارع وقدها الممشوق.
الأستاذ هيكل قال إن الغرب تحديداً أمريكا صنع من نظام بن علي نظاماً مصفحاً لا يسمح بأي ثورة، ليوافق المنخرطين تحته على أي (سلام) تفرضه أمريكا واسرائيل على المنطقة والقضية الفلسطينية (سونيا توافق على كلام الأستاذ هيكل رغم أنها لا تعرفه وهو لا يعرفها)
الشاهد، الناس تغني على طريقتها والصحافة على جنبها.
لسنوات عندما تفتح صحيفة تونسية ستجد الصفحة الأولى ونصف الصحيفة تقريباً مكتظة بحكايات كرة القدم ومبارياتها التي لاتنتهي وصور لاعبيها التي أحتلت كل المساحات ماعدا المساحة المخصصة للسيد الرئيس السابق وللسيده حرمه، كنت أرى وجه ليلى بن على بدون تعابير، وجه جاف جامد حواجب مصنوعة على الطريقة اللبنانية، حادة مرفوعة من نصف الحاجب حتى طرفه البعيد مقوسة توحي بالصلف، اكره تلك الحواجب وامقت اكثر منها النساء اللواتي يروجن لها في التليفزيون، ما علينا، كنت اراه وجه خاليا الا من تعبير (العنظرة الفارغة) لم اكن اراها حتى قاسية، القسوة تليق بآخرين، بزوجها بزوجنا، وجه جاهل في اقرب التوصيفات لا يعرف ما يدعي ولا ما يمنحك، وصور تها تعرضت للفلترة حتى تبدو بلا شائبة بشكل مسح عنه الوهج الإنساني والأخطاء الإنسانية التي تمنح الوجه الفتنه البشرية أو النسائية – هذا يختلف بالطبع عن الصور التعبيرية عندنا في مصر للرئيس مبارك، لم يصلوا اليها بعد وإن تفننوا في أشياء أكثر إبداعاً.
أوجعني أكثر تهافت الصحفيين المصريين واللبنانيين (اللبنانيين كانوا واحدا فقط ممثلاً لكل الطوائف ياللمفارقة) الذين تهافتوا أمام ليلى وبطولاتها وكتبوا، كتبوا بعناوين من العيار الثقيلة أقلها ؛ سيدة العرب، وزغردي يا من لن تخسرين شيئاً، مرمغوا وجوههم ووجه الصحافة في الوحل، والسيدة لم تقصر ولم تتهاون بطانتها، صنعوا منظمة للمرأة العربية ووضعوها على رأسها.، في اتجاه مضاد تماماً للاتجاه الذي كافح فيه علماء ومفكرون وسياسيون سنين طويلة.
دفع نظام بن علي للصحف والصحفيين في جل البلاد العربية، وانهالت الدعوات على الأذناب وصغار الكتاب أصحاب المناصب الكبيرة في صحفنا،و في العيد (الوطني) لتونس تنهال الدعوات على الأسماء إياها، تراهم في كل عام يسمنون ويتسلمون موضوعات إنشائية مدبجة مسبقاً تعلم الصحفيين الصغار معنى أن تكون مطيعا وخانعاً:
مرة مازحت احدهم قلت له لكي اهرب من الموضوع إن الشاعر المصري حلمي سالم يقول، سأدلك على جملة تخلو من الماضي المركب: كن رهناً للطاغوت فهذا أفضل للطاغوت
رد بسخرية:.
شكلك ستذهب في ستين داهية قريبا.
قلت وانا اضحك خائفاً
مكتوبة لكم إنشاء الله.
في تونس يترحم الناس على إثنين بورقيبة وابو القاسم الشابي، صنع بورقيبة صفحة ملونة للمرأة التونسية، صنع لتونس من قبلها، ولم يستطع النظام رغم اقصائه من الحكم ان يقصيه من حياة الناس، وضع بورقيبة تونس على طريق التعليم، وفي كل التقارير الدولية جاءت تونس متقدمة على الجميع – نافستها احيانا الأردن – وحدد النسل، وتخيل معي ان ذلك لم يحدث، لكانت تونس الآن تقارب الثلاثين مليوناً وكانت الثورة قد قامت من زمان.
قالت جارة جميلة في المقهى ربي يرحمه.
قالت جارة أجمل منها المؤ كد أنه فتح الطريق: لا تعرف ان قد كان قد ساعد الثورة بالتعليم أم أخرها بسبب تنظيم النسل، لكن المؤكد أنه ساهم فيها ولو بطريق غير مباشر ولو لم يكن يطيق الثورة بطبيعته، كان يعتقد أنه أب للشعب للتونسي والأب لا يمكن ولا يجب تغييره.
لكن المؤ كد أن هناك من مهد الأرض لبورقبية وهو قطف بذكاء واستغل ثمار الزرع، هناك من أرسوا ومهدوا لإسلام حداثي الطاهر عاشور والحداد والعفيف الأخضر وهشام جعيطة وكثيرون وصولا للمبدعة ألفه يوسف، زرعوا الطريق جيداً، ونمت أفكارهم، قطف بورقيبة واستغل ذلك أفضل استغلال وإالا لما تسنى له أن يواجه (بعلمانيته) جحافل تربت على تراث مقلد، هذا موضوع آخر لكنه يصب في خانة تعبيد طريق الثورة.
ما إن تقابل تونسيا في الستين عاماً الماضية إلا وقال لك بيت شعر ابي القاسم الشابي: إذا الشعب يوماً أراد الحياة،
يرددونها بغير مناسبة، لم يكن ابو القاسم نفسه يعرف أنه بعد مئويته بشهور سوف يتحقق حلمه وقسمه، في قناة فرانس 24 التي غطت الثورة بشكل متباطيء في البداية ثم تسارع إيقاعها حين وجدت الجزيرة تلعب في ملعب آخر وبتشكيل آخر، قال أحد الضيوف اذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد ان يستجيب القدر بإذن الله، وتعالت أصوات من قلب المقهى، اسلاميين لا، هناك من يريد أن يدفن أبو القاسم وهناك من يريد أن يدفن الثورة،
في تونس بعض تسجيلات لجورج وسوف ملك المقاهي هنا يغني فيها مقطعاً من اغنية الأطلال للشاعر ابراهيم ناجي، لاتقل شئنا فإن الحظ شاء يبدلها جورج ويقول فإن الله شاء، فيما قبل الثورة لم يكن أحد يلقي بالا لغناء جورج للجملة، بعد الثورة قال صاحب المقهى، أحرقوا الشريط.
حاول بن علي في السنين الأخيرة أن يؤسلم بعض المعطيات على طريقته، أنشأ زوج ابنته مصرف الزيتونة، في مماهاة لجامعة الزيتونه بإرثها الديني، ،انشأ إذاعة الزيتونة أيضاً، وجبة خفيفة جدا لا تستطيع أن تقترب من مدفعيتنا الديينية الثقيلة، وظلت خطب الجمعة لطيفة تحكي عن التورك في الصلاة وما شابه ذلك، في رمضان الماضي اعتلى احد المساجد خطيب سوري دخل عليهم بالحنجل والمنجل، وعندما انطلقت قذائفه، وصلته الإشارة فاعلن اعتزاله علناً.
حاول صخر الماطري زوج ابنته الصغرى أن يظهر بعد الإذاعة والمصرف الإسلاميين بمظهر الملاك.
.. يحب يعمل ملاك، قال السائق التونسي..
أعطى لكل حاج تونسي هذا العام شيكارة من البسيسة (وهي أكلة تونسية لذيذة ومفيدة وإن كنت لا أحبها، وكرهتها أكثر بعد هذه اللقطة المزيفة) قدمها زادا وزواداً للحجاج في رحلتهم ولكي يمطروا صخر بدعواتهم في الكعبة.
في السنوات الأخيرة راجت أقاويل عن أن الرئيس لو إنخبط في مخه وتقاعد فإن ليلى بن علي هي المرشحة للركوب على الكرسي أوهي المصنفة رقم واحد، ووجد هذا الكلام صداه ولو من تحت الطاولة بين أشباه النخبة التونسية والعربية بدعوى أن المرأة قد حان دورها (أنا بالطبع أويد المرأة في تولي كل شيء لكن ليس هنا بالذات) ولعب اللاعبون واللاعبات على هذا الوتر مستغلين الوضع الباهر الذي قدمه بورقيبة متسلحاً بالإسلام الحداثي، وحافظ عليه النظام البائد وإن أدخله في طرق أخرى، إذ فرغ البلاد من كل احتمال إلا إحتمال رحيله غير المتوقع.
وعلى غير المتوقع أيضاً بدأت أخبار أخرى، ربما يستغل صخر الماطري الوضع ويقفز هو على السلطة، رجل وزوج ابنة الرئيس السابق وليلى والموضوع كله في ذقن العائلة والبرم والفتل من عندنا.
.. يحب يعمل رئيس، قال سائق آخر، وأردف: على الأقل عمل إذاعة الزيتونة.
قال صاحب المقهى، ابو القاسم الشابي انتصر أخيرا، وينام سعيداً في قبره الآن فلا تقلقوه.
سمعت اسم الطرابلسية وهو اشقاء وابناء اشقاء المدعوة ليلى زوجة الرئيس السابق، سمعت عما فعلوه منذ خطت قدمي تونس منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، فنادق وتوكيلات سيارات، سيطروا على قطاع السياحة الباب الكبير للموارد التونسية، اخترعوا لعبة جديدة ما يجدونه جاهزا يشاركون صاحبه فيه بالنصف، أحد اصحاب مصانع المعسل قرر ان يفتتح منفذا في تونس لبيع انتاج مصنعه الموجود في مصر، كانت الإجابة: بالنصف، المكسب بالنصف!
المصري كان عنده دم عاد فرفض وعاد أدراجه.
كنت أرى عماد الطرابلسي يحوم حول المقهى الذي نرتاده، لم يكن يحوم حول إمرأة كما فعل النشامي في عدة بلاد عربية، كان يحوم ليقول لنا هأنا ذا، هانا هاهنا.
قال لي شوقي الأجنف صديقي البارع في اعمال الجرافيك ومشتقاته أنه عمل معه لفترة مرغما وعندما سأله عن أجره
اجاب خمسة الآف دينار
قال بهدوء: اعطوه خمسمائة ولما ظهرت على وجهه ارهاصات ملامح تعجب، قال:
ولا مليم (في الحقيقة هو قال له.. ولا دورو بالتونسية وانا قمت بالترجمة وبعفة أيضاً)
في الدوحة قابلت تونسيا يعمل رئيسا للجرسونات في مقهى في سوق واقف:
قال لي سأعود ومعي سيارة فولكس فاجن آخر موديل، القانون يمنحنا سيارة في العمر بجمارك بسيطة.
بعد فترة عاد مكفهرا، طلب منه عماد الطرابلسي هذا شراؤها بنفس الثمن الذي اشتراها به وخصم منه ثمن استعمالها لأسبوع، حين رفض، وجد السيارة محترقة في اليوم التالي.
قال جارنا في المقهى: إحمد ربك، لو كان بلحسن الطرابلسي، شقيق ليلى، هو الذي طلب منك ذلك ورفضت لحرقك أنت.
لكن الإحتراق لم يتأخر طويلاً، يبدوا أنها كانت نبوءة وعلامة لم ينتبه اليها أحد!
بعد احتراق بوعزيزي بإسبوعين وطلقات الرصاص تصطك بالأجساد استوقفني أحد ضباط المرور، أشار باصبعه إشارة الأمر، توقفت
قال: الرخص.
لماذا، السيارة عليها أرقام الصحفيين المعتمدة من الدولة.
قدمت له بطاقة اعتماد الصحفيين الأجانب
الرخص ... قال بصلف
الغيظ يصعد إلى رأسي
أنت تراني كل يوم مرتين وتعرفني شخصياً، الرخص سليمة، لكنك لن تراها.
عيونه تمتد داخل السيارة يفتش عن شيء ما.
اسمع قالها ببساطة، سيارتي ليس بها لتر واحد بنزين، وأريد عشرة دينارات.
البلد كلها مولعة بالبنزين وانت تبحث عنه في جيبي.
الأرض والشموع
يوم الجمعة 14 يناير كان بن علي رئيساً في الصباح، وبعد المغرب كان الغنوشي رئيساً مؤقتا، وبعد يوم آخر كان فؤاد المبزع رئيساً مؤقتاً أيضاً
رئيس لمدة ثلاث وعشرين عاما ُ وثلاثة رؤساء في ثلاثة أيام
والمتظاهرون لم يبارحوا الشوارع، واللافتات تقول، لن نعود لبيوتنا حتى تخرجوا من حياتنا.
افترش الناس الأرض ،اشعلوا الشموع ترحماً على شهدائهم في محاكاة لثورات طلعت قبلهم في دول أخرى.
لا تصدق أحداً يقول لك نحن فعلنا وحدنا، هناك من النخبة من دافع وقاسى وسجن وحوصر وعذب وضرب وانتهكت أعراضه، وهناك من قاموا بالدعاء، لكن الثورة الحقيقية صنعها الناس الغلابة المسحوقين وليس الجوعى، الناس الغلابة التي لم تنتفض ضد الجوع، التونسي يستطيع أن يفض مسألة المأكل بأي شيء، لكنهم انتفضوا ضد اليد الغليظة التي صفعتهم وكممت أنفاسهم طويلاً، وضد القدم الغليظة التي داست على رقابهم، الجندي أو عسكري الأمن في الشارع هو الفاتق الناطق، كأنك في سوريا أو مصر، أكثر بكثير، ولعل هذا ما يفسر أن الثورة جاءت بعيدة عن العاصمة، أو انتقلت من القصرين وتالة ورديف وسيدي بوزيد اليها، لم تكن ثور ة طعام، كانت ثورة الثأر للكرامة الناس في العاصمة بالمجمل كانوا متأخرين سنوات عن الذين عاشوا في المدينة، وغضبتهم جاءت متأخرة، حتى الأحياء الفقيرة في العاصمة ومنها حي التضامن (لاحظ الإسم) والملاسين والجبل الأحمر جاءت قبل أن تتنصر الثورة بليالٍ قليلة، لكن لم يك في مقدور أحد أن يوقفهم وسمعت أصحاب المصالح يطالبون بمواجهتهم خشية على أملاكهم ومصالحهم الريعية التي اكتسبوها أيام بن علي وتحت سمع بطانته، كان كل هم الجوعى في هذه الأحياء أن ينقضوا على الأحياء الغنية يقلقون منامها، لكنهم عندما أحسوا بضعف بن علي في خطابه الأخير وتوسله ومناشدته واعتراف الصنم بالخطأ بحثوا عن بيوت عائلة ليلى بن علي زوجة الديكتاتور ليرموا محتوياتها في الشوارع بعد تهشيمها أو حرقها.
في كرة القدم كان الجمهور المنهمك المدفوع يقول دائما نسور قرطاج، لم أكن أحب التسمية ليس لمبالغتها، بل لمبالغة من يتحدثون بها والنفخة الكاذبة التي كانوا ينفخون ربها.
استيقظ الغلابة، النسور الحقيقية في الثورة التونسية، ما مر شهر واحد على أول شهيد، ما اكتمل، ما أكمل القمر دورته إلا وكان بن علي وحقبته في مزبلة التاريخ، في كتاب الصفحات الردئية والدول المصفحة كما يقول سيدنا هيكل، والناس غير مصدقة لما فعلوه في ايام ليست تعد بالأيام.
سبحان مغير الأحوال، رجال الأمن يتظاهرون ويبكون- العقبى لنا في كل بلد عربي-، منهم من يعتذر ومنهم من يطلب الصفح، وآخرون يقولون أنهم كانوا مرغمين، وكاركاتير في صحيفة تونسية يبدو فيه رجال الأمن في مظاهرتهم ومواطن يقبل عليهم من بعيد وهو يقول: من فضلكم، تظاهروا بهدوء
قال جاري، لقد شاركت أنت وزوجتك في الثورة.
قالت زوجتي إنها شاركت في الثورة بإنطلاقة الفيس بوك.
قالت الجارة الحلوة، سأطلب لك الجنسية التونسية، واقسمت بشرفها.
حيث كانت الثورة كنا، حلمنا بها، آمنا بها تحديداَ بعد ان انطلق الرصاص وصعد الدم الزكي وصمد الناس، آمنا بها بعد خروج الناس للشوارع معلنين أنهم لم يبتلعوا طعم وعود بن علي.
قلت لسمير بن علي:
ستنجح.
قال سننجح.
كتبت على صفحتي في الفيس بوك:
نجحت الثورة في تونس، أستأذنكم في الرحيل .. استأذنكم في العودة.
أفكر باكبر عدد من المناشدات