تنبني رواية الكاتب المصري على المفارقة بين شخصياته الروائية الدالة على نماذج متباينة والواقع الاجتماعي الذي يمور بإمكانيات التغيير وإرهاصاته. وتتوازى حوارات تلك الشخصيات وهواجسها والعوالم الافتراضية مع أحداث انتفاضة يناير 77، وتتخلق أسئلة شائكة يكتسب بها النص حيويته من تعدد الخطابات والأصوات.

يـــــنــايــــر (رواية)

أشرف الصبّاغ

( 1 )

فى ظلمة الليل، رأى العنابر والأجساد الصغيرة المستسلمة للنوم. شم رائحة دورات المياه فى عتمة الممرات الطويلة الضيقة، وسمع همسات وأنفاسا مذعورة وصوت طرقعات قطرات الماء من الحنفيات الصدئة فى الحمامات المتهدمة. لمح الجسد الصغير الهش يتسلل فى هدوء وحرص ناحية السور العالى الضخم، وخُيِّل له أن للنجوم نقيقا مثل الضفادع والمشرفين والحراس، وأن عتمة الليل البارد تحيل الأصوات إلى نقيضها. تسلَّق الأسوار العالية وقفز من فوقها بلا رجعة. ترك الأحلام الباهتة المغبَّشَة، والكوابيس المفزعة، والأفكار السوداء المختلطة. خلع عن ذاكرته عباءة الأسماء والأشكال، وعَرَّاها من تلك الموجات الهلامية الشفافة التى تختزن بداخلها صورا ومشاهد مبتورة تظهر وتختفى سريعا عن طفل لا يذكر سوى وجهه الأسمر الصدئ الملىء بالقروح والندوب والعروق السوداء والزرقاء، وعينيه السوداوين البراقتين، وقلبه الذى يدق بعنف وخوف، ويخفق بترقب بين قفص من الضلوع الهشة المليئة بآثار جروح وكدمات قديمة، ولا أم أو أخت أو جدة.

فى تلك الليلة من برد يناير القارس ورياحه التى تشقق الجلد وتدميه وتغطيه بالقشف، راح يتقلب فى مكمنه البعيد عن الصالة الكبيرة المزدحمة بالحقائب والمسافرين والمتسكعين، وعن الأرصفة الطويلة والجموع الرائحة والغادية عليها. تناوبت عليه كوابيس سوداء ثقيلة أقلقته وجعلته ينهض بين الحين والآخر يهذى بين اليقظة والنوم: ليلة سوداء من أولها. ويطل برأسه الصغير من فتحة ضيقة فى باب عربة قطار البضاعة القديمة المتوارية خلف أحد المخازن المهجورة بالطرف البعيد عن صالة الركاب والقطارات المنتظرة. ولما اطمأن إلى أن الخشخشات والهمهمات، وتلك الأصوات المريبة ليست لإنسان، أزاح الباب بصعوبة وهدوء وترقب، أخرج ذكره فى غيبوبة وحرص، وأخذ يتبول بآلية. تنهد بعمق، وعاد فاستلقى مرة ثانية على قش الأرز والخرق البالية المفروشة بعناية مُعَدِّلاً تحت رأسه الحذاء الميرى الملفوف فى فانلة وسترة عسكريتين سرقها بالأمس من تحت إحدى العربات الواقفة فى سوق أحمد حلمى.

خَلَّفَ وراءه فصول التعليم، وورش النجارة والسِّبَاكة، والمعاملة الخشنة والضرب المبرح والمراودة عن النفس. اجتاز فى ظلمة ليلة باردة خط الحدود الوهمى الشفاف بين عالمين أولهما مُرٌ ذاقه ويعرفه، والثانى سمع عنه القصص والحكايات، وشاهد صوره فى الكتب وعلى شاشات التلفزيون القديم، وأتاه فى الحلم ليلا ونهارا، وفى يقظاته المتقطِّعة… حملق فى السحنة المتناقضة بملامحها غيـر المتناسقة، ركَّز بصره على الرأس الصغير الحليق الشبيه بشمامة طويلة مركبا على كتفين نحيلتين وهو يفكر وحده، ويقرر دون الاتفاق مع أحد… تابعه خطوة بخطوة وهو يثب من فوق السور، وعندما لامست قدماه الأرض الجديدة، وعندما انطلق فى اتجاهات لا يعرفها، إلى حوارى وأزقة وشوارع كان يراها غير ذلك فى أحلامه، سمعه وهو يندهش مرددا… يااااا.. ه! ثم تاه فى محطة اللاجئين الأولى-والأخيرة، وربما الأبدية-المزدحمة دوما بسكانها الغرباء ولصوصها ومخبريها السريين والعلنيين، والأكشاك الصغيرة والدرَّاجات المنتشرة فى كل الأزقة والشوارع… ومازالت تتردد على شفتيه أول أبجديـات الدهشة.. ياااا..ه!

قبيل الفجر، فى غبشة تلك اللحظات الشتوية الخارجة عن الزمن، راح يهذى بحروف متناثرة متصورا أنه تخلَّص من كابوس. تحسس وجهه الملتهب، اهتز جسده بعنف وسالت آهة مفزوعة مع لعابه المختلط بعرقه الدافئ. شعر بحرقة وألم شديدين فى معدته، وتقلصات حادة فى أمعائه. تذكَّر أنه لم يأكل شيئا منذ الأمس. طالعته سحنة المخبر الذى سد عليه باب المحطة، تذكَّر فشله فى التسلل إلى موقف أحمد حلمى، وخوفه من تسلق السور المطل على شارع رمسيس حينما شاهد الحركة غير العادية لعساكر الجيش الكثيرين وعربات الشرطة العسكرية وعودته مُفَضِّلاً الجوع على الوقوع فى أيديهم، واكتفى بملء الزجاجة البلاستيك من الحنفية الكبيرة المفتوحة باستمرار خلف غرفة الحارس الذى يُحَشش دائما بالداخل.

راح فى غيبوبة… انطلق وسط أحاسيس متضاربة نحو الضوء. رأى مقاهى تحت الأرض وفوقها، وأخرى تعلو الأرض قليلا. مر على غرز للحشيش وأخرى للخمر، ومرت عليه عشش صغيرة، وبيوت متكئة على بعضها البعض من طابقين وثلاثة وخمسة. تأمَّل السحنات المتباينة فى الحـوارى والأزقة، ورأى رجالا يتمخطون بحرية، ويبصقون كيفما اتفق فتتعلق البصقة-المخاطية السوداء بجلباب عابر أو عابرة، أو تلتصق بوجه طفل وربما بقفاه. رأى خراء الكلاب والأولاد والماعز بجوار الجدران، وشم رائحة العطن وبول القطط والناس والكلاب، وشاهد نوادى ومسارح وكازينوهات، وأطفالا حمر الوجوه على شفاههم بسمات دائمة ونزق حلو شفاف، ونساء حور العين والفم والأسنان قدودهن غير التى كان يراها هناك بين الطباخات والمشرفات الاجتماعيات والمدرسات، ورجالا تبدو عليهم مظاهر النعمة بشعور مسبسبة أو بصلعات حمراء لامعة نظيفة، وأيد بضة ناعمة، تبدو على ملامحهم سمات الرفعة والكبرياء والانشغال بأمور هامة.

ويروح فى غيبوبة ثانية وثالثة… وعاشرة، تأخذه الطرق إلى المبنى الأصفر الكبير الباهت الذى يقف أمامه تمثال ضخم لا يذكر اسمه…

-ياااا..ه!-تخرج من صدره عبْر الحلق بفحيح.

-ياااا..ه!- ويرى الأبيض والأسود والقمحى، والبِدَل والجلاليب والقمصان، يعرف فيها ملامح الصعيدى والسويسى والمنوفى والاسكندرانى، يرى اللصوص والنصابين واللوطيين والجنود والمخبرين والنشالين والشراميط والشيوخ والشحاذين والحشاشين، ويرى نهاية غزوته لعالم الشيالين تنتهى بعلقة ساخنة ينام بعدها عدة أيام خلف مخزن القطارات بدون طعام أو شراب إلا ما كان يستولى عليه خلسة من بقايا طعام الملاحظ الذى يعمل محولجياً وحارسا ويقضى وقته إما نائما يُشَخِّر فى حجرته الخشبية بجوار المخزن، أو يُحَشِش مع أحد المخبرين أو الشيالين بالداخل.

كجرو صغير راح يتنفس بضعف. اشتد عليه الألم، كَزَّ على أسنانه وتحوَّلَت همهماته وحشرجاته إلى صوت أنين غريب يتراوح ما بين العواء المكتوم والمواء الكئيب. أخذ يطالع، بين الحين والآخر، بعينين حمراوين عكرتين التهبت جفونهما نحو شق فى جدار العربة المقابل لعله يلمح بصيصا من ضوء صباحى. تناول زجاجة الماء، رفعها دفعة واحدة، تساقطت بضع قطرات على صدره أفقدته الرغبة فى الشرب، وجعلته يقذف بها فى حنق بعيدا لتصطدم بجدار العربة وتصدر فوضى من الأصوات انخلع لهـا قلبه، بينما انطلق من صدره فحيح مكتوم. راح فيما يشبه غيبوبة قصيرة، لا هى بالنوم ولا باليقظة، فتح عينيه مرة، ومرات فى إجهاد. نهض متقوِّساً: يد على معدته، والأخرى أسفل بطنه، أزاح الباب قليلا، لم ير نورا ولا ظلاما: سماء رمادية على نحو ما والخلاء المحيط بنى قاتم على نحو يثير الاشمئزاز والتقزز ويبث فى الروح يأسا وكسلا ولامبالاة. لسعته الريح الباردة وأثارت رعشة حادة فى ظهره ومؤخرته التى بدأت تؤلمه منذ الأمس. وثب بخفة وضعف، كاد يتعثَّر، حاول السير معتدلا. وهناك فى الخلاء الواسع أنزل بنطلونه وقرفص واضعا رأسه بين كفيه وراح يحزق بقوة وأنفاسه تتردد حارة متعثرة حتى دمعت عيناه من الألم.

زنق ظهره فى زاوية العربة بعد أن أحاط قدميه بالقش ومِزَقِ الخيش البالية. أحاط ركبتيه بذراعيه الرفيعتين وأسند إليهما جبهته الملتهبة، انفتح فى ذاكرته المتجمدة جحر عميق مظلم… هل طرده صاحب الفرن أم هرب من ضرب الاسطوات وسخريتهم، ومن سخونة الأرغفة واللهيب الحارق، أم أنهم أغلقوا الفرن لسبب ما لا يعرفه، ولا يعرفه أحد آخر؟!… أم أن الذى ربت على مؤخرته الرفيعة فى خبث ورغبه كان صاحب البار، أم ابنه، أم أحد السكارى؟!… وفر من البار، ومن الأقصر كلها بعد أن باع لحسابه بضع زجاجات من الخمر المغشوشة، وسرق نقود اثنين من السكارى، واستولى على ما فى درج صاحب البار من نقود… ومن نافذة بالطابق الثانى قفز بعدما اصطحبته امرأة يونانية بالإسكندرية إلى شقتها فنظَّفته وأطعمته وداعبت ذكره على استحياء-فى البداية-ثم خرجت لاهثة لتغلق باب الشقة بالمفتاح ممنية نفسها بليلة دافئة تجرب فيها طعم اللذة ومذاق مَنْى صبيان الثالثة عشرة.

تملَّكه إحساس قاس بالعطش تغلَّب على خوفه وجوعه، وأطاح ببقايا رعشة ضعيفة فى مفاصله وظهره. تناول الزجاجة البلاستيك واتجه نحو حنفية المياه تاركا حذره وجوعه وأفكاره السوداء داخل العربة المظلمة. شرب ثم وضع رأسه تحت سيل الماء المتدفق…

-يا ابن القحبة …

لم يسمع صوت سباب الحارس الذى لمحه من بعيد. كان جسده قد استلذ برودة الماء، واستساغ ضرباته المزغردة على مؤخرة رأسه وقفاه. راحت حرارته تنسال مع المياه بهدوء، سيطر عليه إحساس غريب ولذيذ جعله يدندن بكلمات غير مترابطة…

-من أين تطلعون يا عفاريت الجَبَّانة، يا أولاد الكلب؟…

وأطاحت به ركلة الحارس نحو بقايا جدار واطئ متهدم. صدر صوت ارتطام مكتوم وآهة فزعة. طار حجر مكسور من حافة الجدار، وانحشر كوعه الرفيع بين بعض الأحجار المتكوِّمة. انفلتت من صدره صرخة ملتاثة، انقلبت إلى عواء مؤلم، وتناثر لعابه على شفتيه مختلطا بقطرات الماء على وجهه متقلص الملامح. تناول الحارس الزجاجة الفارغة وهجم عليه. تكَسَّرَت الزجاجة، وتوالت الصفعات والركلات والشتائم. الجسد الهزيل، بعدما أفاق من ذهوله، يسعى إلى الفرار، ولكن البدن الضخم يسد عليه كل الطرق والمنافذ، يكيل له اللكمات والسباب. الجسد الصغير يزوغ ويراوغ ويتعثر، واليدان القويتان تحاولان القبض عليه، ولكنه يندفع كالسهم حين يتعثر-فى نهاية الأمر-البدن الغليظ فى الحجارة وفى ثقته الكبيرة، وينطلق صوته من بعيد رفيعا ومنتصرا وشامتا:

-يا ابن الكلب يا مفترى…

-بشرف أمى لأمسك بك-قال الحارس زاعقا فى غيظ، وراح ينفض التراب عن ثيابه، ويلعن الحجارة والحنفية وبرودة يناير التى لولاها لأمسك بهذا الفأر الملعون الذى يستولى على طعامه، وربما يعرف أسرار الغرزة التى أقامها داخل كشك الحراسة والذين يترددون عليها، ويعلم الله ماذا يعرف أيضا، ولكنه على أية حال سوف يوقع به إن عاجلا أو آجلا ويسلمه إلى فياض المخبر أو عبدالحفيظ: فهو قد رآه وعرفه ولن ينسى ملامحه أبدا.

ظل طوال النهار قابعا فى انتظار شئ ما يثير فى نفسه الرعب. وبعد أن استحال لون الأفق الكابى بشحوبه وقتامته إلى عتمة دامسة، انطلق قافزا السور الحديدى القصير نحو موقف أحمد حلمى وآثار الرضوض والكدمات واضحة على وجهه ورقبته. راح يلوك ما لملمه من بقايا ساندوتشات وطرشى وهو يتسكع بحذر. اتجه نحو القُلَلِى وشئ من الرضا على ملامحه المتغضنة.

فى المسافة بين موقف أحمد حلمى والقللى، على الكوبرى القديم المتهالك المبلط بالبازلت الذى استحال لونه الأسود إلى لون ترابى قاتم تغطيه مِصَاصَة القصب وقشر البرتقال والباذنجان، وأعواد البرسيم والملوخية وأوراق الكرنب والتبن، وروث البغال التى تجر عربات الكارو، راح يسير بملل واضح سارحا ببصره إلى داخل نفسه. لم يكن يشعر بقرقعات عجلات العربات الكارو وحوافر الحمير والبغال على الكوبرى، ولا بحركة الأتوبيسات القديمة المشوهة تنفث دخانها الأسود من الخلف، وتلقى بالأجساد المتعبة المتصببة عرقا من بطنها المزدحم بالكتل البشرية، ولا بصياح العساكر وهرجهم أو بصراخ المنادين على بضائعهم وعلى ركاب عربات الأقاليم المرصوصة على جانبى الكوبرى. كان تفكيره منصبا على نقطة ناتئة خشنة: لابد من تغيير هذه العربة الملعونة والاختفاء من محطة مصر. وقبل أن ينحرف يمينا لمح ذلك الوجه الذى يبث فى نفسه الرعب، ويثير فى جسده القشعريرة والرهبة..

-هل يُعْقَل أن يكون المخبرون أكثر من الناس!-تمتم وشعور بالغثيان يقلب معدته. وقبل أن تصطدم عينا المخبر الصغير الناشف بعينيه كان قد ذاب سريعا فى الزحام.

اعترته رجفة خفيفة، وبدلا من دخول المطعم الكبير للحصول على رغيف، أو بقايا عشاء على إحدى الطاولات، اتجه فى حذر وتوجس ناحية إحدى عربات الفول الواقفة وسط دائرة من الصعايدة وعساكر الجيش. تسلل فى هدوء بين الأجساد الكثيرة الضخمة، مد يده بحذر ناحية رغيف على طرف القفص، ابتسم أحد الواقفين وأدار وجهه. كانت يد البائع أقرب إلى الرغيف من يده، قبضت عليها بقوة، وانطلقت زعقة عالية مبحوحة:

-مسكته، ابن الحرام.. كل يوم..

لم يكن البائع فى حاجة لأكثر من ذلك. ظهر ثلاثة مخبرين دفعة واحدة، سدوا الطريق على الجسد الصغير، وتفرَّق الناس. كان جسده يرتجف. نظر حوله، لمحهم، ميَّز عيونهم وملابسهم وخطواتهم الواثقة، استسلم للأمر، فخفَّت قبضة البائع على يده الصغيرة العَرِقة، وفجأة انتزعها وانفلت مطلقا ساقيه للريح، مصطدما بالناس والأشياء فى طريقه، وهم من ورائه.

انطلق برأس فارغ وعينين زائغتين، قادته قدماه إلى الظلام والأمان: أى ظلام يخفيه عنهم والسلام. وجد نفسه فى بحر العتمة الذى يخفى القضبان الحديدية المتقاطعة والأرصفة الواطئة المتهدمة والفلنكات والقطط والكلاب وعربات القطارات القديمة وأجساد أخرى متفرقة. جلس كيفما اتفق، هز رأسه فى يأس، وراحت أنفاسه تهدأ رويداً رويدا. كان مصمما على العودة إلى مكمنه لأخذ الحذاء والفانلة والسترة. هز رأسه مرة ثانية مؤكدا على شئ دار فى رأسه. انطلق متلمسا طريقه فى حذر. لمح بصيص الضوء الصادر من غرفة الحارس الخشبية، ميَّز موقع عربته، اتجه إليها على أطراف أصابعه. نظر حوله فى توجس، اعتمد براحتيه على حافة العربة الحديدية الباردة..

-الولد ابن الوسخة رجع يا فيَّاض.. امسك..-انطلق الصوت جهوريا شامتا من عتمـة العربة.

برز جسد الحارس من داخل العربة، وانقض عليه من الخلف جسد قصير سمين كاد يقبض على رقبته الرفيعة. أطلق صرخة قصيرة ممزقة، قفزت قطة من مكان قريب صارخة، انحنى بخفة وانطلق من تحت القاطرة إلى الجهة الأخرى، راح يعدو لاهثا فى اتجاه الأضواء القوية الآتية من صالة المسافرين الكبيرة، وصوت الضحكات المسطولة الساخرة يلاحقه.

وقف فى المساحة المُغَبَّشَة بين العتمة المخيمة على الخلاء الواسع وبين أضواء الصالـة المزدحمة. تحوَّلت قروح وجهه إلى حفر عميقة سوداء، تجسَّدَت على ملامحه مشاعر وأحاسيس مختلطة من الحقد والشر والكراهية زلزلت كيانه وجعلته ينتفض فى غضب ويأس. انقلع من مكانه مجازفا بكـل شئ، مطوِّحا بأوهامه ومخاوفه، ولمعت عيناه بوميض حارق شرير.

بعد قليل عاد بصفيحة تنبعث منها رائحة الكيروسين، اتجه مباشرة-بخطوات ثابتة مجازفة-نحو غرفة الحارس، أخذ يرش بهدوء وحذر على الجدران والأرض، ثم حط الصفيحة بجوار البـاب المغلق، وابتعد قليلا. تنفس بعمق وألقى بعود الكبريت المشتعل، وطار بجسده النحيل. توارى خلف قاطرة بعيدة، وراح يرقب ما يحدث بعينين تومضان بلمعان غريب. تعالى زعيق وصياح الحارس وصاحبه المخبر، اندفع جسداهما على ضوء ألسنة اللهب المتراقصة فى الفراغ والعتمة، بيد أحدهما موقد الفحم، وبيد الآخر الجوزة. اصطدم الجسدان، وقع أحدهما، طار من يده الموقد وتناثرت الجمرات المشتعلة، تعالت ضحكات الآخر الممطوطة التائهة بينما راح الأول يلعنه، ويلعن اليوم الذى عرفه فيه. ركضا نحو مكان بعيد، وخلف إحدى القاطرات، فى حفرة صغيرة، ألقيا بالموقد والجوزة، وراح كل منهما يسب الآخر ويتهمه بإشعال الحريق. دارا حول الغرفة مرة وأخرى، وعندما رأى الحارس صفيحة الكيروسين التى تكاد تلتهما النار صرخ فى ألم ويأس:

-يا خبر أسود، مصيبة يا فيَّاض، قنبلة..

-أية قنبلة يا ابن المسطولة، نحن لم نشرب سوى عشرين حجرا..

وانطلقا يركضان نحو الصالة الكبيرة، يصيحان ويستغيثان، يتخبَّطان ويتعثران، والجسد الصغير القابع خلف القاطرة يتنهد فى ارتياح.

 

( 2 )

فى نفس تلك اللحظة من منتصف يناير تقريبا، بأحد محاجر مرسى مطروح، ألقى منصور بزجاجة النبيذ الأولى خارج خيمته، وفتح الثانية وهو يلعن عثمان فارس.

طقس يناير بارد فى القاهرة العامرة بالمبانى والناس والسيارات، ولكنه فى الخلاء حيث لا يوجد سوى البحر والجبال والصحارى يصبح لعنة على الناس وخاصة الغرباء الذين جاءوا من أجل لقمة العيش. ومع ذلك فالأمر سيان بالنسبة لمنصور، لأنه يحسب حساب ذلك فى جميع أيام فصول السنة: فى القاهرة، أو مرسى مطروح، أو حتى فى جهنم. زجاجة الخمر، أى خمر، لا تفارق جيبه. ورائحة الخمر لا تفارق أيضا أنفاسه. فى القاهرة يشربها كى يتحمل امرأته زلابية، ويقدر على مصارعة أبناء المهنة، ومن أجل أن يقدر على اللف والدوران طوال اليوم على المقاهى ومحطات الأتوبيسات. وفى مرسى مطروح قرر الابتعاد عنها: أولا لعدم توافرها فى الجبل وصعوبة الحصول عليها إلا بالذهاب خصيصا إلى المدينة والسير أكثر من أربعين كيلوا مترا ذهابا وإيابا، ولأنه لا يضمن أن تنقله أية سيارة عسكرية. فحتى وإن أسعده الحظ بسيارة فى الذهاب، فلن يتكرر ذلك فى العودة. وأحيانا تكون هناك سيارات، ولكن الضباط يمنعون الجنود من نقل المدنيين. وثانيا، فهو قد قرر أن يبدأ حياة جديدة فى عمله الجديد، خاصة وأنه رجل كبير السن والجميع هنا يحترمونه وينادونه بـ "عم منصور" ما عدا ابن الصرمة القديمة عثمان فارس رئيس العمال رغم أنه يصغره بعشر سنوات على الأقل.

دلق منصور الكأس الأولى من الزجاجة الثانية فى جوفه مباشرة، وفجأة رأى عثمان يقف أمامه بجسده الفارع الضخم، ووجه الذى لوحته الشمس بقوة فبدا شرسا ومرعبا. انتفض منصور رافعا الزجاجة فى وجهه..

-أنت شاب يا عثمان، رئيسى فى الشغل. لم أخالف أوامرك أبدا. قلتَ لى فى البداية أن عملى من طلوع الشمس حتى مغيبها، تقعد هنا فى الكشك الخشبى لتحوِّل اتجاه المقطورات والعربات. عمل بسيط يا عثمان. أستطيع أن أقوم به وأنا سكران، فما الذى يضرك أو يغضبك. أنت نفسك تشرب الحشيش، حشاش أنت يا عثمان، وأنا أحب الخمر. و..

كاد منصور يكسر الزجاجة على رأس عثمان الوهمى، ولكنه انتبه قبل فوات الأوان. جلس مرة أخرى وعلى وجهه ابتسامة ظافرة. احتضن الزجاجة وقَبَّلَها، ثم صب كأسا أخرى:

-فضحته خمرتى. هذا اللعين الذى يسرق دجاج البدو، ويتحرش ببناتهم ونسائهم. يظل طوال الليل يُحَشِش، وينام مثل التيس فى مكانه. ويظن أننى لا أعرف. أنا أعرف كل شئ، ولكننى لم أحتك أو أتحرش به، فما الذى لا يعجبه فى شكلى أو فى شغلى.

أخرج عثمان نَفَسَ الدخان فى بطء واستمتاع، وطرد شبح منصور قائلا:

-كان يوما أسود حينما وافقتُ على عملك معنا يا ابن الساقطة. أربعة حوادث فى شهر واحد بسبب خمرتك اللعينة. العربات تصطدم ببعضها، وإن لم تصطدم فهى تخرج عن القضبان. العمال يملؤونها هناك، ثم يعودوا ليضيِّعوا باقى اليوم فى تعديل المقلوبة منها أو التى حادت عن طريقها، وهو نائم مثل التنبل، أو مشغول بسرقة دجاجة من بيوت البدو. ماذا أفعل معك يا عديم الضمير والهمة؟ والله لأدفنك هنا مثل الكلب إن لم تكف عن هلوساتك وإشاعاتك التى تطلقها علىَّ.

هكذا تبدأ المعركة اليومية. العمال ينتهون من أعمالهم قبل السادسة مساء. يتفرقون كل حسب خططه وحساباته. وفى طرف المعسكر يحتل منصور باره، بينما يحتل عثمان غرزته على الطرف الآخر. وقرب منتصف الليل يبدأ إطلاق النار، ثم هجوم الطرفين، والتقاؤهما فى منتصف ميدان المعركة-المعسكر. ومن كثرة تكرار المعركة اليومية طوال الشهرين الأخيرين، أصبحت قلة قليلة من العمال هى التى تتجمع على صوت الشتائم والسباب، ولكن

فى كل الأحوال كان لابد وأن يكون هناك أحد من العمال ليفصل الطرفين المتحاربين، وإلا-ربما-سالت الدماء، ووصلت الأمور إلى مالا تحمد عقباه.

لم تكن المعركة تصل أبدا إلى نهايتها. ولم يكن هناك أحد من مصلحته أن يوصِّلها إلى النهاية التى يمكنها أن تقطع أرزاق الكثيرين وفى مقدمتهم منصور وعثمان. منصور وعثمان يعرفان ذلك أيضا، وكل منهما يحافظ على شعرة معاوية، حتى لا تصل الأمور إلى نهايتها الأليمة. يمكنهم أن يقتلوا منصور ويدفنوه هنا فى الجبل، ويمكنهم أن يتهموه بأية تهمة ويلقون به فى السجن. أما عثمان فيمكن أن يُفصَل من عمله ويدخل السجن أيضا، بل وربما قُتِل بالصدفة مثل كثيرين قُتِلوا قبله ولم يعرف عنهم أحـدا أى شئ. هذا ما يجرى هنا بعد أن صار كل شئ يُباع ويُشتَرى. المحجر ملك لأحد البدو الأثرياء، اشتراه منذ سنوات مع بداية الانفتاح، ورغم أنه وقَّع على أوراق وعقود ومواثيق بأنه سوف يلتزم بحقوق العمال التى تقررها النقابات، إلا أنه استطاع أن يفلت بوسائل كثيرة من هذه الالتزامات، وأصبح بإمكانه أن يكترى عمالا بالمياومة وبدون أية حقوق حتى وإن مات أحدهم. وبعد أن حصل عثمان على ثقة صاحب المحجر، أصبح يوفِّر ثمن الحليب اليومى المخصص للعمال، بل وصار يكترى عمالا لحسابه بأجور أقل مما يمنحه صاحب المحجر.

العمال يعرفون ذلك ولا يفتحون أفواههم، وصاحب المحجر يعرف أن عثمان يسرقه ويسرق العمال ولكنه يعطى انطباعا بأنه لا يعرف شيئا. وعثمان يعرف أن صاحب المحجر يعرف كل شئ، ولكنه لن يفتح فمه لأن هناك أشياء كثيرة تحدث وعثمان يعرفها: يعرف أسرار سيارات النقل التى تذهب محملة بأشياء كثيرة إلى السَلُّوم، والإسماعيلية، والسويس، والإسكندرية، وتعود محملة أيضا بأشياء أخرى كثيرة. أمر واحد فقط يمكنه أن يقلب الدنيا رأسا على عقب: خمرة منصور الذى لا ينام ولا يعمل. منصور الذى رأى خلال شهرين الكثير والكثير، ولكنه حتى الآن يلف ويدور، ولا يتحدث صراحة، وكل ما يطلبه هو أن يتركه عثمان فى حاله ولا يضايقه فى خمرته. ولكن عثمان يخشى الفضائح، لأنه فى هذه الحالة لن يتورع صاحب المحجر عن أذية عثمان. وبالتالى لن يتورع عثمان عن أذية منصور.

عرض عثمان كثيرا على منصور أن يُغيِّر كيفه ويستبدل الخمر بالحشيش، ولكن المسألة كانت تخص المبدأ، فرفض منصور وكاد يعتدى على عثمان. الحشيش من وجهة نظر منصور هو عبارة عن علف للمواشى، يميت القلب والنخوة والشهامة، يقتل الغيرة والرجولة. يجعل الإنسان جبانا يفر حتى من نفسه. والخمر من وجهة نظر عثمان تجعلك ثرثارا وتافها وخبَّاصا، تستفزك وتجعلك عرضة للخطأ، وتضعف رجولتك، تجعلك مثل الخنزير فى رائحته وتصرفاته.

ولكن لماذا يرفض منصور تغيير كيفه، خاصة وأنه قرر مقاطعته وهجره إلى الأبد مع بداية العمل الجديد!-لا أحد يمكنه الإجابة على مثل هذا السؤال. الطب النفسى والشرعى والفلسفة وعلم النفس سوف تختلف كثيرا فى تفسير مثل تلك الحالة. منصور شخصيا لا يعرف لها سببا، لأنه بعد كل سكرة ومعركة وموقعة يفيق فى الصباح وهو يلعن الخمر وصانعيها وحامليها، يلعن نفسه، ويلعن زلابية، والحياة العفنة التى يعيشها، ويقرر فى النهاية: إنها وباء، مرض، لعنة، ولن أقربها بعد الآن. ولكنه لا يلبث أن يترك كشكه الخشبى، ويركض لإحضار ما تبقى من زجاجة الأمس. وفى أحيان كثيرة كان يقف فى خيمته فرحا مستبشرا كمن عثر على كنز إذا ما وجد زجاجة كاملة. هو يعرف جيدا أن هناك زجاجات كثيرة لم تُفتَح بعد، ولكنها مؤونة الأسبوع، وإذا أخذ اليوم جزء من نصيب الغد فربما لن تكفيه المؤونة حتى يوم الأربعاء. ولكنه كان دائما يقنع نفسه فى حالات معينة أنه سوف يبدأ سكرته من الصباح لكى يقلل الشرب فى المساء، ويتفادى العراك مع عثمان الكلب. من هنا تحديدا كان بإمكانه أن يأخذ ما تبقى فى زجاجة الأمس، والزجاجة الكاملة أيضا. ومع ذلك لم تكن الأمور تسير كما خطط لها.

 

( 3 )

من الصعب جدا، وربما من غير المعقول، أن نرسم نقطا فى الفراغ الوهمى، وبالتالى لا يمكن أبدا رسم الخطوط المستقيمة والمنحنيات فى هذا الفراغ الوهمى بسبب العلاقة الواضحة بين النقط والمستقيمات. ولا يمكن للخطوط أن تؤسس شكلا ملموسا فيما يسمى بالفراغ إذا لم تكن هناك خلفية ما لهذه الخطوط. المشكلة فى الموضوع تكمن فى أن علوم الرياضيات حددت الخلفية وأعطتها اسم "المستوى" الذى يتكون بدوره من نقاط وخطوط. والمشكلة الأصعب أنه تم الاصطلاح بين الرياضيين والفلاسفة والمسرحيين على تسمية الوسط بـ "الفراغ". وبالتالى أدركنا نحن البسطاء أن الحركة يمكن أن تتم فى الفراغ. حتى أنهم درَّسونا فرعا من علوم الرياضيات يسمى بـ "الهندسة الفراغية". ومنذ زرعوا فى الرؤوس تلك التعريفات الخاطئة ونحن ندور فى الفراغ بالمفهوم الذى زرعوه فى رؤوسنا.

فى مراحل ما يمكننا أن ندرك بشكل أو بآخر-حينما نكون قد أصبحنا بغير حاجة إلى ذلك-أن أية أشكال لابد وأن تتكون فى وسط ما، وبالتالى فالحركة لابد وأن تتم فى وسط ما، مثل الحركة على الأرض، والسباحة فى الماء، والطيران فى الهواء-الفضاء. ومعنى ذلك أن الفراغ الذى اصطلحوا على تسميته، ليس فراغا فارغا-أى خاويا، وإنما هو عبارة عن وسط تحكمه قوانين علمية هامة فى علاقته بحركة الأجسام التى تتم فيه. هنا يصبح الأمر واضحا بالنسبة للكميات الرياضية السالبة والموجبة، والكميات التى تساوى الصفر.

الصفر بالنسبة للتاجر ورجل الأعمال يمثل اللاشئ، ولكنه بالنسبة للباحث العلمى يمثل بالضرورة نتيجة هامة مثل أية نتيجة أخرى تتضمن أرقاما غير الصفر. وينطبق ذلك على الكميات السالبة التى تمثل خسارة فادحة للبعض، وتمثل نتائج علمية هامة للبعض الآخر.

إن اكتشاف مثل هذه الأمور وتحليلها يمثل شكلا من أشكال المتعة الذهنية التى لا يتميز بها سوى المثقف النظرى الذى يدَّعى أنه متخصص فى السينما أو المسرح أو الفلسفة أو أنه كاتب رواية أو قصة أو ناقد عام وشامل-متعدد المواهب، أى باختصار المثقف الذى يمكنه أن يستخدمها للتدليل على أفكار أخرى تظهر قدرته العبقرية على الرصد والتحليل وتساعده على الاحتفاظ بحجم البروستاتا المتضخم لديه. لن نتحدث عن الباحث الرياضى أو الاقتصادى الذى يستخدم هذه الأمور النظرية ليس كمتعة، وإنما كضرورة، لأنها فى كل الأحوال هى من صميـم عمله.

ونظرا لأن علوم الرياضيات قد أصبحت صعبة ومعقدة، وأصبحت علوم الاقتصاد أكثر تعقيدا ولخبطة، لم يبق أمامنا سوى التفلسف النظرى الذى تعودنا عليه.

من حركة البشر فى وسط ما تتولد مجموعة من النقاط والخطوط، وتحدث توازيات وتماسات وتقاطعات بصرف النظر عن علاقات هؤلاء البشر وبصرف النظر عن انتمائهم لوسط ما معين. أى أن الناس يصنعون فى حركتهم خطوطا مختلفة الأشكال والأحجام بالمعنى الرياضى تجعل منهم فاعلا وموضوعا للفعل فى آن واحد لحركة كونية. الخطير فى الأمر أن الأجسام المادية لو سارت بحركة متوازية فسوف تترك خطوطا متوازية بصرف النظر عن كون الحركة مستقيمة أو غير مستقيمة. وبالتالى فالأشكال تتأتى من مختلف أنواع الحركة التى تترك خطوطا وعلامات متنوعة مثل التماس والتقاطع. ولعل العلاقات البشرية تخضع بشكل أو بآخر لمثل تلك الأفكار والأشكال. بل ومن الممكن التأكيد على أن التوازى أو الافتراق هو أحد أحط أشكال العلاقات البشرية، بينما التماس أو الالتقاء والتقاطع تمثل شكلا متطورا من أشكال العلاقات الإنسانية التى يطمح إليها الإنسان ويحاول دائما أن يجد لها أسبابا ومبررات حتى ينعم بدفء هذه العلاقات، ويتمتع بفوائدها.

وإذا تصالحنا مع مثل تلك الأفكار التى-من الممكن-أن تثير الضحك الذى يسبق التأمل الحقيقى، فسوف نكتشف أن الذاكرة الحية هى أحد الموضوعات الرئيسية الكونية لعلاقات الناس، أى المستوى والوسط والفراغ التى يمكنها أن تشكِّل لوحة عامة للفعل البشرى منذ بداية الكون، أو ما قبلها، حتى النهاية.. نهاية ماذا؟! لا أدرى، ولا أحد يدرى. ولكن ليس من الصعب التأكيد على وجود ذاكرة مستقبلية مثل الذاكرة الماضوية والانتقائية والغيبية والمفقودة وغيرها من أنواع الذاكرات التى أتحفنا بها العلم والبحث العلمى. والأمر هنا مرتبط بالزمن كبعد رابع (أضافته النظرية النسبية) لا مفر من الاعتراف به كحقيقة علمية ثابتة إلى أن يثبت عكس ذلك.

فى العلوم الطبيعية أثبتوا أن هناك ثلاث حالات للمادة: صلبة وسائلة وغازية. وما لبثوا أن أضافوا إليها حالة رابعة: البلازما، وهى حالة خطيرة فلسفيا، لأنها صلبة وسائلة وغازية فى آن واحد، وليست أيا منها فى نفس الوقت! وهنا تصير البلازما بالمفهوم الاجتماعى العميق والشامل حالة فى غاية الخطورة والاستغلاق. ومما يزيد من خطورتها أنها حالة مرتفعة الحرارة، ولا يمكنها أن توجد فى غير تلك الحالة، بل وتبلغ درجة حرارتها مئات الآلاف من الدرجات الفهرنهيتية، وهى ليس كما يشبهونها مجازا لتلاميذ المدارس بـ حالة "الآيس كريم" على الرغم من التشابه الظاهرى طبعا: التشابه من حيث الشكل فقط.

المثقفون العاطلون يخلصون إلى حقائق هامة جدا-من وجهة نظرهم-وهى أن الأبعاد أربعة، وحالات المادة أربعة، فهل توقَّف العلم عند هذا الحد؟ يسألون، ويجيبون: طبعا لا، لأن هناك ظواهر كثيرة لم يصل إليها العلم بعد. وتأكيدا لعلميتهم ومصداقيتهم يمدون الخطوط على استقامتها ويبدأون متعتهم النظرية..

-الذاكرة هى الحالة الخامسة للمادة! وخصوصا إذا كانت ذاكرة مستقبلية.

-الزمن الافتراضى هو البعد الخامس! وخاصة إذا كانت الذاكرة تتحرك عليه فى مرونة: إلى الخلف وإلى الأمام، وتغوص فى الواقع-الافتراضى بالضرورة، من أجل كذا وكذا، وكيت وكيت..

مرة أخرى نعود إلى الصفر.. حيث نعرف كلنا، أو أغلبنا فى أسوأ الأحوال، أن الصفر على يسار الرقم لا يعنى أى شئ. وأن الصفر على اليمين يمثل كمية هامة. ولكن يجب أن نعرف أن أهمية الأصفار الموجودة على اليمين تعتمد على الخانة التى تضمها: فالصفر فى خانة العشرات ليس كمثله فى خانة الملايين. ويجب أن نعرف أيضا أن الأصفار على اليسار أصبحت تملك قيمة خطيرة لها علاقة بأصفار اليمين. فمن ناحية نكتشف أنه كلما زادت أصفار اليمين أمام الأرقام فى البنوك، يزيد عدد الأصفار على اليسار بالشوارع والحوارى والأزقة. ومن ناحية أخرى، وبما أن أهمية الصفر على اليمين تعتمد على خانته الموجود فيها، فإن المثقفين-الأصفار مثلهم مثل أصفار البنوك أمام الأرقام، وكلما زادوا، زادت أصفار البنوك وأصفار الشوارع.

أثناء حركة الأصفار-بالمعنى المادى للحركة-سنكتشف أنها تصنع خطوطا. وبالطبع فحركة صفر اليمين (بصرف النظر عن كونه صفرا أمام رقم فى بنك، أو مثقف-صفرى فى خانة العشرات أو فى أسوأ الأحوال لا يتعدى خانة المئات) ستصنع خطا واضحا وثقيلا ومؤثرا ومرئيا، وسيكون خط أصفار اليسار باهتا وضعيفا وغير مرئى بالمرة. ولكن ماذا لو أصبحت الأصفار على يسار الأرقام-مجازا-كثيرة؟ ماذا لو تجمَّعَت واتحدت؟ ستكون ببساطة صفرا كبيرا! حتى وإن كانت هذه الأصفار-مجازا-بشرا يسير فى الشوارع. لا شك أن هناك تقاطعات وتماسات وتوازيات فى حركة الخطوط، ولكن الزمن الواقعى أثبت أن التوازيات كانت كثيرة حتى على المستوى الواحد فى الوسط الواحد، وأثبت الزمن الافتراضى أن مجمل هذه التوازيات وبعض التماسات الضئيلة سوف تؤدى-وقد أدت بالفعل-إلى قرارات وتصرُّفات فورية ومتعجِّلَة قادت إلى كوارث كثيرة فردية وجماعية.

هكذا تبدأ الجلسة وتنتهى يوميا فى "الكونكورد"-وهذا ليس اسمه الرسمى، ولكن المثقفين عادة ما يطلقون الأسماء التى تناسبهم وتنطبق نسبيا على المكان، ثم يصطلحون عليها لتصير الاسم الحقيقى فيما بعد. "الكونكورد" يعمل طوال الليل والنهار، مثل بارات كثيرة، ماعدا أيام الجُمَع والأعياد الدينية. ولكن البعض يحسب حساب ذلك، ويُخَزِّن مؤونته تحسُّبا لأى ظرف طارئ. وتكون النتيجة أنهم يأتون جميعا، حتى فى أحلك الظروف، وهم فى غاية "الكيـف والمزاج".

حول " الكونكورد "، فى وسط القاهرة الرسمى، توجد عدة مقاهى وبارات تاريخية استطاعت أن تستوعب الشرائح الأقل ماديا واجتماعيا من الكتاب الهواة والناشئين، أو بالأحرى صغار الاسم، وبالتالى صغار الدخل، وهذا ما ينطبق أيضا على محررى الصحف الصغار الذين يعملون بالمكافأة. مثقفو المقاهى لا يوجعون رؤوسهم فى تغيير أسماء المقاهى: أولا، لأن الحافز المُنَشِّط لذلك لا يُباع فى المقهى، وثانيا، فصاحب المقهى يقوم شخصيا بذلك فى أحيان كثيرة حتى لا يفر الزبائن منه. فأحيانا تجد المقهى-وبقدرة قادر-قد أصبح مقهى الفنانين، أو الكتاب، أو المثقفين، أو النخبة، أو... أما البارات التاريخية المتواضعة والتى اكتسبت تاريخيتها من المثقفين أنفسهم، فهى تمثل حالة البلازما: تفتح بعد الحادية عشرة صباحا بقليل، وتغلق أبوابها فى الحادية عشرة مساء بأمر القانون، ولكنها أحيانا تظل تعمل حتى الثانية صباحا، وكل الأمور يمكن حلها بطرق عديدة طالما هناك رغبة فى حلها من جميع الأطراف: من طرف المخالفين ومنفِّذى القانون على حد سواء.

"سفينـة نوح"-يقع فى الشارع الموازى للشارع الذى يقع فيه "الكونكورد". أطلقوا عليه فى البداية "سفينة نوح" لأنه كان يضم جميع الفئات التى تعمل فى وسط البلد بداية من بوابى العمارات الضخمة والإسكافية والسماسرة وعمال الجراجات، وماسحى الأحذية، ومسؤولى إقامة الأفراح البلدى فى الأحياء الشعبية، وانتهاء بعدد ضخم من المثقفين والكتاب ومحررى الصحف المبتدئين، والمحبطين الذين فقدوا أعمالهم أو أنفسهم أو ماء وجوههم فى فترات سابقة يطلق عليها البعض فترات سياسية، والبعض: فترات الخمسينات والستينات والسبعينات، والبعض الآخر: فترة ما قبل الثورة أو المرحلة الناصرية أو الساداتية. ولكنهم رأوا فى نهاية الأمر أن تسمية "سفينة نوح" أمر غير جائز لأنه يمكن أن يمس الدين بشكل أو بآخر، فغيروها إلى "السفينة". ولكن هذه التسمية أيضا لم تستمر طويلا لأسباب كثيرة أهمها ثقل وقع الاسم، وعدم استساغته من قبل البعض، فاصطلحوا فى النهاية على تسميته بـ "عم مصطفى"، واستمر ذلك بالرغم من أن العم مصطفى-النادل مات بعدها بعدة سنوات وشبع موتا.

أما وسط القاهرة، فهو مثل وسط أية عاصمة فى العالم، يكتظ بأشكال وألوان من البشر، يضم بيوتا وعمارات مختلفة الأشكال والمعمار، ملئ بالسيارات من كل الماركات، والمحلات والدكاكين، السياح من كـل جنسية، والسيَّاح المحليين أيضا.

 

( 4 )

اتخذ طريقه، بين القضبان، على الفلنكات ورأسه مشوَّش بأفكار مختلطة لا نهاية لها. نظر إلى الصالة الكبيرة من بعيد، بدت له رؤوس بشرية لا نهائية، والضجيج وفحيح القاطرات يصنعان عالما هلاميا يألفه ولا يعيه. الأضواء الكثيرة الملونة تحيل الوجوه الصغيرة التائهة إلى وريقات صفراء ذابلة تتشتت بفعل حركة دائبة يراها ولا يدركها، وأصوات الميكروفونات تعلن عن مواعيد قيام قطارات فى اتجاهات وبلاد مختلفة، ووصول أخرى من بلاد واتجاهات أخرى كثيرة.

سار مُخَلِّفا باب الحديد، وميدان رمسيس. ألقى نظرة باردة على المبنى الضخم، وحدَّق فى وجه التمثال الكبير بامتعاض، ثم اتجه إلى شوارع القاهرة،

لم تكن الشوارع المضاءة جديدة عليه، ولكنها غريبة لا يألف السير فيها برغم عدم انتباه الناس إليه، أو التفاتهم إلى ثيابه الرثة. حاول من جانبه إهمالهم وعدم التطلع إليهم، نسيانهم وإلغاء وجوههم وملامحهم، التخلص من وجودهم بالكامل، ومن وجود الأولاد والبنات الصغار الذين يسيرون مع أمهاتهم وآبائهم على الأرصفة، أو يتسكعون أمام واجهات المحلات التجارية الفخمة بالهدايا والملابس الجديدة الملفوفة بأناقة واهتمام، أو يركبون السيارات فى كبرياء وإحساس بالاختلاف يبدو على ملامحهم الطرية الرقيقة وفى نظراتهم وابتساماتهم.

محاولاته فى العثور على لقمة باءت بالفشل. عاوده الإحساس بالحرقة والغثيان فى معدته وأمعائه، ما لبث هذا الإحساس أن تحول إلى ألم ممض فى بطنه ومؤخرته. راح يتلهى بالنظر إلى الأشياء والفيترينات والسيارات المتزاحمة. سلَّمه شارع إلى آخر، دفعه ممر إلى ثان أكثر منه عتمة وقتامة. توقَّف قليلا أمام بائع الشاورمة بالقرب من سينما ميامى، راح يتأمل قمع اللحم الضخم وهو يدور بهدوء، وتنز منه قطرات الدهن، ويتصاعد البخار محملا برائحة دفعت إلى رأسه بالدماء والأفكار المجنونة. وقعت عيناه على الساطور فى يد الرجل الواقف، تجمدت أفكاره، تلاشت وكأنها لم تكن أبدا. اصطدمت نظراته بنظرات شاب يقف مع فتاة يلتهمان بقايا الساندوتشات، اعتراه خجل غريب، وانصرف.

حلقه الجاف يدفع بمرارة إلى معدته، فترتد كثيفة وحارقة إلى فمه، ومحلات العصير رغم برودة الطقس لا تكاد تفرغ حتى تمتلئ. ارتد بصره على طفلتين بجوار والديهما تعبثان بكوبىّ آيس كريم فى جروبى. ألصق وجهه بالزجاج الخارجى للمحل، أخذ ينقل بصره ببطء بين ألوان الآيس كريم الزاهية المختلفة وبين وجهى الفتاتين. خرج الجرسون الأنيق فى هدوء وأدب وعلى وجهه ابتسامة مهذبة رقيقة اعتاد توزيعها على الزبائن الجالسين، اقترب منه فى حذر، رَزَعه شَلُّوتا مفاجئا وكفا على قفاه ألصقته بزجاج الفترينة:

-ابعد من هنا يا ابن المعفنة..-قال الجرسون هامسا فى وعيد وتحذير.

بَظَّت عيناه إلى الخارج، التوى بوزه فى غيظ، وطل من عينيه حقد. فتح فمه، ذابت الكلمات بمجرد أن لمح الشر المتجسِّد على ملامح الجرسون الأصلع. ابتعد قليلا وراح يُكَيِّل الشتائم فى حنق وهو يكاد ينهنه بالبكاء. قرر العودة إلى محطة مصر. تَذَكَّر ما حدث، رأى الحارس والمخبرين، تَجَسَّد أمامه الملجأ، ورش النجارة والسِبَاكة، دورات المياه العطنة. اختلطت أمامه الصور وتداخلت، راوده البكاء، ولكن البرد شَغَلَه عن التفكير فى جوعه. قادته قدماه ناحية شارع كلوت بيك. عاودته الرغبة فى التبرز، انتحى زاوية مظلمة، فك أزرار بنطلونه فى إعياء، قرفص وأخذ يحزق بشدة، ولم تخرج سوى روائح كريهة. لمح عن بعد كومة أوراق وأقفاص وصناديق، اقترب فى بطء وحذر، مد يده، أزاح كومة قش، وقع قفص وتداعت الصناديق، برزت أمامه عشرات العيون اللامعة المتربصة فى شر وحقد، تسمَّر فى مكانه، راودته فكرة التراجع، علا صوت مواء جماعى مكتوم، انهارت الصناديق والأقفاص دفعة واحدة، اندفعت قطط صغيرة وكبيرة بعيون شرسة، طارت فى كل الاتجاهات مخلِّفة وراءها ضجيجا وصراخا عاليا مختلطا بصراخه المرعوب. انفتحت نوافذ البيوت القريبة، انهال السباب والشتائم، فراح يعدو بجسده الضئيل وقدميه القصيرتين فى ذعر.

على رأس شارع كلوت بك، عند التقائه بشارع الفجالة، وقف متلفتا حوله فى خوف وحذر. مر ببصره على بائعى الصحف والمارة وسيارات الأجرة والمنادين. دار بعينيه باحثا عن عربات الفول الليلية التى طالما بدأت عملها من العاشرة مساء حتى الساعات الأولى من الصباح فى خدمة مساطيل آخر الليل، والعائدين من أعمالهم المتأخرة، والمتسكعين والمثقفين البسطاء والصحفيين وسائقى عربات السرفيس وعساكر الجيش. كانت هذه العربات مخزن مؤونته الاحتياطى عند انسداد الأبواب أمامه فى القُلَلِى أو موقف أحمد حلمى. جال بذهنه البصل والطماطم والسلطة والطرشى، تَذَكَّر أن الخبز كان يوضع إلى جوار العربات تتناوله الأيدى كلما شاءت، وكان يمد يده الصغيرة من بين الأجساد الواقفة يتناول رغيفـا أو بصلة. أحيانا كان يلمحه مسطول أو سائق أو أحد محررى الصحف المبتدئين، فيبتسمون ويدفسون بوزهم فى أطباق الفول وكأنما لا شئ هناك. لمح العربة الوحيدة فى صدر ميدان رمسيس، رأى الزحام الشديد حولها، تنفس بارتياح. تسلل بين الأجساد الضخمة، أخذ يفتش عن قفص الخبز، دار مرة، ومرتين. أدرك أن القفص فى بطن العربة من الداخل، والبائع يمد يده فى حرص ليخرج رغيفا برغيف حسب العدد، وحسب الطلب.

نظر إلى النافورة الكبيرة تحت قدمى التمثال العالى الضخم. راح يتأمل المياه المندفعة من تحت القدمين الضخمتين فى خطوط متوازية إلى أعلى لا تلبث أن تتقوس لتصب فى الحوض المستطيل الواسع. أفعمه تلألؤها المتناسق، راودته رغبة شديدة فى الشرب، وإلقاء جسده-رغم برودة يناير-تحت ضرباتها الخفيفة، وسيطر عليه شعور بالخدر واللذة. استساغ عن بعد طعم المياه وبرودتها، استملح رعشة جسده وهو لا يدرى: بسبب درجة حرارته المرتفعة والرغبة التى تولدت منها فى الاستحمام بالشارع فى برودة يناير، أم من رغبة حقيقية تنم عن قوة داخلية، وعصب يتحمل الصدمة الناتجة من البرودة المفاجئة!

دقق النظر حوله. سار متلصصا تجاه مطعم القُلَلِى. دخل فى هدوء، مسح المكان بعينين متوجستين باحثا عن خبز. كان المطعم شبه خال من زبائنه على غير العادة، وقفص الخبز هناك على غير العادة خلف البائع المتثائب. بنظرة واحدة أدرك أن القفز نحو القفص هو الجنون بعينه. أخذ يتجوَّل بهدوء بين الطاولات الرخامية. بادره الرجل المتثائب هناك متسائلا فى ارتياب:

-عاوز إيه يا ولد؟ غور من هنا.. ملعون أبوك وأبوهم وأبوها بلد. حتى الأزمة وصلت للمخابز. إتفوو..ه!

نظر إليه فى انصياع أعطاه إيحاء بأنه سيخرج فى الحال، اقترب من طاولة يجلس عليها رجل قصير بدين وجندى أسمر ضئيل، وثب-فجأة-نحوهما، اختطف رغيفا، تناثرت بعض الأشياء والأكواب، انتفض الجسد القصير البدين ليلحق بهذا الملعون الذى نط فجأة وسلبه رغيفه، ولكنه تعثَّر فى مكانه وسقط محدثا دويا عاليا لفت أنظار المارة خارج المطعم، وسرعان ما تحولت دهشة الجندى الأسمر إلى قهقهة عالية، وانضم المارة والجالسون فى مظاهرة ضحك غير عادية حينما حاول الجندى الضئيل مساعدة الرجل الذى انحشر جسده بين الطاولة الرخامية والمقعد الحديدى المثبت بالأرض، بينما زاد خجل الرجل وتصبب عرقه غزيرا حينما وقع الجندى مرتين أثناء محاولته، وفى الثالثة انحشر بين جسده وبين المقعد المعدنى، هنا فقط تقدم الناس فى بطء وجدية يخفيان حالة من الضحك الشديد. اختفى الجسد الصغير المراوغ، ترك صوت الأطباق الألومنيوم والسباب واللعنات تملأ المكان. انقلع من القللى، ذاب فى الميدان الواسع المزدحم، إلا أن المخبرين المتسكعين على الأرصفة والمقاهى تنبهوا إلى صوت السباب واللعنات، راحوا يحومون فى الميدان، يبحثون عنه، وعن آخرين مثله وغيره، بينما كان الفم الصغير الشره يلوك فى نشوة واطمئنان ورضاء قضمة كبيرة من رغيفه الذى لا يزال دافئا، وبقعة الظلام خلف سور المحطة تخفيه عن العيون.

لم يكد يلتهم نصف الرغيف حتى لمحهم من بعيد. طوى النصف المتبقى فى كفه، أطبق عليه بقوة، نهض منحنيا، حاول استباقهم فى القفز من فوق السور، تنبهوا إليه، صاح أحدهم بصوت عال:

-من الشِمال يا فيَّاض.. ادخل عليه من اليمين يا عبدالحفيظ..

هجموا عليه من جميع الجهات، حاصروه تماما. طل من عينيه يأس وفزع. ضحك أحدهم فى انتصار وشماتة. انطلقت صرخة قوية لا تتناسب مع الجسد الهش، استدار، وثب بكل ما فيه من قوة، تعلَّقت يداه بحافة السور، شد جسده بخفة، طوَّح به إلى الناحية الأخرى، بينما كان نصف الرغيف الذى سقط منه قد اختلط بالطين والتراب تحت أقدامهم.

-يا ابن العفاريت!-قال أحدهم ناظرا إلى الآخرين نظرة يفهمونها.

-إنه نفس الولد الـ..-قال فيَّاض وهو يطلق ضحكة طويلة ممطوطة.

-يبقى مطلوب فى مباحث الداخلية والمواصلات-قال ثالثهم خابطا كفا بكف وجسده يترجرج من ضحكة عالية.

-طيَّر الحجرين من دماغنا … الله يخرب بيت أمه-قال فياض مبتسما.

ولكن ضحكته تحوَّلت إلى صيحة يائسة ملتاثة حينما رأى جسد عبدالحفيظ المعلَّق على السور الحديدى، وثيابه المشتبكة فى الأطراف المعدنية المدببة وهو يحاول اجتياز السور بجسده المترهل الملفوف كيفما اتفق فى ثياب لا يمكنها أن تعطيه الفرصة لحركة حرة متزنة، ولكنه الحشيش الذى يعطى دائما الخفة للأجسام والعقول.

-يا مجنون ـ قالها فياض، وهو يتمرَّغ ممسكا ببطنه من شدة الضحك. بينما علا همس عبدالحفيظ:

-لا تزعق يا بغل، ستفضحنا.. والله لأمسك به، وسأخيطه قبل أن أسلمه.

-سنخيطه جميعا، ومعنا الحشاش، المحولجى صاحبنا.. لكن بالله عليك كيف طرت هكذا؟!

رد المخبر الثالث فى ضحكة رفيعة طويلة مثيرة للسخرية:

-ربع أوقية يمكنه أن يُطَيِّر جبل المقطم. لقد طار صاحبكما بعد عشرين حجرا وكاد يحرق محطة مصر.

وانتظموا فى ضحكة جماعية، شاركهم فيها عبدالحفيظ الذى مازال معلقا على أسنان السور المدببة.

راح يتقافز فوق الفلنكات، يتفادى تقاطعات القضبان الحديدية الكثيرة متجها صوب الظلام، نحو القاطرات المتناثرة مثل نتؤات بارزة سوداء أكثر قتامة من الظلام الدامس. داور حول إحداها، تفحصها بعينين خبيرتين، انحنى متحسسا الأرض من تحتها، ثم قرفص وزحف. تمدد على ظهره، وصورة نصف الرغيف الطائر فى الهواء لا تزال عالقة بذهنه. شعر بالبرد، وبخشونة الزلط ورؤوس الأحجار المدببة وتعرجات الفلنكات، ضم ركبتيه إلى بطنه وراح يقضم أظافره.. هجمت عليه قطط كلوت بك، نهشت وجهه ويديه، أخرجت أمعاءه، لعقتها ثم راحت تلفها حول أقدامها وتلهو بها.. تحوَّل إلى فم كبير راح يلتهم كل القطط، يطير ناحية النوافذ المفتوحة، يأكل الرؤوس المطلة منها.. انتقل إلى العنابر المظلمة، ودورات المياه، سمع صون استغاثات الصغار حين يعرى الكبار مؤخراتهم عنوة ويكتمون أنفاسهم ثم يركبونهم.. انتفض على صوت أقدام متلصصة. حدَّق فى الظلام الدامس، ظن أنه مازال يحلم، ولكنه رآهم: ست أقدام ضخمة تتحرك فى حذر. كاد اصطكاك أسنانه يفصح عن مكانه. زحف ساحبا جسده فى هدوء، نظر إلى الأقدام المقتربة، أخذ يتحرك ببطء حتى صار بإمكانه النهوض والانطلاق. وفى لمحة كان قد انطلق إلى الخلاء الواسع، وما إن تنبهوا إلى صوت أقدامه حتى اندفعوا وراءه يزعقون ويسبون بعضهم البعض، ويلعنون أمه واليوم الأسود من أوله.

راح يعدو وهم خلفه. العتمة لا تحميه، الظلام والقضبان المتقاطعة والفلنكات لا تستطيع إخفاءه أو إنقاذه من عبث الأيدى الكبيرة القاسية والأجساد الضخمة المصممة على اللحاق به، والتى لو أمسكت به لمزَّقته وتسلت على ما تبقى منه، ثم ألقت به بعد ذلك فى أى قسم بوليس ليتسلى عليه من فى الحجز: هو يعرف ذلك من خبرته، ويعرف كيف يتعامل المحجوزون الذين يعيشون أسابيع وشهور فى الحجز بدون نساء!

استدار بنفس سرعته عائدا صوب الصالة الكبيرة، نحو الضوء والناس. دبت فى جسده طاقة يستشعرها لأول مرة، انتابه دفء نادر حينما اقترب من الجموع المتحركة فى الصالة، الجموع التى لو لم تتمكن من حمايته أو التوسل إليهم ليتركوه، فسوف تخفيه بينها، أو على الأقل ستصمت حين يحاول هو الاختفاء. المسافة بينه وبين المخبرين تقل، صياحهم يلفت الأنظار، يوقظ ويثير رغبة ما دفينة لدى الكتل البشرية فى حيز الضوء وسُحُب البخار الساكنة فوق رؤوسهم، يحفزهم على فعل شئ ما يتوقون إليه ولا يعرفونه أو يعرفون السبيل إليه. الجسد الضئيل يندفع فى استماتة ورغبة فى الخلاص، فى الذوبان وسط تلك الجموع التى راحت تنظر إليه بعيون محايدة مرتخية، وأنفاس مستكينة باردة، وملامح غريبة متغضنة تحركها رغبة داخلية مضببة. المسافة تتقلص بينه وبينهم جميعا-من الناحيتين-العيون فى الصالة مسلطة على جسده الهش المندفع، تتزاحم فيها تعبيرات متناقضة، يتطوع البعض بسد الطريق عليه، يكثر المتطوعون، تستيقظ بداخلهم قوة غريبة تثير فيهم رغبات مكبوتة، وتكشف عن أقنعة أخرى جديدة، وغرائز أخرى لا تتجلى إلا فى مثل تلك المواقف النادرة، والعرق يتصبب من الجبين الضيِّق الأسمر، من جسده كله، الشعور بالدفء يتسرب، يتحول إلى يأس وحقد وكراهية، وفكا الكماشة ينطبقان على الجسد الصغير المرتعد من الخوف والبرد، من اليأس وخيبة الأمل، يود لو يبكى، والفكان ينطبقان فى هدوء وثقة، ينتزعان منه الرغبة فى الخلاص، ويطمران شرارة كانت قد انبعثت. راودته فكرة التسليم: أن يقف فجأة ويخرج لهم ذكره وليحدث بعد ذلك ما يحدث، ولكنه نحاها جانبا بمجرد أن تذكر ضحكاتهم المسطولة ووجوههم القاسية. الجسد الرفيع المشدود، المتوتر إلى أقصى الدرجات، يقرر فى التو واللحظة أن يجرب آخر محاولة للفرار والهرب، أن يمنح نفسه آخر أنفاسه وآخر قطرة من طاقته قبل أن ينغلقا فكا الكماشة عليه، فينحرف فجأة إلى اليسار، يتوتر ويندفع بيأس وأمل آخر خطوة قبل الموت، يترك بينهم فراغا بقدر جسده أو أكبر قليلا، ويستدير ثانية صوب الظلام.

 

( 5 )

المستقيمات المتوازية لا تتلاقى، أو بالأحرى لا تتقاطع، مهما كان شكلها: لا يهم مستقيمة أو دائرية أو حتى متعرجة أو عرجاء. المستويات المتوازية لا تتلاقى أيضا، وبالتالى لن تتقاطع مستقيماتها المتوازية مهما كان الأمر.

الزمن أيضا شئ فى علم صاحب العلم، ومن ثم فالزمن الافتراضى بالذات أمر صعب. والأصعب هو كيف يمكن أن تغوص فى الزمن لتلتقى مع أزمنة أخرى أو تعيش فيها سواء فى الماضى أو المستقبل! كيف يمكن لهذه المجموعات الغريبة الموجودة الآن فى "الكونكورد" أو عند "عم مصطفى" أو على المقاهى المحيطة أن تقع فى زمن آخر فى نفس اللحظة. أمر يصعب تصوره! ولكن هاهو شكرى طوبار يناقش آخر قصائده الآن فى "الكونكورد" مع ماجد يعقوب الذى يعرفه منذ سنوات طويلة، إنه هو نفسه شكرى طوبار الذى جاء من المستقبل، أو بالأحرى سوف يعيش فى زمن آخر سيأتى بعد أكثر من عشر سنوات، ولكن يمكن الولوج إلى هذا الزمن والغوص فيه، وهو نفسه الذى سينتحر لأسباب كثيرة يطول شرحها، ومع ذلك لا أحد يعرفها بالضبط. وإذا كانت الذاكرة بحالتها الصحية الجيدة، فيمكنها أن تتقدم إلى الأمام قليلا، لعشر سنوات فقط كى ترى وجه شكرى المشوه بصفحة "الحوادث" فى إحدى الجرائد وماجد يعقوب يبكى بحرقة، بل ويمكن أن نرى ونسمع ماجد يعقوب نفسه وهو يروى الحكاية: الأمر يتوقَّف على القدرة على وضوح الرؤية. وها هو عليّ يونس يجلس على المقهى، يسب سيد "القهوجى"، أو يتشاجر مع حمدون، أو يناقش مرقس إسحاق فى قضايا دينية معقدة تنتهى بأن يتسلل الاثنان فى هدوء إلى "عم مصطفى" أو "الكونكورد".

ماجد يعقوب يبكى انتحار شكرى طوبار بعد عشر سنوات من الآن: عندما يكون عمره قد قارب على الأربعين، ويبكى أيضا وفاة عليّ يونس الغريبة قبلها بعدة سنوات: قبل انتحار شكرى بعامين أو ثلاثة. يبكى عليّ يونس رغم أنه لا يعرفه كثيرا، أو بالأحرى لم يجد القناة الطبيعية التى كان من الممكن أن تقوده إليه رغم التقاطعات اليومية المتكررة على المقهى، أو عند "عم مصطفى" طوال سنوات كثيرة. هل يبكى ماجد يعقوب نفسه لأنه سيموت أيضا بالصدفة؟ أم يبكى شكرى لأنه صاحبه؟ أم يبكى عليّ يونس لأنه لم يتمكن من أن يصبح صاحبه فى الوقت المناسب؟

الذاكرة العادية مفزعة، كارثة يجب التعامل معها دوما بحذر. الزمن الكلاسيكى أيضا مصيبة سوداء على الذين لا يحسون به، وأكثر سوادا على الذين يحسون به. فما هو المصطلح المناسب للذاكرة فى حالتها الخامسة-المستقبلية؟ ماذا يمكن أن نطلق من مصطلحات على الزمن الافتراضـى-المستقبلى، خاصة وإذا كانت الحركة الآنية للأجسام بطيئة وفى خطوط مستقيمة رغم وجودها فى وسط واحد؟ فما بالنا بالحركة التى تتم فى مجموعة أوساط مختلفة فى زمن افتراضى وذاكرة افتراضية-فى المستقبل، خاصة وإذا كانت لدينا القدرة (التى ستصبح بعد سنوات قليلة من الآن حقيقة واقعة) على النظر الآن فى المستقبل ورؤية أنفسنا وتصرفاتنا المستقبلية. هل سنغيِّر ما نفعله؟ هل سنبنى عالما آخر على أفكار أخرى مغايرة؟

هنا أيضا من سيصبح بعد عام واحد فقط من هذه الجلسة فى حكم المفقود. هل هو سمير منسى أم عماد صالح؟! لو غصنا قليلا فى المستقبل، أو بالأحرى فى الزمن الافتراضى، فسوف نعرف أنه سمير منسى أكبر الجالسين سنا والذى حضر حربين متتاليتين. وسيترك مسوَّدات مشروع، أو بالأحرى فكرة السيناريو الذى كان يحلم بتحقيقها على طريقة الواقعية السحرية. أما عماد صالح فسوف يُقْبَض عليه بالصدفة فى صيف عام 1981م فى إحدى الحملات على التيارات الدينية المتطرفة بعد أن يكون قد ترك البار والأصدقاء وكتابة القصص القصيرة ما بعد الحداثية والركض وراء البنات، وانضم فى البداية إلى إحدى الطرق الصوفية متصورا أنه من الممكن أن يفعل ما لم يفعله الحلاج أو السهروردى، ولكن بعد أن يكتشف الحقيقة سيذهب للاعتكاف بأحد المساجد فى قرية بالمنوفية. وسيظل الأصدقاء يعتزون بإحدى أهم قصصه، ولعلها الأخيرة التى كتبها مساء يوم 19 يناير، أى بعد لقاء البار التاريخى فى مساء يوم 17 يناير والذى استمر إلى ما بعد ظهر اليوم التالى.

ما يحدث الآن فى محطة مصر، أو فى محجر بمرسى مطروح، أو ببار أو مقهى للمثقفين فى وسط القاهرة، شكل من أشكال الحركة تصنعه أجسام تترك وراءها خطوطا تسمى فى علم الرياضيات بالمستقيمات التى من الممكن مدِّها على استقامتها-فى الزمن الافتراضى-واستنتاج ما يمكن أن ينتج عنها. ولكن إذا كنا نستطيع الإبحار فى هذا الزمن، والغوص فيه، فما الداعى للاستنتاجات النظرية ما دامت لدينا الإمكانية لرؤية الواقع الافتراضى من خلال الزمن الافتراضى؟! لن نتحدث الآن عن التوازى أو التماس أو التقاطع، ولن نتحدث عن الأصفار فى الشوارع أو فى البارات أو على يمين الأرقام فى البنوك. المسألة ببساطة أن الصبى الصغير، أى صبى صغير، فى محطة مصر يحاول الآن الهروب بأى شكل من نهاية أليمة، بينما يحاول منصور حمزة أن يمسك لسانه، وألا يتهور حتى يتمكن من الحصول على أى مبلغ من عثمان فارس والعودة إلى القاهرة. فى نفس اللحظة تدور نقاشات حادة على المقاهى بخصوص المثقــف العضوى، وهل جرامشى أول من أطلق المصطلح أم أن المصطلح موجود من قبله؟ وهل يمكن اعتبار شعراء السبعينات ليسوا امتدادا لشعراء الستينات، وإنما تيارا جديدا نظرا لأنهم فى طريقهم لتأسيس قصيدة النثر العربية؟ هل الأحزاب الشيوعية السرية قد استنفذت الغرض منها، أم أن هناك أهداف أخرى لمرحلة جديدة؟ ما الفرق بين التفرد والذاتية، وفى أى مجتمع يمكن أن نسمى التفرُّد-تفرُّدا، والذاتية-أنانية؟ وكيف يتعامل المجتمع الاشتراكى مع كل منهما ويعمل على بلورة وإدارة فكرة "الأنا" لتصبح تفردا حقيقيا بعيدا عن الذاتية والأنانية؟

بعد عشر سنوات-فى نهاية الثمانينات، وبعد عشرين عاما-فى نهاية التسعينات، ستتغير الأماكن قليلا، وستتبدل المواقف كثيرا، ستحدث إزاحات لا يعرفها منصور حمزة، ولا يعرفها أى من الجالسين الآن خلف الموائد والكؤوس ودخان السجائر الكثيف: سواء فى "الكونكورد" أو عند "عـم مصطفى"، أو حتى فى مقرات الأحزاب العلنية والسرية. ستبقى فقط بعض النصوص الهامة التى كتبوها بعـد الآن بسنوات، وسيموتون بعد ذلك بأسباب مختلفة، أو ينتحرون، أو يسافرون إلى الخارج، ولكنهم الآن مازالوا بيننا رغم عدم معرفتنا تماما بهم أو معرفتهم هم بأنفسهم: أقصد بمصائرهم، ولعل النصوص المتبقية التى كتبوها أو كُتِبَت عنهم هى الوسيلة الوحيدة لمعرفتهم بصدق، ومعرفة عالمهم، والأفكار التى طرحوهـا أو سيطرحونها، وتصوراتهم عن العالم، وعن المرحلة التى عاشوها وسيعيشونها، ومعاناتهم الخاصة والعامة. كل ذلك يمكن إدراكه بشكل أو بآخر من تلك النصوص التى ستُكتَب، أو الحكايات التى ستُحكَى على لسان من شاهدوا وعاصروا وشاركوا. فهل هم أنفسهم كانوا أبطالها؟ أم كانوا هم ذاتهم على شاكلة أبطالها؟ أم أن ما حدث، وما سيحدث قد انعكس بشكل أو بآخر على ذواتهم الإبداعية؟ من الصعب تحديد ذلك بسبب اختلاف النظريات النقدية. إضافة إلى أن أبطال العمل الفنى لا يعرفون إطلاقا الأحداث المقبلة فى العمل الذى يشاركون فيه. القارئ أو المشاهد، وبالطبع الكاتب، هو الوحيد الذى يعرف مصائر الأبطال. الطريف فى الأمر أنه حتى ولو حدثت إعادة للعمل الفنى فى السينما أو التلفزيون أو على خشبات المسرح، فلن يعرف أبطاله مصائرهم، هذا الأمر ينطبق على أبطال الأعمال الأدبية أيضا، فهم مهما كررنا قراءة العمل، لا يعرفون، ولن يعرفـوا مصائرهم. بل وإذا أخرجنا أحدهم أمامنا وسألناه عن اسم الرواية التى تتضمن اسمه كبطل سينظر فى بلاهة، وربما فى سخرية، ويقول: أية رواية؟!!

 

( 6 )

(مسوَّدات فكرة السيناريو الذى تركه سمير منسى قبل سفره)

«1»

كان يقف هكذا.. بجلبابه الأبيض الذى استحال إلى لون طينى، مُعَلِّقَا جوالا من الخيش على كتفه الأيمن، وطرفا الربابة بين كفه اليسرى والفخذ، وراح يطلق نغمات متقطعة، وخلفه فتاتان تجلسان على المقعد أخذتهما نوبة ضحك. الولد مازال يطلق نغماته، وبين الحين والآخر ينظر إلى بعيد منتظرا قطاره.

كنتُ أقف على الرصيف المقابل أنتظر قطارى. وكان الولد يستولد النغمات وينظر إلى الواقفين لعل أحدا يشترى ربابة صغيرة لطفل صغير. والفتاتان استملحتا اهتزازات نهديهما فزادت نوبات ضحكهما.

* * *

حين دقت طبول الحرب، كنتُ أسمعكِ وأسمعهم. كانوا يقولون أنها الخلاص. خرجوا زرافات ووحدانا على الشاشات الصغيرة والكبيرة ليشيدوا بحب الأم، ونسوا أشكالنا وأسماءنا. لكنك كنتِ تغنيـن لى، كنتِ ترددين اسمى لا اسمها، وقلبك المفعم بالحب والخير ينبض بأغنيات كنا نسمعها ونغنيها معا. لم يكن ابننا قد صار بعد جنينا. كان بذرة حية أُلقِيَت بعد أمسية نضال فى قاعة مغلقة تبادل فيها الأصدقاء الكلمات والتحايا، وهتفوا ضد السلطة، ثم انصرفنا محبطين، وسكن كل منا الآخر، فكان ابننا-ابن الزمن الآتى.

يوم الاستدعاء قال البعض أنه نداء الوطن. وقلتِ أنه عواء الكلاب تتطاحن من أجل المزيد من الدم. وهمستِ حين عانقتكِ أن اضغط بقوة على أضلعى.. اضغط، حتى نزت دموعك من كل مسامات جلدك. ولما صار الوطن أكذوبة، كنتِ الوطن الحقيقة-الضائعة، وابننا تنمو له يدان فى حجم فُلَّتين بيضاوين فى جسد بض بحجم الكف، يسكن وطنه الحقيقة.

* * *

صَفَّرَ القطار من بعيد. أوقف شرطى المرور سيل السيارات المتدفق. لم يكـن قطارى. قام المنتظرون على الرصيف المقابل واستعدوا للركوب. احتكت به إحدى الفتاتين، نظر إليها باسما، فنظرت إلى صاحبتها وتمايلت ضاحكة. وحجبهم القطار.

جاء قطارى. قفزتُ منحشرا بين الأجساد، وقبل أن يسرع ألقيتُ نظرة، فرأيته يبتسم ويستعد للقفز على الرصيف الآخر.

«2»

كانت المغنية تردد كلمات من زمن فائت، وآهات تتلظى لها القلوب، فتفرغ كأسها، وكؤوسنا تهوى. ومن خلف الزجاج ألمحهم معلقين فى خيوط من وهم.. الفتيان فى عمر الياسمين والفتيات نرجسات تتهادى.. تتخلل كلماتهم لفتات مذعورة، وحين يجلسون متلاصقين على المقاعد الحجرية، أو فوق الحشائش بعيدا عن بقع الضوء المنسكب من أعمدة الإضاءة، تمتد أيديهم إلى آجام مجهولة يختبرون أجواءها بلمسات مرتعشة، وهمسات دافئة، ورغبة وخوف. وتأتى عربات البوليس، فيهرب من يهرب، وتعود العربات محمَّلة ببراعم الزمن الحرام. وأقلب الزجاجة، فأجدها قد نضبت، ووجهك الهارب تنبت ملامحه فى قاع الكأس. وبعد أن يلبى النادل طلبى، تخرجين مكتملة. وتدور عيناى على بطنك فلا أراه، أفتش بين ذراعيك فلا أجده. وأجرع سلواى فأسلوكِ، وتتلاشين، وملامحه كما رسمناها معا تتشبث بقاع الذاكرة.

* * *

قال لى جندى منهم: تركتُ امرأتى حبلى، وإن طالت غيبتى، سترسل لى صورته عندما يأتى.

فقلتُ: صهيونى آخر صغير..

ولما كانت تأتى نوبات الكى على الأفخاذ والظهر، كنتُ أصرخ بكل قوتى لعلك تسمعين وتؤمنين. وكان الجندى يتألم. وعند المقايضة أومأ لى برأسه، وقال هامسا: ربما يلتقى ولدانا فى..، ولكزنى جندى آخر لكى أتقدم. وفى رحلة العودة إلى الوطن، كنتُ أعرف أنك ستقرئين اسمى فى قائمة سلع المقايضة، وربما تريننى فى التلفزيون. وأسمع صوتك تقولين لابننا: ها هو أبوك.. هذا يا ولد.. إنه ذلك الرجل الطويل ذو اللحية الزاغبة والأنف المصرى. ولما تختلط أمامه الوجوه العائدة، تشيرين مرة ثانية وإصبعك على الشاشة، وعلى شفتى: هو ذا يا حبيبى.. شعره أجعد ومغبَّر. ويحملق فى وجهـى المتلاشى، أنتزع غلالة القهر وأرتدى زهو الانتصار. لكنه طفل لم يعف الزمن بعد على قوى شفافيته، فيصرخ فزعا، ويلجأ إلى صدرك تضمينه ويضمك، وتتذكرينك بين ذراعىّ.

لم يتعانق عقربا الساعات والدقائق ليفصلا ما بين يوم فائت ويوم سيفوت. النادل فى ركن قصى يرقبنى وليس له شاغل سواى.. أنا الوحيد فى مملكته السحرية. ولما أشرت إليه وملامحه منصهرة أمامى، جاء وجلس فى تأدب وخجل وقصَّ علىَّ بعضا من شجونه. وحين سألته عن زبائنه، قال: ذهبوا بعد أن نفضوا همومهم.. وغدا سيأتون بركام حزن فيتطهرون. فقلتُ وأنا أنزع السياق من سياقه: استقبلونا بحفاوة وترحاب، فتسامقنا وصارت العاهات أوسمة، وأثناء الإجراءات أتوا خصيصا بفتيات جميلات تعلَّمن كيف يبتسمن بحنان وينادوننا بلقب بطل، فكنا نتسامق هكذا.. وشددتُ جسدى فبرز صدرى كقفص صدئ خرب. ابتسم صاحبى النادل، وقال: ماذا تقصد؟ فقلتُ: أ لم تهزم من قبل؟ فتَعَجَّب: أ لم أنتصر بعد! فداعبته وأثنيتُ على قوة ملاحظته. ونهض ليلبى إشارة من الخواجة صاحب البار.

* * *

كان لابد أن تنتظرى الظافر الآتى-زوجك. كل النساء يفعلن ذلك فى زمن الحرب، ومنهن من عشن أرامل للأخذ بالثأر، وما نضت إحداهن ثوب الحداد إلا بعد الانتصار. لكنكِ أبيتِ، وخلعتِ عنك رداء التواصل فصرتِ من علامات زمن الخصيان.

* * *

أقبل منطفئ الملامح وفى عينيه أسف وشك، والخواجة اللئيم يرمق كلينا بتوجس. ناولتُه النقود وبقشيشا سخيا، فاستطالت نظرات الأسف والخجل. ولما انحنى أمامى، تلاشت معالمه. وكان التمثال يدير ظهره لى، ويُدخِل رأسه تحت ياقة معطفه.

* * *

بعد كل موقعة لابد من استرداد الفاقد والمفقود، وما سيُفقَد فى المواقع الآتية. فعدتُ لاستكمال طقس كنا قد بدأناه معا فى هذا الشارع نفسه منذ سنوات طويلة. ربما يحمل ابننا زميلته كما كنتُ أحملكِ، ويبدآن سويا رحلة تأجج الأجساد واصطخاب الأرواح فى لحظات سديمية تتمدد فيها الألسنة وتستطيل حرابا مُشَرَّعَة تشق الفراغ، وتصفع واجهات المبانى التى بناها كل من أتى إلينا مستعمرا. كنا نختلس اللحظات فنتكاشف، ونقترب فنتألق، ونسير فوق خط فاصل تجنبا للوقوع، ونحلم بليلة نضع فيها بذرة ابننا لتنبت مع الصباح. كنتُ أحملكِ فوق كتفى، وتهتفين.. تهتفـ... وعندما يهجمون، تستلين حزامك الجلدى العريض، وفى النهاية أعود بك متخفيا فأمرضك، وأستمد منك قوَّتى فأحيا لنتبادل المواقع فى المرة القادمة.

* * *

نظرات الجيران تحاصرنى، العطف والاستكانة فى عيون الرجال، والنساء تقطر كلماتهن مرارة. البيت كما تركتِه، تنقصينه أنتِ وصورة لابننا الحلم. ليست لدى الخبرة الكافية بأمور المحاكم، وكيفية دعوة الزوجة لبيت الزوج. لم نكن نناصر تلك الفكرة أيام كنا نتعاطى الورود، ونشاهد طلوع الفجر فى الطرقات، وحكاياتكِ عن طرازات المبانى ومسخ الهوية المعمارية. منذ العودة أمارس فى ذاكرتى زراعة أشجار الدوم والنبق. أعرف أنك لن تغادرى الوطن، لكن الوطن ضاق، والسماء لا تتسع لتحقيق رغبة-واحدة فقط-لرجل يُقال أنه حقق ضمن آخرين رغبة ملايين أنتِ منهم. ففضلتُ الزراعة فى الذاكرة كما زرعنا يوماً، فى محاولة شبقية متفردة، شجرة لا أدرى حقيقة وجودها الآن. فإذا كان ابننا لم يأت بعد، فليس الذنب ذنبك، إنها مفارقة مضحكة وغير منطقية، لكننا سوف نعيش لنأتـى بغيره.

* * *

لم يعد هناك مكان أذهب إليه، وأخشى أن نكون قد اندمجنا فى لعبة تبادل الأمكنة والأزمنة، فعلى حد قولهم.. أنك الآن مع رجل رأوكِ بجواره فى سيارة.. رأوكِ معه فى مكان ما لا يرتاده أمثالنا. ولما سألتهم عن صغير بصحبتكما. قالوا.. لا.. اثنان فقط: رجل وامرأتك. ورغم حزنى الشديد، استبشرتُ أملا. فمن المؤكد، إذا كان قولهم صحيحا، أنك تعرفين إننى عدت. فالأجهزة الحديثة لابد وأن تكون قد أعلنت عن المقايضة والمزاد. وبيتى ليس المكان الخطأ. تعرفينه جيدا.. تحت النافذة خلف المنضدة التى تنوء بحمل الكتب أجلسُ منتظرا. لا يغرنكِ شكل المنضدة الآن، فالكتب حملتُها منذ زمن فى رأسى، ومن أجل البرد الآتى من كل الأركان، وغيابك، صارت عامرة بزجاجات متعددة الألوان والأحجام، وكأسيـن فقط، واحدة منهما ممتلئة من أول زجاجة اشتريتها بثمنى، وثمنى بضعة جنيهات شهريا.

* * *

من الغريب أنكِ قد ذهبتِ قبل عودتى، وربما بعد رحيلى. لكن لماذا؟ هل كنتِ تستشعرين الهزيمة؟ أ لم تكن ثمة وسيلة أخرى أكثر إنسانية بدلا من هزيمتى للمرة الثانية؟

لم أقد المعركة، ولم أتنازل عن فكرة الانتثار لحظة واحدة. كنا الكثرة والثمن المدفوع سلفاً والعدد المفقود. ورغم هذا فلم يكن الأمر بأيدينا. تعرفين ذلك من مطالعتكِ للتاريخ غير المكتوب لوطننا وحكامنا، وكنتِ تتقلبين من داخلكِ على أجيج الحلم واستعار اللحظة وقتما تحين ساعة شواء البشر على أسياخ القادة والحكام.

* * *

البابُ غير موصد، لكنه يبدو مغلقا. أنتِ التى اخترعتِ تلك اللعبة حتى لا يزعج أحدنا الآخر بصوت المفتاح. أتركه كل ليلة هكذا لعلكِ تأتين، وعند النوم أُبقى جفونى مفتوحة، فربما تعتقدين أننى نائم وتذهبين.

سأشرب حتى يلوح اللون البنى لعينيك السوداوين، وأظل شاخصا إليهما حتى تجلجلان بضحكة بيضاء، وتتشاكس الغمازات بخديك، ولن يشبعنى سوى هبوط أهدابك كجناحى قُبَّرَة اطمأنت فى عشها.

* * *

كأسك مازالت منتظرة. زجاجتى فرغت، وزايلتنى الرغبة فى النوم. غريبة تلك الليلة. ليست ذكرى ميلاد أو موت، ربما تأتين فى لحظة خلت من دونها سنوات عجاف قد مضت؟ وربما يكون الزمن قد تسلل خلسة وسطا على ما تبقى من سنوات آتية؟ فلأجرع كأسكِ ولتكن الأخيرة، وأشرع فى ترتيب أشيائى لعل السفر يغسل، مع مياه البحر، عاركِ وعارى.

«3»

-لا تسافر، فمن سيبقى لى، ولمن ستترك الوطن؟

كانت مفردة متعددة المعانى، وكنتِ تدركينها كمعنى خاص بكِ، وغير قابل للتأويل: كان الخلاص وجب يوسف معا. وأنا لستُ بيوسف، لكنك والوطن عنصران متلازمان. فلما انفصلتما صار الوطن ماخورا، وأنتِ صورة صماء إطارها زجاج ملون لسيارة فخمة، والجب طريق الهزيمة ووهم الانتصار.

مرة واحدة رأيتُكِ بعينى اللتين كنتِ تعشقينهما يوما. أ صدفة منطقية أن أراكِ فى لحظة انطلاقى فى الطريق صوب الميناء؟ أم سبب قهرى لأفكر مَلِيَّا فى رحلتى إلى جب يوسف؟

* * *

-لو تركتَنى سأضيع. أرجوك..

طوال الطريق أراكِ بجواره سروالاً متهرئا نال منه الزمن، وما به من بقع دامية، ليست لكِ. فدمكِ الأحمر فُقِدَ من زمن، لكنها دماء ضحاياكِ وفرسانكِ الذين تصنعينهم وتأتين عليهم فى لحظة الميلاد. ليس أشجع منى ولا أشرف كى يأخذك. أنا فارسك الذى نضا عن نفسه رداء العهر فصار خطية اقترفتيها وتحاولين التكفير عنها على طريقة بنى إسرائيل.

* * *

-لن أسافر طالما أنتِ معى..

الطريق سلم خشبى يفصل بينك والوطن وبين وطن آخر مجهول. السفر ليلاً أو نهاراً لا يعنى أن هناك شمس تختلف عن شمسنا، ومعرفتى بساعة إلقاء يوسف فى الجب ليست دقيقة. فالميناء مظلم كما الجب رغم وسائل الإضاءة المتقدمة، والعيون تتفحص الأوراق وكلاهما مظلم. لكن الشئ الوحيد المُحَاصَر تحت كل أضواء العالم، هو مشهدكما معاً خلف زجاج سيارة، وضحكة بلا معنى خلف عينيك الزجاجيتين.

* * *

-لنخرج ونخبر الأصدقاء بقرارِكَ.. سيفرحون وسنحتفل الليلة بذلك..

-لم أر أمى منذ زمن.. لنسافر إلى قريتنا..

-لم أرها من قبل.. وربما

-لا.. فهى طيبة..

فى قريتنا المجهولة، كنا نسمى ما نعبر عليه فوق الترعة بالمعدية أو القنطرة، والسلم الخشبى الآن طريق بأكمله. وانبعاث صوت المغنية من مكان ما على رصيف الميناء يصدح عن الفتاة التى جاءت من بيتها العتيق.. وقال لها حبيبها: انتظرينى. وتنتظر على الرصيف. وتمرق الأيام. والصيف والشتاء زمنان لا يلتقيان، إنما يبتلعان زمن العودة للذى رحل ووعد بالعودة.. وجاءت رسائله.. لكنها متآكلة الحروف.. والصيف والشتاء زمنان لا يلتقيان..

ومازالت تنتظر خلف الفصول.

* * *

-اليوم جاءكَ خطاب استدعاء من الجيش..

فى غفلة منه اتفقوا وألقوا به فى الجب. كان صغيرا وجميلا، لكنها كانت خدعة.

* * *

-لا تذهب.. ربما كانت الحرب..

ما أنا بيوسف رغم جماله الأنثوى، أنا رجل يا امرأة، والحرب حربى. النساء فى مصر يطربن لهذا الجمال، لكنهم يعشقوننا نحن. أنا رجل يا امرأة، وسوف أذهب. أما هو فقد حسبها جيدا، وأدرك أنه الرابح والملك المنتظر، والحائز على امرأة العزيز.

* * *

-أخشى ألا تعود.. أكاد أموت..

-سأعود..

وتتضافر أسباب القبح. ينحسر النور، ويمتد الظلام بامتداد الزمن المقطوع فى القاع الأسود. وأعود، فينفلت الزمن، ويعود معى زمن الورق الأخضر المُشَرَّب بدمائى.

* * *

-ضمنى بقوة.. بقوة.. سأنتظرك..

زليخة امرأة فاتنة. فُتِنَت بيوسف بعد أن عاشت زمناً لا تنجب فيه من العزيز. لم تكن عاقرا، لكنه أكد تواطئه وادَّعى أن التغاضى عن شئ فى الحرام ما هو إلا ضرب من الحلال. وتستمر لعبة الحرام والحلال، والرغبة تأكله، وتحرق أحشاء المرأة العاشقة. وما أنا بيوسف، وما أنتِ بزليخة، وعزيزك لم يرسم لكِ-قَطْ-وردة، أو يضمد لكِ جرحا، ولم يعرف كيف يحرث أرضكِ ويبذر فيها. زليخة امرأة احترقت بلهيب العشق والرغبة، لكنها لم تساوم خادما أو حاجبا، ولم تضاجع وزيرا أو فارسا. لا تصدقى أنها كانت تستسلم ليوسف لو استجاب، فنساؤنا يستهويهم الجمال الأنثوى. كانت لعبة لصنع يوسف، وما أنا بيوسف، فهو مجرد مفسر للأحلام، يتطلع للسلطة، وبلعبة يتقنها يعتلى العرش. وأنا فارسكِ الوحيد الذى سار على شفا خطاياكِ ولم يهو. زرعتُ فيكِ ولكِ، وقطفتُ منكِ وإليكِ، ولما تركتُكِ على أمـل الحصاد، ورحتُ أحصد معهم الرقاب، فهمتُ اللعبة.

* * *

-إذا جاء ولد سأسميه..

-لا تبكِ.. فربما تكون بنتا..

-سننتظركَ سويا..

-سوف أعود.

يوسف هو الذى ذهب إليهم يا امرأة، لا تصدقى أنهم أتوا إليه. كان يريد العرش، فاستولى عليه بخدعة. منذ زمن وهو يخطط لذلك، والعزيز مغفل، ويوسف خائن. سنوات عجاف عشناها، وسنوات عجاف نعيشها. ذهب إليهم وادَّعى العكس، صاروا أسيادا ونحن العبيد، هم أخوة يوسف ونحن الرعاع. ولما قلناها.. لا. خرجوا وهم يتوعدون، ثم عادوا فطوبى لهم بيوسفهم.

* * *

-اعتنِ بصحتِكِ.. سوف أعود.

موجات اللحن الشفاف تتدفق صوب أدق الأجهزة الحساسة فى جسدى. من بعيد تتسامق الأمواج فى صخب، يلمع زبدها تحت انسكابات الضوء المندلق من مصابيح أعمدة الميناء، ووجهك ليس على موجات اللحن أو البحر، لكن ملامحه تتطابق ومساحات الليل القاتمة. وأُفاجأ بكِ بين الأوراق. أعرف أنه وجهك، لكنه ليس الوجه الذى عشقت. يدقق الضابط فى وجهى، وينظر إلى الصورة.. الفتاة مازالت تنتظر على الرصيف.. الفصول تتوالى الصوت ينبثق كالميلاد.. أغوص فى أعماق اللحن والذاكرة. الضابط لا يزال ينظر مستسلما إلى وجهى.. المغنية تؤكد أنه راح ونسيها.. وذبلتْ فى الشتاء..

سمير منسى

القاهرة 1978م

 

( 7 )

-أنتَ لص يا منصور، وسوف أُبلغ عنك البوليس فى الصباح..

-أنا أشرف منك ومن أبيك وجدك، يا ابن الساقطة..

-صنعتُ منك عاملا محترما بدلا من ماسح أحذية يلعق الأقدام، ويتسول من أجل زجاجة خمر عفنة.

-أنتَ حرامى، يا عثمان، والكل يعرفون ذلك. حتى الحرامى الكبير يعرف..

هى المرة الأولى التى تصل فيها المعركة اليومية، أو بالأحرى الليلية، إلى هذا الحد. تجمهر العمال والسائقون والحمَّالون، وبعض رجال ونساء وأطفال البدو الذين يعيشون بالقرب من المحجر. لم يتدخل أحد فى البداية ظنا منهم أن القذائف والدانات سوف تكون كالمعتاد وفى حجمها الطبيعى. ولكن منصور يشرب منذ الصباح، وعثمان يدبر أمرا منذ أيام دفعه إلى تدخين ما يقرب من ربع أوقية فى هذا اليوم فقط. وبمجرد انتهاء العمل التزم كل منهما معسكره وظل يجهز عدته وعتاده.

انتهز منصور فرصة عدم وجود خبز مع طعام الغداء، وتذكَّر أنهم لم يعودوا يوزعون حليب الصباح. عثمان يتحين أية فرصة، ولكنه يريد أن يحبكها جيدا لأنه يعرف أن العمال سوف يكونون إلى جانب منصور. وها هى الفرصة قد أتت من تلقاء نفسها: اشتكت بدوية من ضياع دجاجة فى الصباح. فظل عثمان يتحدث إلى العمال بذلك مشيرا إلى أن الفاعل ليس سوى منصور "الخمورجى". وكان على العمال أن يصدقوا حتى لا يوجهوا التهمة إلى أحد منهم.

منصور يشعر منذ أيام بأمر ما يدبره عثمان. وعندما تصعد الخمر إلى يافوخه تتضخم الفكرة وتتكاثر الشكوك والظنون. عثمان يريد التخلص من هذا الوغد لأنه غير مأمون الجانب وسيفضحه.

وبدأت المعركة.

التقى الجيشان فى وسط الميدان مثل كل ليلة. بدأت مناوشات خفيفة:

-الرخيص يشرب الرخيص-قال عثمان ضاحكا.

-والحرامى يشرب حشيش-رد منصور فى انتشاء أثار ضحك بعض العمال الواقفين.

-تقصد حرامى الفراخ؟

-لا. حرامى العيش واللبن، يا عثمان.

رد عثمان مستشهدا بالعمال الذين شعروا بسخونة المعركة:

-شاهدون يا رجال؟-لم يرد أحد، فاستمر عثمان-لم يعد غير إبلاغ البوليس، لقد زادت الأمور عن حدودها، والبدو يشكون من ضياع فراخهم.

أثار الاتهام ضحك الواقفين، بينما جن جنون منصور:

-أنتَ الذى تسرق البدو، وتسرق العمال، وتسرق صاحب المحجر، وتبيع حشيشا أيضا.

-ليس لك عمل منذ الآن هنا يا كذَّاب.

-أنا أشتغل هنا مجانا يا حرامى. وسوف أفضحك.

-لابد أن تغادر المحجر من الصباح، وإلا دفنتك هنا.

-أعطنى حسابى.

-سأعطيك على الصرمة القديمة، وعليك أن تذهب بلا رجعة.

-ملعون أبوك، وأبو المحجر، أتفوو..ه.

 

( 8 )

كاد يصطدم بجسد ضخم فى العتمة.

-فَتَّح، يا أعمى-زَعَقَ صاحب الصوت الرفيع الممطوط فى نفاذ صبر.

وقف قليلا فى منتصف العربة حتى اعتادت عيناه الظلام وبدأت تميِّز الأضواء الصغيرة البعيدة المتحركة إلى الوراء ببطء. لمح أجسادا مسترخية على المقاعد وكأنها مغطاة برداء ذى لون قاتم أفتح قليلا من العتمة، عارية الرؤوس، ميَّز فيها العيون اللامعة. عرف من الصوت الذى يعكر صفو دقات القطار المتتابعة أنه لاحتكاكات الأحذية الميرية السوداء الضخمة بأرضية عربة القطار. اطمأن قليلا، راح يتفرس بحذر فى تلك الوجوه الساكنة التى بادلته نظرات باردة محايدة، وشاردة لا تكاد تراه أو تعبأ به. سار حثيثا إلى عربة ثانية، رأى نفس الملامح، ميَّز لون الأوفرولات العسكرية بلونها الزيتى الداكن، وبين الفينة والأخرى ينطلق صوت متخللا دقات القطار الرتيبة واحتكاكات الأحذية.. أمواس حلاقة.. مناديل.. أمشاط.. كوكاكولا.. ساندوتشات. لا حظ عدم وجود مدنيين، وخلو القطار من النسـاء والأطفال. فقط رأى عساكر الجيش الصغار والكبار، فى عيونهم تساؤلات لا تلبث أن تذوب فى لمحات خاطفة مشوبة بلمعة خفيفة فى الظلام، يغفون واحدا تلو الآخر فى نوم متقطِّع تتحكم فيه اهتزازات القطار وتمايلاته، وأصوات الباعة المتجولين المتثائبة. تَسَكَّعَ بخفة ويقظة، رغم التعب والإرهاق الشديدين، مرة، ومرتين. تأكد من إحساسه بالأمان، واطمأن لوجود العساكر، رغم قلتهم، والمقاعد الكثيـرة الخالية. سرح ببصره خارج العربة عَبْرَ نافذة مهشمة تظهر من خلالها النجوم الصغيرة وكأنها قطع معدنية باردة طُرِّزَت بحنكة على منديل قاتم اللون فراحت تلمع بشكل يلفت الأنظار. لم ترق له فكرة النوم منفردا على مقعد منعزل، ولم يشغله البرد والرياح المتجولة فى القطار، ولا ضجيج الأبواب والنوافذ المهشمة. مسح جبهته ساهما. عاين من بعيد مقعدين طويلين متواجهين، على أحدهما يغط جنديان فى نوم عميق وقد لفَّا جسديهما ببطانية متهرئة، وعلى المقعد الثانى تمدد جندى يُشَخِّر بصوت عال وقد سقطت البطانية من فوق جسده على أرضية العربة. اقترب بحذر وأصوات الشخير والأنفاس الرتيبة المتوالية تصنع، مع ظلام العربة ودقات القطار والأشباح المتراجعة إلى الخلف، جوا خياليا قريبا من عالم أحلامه المألوف. على مقعد قريب لمح جسدين متكئين بعضهما البعض وقد دسَّ أحدهما رأسه بين كتف الثانى وظهر المقعد الخشبى، وعلى المقعد المقابل جندى مقرفصا بمفرده فى الزاوية بجوار النافذة المكسورة لفَّ جسده فى حرص بالبطانية وراح يغط فى نوم عميق. اقترب منه، قفز إلى جواره، قرفص عاقدا ذراعيه حول ركبتيه، وأسند رأسه إلى ظهر المقعد. خالجه إحساس يشبه الإغماء، أغمض عينيه فى خدر… شب حريق، فجأة، وفجأة اختفى. تدافعت سحنات مشوهة تطارد قطا أسود يجرى أمامها مغمض العينين، لحقت به، قبضت عليه، أشبعته ركلا، انتفخ القط فجأة، فتح عينيه، نهض قويا، نظر إليها فى غضب، مَاءَ بشدة، زأر… انتفض فجأة على يد كبيرة دافئة تتحسس ركبته، تنزل بهدوء وثقة على فخذه، تجمد فى مكانه، تحجرت عيناه، تعثرت شهقة رفيعة فى حلقه… وألقت يد الجندى المجاور دون أن يفتح عينيه بطرف البطانية على الجسد الصغير. تسلل دفء من نوع غريب إلى جسده، تغلغل بداخله، دغدغه وربت على أوجاعه الدفينة، وراح فى غيبوبة هادئة مستكينة، وأخذ رأسه الصغير يميل شيئا فشيئا على الذراع القوية المجاورة، وبسمة وديعة على شفتيه.

استيقظت شمس يناير الباردة فى كسل. لكزه الجندى المجاور مرة، ومرتين. فتح عينيه فى ذعر، صدمه الضوء، كاد يثب من مقعده لولا أن رأى الملامح غير المعادية تتأمله فى دهشة. تساءل الجندى الطويل النحيف الجالس إلى جواره:

-من أين طلعت يا ولد؟-ونظر إلى زميليه مستفسرا.

ران صمت متوتر-فى البداية-انقلب إلى ابتسامات صغيرة مستغربة، وراح كل منهم يطالع الآخر. أنقذه صوت القصير الأسمر الجالس على المقعد المقابل:

-العلمين فاتت..-قال بصوت كسلان وكأنما يعلن عن موعد شئ ما غير هام.

-أنا جوعان-رد البدين الجالس إلى جواره، ثم تثاءب ونظر فى كسل إلى مقابر الحرب العالمية الثانية المنتشرة على جانبى الطريق.

مر بائع الشاى. طلبوا ثلاثة أكواب، أخرج كل منهم كيسا به خبز وبيض وطماطم. راحوا يأكلون فى شهية وعيونهم تتطلع خارج القطار. ناوله الجندى الطويل بيضة ونصف رغيف. أخذهما فى صمت ولهفة مستترة وراح يأكل على استحياء. قدَّم إليه القصير الأسمر نصفا آخر محشواً بالطعمية والجرجير والبصل، وقذف إليه البدين بحبة طماطم كبيرة، وقال مازحا:

-امسك… إفطار ميرى محترم…-وطلب صائحا أربعة أكواب أخرى من الشاى، ثم أضاف موجها سؤاله فى استخفاف:

-إلى أين؟

-عند أخى…-رد بصوت ثابت وقاطع، ولكن الأسمر القصير بادره مندهشا:

-يا ابنى هو يسألك: إلى أيـ.. يـ.. ين، وليس عند من…

نظر إليهما الطويل معاتبا. توقَّفا عن الكلام، وراح كل منهما ينظر فى اتجاه، فى حين بانت على ملامح الجسد الصغير شراسة وتحفُّز، ونهض ناحية دورة المياه. تبادلوا النظرات فى صمت. هزوا رؤوسهم وكأن الأمر لا يعنيهم. وتثاءب البدين فتبعه الآخران.

-هؤلاء الأولاد عفاريت.. انتبهوا لحاجياتكم..-قال البدين محذِّراً فى همس.

رد الأسمر مبتسما فى خبث:

-ومن الممكن أن يكون حرامى ابن كلب.

-ماذا سيأخذ الريح من البلاط-علَّق الطويل مطالعاً الأسمر بنظرة ساخرة، وراحوا جميعا يضحكون.

قطع خروجه من دورة المياه ضحكاتهم.

بادره الطويل متسائلا فى عطف:

-أنت من مصر؟

--هزَّ رأسه بالإيجاب فى ضيق وإمارات إرهاق شديد بادية على ملامحه المتقلصة.

-من أين؟-سأل القصير الأسمر فى حدة واستفزاز.

-من الشرابية…-أجاب فى غيظ واستخفاف.

-هل تتصور أنه من مصر الجديدة! هيئته لا تعطى أكثر من بولاق أو الزاوية الحمراء..-قال البدين ضاحكا وهو يتأمل ثيابه.

ضحكوا جميعا، وشاركهم ببسمة صافية خجولة خالية من أى حقد أو ضيق. علا صياح المحصل فى العربة المجاورة، عمَّ هرج ومرج تخلله سباب وضحكات عالية. تحفَّز شئ ما بداخله، طالع وجوه الجالسين من حوله، تحولت نظرة الشك فى عينى الجندى القصير إلى نظرة انتصار وسخرية، وسأله البدين:

-معك تذكرة؟

وأضاف القصير ببسمة صفراء:

-لماذا أنت خائف هكذا؟!

نظر إليهما فى ضيق وحيرة. شعر بالبرودة تتسلل إلى مفاصله، وراح ينتظر أية كلمة من الجالس إلى جواره. خيَّم صمت كثيف، تعثرت أنفاسه قليلا، هب واقفا واندفع إلى دورة المياه. بقفزة واحدة كان قد انثنى مرتكزا بمؤخرته على حافة النافذة. شبَّ على أطراف أصابعه فى حرص حتى لامست أنامله حافة البروز الناتئ بالقرب من سطح القطار. وبوثبة نهائية خبيرة ومدربة تمكن من الاستقرار على السطح المحدب. كانت الشمس ما تزال تطل باستحياء، والريح تشتت رذاذ المطر الخفيف الذى بدأ يتساقط لتوه. استلقى على ظهره محدِّقا فى السماء، دارت فى رأسه أفكار كثيرة متزاحمة، أغمض عينيه فى رضاء وشعور بالراحة، ثم فتحهما على الصحراء الواسعة، وانشغل بالتحديق فى معسكرات الجيش المتناثرة، وبيوت البدو التى تفصل بينها مسافات كبيرة، ثم أخذ يحصى أعمدة التليفون المبللة التى راحت تفر إلى الوراء كالأشباح العارية. بدأت الريح تُصَفِّر فى أذنيه، وحبات الرمال المتطايرة تلسع وجهه، واشتد هطول المطر. تحرك ببطء نحو الطرف القريب من نافذة دورة المياه عائدا إلى الداخل مرة أخرى.

رآهم يرقصون. أحدهم يدق على جدار العربة فى إيقاعات منتظمة، وآخر يغنى. أقبل عليه الجندى الطويل فى لهفة وقلق، سأله فى عتاب:

-أين اختفيت؟

-فى دورة المياه-تمتم مبتسما، وشعور غريب دافئ كالخدر يتخلل جسده، يخفق له قلبه بشدة، ويبعث بشئ كالغيبوبة فى مؤخرة رأسه، ولكنها فى هذه المرة غيبوبة لذيذة تمنى لو طالت وطالت أسبابها.

-ساعتان فى دورة المياه، يا كذَّاب؟!-قال الجندى باسما، وسحبه من يده صوب اللمة الكبيرة.

طالعه الجندى البدين فى دهشة وهو لايزال يهز كِرْشَه الضخم على الإيقاعات المنتظمة، انحنى هامسا بشئ ما فى أذن القصير الأسمر الذى يرقص أمامه. تبادلا الهمس طويلا، ثم أقبل البدين نحوه، وحاول دفعه إلى حلقة الرقص. رفض فى خجل والتجأ إلى ذراع الجندى الطويل الذى راح يضحك بشدة. قذف إليه أحد الجنود بنصف برتقالة، وغمز له فى ابتسامة مشيرا إليه بالتقدم إلى وسط الحلقة، ولكنه طأطأ رأسه وتغضنت ملامحه. راح صاحبه الطويل يشجعه بابتسامة إلى أن استجاب. علا التصفيق، دب فى الجسد الصغير دفء، قفز فوق أحد المقاعد، وهاتك يا رقص. أخذ ينتقل من مقعد إلى آخر، لمح المحصل الأسمر الضخم جالسا فى نهاية العربة يصفِّق مبتسما، فراح جسده يهتز بانتشاء وفرحة كبيرة تملأ وجهه، وتبعث فيه شعورا جعله يقترب منه، يدور حوله، يصعد ويهبط، يدور حول نفسه، والمحصل يقهقه خابطا كفا بكف، والجسد الصغير لم يعد صغيرا، صار أكبر الأجساد وأكثرها حركة وقدرة على التحليق والطيران، صار الجسد الوحيد الظاهر بين الأجساد التى تغص بها العربة، وأكبر من جسد المحصل الضخم، وراح يملأ المكان بالحركة، ويبعث بالدفء فى أرجاء العربة المعبَّأة بالبرد والريح، مطوِّحاً بذراعيه فى كل الاتجاهات، وبسمة طفولية شفافة تخفى الندوب المتناثرة على وجهه. انطلق صوت الجندى البدين بالغناء، انضم إليه الطويل ثم المحصل، وإذا بالصوت الرفيع النشاز يخرج قويا دافئا منتشيا، وما لبث أن عمَّ العربة صوت غناء جماعى صاخب تتخلله ضحكات قصيرة فرحة إلى أن هدهم التعب والجوع. وراحت الأصوات تخفت شيئا فشيئا، والواحد يتسلل خلف الآخر بهدوء.

انتحت كل مجموعة ركناً فيما ظل هو مع أصحابه. تناول معهم طعام الغداء، والشمس تأخذ طريقها متلكِّئة خلف الغيوم الثقيلة السوداء، تسير ببطء وكسل إلى الناحية الأخرى وكأن الأمر لا يعنيها، وبين الحين والآخر تُطَوِّح الرياح برذاذ المطر الخفيف عبر النوافذ والأبواب.

ارتفع صوت جهورى عريض:

-مطروووو… ح..

راحت الرؤوس تطل من النوافذ. علا الصخب، وتوالت القرقعات، وصوت سقوط حقائب وصناديق، واحتكاكات الأحذية الميرية الضخمة بالأرض. تعالى فحيح القاطرة، وأخذ القطار يهدئ من سرعته. التقط الجندى الطويل حقيبته الصغيرة، تلفَّت حوله، مسح العربة بعينيه، سأل فى قلق واضح:

-أين الولد؟

أجابه البدين متسائلا وشفته السفلى متدلية إلى أسفل:

-أين الولد؟!

نظر الجندى القصير فى خبث، راح يفتش فى جيوبه بحركة تمثيلية، ثم قال للطويل فى سخرية:

-المحفظة معك؟!

نظر إليه الجندى الطويل بضيق مؤنبا، وهطل مطر غزير أسود.

 

( 9 )

وصل القطار إلى مرسى مطروح منهكا.

وصل منصور أيضا، إلى مرسى مطروح قبل ذلـك بقليل، فى غاية الإنهاك ورائحة الخمر لازالت تفوح منه رغم المسافة الطويلة التى أطارت السكرة من رأسه وجعلته يزداد نقمة على عثمان فارس وضباط الجيش وعساكره، وغبائه الذى جعله يترك المحجر قرب الفجر من أجل الحفاظ على كرامته، ومن أجل أن يثبت لعثمان أنه رجل: والرجال قِلَّة فى هـذا الزمن، وأنه لن يخضع أو يركع حتى يعيده إلى العمل ويتنازل عن قراره، أو يعطيه فرصة للسخرية منه أمام العمال وإثبات أنه كان على حق.

بعد المعركة التى كادت تصل إلى اشتباك بالأيدى، انتهز عثمان الفرصة وأرسل على الفور بأحد العمال إلى خيمة منصور. أعطاه نصف الأجر الشهرى، وناوله لفافة بحجم قبضة اليد وهو غارق فى ضحكة مسطولة، وأوصاه فى سخرية بنقل تحياته إلى منصور: إذا كان صاحيا.

منصور بالفعل لا يزال صاحيا، ولكنه تحت تأثير نوبة عصيبة من البكاء. هو نفسه لا يدرى كيف حدث ذلك! ومتى بدأ !: بعد المعركة، أم أثناء شربه للزجاجة الثالثة!

دخل العامل إلى خيمة منصور فى توجس وقلق:

-مساء الخير، يا عم منصور.

-ها، نعم.

-خذ-لمه العامل النقود واللفافة وأراد الانصراف مسرعا، ولكن منصور استوقفه آمرا:

-انتظر، يا جحش. كم هذه النقود؟

-نصف شهر.

-وما هذه اللفافة؟-أل منصور ويداه تفتحان فى لهفة وشك وريبة.

-لا أعرف. عثمان طلب منى تسليمها إليك، وإبلاغك تحياته.

أطلق منصور صيحة عالية مبحوحة حينما رأى ربع الدجاجة المشوية أمامه، وكاد العامل الشاب يتبول على نفسه من شدة الرعب.

نهض منصور فجأة والزجاجة بيده، انطلق العامل هاربا، ولكن منصور رغم سكره البيِّن انطلق وراءه وصوت السباب واللعنات يصل إلى مسامع عثمان الذى شعر فى تلك اللحظة أنه أنزل بهذا الملعون ضربته القاضية. تعثر منصور عدة مرات، وسقط، والعامل يتوقف بين الحين والآخر، ينظر وراءه، ويقهقه بصوت عال. تجمهر جمع من العمال على صوت الضحكات والسباب. ولما رأوا منصور الذى راح يسقط بمجرد أن ينهض وهو مصمم على اللحاق بالعامل الصغير، انتابتهم نوبة ضحك، وتعالت التعليقات والنكات. وبين السكر والغضب والحقد صرخ منصور:

-اضحكوا يا عبيد، يا أولاد الكلب. عثمان سوف يخيطكم جميعا. سوف يأتى بنسائكم إلى هنا ويخيطهم أمامكم، ستظلون هكذا مادام تاجر المخدرات…-انتابته نوبة بكاء أثارت إشفاق بعض المتجمهرين، فاقتربوا منه، وبعد محاولات عديدة استطاعوا أن ينهضوه ويقودوه إلى خيمته.

جلس واضعا رأسه بين يديه. لا يدرى كم مر عليه من الوقت وهو على هذا الوضع. شعر بتحسن حالته، فنهض وفتح صندوقه الخشبى. وقف يتأمل ما فيه بهدوء، تناول حقيبة جلدية قديمة وراح يحشوها بالملابس. أغلقها وركلها بقدمه، فطارت نحو باب الخيمة. انحنى على الصندوق وأخرج آخر ما فيه: زجاجتان فقط !

راودته الرغبة فى شرب ولو جرعة واحدة. وحينما تذكر ما فعله عثمان الخسيس، فتح الزجاجة وأخذ يبحث عن أى شئ من قبيل المازة، ولما لم يجد رفع الزجاجة دفعة واحدة إلى فمه. أنزلها بعد أن نقصت منها كمية لا بأس بها. أغلقها، وتناول الأخرى ودسهما فى الحقيبة، ثم انطلق مباشرة إلى خيمة عثمان.

كان المحجر غارقا فى الهدوء والصمت. الخيام مغلقة، والشخير المتعب يعكر سكون الليل، ويفسد تلك اللوحة الهادئة. ولكن منصور لا يفكر لا فى السكون ولا الهدوء، ولا يشغل نفسه بالوقت، كل ما يشغله الآن هو ما يجب أن يقوله لعثمان، ما يجب أن يفعله معه حتى وإن وصل الأمر إلى الضرب: "ولكن عثمان قوى مثل البغل"-ردد فى نفسه، وأضاف: "سأتصرف معه، لن أعدم الوسيلة فى فضحه وكسر أنفه". وقبل أن يصل إلى الخيمة بعدة أمتار، انطلق صوته عاليا جهوريا:

-اخرج يا ندل. إذا كنتَ رجلا اخرج وأرنى نفسك. أعرف أنك جبان، ولكن ليس إلى هذا الحد. سوف أدفنك هنا، وسوف أسلم جثتك للبوليس.-ولما لم يجد منصور ردا، ازدادت شجاعته، وعلا صوته:-أنا أنتظرك هنا، سأمسح بك الجبل، وسأمرغك فى التراب أمام الجميع، أم تريد أن أدخل عليك الخيمة كى أخيطك يا ابن الـ…

استيقظ بعض العمال وخرجوا لمعرفة ما يجرى. ولما رأوا منصور يقف أمام خيمة عثمان وجسده يتمايل يمينا ويسارا، عادوا إلى خيامهم، بينما ثارت ثائرة منصور وهجم على الخيمة فوجدها خالية.

طار الكحول من رأسه على الفور. توقَّع أحد أمرين: إما أن يكون عثمان قد خاف منه وهرب إلى خيمة أحد أصحابه، وإما ذهب ليدبر له مكيدة. ولكنه لم يفكر إطلاقا فى أن عثمان يعرفه جيدا، ويعرف أنه سوف يسكر ويأتى ليأخذ بثأره. لم يفكر أبدا فى أن عثمان أراد إهانته إلى النهاية وفضحه أمـام الجميع، وأن يظهر هو بمظهر الحمل الوديع الذى تحمل مصائب هذا السكير طوال أكثر من شهرين.

عاد منصور إلى خيمته ورأسه مشوشا. انتابته الوساوس والشكوك: ماذا لو كان عثمان يدبر الآن مكيدة له؟ عثمان مجرم وفاجر ويمكنه أن يفعل أى شئ. الجبل بعيد عن المدينة، والصحراء واسعة ولن ينقذه أحد.

كانت عتمة الفجر الكاذب تنزاح فى بطء وهدوء، وخيوط الضوء الضعيفة تتجاور على استحياء: إذن هو الصباح، ومن الممكن الآن الانقلاع من هنا وإلى الأبد.. ملعون أبو عثمان، وأبو المحجر.. ملعون من يترك مهنته وأهله. وعلى الفور تناول الحقيبة وقبل أن ينطلق صوب مرسى مطروح تناول جرعة محترمة تقيه برد الطريق ومخاوفه.

الطريق طويل ولابد من اصطياد عربة من عربات الجيش فهذا هو موعد خروجها من المعسكرات المتناثرة إلى مرسى مطروح. ملعون برد يناير، لا تستطيع أية خمر أن تقف أمامه أو تقاومه.

الشمس تذيب العتمة والغيوم، تفلق خطوط الضوء الضعيفة المتجمعة، تطل بوجه صارم، رغم برودة الطقس، وكأنها ملكة واثقة من نفسها، ملكة صبية تعرف أنه وإن كانت هناك أجمل منها، فهى رغم ذلك الملكة الوحيدة. سيارة عسكرية تأتى من بعيد، فى اتجاه مرسى مطروح، منصور يستبشـر خيرا، يشير من بعيد، تهدئ السيارة من سرعتها، ولكنها لا تتوقف. يلمح منصور ضابطا شابا إلى جوار الجندى السائق:

-يا حضرة الضابط، يا سيادة العميد، يا سعادة اللواء، يا حضرة الرئيس …-والضابـط يبتسم، يضحك، ومنصور يبصق على السيارة التى ردمته بالغبار، وعلى الضابط الذى لم يطلع بعد من البيضة.

جرعة أخرى، مع حرارة الشمس التى بدأت تشتد، سوف تجعله يواصل الطريق بلا كلل. ماذا سيحدث لو كانت جرعة كبيرة، أو جرعتين، وربما من الأفضل القضاء على الزجاجة والتخلص منها كى يخف الحمـل قليلا.

قذف بالزجاجة عندما رأى السيارة العسكرية مقبلة من بعيد: لابد أن أركب معهم. سأموت لو قطعتُ هذه المسافة سيرا على الأقدام. الحيلة، الحيلة فقط، وليس إلا الحيلة. وألقى منصور بنفسه أمام السيارة.

نزل الجندى السائق ثائرا:

-ماذا بك، يا مجنون، هل تريد أن تَحُطَّنَا فى السجن؟

نهض منصور متوسلا:

-خذونى معكم إلى مرسى مطروح. أنا رجل كبير ولا أستطيع السير كل هذه المسافة.

-لكن…-قال الجندى فى لين، ونظر نحو كابينة السيارة. ولكن منصور قاطعه:

-سأتصرف معه و..-جاء صوت النقيب الجالس فى عظمة وأهمية، آمرا منذرا:

-يا عسكرى، يا حيوان، بسرعة.

ولكن منصور كان قد سبق الجندى الذى تلكَّأ عن عمد، وقفز نحو النقيب الشاب:

-من أجل سنى، يا سيادة العميد، أنا رجل كبير، هل يرضيك أن أموت وحيدا فى هذا الجبل؟

دفعه النقيب فى قرف:

-وسكران أيضا، يا فاجر! الله يلعنك..-وتوجه إلى الجندى الذى كان قد اتخذ مكانه وراء المقود:-دوس بنزين، يا حيوان..

 

( 10 )

قوانين الصدفة تلعب دورها. ومرسى مطروح تبعد عن القاهرة بحوالى ستمائة كيلومتر، ولكنها مستوى من مستويات الفراغ ـ الوسط. ومثل أى مخلوقين من دولتين مختلفتين يلتقيان فى دولة ثالثة، مثل أية حركة عشوائية لكائنات تولد بالصدفة، وتعيش بالصدفة، وتموت بالصدفة، مثل المستقيمات والخطوط، يلتقى الناس أيضا. وأحيانا تسير المستقيمات فى خطوط متوازية فلا تلتقى أبدا حتى ولو انطبقت السماء على الأرض، حتى ولو كان المستقيمان فى مستوى واحد وإلى جوار بعضهما البعض. كل شئ يحدث بالصدفة، ولكن إذا كان للصدفة قانون، فمن الممكن أن تجرى الأمور على نحو آخر.

الأصفار تُجمع رياضيا ـ على المستوى النظرى ـ ولا تتقاطع. تتقاطع فقط عندما تُتَرَجَم إلـى بشر. أصفار اليمين تُجمع فتعطى ناتجا حسب موقع الأصفار، وهى كبشر تتلاقى فى أشياء كثيـرة مشتركة. ولكن ماذا عن أصفار اليسار؟! أصفار اليسار تُجمع أيضا ولكنها تعطى صفرا كبيرا، أو فى أحسن الأحوال تعطى صفرين أو ثلاثة لا قيمة لها. وإذا تُرجِمَت هذه الأصفار إلى بشر سنكتشف أنهم من أصحاب المستقيمات المتوازية، كائنات تقوم بحركات متوازية فى خطوط عرجاء مشوهة تنتج أشكالا ونظريات وأفكارا أكثر تشوها.

فى مرسى مطروح الآن يوجد صفران.

وفى القاهرة، فى وسطها تماما، تبدأ الآن الأصفار فى التجمع بالبارات والمقاهى.

ولكن ما الفرق بين هذه الأصفار وتلك؟!

أصفار مرسى مطروح على يسار أرقام، حتى لو كان الرقم واحد، أى أنها تشغل موقعا شكليا تمليه قواعد الرياضيات من أجل الدقة، ولكنه مع ذلك خانة تم الاصطلاح على استخدامها حتى لا تتأزم علوم الرياضيات وتصل الأمور إلى علامة الـ " ما لانهاية " من الطرف الموجب. وبالتالى نجد أعداد على شكل ( 00010000 )، وأخرى على شكل       ( 00100000 )، ( 01000000 ) وهكذا. والقضية هنا تكمن فى تغيير مغـزى الرقم    ( 1)، أو أى رقم، وتوجيهه: هل سيظل فى البنوك، أم سيأخذ شكلا ومضمونا جديدين؟ سؤال صعب، خاصة وإذا كانت الذاكرة قد تيبَّست !

أصفار القاهرة توجد فى الفراغ-فى الخواء بمعناه السائد الذى علمونا إياه فى الهندسة "الخوائية"، ليست أمام أرقام ولا خلفها. هناك حالات أخرى كثيرة من تلك الأصفار: البعض منها موجود فى خانات محترمة أمام أرقام ما أنزل الله بها من سلطان. ولكننا لا نتحدث عن تلك الأصفار، وإنما عن أصفار بارات ومقاهى وسط البلد، والتى لو تُرجِمت إلى بشر سنجدهم يقضون أطول فترة ممكنة مع بعضهم البعض، ومع ذلك فهم لا يزالوا يصنعون فى حركتهم خطوطا ومستقيمات متوازية !

شكرى طوبار مشغول بالطليعة. يناقش أحوال المثقفين، وطليعة الطبقة العاملة. سمير منسى يرى أن الطبقة العاملة ستفرز مثقفيها وطليعتها لأن مثقفي البارات لا يصلحون لقيادتها. على يونس ينهى النقاش: مع احترامى لكلامكم المحترم جدا، أريد أن أسأل سؤالا واحدا، عن أية طبقة عاملة تتحدثون؟ ويرفع كأسه ليشرب نخب الطبقة العاملة، فيضحك عماد صالح بشدة ويرفع كأسه كيدا فى أصحاب الطبقة العاملة:

-نعم، فى صحة الطبقة العاملة-وبعد أن ينزل عماد كأسه، يضيف:

-ليس هناك أية طبقة عاملة، ومع ذلك فأين المشكلة ! ليقدنا أى شيطان، المهم أن نتخلص من تلك الحالة الجهنمية. أو لنقد نحن هذه الجثث بشكل أو بآخر.

ـ ولكن ما هو هذا الشكل الآخر؟ وإذا لم نقد نحن، فمن الذى يمكنه أن يقود؟ ـ يوجه شكرى طوبار سؤاله إلى عماد.

يرد سمير منسى:

ـ ليس لدينا طبقة عاملة بالمعنى الذى أوضحوه فى الكتب. ولكنها مع ذلك طبقة عاملة لها خصوصياتها. والقضية ليست فى وجود طبقة عاملة أو عدم وجودها، القضية فى تغيير نمط الحياة والتفكير، والنظر إلى العالم.

يقاطعه على يونس:

ـ ولكن أصحابك الذين يرفضون مثقفى الطبقة الوسطى يتصورون أن عمالهم سوف يلدون مثقفين عماليين وقتما يريدون وفى لحظة واحدة.

ـ المسألة ليست كذلك، إن الاستغناء عن مثقفى الطبقة الوسطى يفقد العمال أحد أهم الدعامات لإقامة مجتمعهم. فهؤلاء المثقفين يمارسون نشاطات ذهنية هامة ومفيدة مرحليا إلى أن تستطيع الطبقة العاملة أن تفرز مثقفيها الحقيقيين الذين يمثلونها..

يقاطعه شكرى طوبار:

ـ أى مثقفين، وأية طبقة وسطى ! إنهم ينامون طوال النهار، ويسكرون طوال الليل.

فيرد سمير منسى:

ـ معنى ذلك يجب النظر فى هذه المسألة، ومن الضرورى إيجاد صيغة ما للتعامل معها، لأنك لن تمنع الناس من النوم، أو السكر. إضافة إلى ذلك فأنت نفسك تمارس ذلك. ولعلك لا تنكر أنك تتعامل فى أمور كثيرة بمعيارين، حتى فى علاقتك بنا.

يتدخل عماد صالح فى جدية:

ـ إذن، ابدأ بنفسك.

فيضحك شكرى ساخرا:

ـ الجماعات الدينية تقول ذلك أيضا.

فيقول سمير منسى:

ـ وما العيب فى ذلك. ولكن بشرط أن تكون متسقا مع نفسك، ولديك نظرة كلية شاملة، وتتعامل مع الأمور بمنهج نقدى تحليلى. وبالتالى فلن يكون هناك فرق شاسع بين التعامل مع النفس والتعامل مع المجتمع بمعيار واحد من أجل التغيير لصالح أكبر قدر ممكن من الناس.

يرد شكرى فى حدة:

ـ أى ناس؟ إنهم فى وادٍ ونحن فى وادٍ آخر..

ـ ومن قال لك، أنك أنت الذى يجب أن تقودهم، وخصوصا فى هذه الحالة؟

ـ أية حالة، ماذا تقصد، يا سمير. كلنا سكارى على أية حال؟ ـ يضع شكرى كأسه بصوت مسموع على الطاولة الرخامية، بينما يستغرق عماد فى ضحكة طفولية طويلة تثير ضحك الجالسين، وتزيد من استفزاز شكرى.

ـ أنا لا أقصد ذلك إطلاقا، عماد هذا ملعون. ولكن الظروف، سواء الموضوعية أو الذاتية، الآن لا تسمح بأى شئ على الإطلاق، بينما..

يقاطعه على يونس ساخرا:

ـ إلى وقتنا هذا لا أعرف ما هى الظروف الذاتية أو الموضوعية وما الفرق بينهما، أو علاقتهما بما نتحدث فيه الآن ! كل ما أعرفه أنه لم يبق على نهاية القرن سوى أقل من ربعه ولدينا أكثر من90% من السكان فقراء، منهم أكثر من 50% تحت الخط إياه. وهناك أيضا 80% أمية، و90% أمية ثقافية، وخمسة ملايين شخص يعملون بالخارج، ومليون شخص يسكنون المقابر، و..

ـ معنى ذلك أنه لا الظرف الموضوعى ولا الذاتى يسمحان بعمل شئ.

يتدخل عماد:

ـ إن نسبة الفقراء هذه كافية لقلب العالم رأسا على عقب. عم تتحدثون؟!

ينظر سمير منسى بعتاب إلى عماد:

ـ ولكن هل تعرف ماذا سيحدث بعد أن يقلب فقراؤك العالم رأسا على عقب؟

ـ سوف يحلها ألف حَلاَّل.

 

( 11 )

(النص الذى كتبه عماد صالح وهجر بعده الخمر والأصدقاء، وتوقف عن الكتابة).

قالوا: "بالسر إن باحوا تُبَاح دماؤهم، وكذا دماء البائحين تُبَاح".

فقال: ما آيتى؟

قالوا: ألا تكلم الناس دهرا. فالصمت صفة العصافير العاصية، وصبر عاصم من عصف العواصف العاصفة، وسيف مسلول مسموم مسحور إن قطعته قطعك، وإن وصلته قطع غيرك.. فالويل لك.. الويل لك.

«1»

فى عصر يوم قائظ دخل جدى وخلفه ذلك المخلوق الغريب الذى انفلت إلى باحة الدار بخفة واطمئنان. نظرتُ إلى وجهه، ثم إلى القط الراقد هناك بجوار الفرن، وصرخت. قهقه جدى، ولاحت على شفتى الفتى الغريب ابتسامة كشفت عن أسنانه البيضاء بغير سوء، فازداد هلعى، والتجأتُ إلى أحضان أمى. وراح جسدى ينتفض، والحروف تتناثر على صدرها.. عفـ.. ريت.. عفـ.. ريت..

قال الجد: ولد ابن حلال.. سيعمل عندنا من اليوم وصاعدا.

نظر أبى مندهشا إلى عمى، وتلاقت عينا جدتى بعيون عمتى وأمى، ولاحت على شفاههن ابتسامة، بينما هرولت عمتى الصغيرة إلى الداخل فى دلال وخجل.

* * *

لم يسل أحد عن اسمك، فأعطيتُك الاسم واللقب، وجواز المرور إلى قلوب نساء دارنا ورجالها. وعندما قلتُ عابثا: قطقوط، ضحكتْ أمى، واستلقى أبى على قفاه. وقال الجد: قطقوط.. قطقط.. عفريت.. سيان يا ابن الكلب. وجذبنى إلى صدره مقهقها، فحولتُ وجهى بعيدا عن رائحة عرقه ووخذ الإبر المتناثرة على صفحة وجهه الخشنة.

أما أنت فضحكت..

فقأت شفتاك عين قلبى، وامتطت بسمتك نهر الدم السارى فى كل صوب. التقى ضوء عينيك بوميض أسنانك البيضاء، فاهتزت أذناك الكبيرتان، وارتجفت أرنبة أنفك وطالت بسمتك واستطالت. ورحتَ تتآخى مع الصمت حتى صرتما توأمين، فلا أحد يعرف من أين جئتَ، ولا نسمة متلصصة تخبر النفوس الزنخة عن أصلك ومنبتك. والناس فى قريتنا يدخنون الكيف، ويزْنون تحت ستار الليل، ينِمُّون ويرتشون خلف أشجار التين والزيتون، يسرقون بعضهم البعض ليلا ونهارا، ويسرقهم الغير مجانا، فاعتاد كل منهم الآخر واعتادتهم عاداتهم المجوسية.

وأتيتَ أنت..

أتيتَ بوجهك الأسمر المنحوت على صخر عمره بعمر السنين، بملامحك المنقوشة بإزميل خرافى، لتبطل صلاة الزنادقة والتيوس، ونزرع التين والزيتون كما زرعهما راعى الأغنام فى قيظ الصحراء والقلوب.

وتفوح رائحة الزبد المتعفن على زوايا الأفواه، تسلل تحت الجلود السميكة، لتسكن هناك فى مجرى دمائهم العطنة.

سألوا متهكمين: مِنْ أين جاء العجوز بهذا الأسود؟

وضحكوا ساخرين.

قالوا: هذا العجوز يأتى بالأعاجيب.. ربما يكون ابنه من امرأة أخرى.. وربما عثر عليه فى الطريق.

وتغامزوا ضاحكين.

قرأتَهم السلام فى الطريق، فابتلعوا ألسنتهم الزرقاء وأعرضوا عنك. وراوغك الصمت فابتسمت.

وتبتسم أنت..

تبتسم فيختلط فى عينيك الأبيض الناصع بالأسود المتهافت، يسيل النور على وجهك القديم عشقا صوفيا رقيقا، وفى قلبك غصة حزن لا يريم.

ركبتَ حمارك، وغنيتَ فى الطريق. صنعتَ لنفسك نايا، واتخذتَ من فخذك دُفَّا، ورحتَ ترتل كلمات من عسل وسكر. فأحبَّك قطيعك، وعلى وقع نغماتك سبَّحَتْ الماشية بحمد خالقها، وهم يمرون بك كواحد من القطيع، كجيفة نتنة عاشت وماتت وأُلقِيَت فى ركن مظلم خلف جدار متهدم، يقرأون بعضهم البعض سلامهم المعتاد ولا يقرأونك إياه.

رحتَ تفتش، بين مراوغة الصمت ومراودة الكلام، عن إثم ارتكبته، فلم تجد. أخذتَ تبحث عن الأسباب، فلم تعثر على سبب واحد، أو علة تكفل لهم تلك القسوة والجهامة صبحا ومساء. فآثرتَ السكوت ودمع قلبك يطفئ نار المجوس فيزداد سعيرها فى قلوبهم. "وأمسيتَ غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النِحلة، غريب الخلق، مستأنسا بالوحشة، قانعا بالوحدة، معتادا للصمت، ملازما للحيرة، محتملا للأذى، بائسا مِنْ جميع مَنْ ترى، متوقعا لما لابد من حلوله".

ولما أعياك الوجد وأنهكتك الصبابة، ألقيتَ بمرساك على شواطئ العمة الصبية. وفاضت عيناك بمروج العشق الشاهد على شهوة الشرايين المشرئبة، والتمستَ المدد من قلبٍ صَبِىٍّ يمتطى شراع الأفق الممشوق المشدود بالصمت والنور إلى سمت السمات والصفات والأزل. لكن العشق حرام فى قرى المجوس وبلاد الأسافل. فما كان منها إلا أن أحبتْ زيتونك، ورائحة زنديك، ومروج صدرك، وزحمة المساء حين تعود مع القطيع فتلامس أطراف أكمامك أصابعها الفتية المتعبة.

راودها العشق، فانتفت علة الكلام. وصار الصمت عِبَادَةً لِطَيْف المحبوب، وذوبان فى ذاته ولَذَّاته. وأمست الأحلام دروبا تسرى بها للقاء وجه الحبيب الأزلى فتوحدت الأرواح فى ظل نور أبدى يهب الأشياء أسماءها وصفاتها، ويبعث برسل من ضياء لا عين رأتها ولا خطرت على قلب بشر.

تُردد جدتى: "فقيرة هى تلك النفوس التى تبطش بالأشياء والأحياء.. فقيرة هى تلك النفوس التى لا تخفف الوطء، لأنها لا تدرى أن أديم الأرض هو من هذه الأجساد". ثم تبسمل وتحوقل، وتستعيذ بالله.

ويراوغنى الحلم، فأمسك بمعصميك، وأتعلق بزنديك، وأراك عرسا قادما لا محالة. فأنسى قسوة جدى، وأفكر بما يقوله سيدنا فى "الكُتَّاب". وعلى مئذنة الله العالية أصعد مرددا آذان أبى ذر من أجلك ومن أجل الآخرين فى أرض الله الواسعة، حتى أتسامى أغنية وقصيدة على لسان الطير، والشعراء الصعاليك، والصادقين بمحض إرادتهم. وفى طريق عودتى وحيدا مجهدا أرى أمى فاتحة قلبها النورانى، فتتلقانى مدثرة إياى بلحاء روحها. ولما يشتد أوار المعركة المجاورة، أرى معاوية يفر، والآخر يكشف عن عورته الخلفية بمحض إرادته، ويزيد يسكر حتى مطلع الفجر، فأتقلد سيفى وأضرب الحجاج والمنصور والحاكم بأمر الشيطان حتى آخر خليفة عصرى. وعندما أُلقى برأس آخرهم فى النهر، تلتئم أشلاء ابن المقفع، ويستيقظ الجعد والحسين، وينزل الحلاج والمسيح والسهروردى من فوق صلبانهم، ويعود أبو ذر من منفاه، ويضحك أبو حيان ساخرا من الوزراء الأدباء والأدباء المستوزرين ومَنْ على شاكلتهم.

وفى نشوة الحلم والانتصار أرانى معك ريشة فى جناح طائر، وحبة فى باطـن الأرض، وسر فى قصيدة لشاعر جائع مجنون، وحفنة من نور الحبيب. وإذ يقسمنا الغدر المزمن، نتحول إلى خلية عضوية تنقسم وتتوحد، ثم تنقسم ولا تتوحد. وقبل أن نموت موتا بطيئا وطويلا، أنشدك نشيد الحزن والألم فى زمن ينتحر فيه الأنبياء والصالحون، وتقدِّم فيه الملائكة استقالاتها، ولا يبقى أمام الله سوى طريق واحد..

.. فمن أين أتيتَ أيها الصامت دهرا والناطق صدقا؟ هل أنجبتك العتمة العذراء؟ أم اغتصب أبوك الليل امرأة مباحة على عتبات الصباح؟ فتساميتَ من رحم أمين، فسريتَ بسر مبين، فصرتَ جسدا يأتى من الغياب إلى الغياب معتمرا بالسنين؟

.. هل نبتت ضفائر قلبك من تين وزيتون وطور سنين؟ أم انفلقت الأرض عن روحك فغدوتَ إنسيا يركب الفلك ويأتمر بالصهيل؟

.. " ها أنتَ على شاطئ لا أعشاب له، وعلى ضفة نهر لا ينمو فيه العوسج. ستطير سهامك وسط النهر، كما تطير أوزة وحشية إلى وليدها. أطلق-أتوسل إليك-وسـط النيل، واغرس حربتك فيه. ثبت رجليك ضد هذا الفرس النهرى، واقبض عليه بيدك، وإن كنتَ قد أصبحتَ عارفا فلسوف تقضى على هذا الأذى، وتسئ معاملة الذى أساء إليك".

.. ها أنذا أنشب مخالب الذاكرة فى جسد الحلم، وأغرس ملامح وجهك بين حدود الرؤية المبهمة وموجات الشهوة المتعثرة. أنضو عن نفسى كل الألوان، وأتسربل بالحق لونا واحدا يحرق ولا يحترق. أرتدى سمرة وجهك بردا وسلاما، وأرفع بياض عينيك الناصع على أسنة الرماح الضاربة، وأحدِّق مشرئبا فى الأفق، فثمة خطأ يجعل الحق يحرق صاحبه.

«2»

قلتَ لى يوما عن أبيك عن جدك عن رجل مات فى قريتكم عن آخرين لا تذكر أسماءهم: "علِّموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل". ولما كثُرت أسئلتى لم تسعفك الفصاحة. فأشرتَ لى أنْ اقفز. فقفزتُ. وأخرجتنى من بطن ترعتنا الصغيرة كفرخ بط سقط سهوا فى بِركة ماء. صنعتَ لى "نِبْلَة" وقلتَ ارم، فرميتُ. قذفتَ بى على ظهر الحمار قائلا: اضرب، فضربتُ. وبين السقوط والقيام أمسكتُ باللجام. ورحنا نتسابق ونتبارى تحت سمع وبصر عسس الليل والنهار، وهم يظنون بك العته والجنون، وبى البلاهة والمجون.

قالوا أن الصغير يجب أن يتعلم الفضيلة فى "كُتَّاب" الشيخ التركى، ويحفظ القرآن بين يديه. وقالوا اللعب مضيعة للوقت، والعوم فى الترعة علة للموت، وركوب الحمار بغرض اللهو لا يعود بفائدة على أهل الدار. وعندما أعيتنى الحيلة واشتد عقاب الأعمى فى "الكُتَّاب"، قلتَ لى: اغمض عينيك.. وامسح بيمينك على صدرك.. ثم اقرأ بتمهل وجلال. أجلستنى أمامك ورحتَ تدق على فخذك مرددا: فيها سرر مرفوعة، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابى مبثوثة. وعلمتنى الترتيل كما علمتنى العوم والنَبْل وركوب الخيل. لكن الأعمى ضربنى متعللا بأن ثمة غناء فيما أتلوه. وقال: سمعتُ أن غريبا فى داركم.. فمن يكون؟ لم أرد. فَأَلَحَّ: من أين جاء فلم أزد. ولما نزلت عصاه على رأسى، نطقتُ: لا أعرف يا سيدنا. فقال هازئا: اقرأ. قلتُ: ماذا؟ فقال: هل أتاك حديث الغاشية… فقلتُ ما أنا بقارئ. واحتضنتُ العامود.

وراح سيدنا يدق سافودا يوميا فى أعماق روحى حتى صار وجهه المجدور مسخا من سحنة إبليس. وطفق يردد فى سخرية وشماتة: لقد غشى الله على قلبك فأعمى بصرك وبصيرتك، فأضعتَ ما علمته لك.. لقد أودى العبد بنور قلبك، وأعماك اللعب واللهو.. إنه ملعون لا أصل له.. يصلى فى الخلاء مثل الذئاب الضالة.. وينظر إلى النساء بشهوة شيطانية.. وربما كان يفعل النكر فى داركم.. لعله زنديق كافر أو أقلف فاجر.

ويضحك الأولاد، وأنا لا أعرف معنى الأقلف. وهو يرى بعيون العسس. ولما اشتد البلاء وعظُم الخطب، بات صوته اللعين يؤرقنى ويبث الرعب فى نفسى. وإذ فاض الكيل يوما، أعلنتها غير خائف ولا باك: أنت الكافر والأقلف.. ولا تغسل مؤخرتك قبل الوضوء.. ملعون أبوك يا سيدنا.

وتفاديتُ عصاه العمياء مُطلِقا ساقى للريح، فاتحا صدرى للعاصفة المُقبِلة، ولصوتك ونغمات نايك وترتيلك الشجى. وثمة هاتف يردد صوت الله فى جنبات كونه السحرى، أن السعى للخفيف، والنصر للصنديد، والغِنى للفهيم، والنعمة للعارف الحامد الشاكر. ويردد الصدى، أن السعى ليس للخفيف، والنصر ليس للقوى، والخبز ليس للحصيف.. فترتج شمس الله، وتتصدع أعمدة الكون، وينزع الليل الساجى عباءته، فيكشف عن عورات القلوب والبصائر والأدمغة الخربة، فلا لوم عليك ولا تثريب إذا احتميتَ بصمتك وصبرك وصومك، وأينما تولى وجهك فثمة وجه الله الحقيقى، حتى وإن زهق الحق وجاء الباطل.

عنَّفنى أبى، وأنبتنى أمى. أما الجد فضربنى لأننى تركتُ نعلىَّ فى " الكُتَّاب ".

فأنقذتنى أنتَ من عقابهم الجماعى، وأقسمتَ يمينا غليظا بأنك ستجعلنى أحفظ للكتاب من سيدنا. فوعدك الجد ساخرا ببقرة تملكها، ومسحت الجدة على رأسك بحنان أم، وتمتمت أمى بكلمات ربما شفعت لك أمام الحبيب. أما العمة فغسلت لك جلبابك ومنديلك، ونفخت فيك من نور عشقها حلما لازورديا يأبى على البحر فك أبجديته، ونفحتك من روحها عطرا أرجوانيا مشوبا بقبس من أريج دمائها الزكية.

ولم يستجب جدى لتوسلات الوسطاء، فراح يتفادى لقاءه فى المسجد، وفـى الشارع، وبين الناس. ولما تأكد الأعمى من وعد الجد بقرة لك، طار صوابه فأطارت دقات عصاه على باب دارنا بسكينة قلبى. والتقاه الجد بقسوة وجفاء، وعنَّفه لضربه إياى وسخريته منى. وبخبث مزمن طمأنه بإرسال مؤونته السنوية كالعادة. فأطلق ضحكة لزجة أخبث من وعد جدى له، ثم صب على رأسك ألف لعنة.

وبين السباحة والرماية وركوب الخيل رحتُ أعدو خلفك فى الخلاء الرحيب، صوب المدى المعلق على أسنة رماح عسجدية، ميمما بقلبى شطر وميض عينيك واستعار روحك التواقة لفك طلاسم أحلام الأزمنة الحبلى بالخصيان.

ورحتُ أسير وراءك على صراط مستقيم لا يأتيه الباطل من أمامه ولا من خلفه. والحق والباطل عندهم شيئان مختلفان بينهما متسع لتعدد الألوان. فلللأسود لونان، ولللأبيض ثلاثة، ولللأحمر خمسة. وعندما تنتفض الحاجة من وحل المصلحة، يصير الأبيض أسود، ويغدو الأحمر أخضر بإذن الله، وتتبادل الأشياء أماكنها بإرادة الشيطان، وتكذب الشفاه على نفسها مدعية أنها إرادة الله.

كان يزلزلك نصف الموقف ونصف الحركة، ويهدد كيانك الدوران فى الموضـع الواحد، والمراوحة على خازوق من السكون المقصود بالعلة والمعلول. وللمجوس عادات يمارسونها ولا يفصحون عنها، فاعتصمتَ بالصمت ملاذا فوق مئذنة عمرك الصبى، والشمس تستيقظ كل صباح من تحت نعال الليل، وتطل فى توجس، تحدق فى عيون اعتادت خداع أصحابها ولما لا تجد سوى الزبذ المتعفن يغطى شفتى الحقيقة، يحترق وجهها بحمرة الخجل المتواصل، ثم تدمع عيناها فى حزن واندحار، وينهال الأسى على قلبها الفضى، فتنطفئ وتهرب خلف جبال العتمة المخيمة على المدى الكلسى.

انتزعْتَنى من حكايا أمى المسائية عن الصبى الفقير والأميرة الغنية، وحواديت جدتى عن أمنا الغولة والأميرات وست الحسن والشاطر حسن. أخذتنى عنوة إلى عالم سحرى أكثر حكمة وصوابا. فأزحتَ صخرة عتيقة عن سنين عمرى الخضراء، وكشفتَ عن عالم يضرب فيه الرجال أعناق الرجال بالحق أحيانا وبالظلم أكثر. وكنتَ تفاجئنى بانتصار الظلم باسطا كفيك مندهشا، وشفتك السفلى تمتد للأمام معلنة عن جهل مصطنع. ولما تفيض أسئلتى، تتألق عيناك فى محاولة عبثية لإخفاء الألم بالصبر المتجمر.

حكيتَ لى عن رجل خانه أصحابه، فقتلته الفئة الباغية. ورويتَ عن ابنه الذى خانه نفر أبيه ونفره، فقُطِعَت رأسه، وقُدِّمَت على طبق من ذهب لحاكم أخرق دنَّس الشفتين بسبابته النجسة. ورحتَ تعتصر فؤادى، وتثير عصافير قلبى الهاجعة.

زرعتَ فى ذاكرتى شجرة نبق فتية، وأطلقتَ فى أحلامى طائرا أبديا لا يلبث أن يهب من رماد النار، بعد كل حرب وفتنة وموقعة وخيانة، فتيا وجميلا ورائعا. وطويتَ بعضا من عمرى فى قميص عثمان الحريرى المُذَهَّب، وعلَّقتَ بعضا منه على شعرة ابن هند التى لم يقطعها سيف الحجاج إنما قطع الحق ووصل الباطل إن الباطل كان سرمديا.

وبين الحكايا والتلاوة علَّمْتَنى الصبر، وبيَّنتَ لى الخيط الأبيض من الخيط الأسود فأشرق صباحى المندى بقطرات عطر روحك المستثارة وانمحت فى عينيى الألوان الباهتة المستكينة، وتقلَّصت مساحة السكون والرضا حتى صارت حدا مسنونا بين الخيطين.

-ولكن ماذا عنك يا من تبنى جنتك فى النار؟

-لا شئ.

-لا شئ؟!

تحكى عن كل شئ إلا عن نفسك. قلبك هو بوصلتك، والصمت ملاذك وعباءة ذاكرتك المصنوعة من ريش طائر النار الأبدى.

عندما كان العجوز يردد فى حكمة ابن العاص وحذره، إن الصمت من ذهب. كنتَ تهز رأسك، ويتجسد الزمن فى عينيك طيورا مصلوبة، والعجوز يظنك معتوها. لكنك كنتَ تعود لتروى لى ذاكرتى مع أشجار النبق والأحلام مؤكدا، إن الكلام من نور، وليس كل ما يلمع ذهب، وشتان ما بين حفنة من نور وحفنة من ذهب فتسمعك المياه الجارية، وتطرب لصوتك البرارى والحقول، ويلوذ الطير بأعشاش قلبك المضيئة.

-لكن لماذا لا تقول للعجوز، إن الكلام من نور؟ وإن كان الصمت من ذهب، فلماذا لا تقول له شتان بين ذهب وذهب؟

وتتوه عيناك فى الأفق المشرئب، فتأخذ نفسا عميقا ولا ترد.

الصمت.. الصمت..

ولذا كرهوك. أعلنوها عليك حربا سرية قاسية قدَّ قسوة قلوبهم، وقدَّ الدود الناخر فى أدمغتهم.

صمتك مريب يا قطقوط، ومجوس قريتنا يتصنعون الغفلة. يعجبهم الصمت إلا صمتك. يفعلون فى البيوت الأخرى، ويُفعَل فى بيوتهم. لكنهم ارتضوا ذلك منذ زمـن سحيق. وأنتَ تعلم أن معاوية كان يعلم، وابن العاص كان يعلم. وتدرك أن القدماء والمحدثين كانوا يعرفون، لكنهم ارتضوا ذلك. ولو أعاد الزمن دورته لفعلوا ما فعلوه راضين قانعين فى سبيل الله والشيطان والجوارى والغلمان. ولو قلبت الأرض من الماء إلى الماء لَهَبَّت شقائق النعمان تشير بأصابع من نور إلى الحاكمين بأمر الله بالتنسيق مع جوارى وغلمان الفرس والترك وحوريات أبناء الرب اللاتى ما أنزل الله بهن من سلطان.

قسوة قلوبهم أمضى حدا من حد السيف..

لم تفكر يوما فى تحطيم الأصنام الراسخة فى نفوسهم، ولم ترفض قط إمامة سيدنا. لكن أهل قريتنا يبصرون بالمال، وبجشع قلوبهم الصدئة. يَزِنُون الإنسان بعرض قفاه، وبلحم بطنه. فأوغَرَتْ صدورهم وعود جدى الخبيثة. وراحوا يلهثون خلفك ليفضـوا جمجمتك، ويهتكوا ستر روحك الأمين.

أنتَ تسمع وترى.. وصمتك أمضى من قسوة قلوبهم..

الصمت يؤرقهم ويقض مضاجعهم، فيفرغون حصافتهم ورجولتهم وما بسراويلهم فى أدمغة نسائهم وأطفالهم. فتراهم يرتكبون حماقاتهم المعهودة، ويعقدون مجالسهم، ويصدرون قرارات سرية وأحكام قسرية تفوح منها رائحة الحاكم بأمر الله والقبيلة والوطن. فسيدنا لا يسمح لمخلوق بالاقتراب من " كِتَابه " و" كُتَّابه " وتجارته الرابحة. والأعمام والجيران يرون فى عمتى بقرة حلوب إذا ما استطاع أحدهم دق ابنه وتدا بجدار قلبها. والآخرون يقفون بالمرصاد لأمثالك الذين يعملون عندهم بالوراثة والخلافة ووضع اليد. أما جدى فهو يعطيك بيمينه وعودا أمام الناس ليأخذ منهم صاغرين عشرة أمثال ما أعطاك، وليزيد من سعر ابنته وبضاعته فى سوق النخاسة الشرعى على ذمة سيدنا.

راحوا يبيعون الله فى صلواتهم الخرافية، ويسددون ديونهم بدماء الأنبياء. وفى مواسم الكساد يقطعون لحم أمثالك ويبيعونه بالتجزئة، ثم يركبون نساء بعضهم البعض راضين، فى السر والعلانية، ويمارسون اللواطة بجميع أنواعها مع سبق الإصرار.

وأعلنوا حكمهم السرى: العبد الغريب زنديق لا يجوز إلقاء التحية عليه أو مبادلته إياها. والعجوز ملعون أخرق ديوث يغض الطرف عن غريب بين حريم داره. والعجوز المأفونة لم تفلح فى زرع الفضيلة والقار بنفس ابنتها المهرة العاصية.

وأنت تسمع وترى..

وكان من الممكن أن يصبح صمتك مثاليا، ووجودك ضروريا، لولا وعود جدى. كانت كل الاحتمالات تشير إلى إمكانية ترويض صبرك وصومك ليصيرا صكا براءتهـم وطهرهم. وما كان عليك إلا أن تنأى بصمتك عن صمت العارفين المنزهين عن الهوى فتحل محل الغائب منهم فى فراشه وقلب امرأته، والنساء يعرفن ذلك منذ السبى.

الأسود معتوه.. والصغير ديوث مثل أبيه وجده..

وتضحك أنت..

والصغار يرون بالحدس، فيهزون رؤوسهم ولا يؤمنون. ولما سمعوا منى حكاياك، استعجلوا الوقت، ونضوا عن أنفسهم رداء الطاعة المتهرئ على عتبات " الكُتَّاب "، وتعروا من الضلالات البريئة، ثم خبأوا الله فى صناديقهم الصغيرة الصدئة، وتركوها فى غرفة نوم سيدنا. هرعوا فرحين مستبشرين إلى الحقول والبرارى باحثين عن الله فى ذاته وصفاته مصممين على الدخول إلى مملكة عزته ومجده. فوجدوه على ذؤابات الأشجار الساجدة، فى تسابيح الطير، وبين دفات الريح المراوغة. اقتبسوا من نوره قدر ما استطاعت قلوبهم البضة، ثم أغلقوا عليه صدورهم خوفا من أذى الله القابع فى متجر سيدنا.

أعجبتهم حكاياك فالتفوا حولك فى الأمسيات المترعة بسحر صوتك. اجتذبتهم أشعة بسمتك البيضاء من غير سوء، فعرفوا أن لتينك وزيتونك طعم الفرح، وكسد تين سيدنا وزيتونه، وبارت تجارته.      وأنا أسمع وأرى.. وأحس بما تحس..

الوحدة تؤرقك وفطنة الطبيعة العفية لا تسعفك. ومهما تعدى العشق حدود الصمت وانكشف الستر عن الحرف، فالقيد إشارة فى بحر الوصل، وعاجلا أو آجلا سيتساوى الحد الفاصل بين النطق وبين الصمت. وطقوس أهل قريتنا عمياء مثلهم، وأخبث من ادعاءات الكواكب الإحدى عشر، وأقسى من أنياب الذئب الذى التهم الثانى عشر، وأنت الثالث عشر.

..قسوة القلوب أمضى من حد المقصلة..

والغباء المزمن أظلم من قاض فاسد. فى نفسك قلت، وقلت لى: فلنذهب إلى المسجد.. لنجرب صلاة الجماعة. ثم أطرقتَ حزينا.

لم أفهمك. ولم أعرف لماذا يكون الموت أحيانا أقرب إلى القلب من حبل الوريد. لكنها العصافير تصدع بما تؤمر، وتنحاز إلى جانب الأنبياء فى معاركهم الخاسرة، وثم تنتحر على مآذن الله وأجراسه، ويأفل نور قلوبها على أذناب معابده الخاوية علــى عروشها.. وهو الطير، إن طار ففى سماء الله، وإن أكل فمن خير الله، وإن غنى فبأمـر الله، وإن صمت فإن مملكة الشيطان قاب قوسين أو أدنى.

قلتُ: يا رب، إن مر اليوم على خير فسأصلى الخمس حاضرا.. وسأصوم دهرا.. وسأحج لبيتك عندما أبلغ.

وتمتمتَ أنت. تمتمتَ مطرقا وكأنك تنذر شيئا لله.

ويعتلى سيدنا المنبر. يعتلى عرش الله الذى حُرِّم على المنافقين والأفَّاقين وقاطعى الأرزاق ومُفَرِّقى قلوب العاشقين.

كان يعرف أنك خرجتَ على صومك وصبرك معلنا عن حب الجماعة وطاعتها. أدرك أنك طرحتَ صمتك، وأطلقتَ عصافير قلبك، وقررتَ السجود مع الجماعة وإن كان المعبود عجلا.

بسملَ، وحوقلَ. قال إن الأطفال أحباب الله. وقال: ربوا أولادكم على الطاعة والفضيلة، ولا تربوهم على المعصية والرزيلة. أشار إلى فساد الصغار ولهوهم، وراح يلعن قوما تحكمه امرأة، ويلعن رجالا يفتحون أبواب بيوتهم أمام غرباء ينتقصون من عفة نسائهم.

ونسى الجالسون همومهم. نسوا ما يحدث فى مخادعهم. تناسوا إنهم يَزْنُون ويدخنون الكيف، ويتزوجون من صبايا فى عمر الورود بعقود رسمية وشُهَّاد زور. هَرَّبوا عن ذاكرتهم الاغتصاب الرسمى بعلم الجهات المسؤولة، وأداروا ظهورهم لنسائهم اللائى حملن منهم سفاحا وأنجبن فى الحرام أطفالا فى براءة الصباح.

ويفيض كيلك.. والطقوس طقوس..

الصوت يصم الآذان، والقطيع على رأسه طير مجوسى. الأعمى يطلق سهامه ذات اليمين وذات الشِمال. ودارنا فيها نساء وصبايا فى عمر الفرح. والسهام مسمومة. يطير سهم يوغر صدر جدى الساجد مع القطيع. فإما أن يوافق طائعا على ضعفه أمام رغبة نساء داره، أو يقر صاغرا على جرم يحدث بين الغريب وبين أية امرأة فى الدار. وإما أن يعترف بنقض العهد المبرم سلفا بين كبار القوم.

ويطفح الصبر من إناء قلبك الرصين.. والكلام من نور..

لمعت عيناك نصلا حادا ارتفع فى الأفق الملبد بالغيم الأرجوانى المعتق بالهوى، فهوى على رقبة العجل الصنم الرابض فوق حدود المنتهى. سال لسانك مرا زعافا، انفك من القيد الأفعوانى يداوى الجرح العتيق المترهل: فليتعلم الأولاد الفضيلة والسباحة والنَبْل.. ليتربوا على الطاعة وركوب الخيل.

ويلعنك ألف مرة.. والطقوس طقوس..

فتستل لسانك سيفا حسينيا شهيدا وشاهدا: أما النساء فشقائق للرجال، يا سيدنا.. هن أمهات وأخوات وزوجات.. وبنات لنا من دم ولحم.. هن زهرة الحياة ومروج العشق.. وراية تُرْفَع وترتفع عندما تهوى رؤوس الرجال فى وحل الغيبوبة.. وإن سقطن فهو اختلال الميزان.. وإن قُهِرْن فهو انكسار العدل، ووأد لسيوف فرسان العشيرة والقبيلة والوطن.

ويلعنك ألف ألف لعنة..

فتغرس سيفك فى القلوب الهرمة المرتقة: للبيوت أسرارها وحرماتها.. لا ترم النساء بأحجار قلبك الباطلة.. فعندك امرأة صبية فاتنة.. والقلوب أسرار كما البيوت، يا سيدنا.. و.. ولم يمهلك القوم، فطردوك من بيت ليس لهم. ونادى المنادى أن أقم الصلاة.

ورحتْ. رحتَ إلى بيتك الواسع بقدر السماء والأرض، بقدر مجرة قلبك الراسخة. فافترشت الأرض متوجها إلى قبلة ترضاها، ورتلتَ آيات من تين شهى وزيتون، ثم أشعلتَ نارا تطفئ بها لهب المجوس المتحرش بالندى.

طقوس.. طقوس..

-إنى رأيتُ فى المنام أنى أطرده..

كان جدى يكذب. وكان يعرف أنهم يعرفون أنه يكذب. لكنهم هزوا رؤوسهم متغامزين، فَصَدَّق العجوز نفسه.

-صَدَقَ سيدنا عندما قال أن اللعين لن يعمر طويلا فى دارى..

لم يقل الأعمى هذا الكلام، لكنه أطلق ضحكة حلزونية عجفاء، وهز رأسه مُصَدِّقا. فطرب الجميع لفراسته، ولكز كل منهم الآخر.

طقوس.. طقوس.. وللمجوس فراسة بلون الكذب.

قال جدى أنه رأى فى المنام أنه يطردك. ونال صكا مجانيا، مثل حياتك، من صندوق سيدنا العتيق. فحافظ على شعرة ابن هند، واحتفظ بالبقرة الوعد، وافتدى نفسه بذبحك ذبحا عظيما، وطَهَّر شرفه، وأثبت أنه يجيد قيادة النساء، ويحافظ على عهود كبار القوم والأئمة الفاسقين.

وعلى أطراف الليل المعبَّق بالجوى، رحتُ أنتحب فى حضن أمى.

قلتُ: يا رب، أنا فى حل من صلاتى وصومى.

وقلتُ: "ألا أبلغ أحبائى بأنى ركبتُ البحر وانكسر السفينة، على دين الصليب يكون موتى ولا البطحا أريد ولا المدينة".

وبين اليقظة والنوم رأيتُ فيما يرى النائم رجلا أبصر على رائحة قميص مضمخ بعبير امرأة يبذل زوجها خزائن الأرض من أجل الغلمان. ورأيتُ سيوفا من خشب ترفع الباطل وتغتال الحق. ولما انفتحت طاقة لا عين رأتها ولا خطرت على قلب بشر، رأيتهم جميعا. رأيتُ كعب الأحبار يتحايل على الله، وأبا لؤلؤة والهرمزان من خلفه يثغيان وفى قلب كل منهما خنجر برأسين، وهند تلعق ما تبقى على مخالبها من دماء. رأيتُ أبا الحكم وابن حرب وابنه وحفيده وابن العاص يشربون نخبا من آنية فارغة، وحمَّالة الحطب تعد لهم قاعة الاجتماعات السرية. وهناك وقف أبو موسى الأشعرى، فوق الحد الفاصل بيـن الفئتين، معلنا عن قدوم ممثل بنى إسرائيل. ونادى المنادى: من عاهد ابن حرب فهو آمن، ومن دخل قصر معاوية فهو آمن ضامن لعيش غده، ومن ولج إلى حانة يزيد فهو آمن ضامن عامر قلبه بخزائن العرب والعجم.

وفى صدر الحلم الأخضر يممتُ صوب الصحراء.. كان راعى الأغنام يسقى الصبيين من عسل ريقه، فبسط بردته سهلا فسيحا من نخيل وأعناب وأنهار لبن وخمر. أجلسنى إلى جواره مرددا: "أوفوا بعهدى أوفى بعهدكم". ومن الفضاء الندى انطلقت مظاهرة الفقراء، وجاء صوت أبى ذر أن أقم الصلاة والزكاة والعدل. فأنشد صوت شجى: فيها سـرر مرفوعة، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابى مبثوثة. فأضاء وجه الراعى ببشر عظيم، وقَدَّم لنا تينا وزيتونا، وحلب لنا لبنا بلون وجهه، ثم راح يهش على غنمه فيما رحنا نلهو فرحين.

ولما أجهشتُ ببكائى فى الحلم، هتف قلبى: أين ذهبتَ يا عفريت الليل والساقية؟ وتَرَدَدَ الصدى: هل يممتَ شطر المشرق تقبع خلف الذاكرة؟ أم صوب المغرب ترقـب الصياد؟ فى أى صوب سريتَ يا سوسنة سمراء سامقة غابت فى الغياب؟

ضمتنى أمى. ألقمتنى حلمة أذنها الصبية. فهتفتُ ما بين الرعشة واحتدام الروح: ها أنذا أسمع ضحكة عينيك تجلجل بين البحر وبين النهر، وبينهما يكتحل السواد بالسواد.. أركض خلفك.. أصهل كفرس جامح يتفجر بالشهوة والميعاد.. أتعثَّر على تضاريــس فؤادك.. أصرخ.. يا أيها الراحل عنوة فوق حافة الفجر.. لا الليل أسود، ولا الصباح يكشف عن الحد المسنون بين الرؤية والسراب، وأبتلع صراخى.. وأصرخ: "فلتمض على الشاطئ فى يسر دون أن توقفك عقبات، ولتعبر الماء دون أن يسوح الرمل تحت قدميك، ودون أن يجرحهما الشوك، أو يظهر وحش الماء".. وأقتات الصبر وملامح خبز وجهك وعينيك عَلَّلَك تعود كما أتيتَ، أو ترحل أبدا من الذاكرة إلى الغياب.. فالأمر ليس سيان.. والتين والزيتون والسنديان.. وآلاء عينيك تتقدان.. وجنات خلد تحت قدميك وحور عين حسان.

وتبكى الأم.

راحت تنتحب من أجلى ومن أجل الصبية العاشقة. فللأشواق شجون وللهـوى أحزان. وعمتى تبكى سرا، تخشى البوح، وحد المقصلة، وعيون النساء قبل الرجال. وحسبكما أن عشقكما كان على خلاف طريقة الطامعين والغلمان. فلم تهِمّ بها، ولم تهِمّ بك، إنما الهوى بين الوردة والفرح بيِّنة لأولى الألباب. وما كان لديك مآرب أخرى، لا فى عصاك التى تهش بها على غنمك، ولا فى نفسك الخاشعة. ولم تغرينك وعود جدى ببقرة تملكها، أو بأرض تزرعها. فمن الغيب أتيتَ وحيدا، وإلى الغيب ذهبتَ كما أتيتَ، إلا من آثام صمتك وكلامك. فسلام على الراحلين، وسلام على الملائكة والشياطين، وسلام على الزاهدين والطامعين وأبناء المجوس وقتلة الأنبياء. سلام على الأحياء والأموات والعصاة والطائعين والتائبين، وسلام على معاوية ويزيد والحجاج والمنصور، لهم التفسير والتأويل، ولأديم الأرض السيف والتنور: للعصاة والرافضين والمعارضين والخارجين على قوانينهم وقرآنهم وأحكام جواريهم وغلمانهم. سلام عليك حين ترحل، وحين تموت، وحين يصدح الطير على مئذنة الله معلنا كفره بكل المقدسات المباحة، والنساء المستباحة، والرجال المستباحة. سلام عليك حين تقوم مُكَلَّلا بلعنتك الصبايا والعطايا والورود والأطفال، ووجه الله الذى يخيفون به الطيور والعاشقين وأبناء السبيل.

«3»

على أطراف القرية أوى قطقوط إلى الربوة وحيدا إلا من عشقه وحيرته، فجعل منها سدا بينه وبينهم إلى حين، وقلعة تحميه من الغول القادم ريثما ينجلى الكرب وتزول الغمة.

راوده العشق فبكى، وأبكى بنايه الطير الهاجع. راح يقلب أمره بين زلة قدمه والوقوع فى المحظور: فلا الصمت من ذهب، ولا الكلام من نور. وكما للعشق أصول، فللزرع فصول، وللحمل والولادة مواعيد.

قال قطقوط لقطقوط: كان الصمت ملاذك وحصنك الأمين، فَلِمَ الكلام؟

فرد قطقوط على قطقوط: الكلام من نور، لكنه يوقع فى المحظور. وأنت الآن على مفترق الطريق، وفوق الحد المسنون بين نارين.

وبينما هو فى حيرة من أمره، إذا بملائكة الله تهبط عليه فوق الربوة.

قال: ما آيتى؟

قالوا: أن تكلم الناس دهرا. فالكلام ديدن الدرب وأول خطاه، ونور النار يطفئ ظمأ العاشقين المقبلين على الهلاك. وهو بشارة الهالكين بمحض إرادتهم من الأزل إلى الأبد حين يتخلى عنهم الطريق والرفيق وحبل الوريد. فهل من سؤال؟

قال لقد ابتليتُ بداء الهوى فصار الكلام أقصر من الصمت، وأقسى على القلب من سيف مسرور، وعلة ليس لها معلول. فهل من لوم علىَّ أو تثريب إن اتخذتُ من الشمس قِبْلَة وسيفا، ومن الله طريقا إليه؟

فقالوا: ما آيتك؟

قال: عشقى، وقلب الحبيبة، وياء البين.

قالوا: عشقك سيفك، وقلب الحبيبة قبلتك. أما ياء بينك فلا قبل لنا بها. فافعل ما شئت،

وليقضى الله أمرا كان مقضيا.

وعرجوا إلى السماء.

وبين الدار والربوة قطعت الصبية سبعة أشواط فى سبع ليالى من أجل جرعة عشق، والليل يبصر

بعيون العاشقين.

فى الليلة الأولى باحت بالسر. وفى الثانية كَشَفَت عن المستور. وكان الله يقرر أمرا كان مفعولا. وبين الكاف والنون تنعدم الياءات والأزمنة والمسافات. لكنه اعتصم بالصمت حبلا بينه وبينها، واتخذ من الكلام سبيلا إلى نفسه المتأرجحة على مشنقة الأفق. فهجرته طيوره القديمة، وعاد الأولاد إلى "كُتَّاب" سيدنا تائبين مستغفرين، مسبحين بمجد الله القابع فى قفطان سيدنا.

وفى الليلة الثالثة بَحَثَت فى صمته عن جرعة عشق أو كلام. وكان رجال القرية يدبرون أمرا نافذا لا محالة، وناموس المجوس بحر واسع يحمل سفن المتناقضات، وينشق للعصى السحرية، ويُغرِق الروابى والجبال والطير فى السماء.

وفى الليلة الرابعة تَطَيَبَتْ بالمسك والعنبر، وذَهَبَتْ فخيَّرَته. ولما انصرفتْ، قعد فوق الربوة

متأرجحا بين الباء والنون، مستمسكا بياء البين خشية الخوض فى المحظور. فهبط عليه ملاك

عملاق ضربه بجناحه، فَخَرَّ صعقا.

قال الملك: المسافة بين الصمت والكلام أقصر من ياء البين، وأطول من طريق الحسين إلى جرعة ماء. كل خطوة فيها تقرِّبك من حتفك وتبعدك عن الهلاك، فإذا بك قاب قوسين أو أدنى. والسيف من أمامك والخيانة من خلفك، فهل تحمل قلبك فوق سيفك أم تنكص على عقبيك ناجيا بطوق هلاكك؟

فقال قطقوط: لا قِبَل لى بجيش معاوية، ولا حيلة لى أمام ألاعيب ابن العاص. والعشق يؤلمنى، فلا الخروج نجاة، ولا الإقدام فوز بقلب الحبيب.

فوارى الملك وجهه خجلا ولم يعرج إلى السماء.

وفى الليلة الخامسة ارتَدَتْ أبهى ثيابها، وطرَّزَتْ له منديلا بأول حرف من اسمها. وذهبت فسألته عما يريد. وكان الملك يرقب الموقف من بعيد متعجِّبا من أفعال البشر ففاضت عيناه حزنا من أجل الصبية. وبينما أفُلَتْ راجعة وفى قلبها غم أليم، راودت الملك أمنية مستحيلة.

وفى الليلة السادسة أخذتْ من ليل شعرها وحطت فى عينيها، وضمَّخَتْ بحناء الأرض ضفائرها، وبالمسك والعنبر والريحان هدهدتْ عصفورى صدرها الصبيين، ودغدغتْ بأصابعها خدين من رمان. وحين أقبلت امرأة مكتملة، خَرَّ الملك صعقا، وطافت الأرض حول نورها سبعا، وإذا بالمجرة تُسَبِّح باسمها فى فضاء العرش. ولما لم تجد جوابا على سؤال الأمس. قالت: أنت والعشق صنو لا صنوان. وإن كان الصمت قد أضناك والكلام قد أشقاك، فالعشق قد يشفيك والفعل قد يهديك. فافعل قبل أن يهلك الحرث ويموت الطير. وقالت: أنا أنت. وأنت القاتل والمقتول، والخبز وعيون الأطفال، والندى الموزع بالعدل. وأنا المريدة والشهيدة بين البين. فافتح أبواب جنتى ألد لك الفرح.

لكنه كان يتبخر فى الحزن والصمت.

وتحت عباءة الله كان القوم يصيغون المسألة، وينتقون المقصلة. فقال سيدنا: والله لأصلبنه صلبة تشيب من هولها النصارى واليهود، وتسير بذكرها ركبان المسلمين والمجوس. وأقسم العجوز بأن يقتلنه قتلة لا رأتها عين يزيد ولا خطرت على قلب السفاح، ولا وردت على تنور المنصور.

وفى الليلة السابعة أخفت خنجرا فى ثياب الحداد.

«4»

فى الليلة السابعة راحت صبية تفتش لآخر مرة عن جرعة عشق.

فى الليلة السابعة كانت الملائكة جميعا قد قدمت استقالاتها، ماعدا واحد راح يرفرف بجناحين من ألم.

فى الليلة السابعة كان هناك طفل يموت من العطش، وأبناء المجوس يتلذذون بمرأى أمه تهرول بين المروة والصفا.

فى الليلة السابعة صُلِبَ الجسد، وقبض الخونة الثمن.

فى الليلة السابعة سقط الفتى شهيدا من أجل جرعة عدل.

فى الليلة السابعة رف الملك الأخير، قبل أن ينتحر، رفته الأخيرة، فتقيأت الأرض أحشاءها.

فى الليلة الأخيرة انغمد خنجر فى قلب عاشق تردد بين الباء وبين النون.

وفى الصباح هبت نسمة، من صوب الربوة، محملة برائحة النبق، فبعثرت ما تبقى من رماد الصبية على المئذنة، وحلَّق طائر النار بعيدا فى الأفق، بينما كان يزيد يغلق حانته متوجها لصلاة الفجر حاضرا.

 

( 14 )

بشير يرقد فى ركن بارد مظلم فى العراء، تحت مطر قاس لا يرحم. يحلم بحيوانات خرافية وقطط وحشية وكلاب تنهشه. يرى ملامح لأشخاص لا يتذكرهم، يتعلق بها فى الحلم، ولكنها تفلت منه، تنزلق على ذاكرته بمجرد أن يستيقظ.

منصور ينام فى فراش متواضع، ولكن دافئ. إلى جواره امرأة تغطيه كلما انزاح عنه طرف الغطاء. المرأة تنظر إلى وجهه المجعد وتبتسم فى نفسها، تقول: يشرب كل هذا الخمر ويريـد أن … هئ.. هئ، يبدو أنه من دون الخمر أيضا لا يمكنه حتى أن … هئ.. هئ، مسكين.. وتمتد يدها بشكل لا إرادى تمسح قطرات عرق صغيرة على جبهته.

منذ ساعات قليلة، مَرَّ بشير من هنا، من خلف المستشفى. ومنذ ساعات، قبلها، مَرَّ منصور من جوار الكشك الخشبى المهدم الذى يرقد فيه بشير الآن. ترك كل منهما خطا متعرجا، ولكن الخطين سارا متوازيين على نحو يتميز بالصدفة، والصدفة لها قوانينها.

المسألة هنا لا تتعلق بقوانين الرياضيات وعلاقة الأصفار ببعضها البعض، خاصة وإذا كانت على يسار الأرقام، فلا فرق بين صفر كبير مثل منصور أو صفر صغير مثل بشير، وإنما تتعلق بقوانين تلك الصدف التى لا تجمع بين أصفار اليسار على الرغم من أنها أحيانا تكون بالقرب من بعضها البعض، وربما لهذا السبب تحديدا تظل هذه الأصفار تساوى الصفر حتى وإن اجتمعت، لأن التوازى يكون إحدى صفات حركتها اللعينة، يكون توازيا فى طريقـة التفكير، وفى امتدادات خطوط البصر، فى الرؤية ذاتها. بينما قوانين الصدفة ـ وهى نفس القوانين ـ التى تجمع أصفار اليمين، حتى وإن كانت بعيدة عن بعضها البعض، فتعطيها قيمة، بل وتجعلها تعطى الأرقام قيمتها الحقيقية.

ولكن هل المسألة تكمن فعلا فى قوانين الصدفة؟ أم فى معايير أخرى تُغَيِّر من تركيبة البشر ـ الأصفار وتجعلهم أصفارا؟ أم فى أصفار ترفض أن توضع على يمين الأرقام كما ترفض أيضا أن توضع على اليسار؟

 

( 15 )

ميتة بشعة

وكانت جثة المدعو شكرى طوبار على وضع غريب فى حجرته، قدماه مشدودتان إلى السقف بحبل، ورأسه مدلى فى دلو ممتلئ بالماء. وأثناء إخراج الجثة تبيَّن أن الفم مكمما بإحكام، والعينان مشوهتان. وجدير بالملاحظة أن المُنتحِر، كما أثبت الطب الشرعى، كان يعانى من أزمة نفسية حادة، مما يُفصح عن سبب وجود الكتب المبعثرة واللوحات الفنية والصور الشخصية الممزقة بالحجرة، ويُرَجَّح أنه قد أصيب بنوبة جنون حادة قبل الإقدام على فعلته الشنعاء …

*       *       *

اعتلت شفتىَّ ابتسامة باهتة ليس لها معنى، وشئ ما فى صدرى جعلنى أسعل بضيق. الصورة فى الجريدة غير واضحة المعالم، ولكنه شكرى.. هذا مؤكَّد. أجهشتُ فى تلقائية بالبكاء، ارتد صدى النحيب، وخزنى تحت الجلد، فارتعدتُ وفى الذاكرة أشياء هلامية تأبى أن ترحل أو تتحدد، منها ما هو محفور فى الدماغ، ومنها ما هو منقوش على الأشياء من حولى رغم مرور السنين: منذ تعرَّفتُ عليه بالصدفة …

فها هو عم حنفى، أول من يرد على شكرى تحية الصباح:

-صباح الياسمين، يا أستاذ..

ولا تلبث سعدية أن تترك قدر الفول بالداخل، وتأتى مسرعة لتشيع له بتلك الابتسامة مع الساندوتشات كالعادة. وعند العودة، فى آخر النهار أو الليل، وأحيانا فى الصباح، تستقبله بنفـس البسمة، وإن كانت فاترة نوعا ما، رغم تعبها طوال النهار فى مساعدة الأب العجوز، أو قيامها قبل الفجر لإعداد القدور، وترتيب الدكان. ويخرج صوتها حنونا متعبا:

-الحمد لله على السلامة، يا أستاذ شكرى، صاحبك الأستاذ ماجد أخذ العشاء.

-شكرا يا أجمل سعدية فى العالم..

-اضحك يا أخى.. ملعون أبوها دنيا..

ويضحك شكرى مجاملا تارة، ومتعجبا تارة أخرى.

وها هو بأسنانه الصفراء المهشمة ووجهه المجدور نسبيا يلقى برأسه إلى الخلف ويضحك باستغراق حتى تدمع عيناه، وترفرف رايات الفرح فى عيون سعدية، فتدس له خفية ثلاثة أقراص فلافل بدلا من اثنين، ثم تزيد من سلاطة الطحينة.

-يبدو لى أن البنت تحبك، يا شكرى..

فتلمع عيناه، وتمر على خاطره أشباح غريبة، ويضحك فى عصبية.

وهاهو يدخل منفرج الأسارير، بيده صورة شمسية لامرأة شابة، وعيناه المفعمتين بأسباب السعادة تتنقلان بين وجهى وبين الصورة، وأبيات الشِعر والعشق تزغرد على لسانه. وينادى سعدية، يصب فى أذنها أجمل ما تمنت أن تسمعه فى حياتها من كلمات، ويرجوها أن تغسل له قميصه الأبيض وتكويه، ثم يغمز لها فَرِحَا.

وها هو يخرج فى غيبة طويلة من غيباته السرية المتعددة. وتمل سعدية السؤال، فيتهدل صوتها ليعكس أنيناً حزيناً للإنسان فى عينيها. ويمل الزمن الانتظار فتذهب سعدية، وشكرى طوبار يجوب خطوط الطول والعرض، يدق الزمن أوتادا على الخرائط والوجوه الخرافية فى الصور الشمسية.

وها هو يعود فجأة من غيبته الطويلة بوجه غير الذى خرج به منذ شهور عديدة. يتكوَّم فى ركنه البعيد، يمزق كتب السياسة والفلسفة، يحرقها، وينظر للمرة الأخيرة إلى الصورة الشمسية ثم يحيلها إلى رماد. يضحك فى هستيرية ولا يرد على أسئلتى. وتضيع فى زحمة آلامه السرية، وفى حزنى، خرائطنا المشتركة وأشياؤنا المشتركة. ويفاجئنى بأسئلة أخرى غير التى تعودناها.

وها هو ينهض مبكرا، على غير عادته فى الآونة الأخيرة، بوجه متغضِّن، وفى عينيه نظرة ليس لها لون أو معنى. يقتسم معى ما تبقى من جنيهات خمس وعلبة سجائر، ويغيب..

*       *       *

جَفَفْتُ دموعى، وفتحتُ الباب:

-مساء الخير يا أستاذ ماجد..

-مساء النور يا أم شكرى..

فى يدها نفس نسخة الجريدة، وفى اليد الثانية كف شكرى الصغير. سَأَلَتْ فى شك ودهشة وهى تشير إلى الصورة فى الجريدة:

-أنا لمحت صورة الأستاذ فى " الجرنان ".. هو صار مشهورا؟

ثم أضافتْ بلهفة وتوقُّع يتناقضان مع فحوى سؤالها:

-أنا لمحتها بالصدفة قبل أن أضع السندوتشات فى الورقة..

فقلتُ مبتسما:

-صار مشهورا.. وسافر إلى الخارج.

 

( 16 )

فركتُ عينىَّ وصوت الانفجار لا يزال يتردد فى أذنى. وقلتُ فى نفسى: ربما.. لكننى على أية حال لم أسمع شيئا محددا.. ولم تأت سيرة الموت فى جملة مفيدة تنبئ بالخطر، أو فى عبارة يمكن التيقن منها بأن حياة هناك قد انتهت.. وعموما فالأحلام تفسِّر نفسها بنفسها.. ثم ارتديتُ ملابسى وخرجت.

كان الطقس محايدا، ورائحة ما ثقيلة تشبه ألوان ما بعد الغروب تنتشر على رؤوس المارة وتفصل بين ملامحهم الذائبة فى العرق والتوتر وبين الأفكار المتمخضة فى رؤوسهم عن الأشياء الثابتة والمتحركة من حولهم. لم يكن هناك جديد فى الطريق إلى المقهى، ولم تكن عقارب الساعة تعنى أى شئ بالمرة. غمزتُ مبتسما لفتاة، فابتسمتْ فى خجل ودهشة وأدارت وجهها إلى الناحية الأخرى متعجبة، بينما انحرفتُ يسارا صوب المقهى.

لم ينطقها أحد من الجالسين بصراحة ووضوح، لكن الموت كان يسيطر على الموقف، ويقف على قدمين غليظتين برسوخ يفتت النظرات الهادئة المستكينة، ويوزِّع الأدوار برعونة وذكاء محسوبين بمنطق مغاير ووديع فى آن واحد. وكانت رائحة ما راكدة ومعتمة تهيمن على الضوء النهارى البارد، وتعيق أشعة الشمس الصباحية عن الوصول إلى أركان الممر المقابل للمقهى، فتجعل من الفضاء المكانى المحيط خيمة كابية ليست لها حدود أو تفاصيل، وليست لها ملامح ظاهرة أو سمات يمكن الإمساك بها، ولو حتى ذهنيا لفض دواخلها والتيقن ن أن العالم لا يزال يتنفس. كان الصمت والسكون هما الضوء الأخضر، والسرداب السرى الوحيد الذى يمكن الولوج عَبْرَه إلى هذه الخيمة الكئيبة لولا إيقاع سيد الذى بدا مختلفا على غير عادته، وحزينا وكسلانا كما لو كان يتحرك على إيقاع مارش حزين وبإحدى يديه شيشة عليها جمر متوهج، وبالأخرى صينية صغيرة فارغة.

دمدمتُ متوجسا: يا فتَّاح يا عليم يا رزَّاق يا كريم.. خير اللهم اجعله خير. سحبتُ كرسيا وطلبتُ شيشة وشايا ثقيلا، وشتمتُ سيد كالعادة. ولما لم يلتفت ناحيتى كالعادة، انتهزتُ الفرصة وقلتُ مداعبا فى تأنيب:

-إذا كان المعلم عطية أعطاك على قفاك فهذا لأنك حمار.. وأنت لا تستحق ذلك فقط، وإنما كان يجب عليه وضع الملعقة الساخنة فى.. فى.. هئ.. هئ.. فى أذنك. أما إذا كانت حماتك اللعينة فى مهمة عاجلة عند امرأتك فهذا لأنك جاهل ولا تعرف حتى الآن ما ينبغى عمله مع هؤلاء النسوان.. ـ همهمت إحدى الصديقات الجالسات فى حلقة الأصدقاء المجاورة:

ـ طول عمرك قليل الأدب..

فالتفتُ إليها مبتسما:

-لا تحسبى نفسك على النسوان.. أنتِ من المثقفات يا هانم.. ـ وقهقهتُ بصوت عال. ولما تردد صوت قهقهاتى فقط فى أرجاء الصمت، أحسستُ أنه مات.

همستُ فى أذن مرقس متسائلا:

-خير يا حاج مرقس؟

فنظر بنفاذ صبر، ورفع وجهه إلى السماء بورع وتقوى:

-يا رب خذه لتنقص الحمير واحدا.

فأدركتُ أنه مات بالفعل.

وللمرة الأخيرة هتفتُ مداعبا فى محاولة لتأكيد، ولنفسى على الأقل، أن الأمور تسير على غير ما يرام:

-هات قهوة سادة، يا سيد، على روح المرحوم.. هاها.. ها.. ـ ونظرتُ هناك فى الاتجاه الذى لم أكن أحب النظر إليه بشكل عام وفى الصباح على وجه الخصوص.. فكان مقعده خاليا. ويبدو أن الجميع قد اتفقوا ضمنا على ألا يشغل مكانه أحد. وربما نكون قد تعوَّدنا جميعا ذلك الأمر خوفا من لسانه السليط، أو إشفاقا على مشاعره الرقيقة أحيانا.

قفز فى صدرى شئ ما صلب مثل الحجر، وحَطَّ فوق القلب. كانت هناك، ولا تزال، مشاعر ما أكنها نحوه، لكنها على أية حال لم تكن مشاعر صداقة أو حُب، ولا أستطيع الجزم بأنها مشاعر كراهية، أو ربما مشاعر ود مترددة. حاولتُ كثيرا تفسير تلك الحالة الشعورية الكامنة بداخلى نحوه وتوصَّلتُ فى النهاية وبعد جولات عديدة مع نفسى إلى لا شئ. ورغم ذلك فقد كنتُ أنتقى الألفاظ والكلمات والجمل بحذر شديد إذا ما جمعتنا جلسة الأصدقاء بالصدفة. وفى أمسيات البار اليومية كنتُ أتجنَّبه متخذا لنفسى ركنا قصيَّا يمكننى على الأقل مراقبته منه بطرف عينى. وفى أوقات الزحام كنتُ أدير مقعدى صوب الجهة المعاكسة لألمح صورته المنعكسة فى المرآة المعلَّقة على الجدار الأصفر القديم. لكن الصورة أخذت تبهت مع الأيام، ثم راحت تضمحل وتتلاشى رغم وجود الإضاءة. وكثيرا ما طلبتُ من عم مصطفى مازحا تغيير هذه المرآة القديمة الصدئة متعللا بأسباب وهمية.

رحتُ أُخَمِّن: متى مات؟ وأين؟ وكيف؟ وما السبب؟..

ومع استبعاد السؤال بـ " لماذا؟ " حتى لا تتعقد المسائل، اكتشفتُ سريعا أن الإجابة على هذه الأسئلة ما هى إلا مصيدة لانهائية مليئة بالدوائر والمنحنيات الخطرة، ولاسيما أن الزمان فى حالة كهذه مرتبط ارتباطا عضويا بالمكان. فلو كان قد مات فى المساء فإن ذلك مرتبط بوجوده فى البار. وإن كان قد مات فى البار فذلك يعنى أنه قد نفَّذَ برنامجه المسائى بحذافيره بعد حذف كل ما ليس منه فائدة أو جدوى مثل الفرجة على مسرحية أو قراءة كتاب، أو حتى مشاهدة فيلم بالسينما. وبالتالى فكيفية موته مرتبطة ارتباطا جذريا بالإجابة على متى؟ وأين؟ وبدون تحديد هاتين الإجابتين لا يمكن الإجابة على كيف؟ ومن البديهى ألا يكون الموت قد حدث بسبب الخمر لأننا جميعا نشربها ولم نمت، وهناك من لا يشربها وقـد مات. كما أنه لن يكون أيضا بسب عدم الفرجة على مسرحية أو أى شئ من هذا القبيل. أما إذا كان قد مات فى الصباح فمعنى هذا أنه مات على أى مقهى خلف طاولة عليها كوب من الشاى وبجوارها شيشة. وهنا لا يمكن تحديد كيفية موته أو سببه. فلا يمكن أن تكون قد دهسته عربة قمامة عابرة يجرها حمار لم يستيقظ بعد من نومه، أو ركله بغل يجر عربة خضار. ولا يمكن أن يكون قد أفجعه، لدرجة الموت، منظر طفل يسير حافيا بدون سروال والذباب يقتات على المخاط السائل من أنفه. واستبعاد ذلك يتأتى من كونه قد توصَّل منذ زمن طويل إلى أن العالم قد صار عربة قمامة محترمة تجرها البغال من أمثاله، وبالتالى فقد سلَّم أمره إلى صاحب الأمر وفهم أن عربات القمامة لا يمكنها دهس البغال التى تجرها إلا فى حالة إذا ما انعكست الآية، وهذا يتنافى مع المنطق على الرغم من اتفاقه مع الوضع القائم عمليا. أما إذا كان قد فعلها فى الفترة ما بين الساعة الثانية والسادسة صباحا، فإن ذلك يمكن أن يكون قد حدث فقط فى مكانين لا ثالث لهما: إما على شاطئ النيل، أو بأحد شوارع القاهرة. ومن المستبعَد أن يكون قد مات على فراشه وفى هذه الحالة تتداخل جميع الأسئلة والإجابات، وتتفتح دوائر ومنحنيات جديدة فى المصيدة.

أطل الموت من عينيىّ محدِّقا بعيون الجالسين، وامتزج بالحزن الثقيل الفاصل بين الرؤوس المتراصة فى عشوائية، وذابت الارتعاشات الداخلية للأصدقاء المتناثرين وكل منهم يخفى ما يدور برأسه فى صفحات الجرائد أو خلف دخان الشيشة، وربما فى أكواب الشاى وفناجين القهوة وثنايا العبارات الفخمة المنمَّقة بنحوها وصرفها: كل حسب عمله ووظيفته وتخصصه. ولما شعرتُ به يحاصرنى بوجهه المجعد، وشعره المجعد، وصوته ونظراته المجعدة، صرفت تفكيرى إلى شئ آخر هلامى. لكن الموت أطل من هذا الهلامى فحاصرنى بسحنة أكثر هلامية مدت نحوى أصابع تشبه أصابعه الطويلة الرفيعة، وأذنين أكبر بكثير من أذنيه الكبيرتين، وأنفا طويلا مسلوبا مثل أنفه. لم أفلح فى الإمساك بخيط محدد يقود إلى فكرة واضحة يمكنها أن تشغلنى كى أبرر صمتى وسكونى. وعلى نحو ما فاجأنى السؤال: " ماذا كان سيحدث لو انتظرتَ قليلا؟ أ لم نكن قد بدأنا نتقارب، وبدأ بيننا حوار صامت، ونظرات يشوبها الحذر والترحاب والشك، وربما الخجل أيضا؟ "  كان قد انتهز فرصة وجودى بالبار فى الأسبوع الماضى وطلب لى زجاجة بيرة، ونظر إلى المرآة عندما وضعها عم مصطفى أمامى هامسا بشئ ما. لحظتها فكرتُ بسرعة وانبريتُ للرد، ولكنها كانت باردة والعرق يتصبب على جسدها البنى فى إغراء واشتهاء كنساء البحر فى الأحلام. وانتهى الأمر بهزة من رأسى، وابتسامة تائهة ربما بدت بلهاء كتلك الابتسامة التى تراود المراهقين عند استيقاظهم من الأحلام التى يعاشرون فيها نساء البحر الباردات المتصببات عرقا دافئا له طعم العسل ورائحة اليود والصندل. أ لم يكن يستطيع تأجيل هذه المسألة كى أرد له الدعوة ونصبح صديقين؟ كنتُ قد خططتُ لها مسبقا، ورتبتُ نفسى جيدا: فسوف أفتعل مشاجرة مع سيد لأى سبب.. ربما لأن ماء الشيشة غير نظيف، أو لجفاف المعسل، وربما لكثرة السكر أو قلته فى الشاى، ومن الجائز وقتها ركل الشيشة بعيدا أو سكب الشاى على الأرض، فإذا ما انبرى سيد مطالبا بالديون التى زادت عن الحد المعقول لائما إياى على رمى النعمة والتبذير، سيكون قد أدى خدمة جليلة ووقع فى المصيدة. لحظتها سيُستَفَز عليّ ويتدخل لاعنا سيد وديونه والمقهى، وربما وصل الأمر إلى وزير المالية والبنك المركزى وصاحبة البوتيك القائم على ناصية الشارع، وبعد أن نقمع سيد اللئيم، سأبتسم له محييا، وسأهدئ من روعه بكلمات محسوبة، ثم أدعوه لتناول كأسين عند عم مصطفى. وعندما نجلس معا، لأول مرة خلف طاولة واحدة سأعتذر له. وإن سأل لماذا؟ سأغيِّر الموضوع وأحكى له عن أشياء كثيرة.

انصرف ذهنى إلى احتمال مقلق ومثير: أ لا يمكن أن يكون قد انتحر؟ أو دهمته سيارة عابرة فى مكان ما فى وقت ما؟ وماذا لو كان ذلك عمدا ولسبب لا يعرفه أحد؟ ولكن ماذا لو كان ذلك بالصدفة المحضة وبدون أى سبب؟ ودارت تساؤلات أخرى عديدة برأسى هممتُ بطرحها لكننى أدركتُ فى حينه أن هؤلاء الملاعين مشغولون بالحزن والصمت. فأبقيتُ لسانى فى موضعه بينما اتجهتُ بأفكارى صوب البار، ولعنتُ عم مصطفى الذى يتقيد ويقيدنا معه بمواعيد وقوانين حجرية لا قبل لأحد بها.

هممتُ بالنهوض، فاستوقفنى مرقس قائلا فى تحذير:

-الجنازة بعد صلاة الظهر، يا ماجد..

وأضاف حمدون بعد إخراج ما بصدره من دخان:

-وسنقعد عندى بعد آذان العشاء..

نظرتُ إلى مرقس قائلا:

-والصلاة إنشاء الله فى كنيسة أمك؟

ثم اتجهتُ إلى حمدون مشيرا بذراعى نحو البار:

-سأحتفل الليلة عند عم مصطفى.

*       *       *

كنتُ أسمعه دائما يردد أن القاهرة مدينة متعفنة ثم يسد فتحتى أنفه بإصبعيه ويرفع وجهه إلى أعلى ضاحكا، فتدمع عيناه وتتماوج شعيرات حمراء وسوداء فى أبيضهما المتعكر. وغالبا ما كان أحد الأصدقاء، حمدون أو مرقس أو غيرهما، يستفزه فى خبث: هذا حقد يا عليّ، وعموما فهى قد تعفَّنت بسبب وجود أمثالك من القرويين البائسين، ومن المفروض عليك أن تكون موضوعيا ولا تحسدنا على نظافتنا ولكنتنا القاهرية … كما أنه لا يجب أن تقيس القاهرة بالسكارى الموجودين الآن فى البار، فهم مثلك باعوا الفراخ والبط فى قراهم ثم اشتروا تذكرة قطار وجاءوا إلينا ليشاركونا فقرنا. ويضحك عليّ حتى تدمع عيناه، ثم يأخذ نفسا عميقا ورشفة من كأسه، ويشير بإصبعه الطويلة على خارطة القاهرة الوهمية أمامه … أنت لا تصدق، بل لا تريد أن ترى خشية أن تصدق … إنها مدينة لعوب، ولا أريد أن أقول أنها مومس حمقاء حتى لا يقشعر جلد بناتكم الطرى ويصفننى بالجلافة وقلة الأدب وينفرن منى كفأر.. فعلى أية حال أنا أعشق الجلوس إليهن والاستماع إلى مخارج ألفاظهن " الكاهرية " عندما يتفلسفن أو يقرأن " كصصهن " أو " كصائدهن " التى ما أنزل الله بها من سلطان.. القاهرة، يا مثقف، عجوز شمطاء تمارس الرذيلة مع كل من هب ودب.. ومهما تصابتْ فلن تستطيع إخفاء التجاعيد والبثور المتناثرة على وجهها وجسدها.. إنها تبدأ يوميا من سلم الخادمات الوضيعات حتى تعتلى آخر درجات الموامس مكسورات القلب والجناح، فلا تنعشها سوى قبضة من العملة الصعبة لا تلبث أن تنتقل بقدرة قادر إلى جيوب القوادين: ـ هات كأس دُبْل من غير ثلج، يا مصطفى … إنها ترتدى عشرات الأثواب التى تبدلها عشرات المرات فى اليوم الواحد والليلة الواحدة، وتظل أنت يا محترم تلف وتدور وتحوم، وفى النهاية تجد نفسك على أعتابها وحيدا، وإن فتحتْ لك ستركع تحت قدميها الوسختين يتيما ومتيَّمَا لأسباب لا يعرفها إلا الذين اكتووا بنارها، ولن تحصل على أكثر مما تحصل عليه القطط والكلاب الضالة: ـ هات ليمونة يا عم مصطفى لو سمحت … انظر مثلا إلى شُبْرَا فى الصباح وبعد الظهر وفى الليل، وانظر إلى المغربلين والوايلى الكبير وشادر السمك والزاوية الحمراء، ثم انظر إلى الزمالك وجاردن سيتى وشارع سليمان باشا بمرافقه فى نفس هذه الأوقات … وفى المساء اذهب إلى الحسين والغورية والمُقَطَّم … وعندما تدور الدائرة الجهنمية ويولَد الخيط الأبيض من الخيط الأسود، انتق أى مقهى بعشوائية يشوبها سوء النية أو بصدفة مقصودة، وانظر إلى وجه خلق الله … إنها جهنم الحمراء، يا مثقف … ولا تقل لى إنه الخراب الجميل … فليس هناك خرابا جميلا أبدا حتى ولو أقر ذلك المجمع اللغوى الأمريكى: ـ هات خيارة، يا مصطفى، حرام عليك … وصادق عليه الهنود والطليان … وإن كنتَ لا تريد أن تصدِّق فاذهب إلى أية بالمدافن لترى الموت الجميل، أو الحياة الجميلة فى الموت الجميل. ويضج البار بالضحك، ويعلو صوت التمخـط والبصق، فيرفع كأسه إلى أعلى ويقذف بما فيه دفعة واحدة إلى جوفه ثم يسد أنفه … كلنا تعفَّنـا، يا سادة، والحمد لله ومن لم يتعفَّن بعد فسوف تصرخ عظامه عندما يبول عليه الأحياء المساطيل فى المدافن الجميلة.. هئ.. هئ.. جميلة..

قادتنى قدماى عَبْرَ شارع الشواربى، وكان عليّ يسميه " شانزليزيه المماليك ".. كانت الشوارع جميلة، والناس يتحركون فى نشاط وحيوية والبيع والشراء يتمان فى هدوء بدون مساومة أو وجع قلب. وفجأة تسمَّرتُ أمام بار عجيب يحتل زاوية تطل على شارعين، بهرنى بجماله المعمارى وأدهشنى لكونه مفتوحا فى مثل تلك الساعة من النهار. والأهم من هذا وذاك هو أننى لأول مرة أكتشف مثل هذا الاكتشاف الهام على الرغم من معرفتى بكل بارات القاهرة.

اقتربَ منى متسول شاب بجوار المدخل، فأخرجتُ له لسانى ودخلت. نظرتُ إلى الساعة فوجدتها لم تتجاوز الواحدة بعد. طلبتُ زجاجة بيرة وطبق ترمس، وفكرت.. خلال هذه الزجاجة يمكننى أن أحدد إلى أين سأذهب، وإلى من، وماذا سأفعل إلى أن يحين موعد عم مصطفى.. ففى كل الأحوال يجب أن أمر عليه ولو حتى من قبيل النفاق كى لا يطالب بالديون المترهلة. لم أكد أبدأ فى رسم خطتى حتى انتهتْ الزجاجة. فطلبتُ كأس نبيذ دُبْل على أن يأتى النادل بعد ذلك بزجاجة بيرة أخرى.

شعرتُ بتقلصات فى المعدة تبعتها أصوات غريبة وألم شديد. لم أكد أمد يدى لأتحسس بطنى حتى شعرتُ بدوار خفيف وألم أقوى بالمثانة. قلتُ فى نفسى: لأذهب إلى المرحاض وأضرب عصفورين بحجر واحد. وبعد أن تقيَّأتُ وتبولتُ، وجدتنى أردد: إنه التقيؤ الجميل.. هئ هئ. ثم زعقتُ بشكل لا إرادى: ملعون أبوك يا عليّ. فنظر إلىَّ النادل باستهجان، وابتسم بعض الجالسين، بينما راح المتسول ينظر نحوى عَبْرَ النافذة بتشفٍ وسخرية.

شربتُ ما تبقَّى بكأس النبيذ دفعة واحدة وصببتُ من زجاجة البيرة الثانية حتى سال الزبد على الطاولة … يمكننى الآن الذهاب إلى ناهد فى المجلة.. لكنها ستنتهز الفرصة كالعادة وتعاملنى معاملة القاهرة لأولادها.. ستحكى عن آخر استطلاع رأى لها بين سكان المقابر ورد وزير الإسكان.. وآخر حوار صحفى أجرته مع أحلى ممثل فى مصر، وأنه ضغط على يدها بعد انتهاء الحوار وهمس لها بدعوة على العشاء، بينما كانت زوجته الممثلة الشهيرة تتحدث مع خالتها التى كانت طوال الوقت تخاطبها بضمير المذكر.. ثم تأخذنى من يدى فى حنان إلى سيارتها وتظل تحكى عن أشياء عجيبة لا أدرى أين ومتى تراها إلى أن نصل إلى شقتها الجديدة دائما.. وهناك يبدأ اللقاء الحقيقى.. ستبدل ملابسها فى الغرفة المقابلة.. وستتعمد أن تقف فى الزاوية التى تعكسها المرآة الموجودة بالغرفة التى أجلس فيها.. سترتدى الشورت القصير جداً، والفانلة القصيرة جداً جداً، ثم تجلس على الفوتيه الضخم رافعة قدمها بالكامل على مسنده العالى لتقرأ لى آخر قصيدة كتبتها بالأمس، وعينىَّ تروحان وتجيئان بطول وعرض ما يظهر وما لا يظهر من خلال ملابسها القليلة جداً جداً … لن تقرأ قصيدة واحدة، بل ستقرأ كل القصائد التى كتبتها فى كل الأمسيات الفائتة، وربما كررت بدون بعض القصائد القديمة.. وبين الحين والآخر ستنظر بطرف عينها مبتسمة إلى ملامحى المتوترة خلف حبات العرق الصغيرة … بعد ذلك ستنهض بجسدها المُشع لتقلى بيضتين لكل منا، وتبدأ الحديث أمام البوتاجاز عن الصراع بين الرجل والمرأة، والحرب الطاحنة التى يقودها الرجال الملاعين ضد المخلوق الرقيق الذى يعانى منذ الأزل نزق الرجال وساديتهم.. وعندما أمد يدى هناك نحو المنطقة الساخنة بين الشورت القصير والفانلة القصيرة جداً جداً ستنتفض صارخة، وتجرى ثم تخبرنى وهى تضحك بأننى حمار، وأن كل ممثلى البلد ومثقفيها يجرون وراءها … وبعد ذلك ستأمرنى ضاحكة فى دلال بالجلوس بعيدا عنها لأنها بشر والرجال ليس لهم أمان فى هذا الزمن، ثم تسألنى بسحر وحنان عن أحوالى … وعندما أجيبها بكلمات مقتضبة وهزات من رأسى، ستنظر بخبث إلى عينىَّ الحائرتين، وتقترب منى كثيراً كثيرا رافعة سبابتها فى إغراء وإثارة محذِّرة بأن الرجال لا يفكرون إلا بشئ واحد فقط وتطبع على خدى قبلة خفيفة تقطع الأنفاس وتجعل الدم يتصاعد إلى المناطق المجهولة فـى الدماغ … فإذا هممتُ بالانصراف، أمسكتْ بيدى ودفعتنى قليلا فى كتفى بصدرها النارى … وما إن تشعر بارتفاع مؤشر الحرارة فى دمى، تفتح الباب قائلة:

-تعرف إنك أسوأ إنسان قابلته فى حياتى؟ لكن باحبك … باى باى.. يا صايع.

صببتُ آخر ما تبقى ثم لعقتُ فوهة الزجاجة … كان جالسا هناك فى الركن البعيد معطيا ظهره للمرآة الكبيرة المستطيلة التى لم تكن تعكس صورته أو صور الجالسين. حَوَّلْتُ وجهى سريعاً فلمحتُ المتسوِّل ينظر ساخرا. لعنتُ الاثنين فى نفسى وفكرتُ … من الأفضل أن أذهب إلى الوايلى الكبير.. ستكون عزيزة قد عادت من المصنع.. وإن نهضتُ الآن فيمكننى مقابلتها رأسا عند باب الخروج … سنشترى البيض والطماطم كالعادة.. وسنتسلل إلى غرفتها بهدوء كى لا تشعر بنا جارتها اللعينة.. ولكنها ستصدِّع رأسى بالعلاوات والمكافآت، ثم تحكى عن طبيب المصنع الذى قُبِضَ عليه بتهمة ملفقة بعد أن اكتشف سرقة الأدوية من المخازن.. وستبكى عندما تروى قصة سقوطه فى الانتخابات بعد أن خذله العمال على الرغم من أنه يعالجهم مجاناً فى عيادته الخاصة.. وستغفو على صدرى وأنا أحكى لها عن الورشة التى كنتُ أعمل بها بعد أن طردنى أبى من البيت لأننى لا أصوم فى الوقت الذى كان يعود هو فيه يومياً إلى البيت مسطولا.. وعندما أحملها بهدوء لأضع جسدها المنهك على الكنبة الصغيرة.. ستفتح عينيها وتحتضننى بقوة تجعلنى أشفق على ضعفها.. سأقشِّر البيض وأُقَطِّع الطماطم ثم أوقظها.. ستجلس أمامى فى محاولة لإعطائى انطباعا بأنها متيقظة تماما، ولكنها ستغفو وهى جالسة.. وسألعنها فى نفسى هى واليوم الذى رأيتها فيه، وأنصرف بهدوء.. وستطل جارتها الشمطاء من خلف الباب الموارب كالعادة.. ستلعنها وتلعننى، ثم تضيف بصوت كالنقيق بأننا من الأفضل أن نتزوج بدلا من التسلل هكذا مثل الكلاب.. وسألتفتُ إليها، أيضا كالعادة، مشيرا لها بإصبعى الطويلة إشارة فاضحة تغلق على أثرها الباب.

دفعتُ حسابى وتناولتُ الباقى. وعندما اعترض المتسول طريقى بإلحاح يشبه التهديد، أعطيته كل ما رده النادل إلىّ، ووقفتُ فى وسط الشارع خابطا كفا بكف، ثم قلبتُ جيوبى جميعا إلى الخارج أمامه وانصرفت.

بدت الشوارع غريبة كما لو كنتُ أراها للمرة الأولى فى حياتى، بينما كانت وجوه الناس منبعجة قليلا ورؤوسهم صغيرة كالنقاط وقد نبتتْ فيها آذان كبيرة مفرطحة. أما واجهات المحلات الكبيرة والمعروضات فى الفترينات وحركة السيارات، والطوابق العليا فى العمارات الضخمة كانت جميعها عادية ومألوفة على غير العادة، فلم أتمكن من الحكم عليها بالجمال أو القبح، أو الجزم بأننى أحبها أو أكرهها. وكانت تماثيل وسط البلد تبدو فى أوضاع غريبة نسبيا. فالأحصنة بدون أرجل، والرجال القابعون عليها بدون رؤوس، ومنهم من بدَّل يده التى يشير بها فأراح يسراه مستخدما يمناه عكس الاتجاه، ومنهم من اتكأ على قدمه اليمنى المقطوعة ليريح اليسرى التى يقف عليها منذ زمن، وفى أماكن أخرى نامت الأحصنة ونهضت الخراف والكلاب والحيوانات المختلفة، وكان الأسد الأيمن على كوبرى قصر النيل يمسح خراء الطيور عن لحيته فى كسل وهو مغمض العينين، والآخر يغط فى نوم عميق بينما راحت الغربان تتجمع فى تشكيلات عجيبة على مؤخرته استعدادا لقضاء حاجتها. فكرت … لو أننى عبرتُ الآن الكوبرى نحو الجامعة فلربما أجدها خالية وربما خلا الميدان أمامها من الناس والحدائق والتمثال الكبير. فاستدرتُ عائدا نحو ميدان التحرير وإحساس غامض بالجوع يثقل جفونى.

راودتنى فكرة متألِّقة، ظلتْ تزداد حيوية واندفاعا كلما اقتربتُ من ميدان العتبة. وقررتُ فى النهاية الذهاب إلى كامل مجدى فى منزله.. فهو الوحيد بيننا الذى لا يزال يعيش مع والدته وأختـه الكئيبة.. وهم يحبوننى، أو على الأقل يتحمَّلون زياراتى المتباعدة التى لا تجلب لهم سوى المشاكل وخصوصا عندما تدخل أخته بوجه مكفهر لترزع صينية الشاى أمامنا. حسمتُ أمرى، وفكرت … يمكننى أن أتغدى عنده.. لكنه سيقتلنى بمجلته العبقرية كما يصفها.. وسيلح علىَّ لكتابة أو ترجمة مقال ما ربما يقترحه هو كالعادة.. سأراوغه لحين انتهائى من طعامى.. وسأطلب منه قرضا لحين عثورى على مقال مناسب لمجلته التنويرية التى رسم عليها شعارا يوجع البطن من الضحك.. وإذا استطعتُ الحصول منه على القرض، فسوف أقترح عليه تغيير " لمبة الجاز " من على غلاف المجلة ووضع أية وسيلة أخـرى للتنوير، وإن كانت " كلوباً " على سبيل المثال، وسأنصرف مسرعا قبل أن يبدأ محاضرة طويلة ينهيها بلعن دين أبى ووصفى بالتخلف والانتهازية، والأهم من ذلك قبل أن تدخل أمه لتنصحنى بالإقلاع عن الشرب ومحاولة العثور على عمل أنا وابنها الخائب الذى يجرى وراء الجرائد والمجلات والمتاعب والفقر ثم تنصرف دون الاستماع إلى رد أى منا، بينما تقف أخته وراء الباب مكشرة على أنيابها.

لم أجد كامل بالبيت. فخلَّفتُ باب الشعرية ورائى. وبدون تفكير اتجهتُ إلى حارة اليهود محاولا التخلص من توترى بسبب أخته اللعينة التى واربت النافذة وزعقتْ كمن لدغها عقرب بأنه غير موجود، ثم صفقتها فى استعلاء وقرف.. ابنة الكلب العانس هذه..

رأيتُ بعض الأولاد يلعبون الكرة فى إحدى الحارات الجانبية. انضممتُ إليهم وخطفتُ الكرة من قدم أحدهم، فتوقَّفوا عن اللعب وراحوا ينظرون نحوى بغيظ ودهشة، أشرتُ لأحدهم بأن يتقدم، لكنه نظر إلى زملائه جاحظ العينين مبتسما. ركلتُ الكرة نحوه ولحقتُ بها، فلم يتحرك. أمسكتُ بها فى يدى، فصرخ طفل صغير من خارج الملعب.. " هاند بول "، فقذفتُ بها إليه وانصرفتُ ضاحكا، ولا حقنى صوت جماعى.. العبيط أهوه. وقبل أن أصل إلى المقهى الكائن على ناصية الحارة التى تسكن بها إحسان، لمحتُ فتاة مقبلة وجزء لا بأس به من صدرها يظهر من الفتحة الواسعة لفستانها الأحمر القصير. علتْ وجهها ابتسامة خفيفة عندما فوجئتْ بى شاخصا إليها كالملسوع، ولما صارت المسافة بيننا تسمح بالهمس، مِلْتُ برأسى نحوها قائلا: نظرة، يا ست..

-هئ.. هئ..

-لمسة واحدة، وأموت..

- روح موت عند أمك، يا شاطر..

وتعالى صوت ضحكات من ناحية المقهى، فانحرفتُ بسرعة إلى اليمين.

فتحت إحسان الباب فى دهشة استحالت إلى ابتسامة بلهاء:

-الحمد لله على السلامة، يا مجنون..

وأغلقت الباب بعد أن أخذت ابتسامتها شكلها الطبيعى المعهود، والدهشة لا تزال ترتسم على شفتيها اللتين توردتا لتوهما ودبت فيهما حياة صغيرة رقيقة. كانت الشقة كما هى لم تتغير بضوئها الخافت فى كل الأوقات، ورائحتها الطرية العتيقة. زادت فقط بعض أصص الزرع، وظهر إلى جوار إطار صورة أمها إطار آخر بشريط أسود فيه صورة لرجل عجوز. جاء صوتها من المطبخ ضاحكا:

-هل هناك بنى آدم يشرب من صباحية ربنا؟!

قلتُ باسما:

-أنا.

واتجهتُ إلى المطبخ. طوَّقتُها من الخلف بذراعى، وقَبَّلتُ رأسها. فربتتْ على كفى بحنوٍ وصبَّتْ القهوة بيدها الأخرى فى الفنجان الكبير الذى تحبه. قلتُ:

-سأموت من الجوع..

ناولتنى طبق بطاطس مسلوقة من فرن البوتاجاز وذهبتْ إلى غرفة النوم. فأخذتُ واحدة قذفتُ بها إلى فمى وأمسكتُ بأخرى، ثم أعدتُ الطبق إلى مكانه واتجهتُ نحو الغرفة الثانية. أشعلتُ سيجارة واستندتُ إلى حافة الباب المؤدى إلى البلكونة ورحتُ أرشف ببطء من فنجان قهوتى، ثم أشعلتُ أخرى وجلست…

…وكانت هى الملاذ الأخير من الغول القاهرى البشع. والملجأ الأمين عندما تغلق البـارات أبوابها، ويغيب الأصدقاء والمعارف عن المقهى، وعن بيوتهم، وعن الدنيا. والعودة إليها هى الطريق الوحيد للتخلص من الإحساس العارم بالدونية فى خضم الحركة العكسية لهذا العالم. عندها كل شئ: البطاطس والحُب والقهوة والجدعنة والقدرة على الفهم. لم أتمكن من معرفة ذلك فى الوقت المناسب عندما قابلتها بمكتبة الجامعة وقتما كانت جميلة وفاتنة كما هى الآن رغم تجاوزها الثلاثين. بعدها تخرَّجنا وذهب كل منا إلى حال سبيله. فتزوَّجتْ هى من أحد زملائنا وفرت منه بعد عامين دون الإعلان عن الأسباب. وعاشت قصة حب أخرى مع أمين مكتبة صار ممثلا مغمورا، فتركها وأحبَّ ممثلة ناشئة. وظلتْ هى كما كانت حتى التقينا بالصدفة منذ عدة سنوات.. كانت تبحث عن عمل.. أما أنا فكنتُ أعمل بورشة وأكتب القصص ليلا وأسكر أيام الآحاد.. وفى الوقت الذى ظلت فيه هى كما هى، أقلعتُ أنا عن العمل فى الورش وكتابة القصص السخيفة، وحافظتُ فقط على ارتياد المقاهى والبارات وزيارتها بين الحين والآخر عندما أشعر بالخطر … هى تعرف ذلك، وأنا أعرف أنها تعرف، لكننى لا أشعر بالخجل … وعندما أحس أحيانا أن حبها سيعتلى سور صمتى، أغيب عنها وعن العالم، لكنها تأتى دائما عندما أكون فى حاجة إليها، وتجدنى عندما أضيع فى زحام الهموم والمشاغل والقلق اليومى.. و..

-كأنك لم تنم منذ ألف سنة..

فتحتُ عينىَّ. كانت أجمل بكثير، وأرق مما كانت عليه منذ عشر سنوات. جلستْ. وأخذتْ رأسى على فخذها وراحت تحكى عن أشياء كثيرة.. عن عملها فى مكان محترم، وقراءتها للشعر والروايات. وقالت أيضا أنها بدأت تسمع الراديو فى الفترة الأخيرة، وأنها اكتشفت أنه أكثر متعة من التلفزيون، وأحيانا تذهب إلى السينما مع أى شخص تعرفه، لكنها تحب الذهاب إلى المسرح: إما معى أو بمفردها. وسألتنى:

-كيف حال صاحبك، ثقيل الدم؟

قلت:

-للأسف لم يكن صاحبى.. وعموما فقد مات.

قالت ضاحكة:

-حرام عليك، يا كافر.

وأضافت بأنها على الرغم من رؤيتها له مرتين أو ثلاث، إلا أنها شعرت بنفور غريزى منه، وأنها لمحت فى عينيه نظرة ليست بالجريحة أو القاسية، ولكنها تقع فى المساحة بينهما حيث الرغبة فى تدمير العالم وتدمير النفس والقضاء بشكل نهائى على الذات، وربما العكس. وطبعتْ قُبْلَة خفيفة على خدى، ثم همستْ:

-لا تغب عنى طويلا، أنا فى حاجة إليك.

فَقَبَّلْتُ يدها. وكان العشق هو المرحلة التى تتبع العاصفة، فتتولى ترتيب العالم، ووضع الخرائط الجديدة للأماكن الجديدة، وإطلاق المسميات المناسبة على الأزمنة المناسبة. كان الضد للموت، والصعود إلى أعلى، والتسامى فى بوتقات الفضاء الهلامية الشفافة. كانت تبكى أثناء رحلة الصعود، وتنتحب وتشهق وتضحك. وكنتُ أنصهر فوق صدرها وأتبخر، وأشرب فلا أرتوى. وأغوص مرة، ومرات، وأخرج حاملا رايتى البيضاء مستسلما لرغبة جامحة لانهائية تتأجج كلما احتويتها بين ذراعىّ وضممتُها وشددتها ورفعتها كحروف اللغة المراوغة، وما إن أُقَبِّل كل خلية فى جسدها، تغمض عينيها وتبتسم، ثم تتبخر وتتلاشى. وفى النهاية نسقط من أعلى جسدا واحدا ضد العاصفة، بأربع عيون شاخصة إلى الدوائر الوهمية فى الفراغ، فى حين تنصهر اللغة وتتحول إلى سائل حبيس فى زجاجات تثير الضحك، ويبقى الصمت لغة وحيدة يمكنها التعبير عن رحلة اللذة العابرة.

استعاد كل منا خلاياه من جسد الآخر. أغمضتْ عينيها وهمستْ باسمة:

-أ تعرف أننى أحبك؟

فسألتها عن الساعة. ردتْ ضاحكة:

-عشرة. ابق هنا الليلة.

نظرتُ إليها فبدت مثل الطيف. وكانت المرآة الكبيرة المقابلة لا تعكس صورتى. فجأة، ارتعدتُ، وشعرتُ بارتفاع درجة حرارتى. خرج صوتى غريبا ومجنونا:

-عليّ مات.. تصورى؟!

*       *       *

كان أمامى أحد طريقين للوصول إلى البار. إما عن طريق شارع الموسكى أو عن طريق شارع الأزهر. لكن الأول فى هذه الساعة ملئ بالقطط والكلاب التى بدأت عملها بالبحث والتنقيب، وسط العربات التى تركها أصحابها مغطاة وذهبوا إلى بيوتهم، والنبش فى أكياس القمامة وفضلات الخشب والخيش التى تكاد تسد الشارع. وبما أننى لا أحب القطط وأخشى الكلاب، فقد صرفتُ النظر تماما عن شارع الموسكى. لكن شارع الأزهر أيضا مزدحم بالسيارات والناس وربما بالنشالين. كما لم تكن لدى أية رغبة فى التقاء، ولو بالصدفة، أى شخص أعرفه: فى هذا الوقت بالذات يبدأون التوجه إلى مقاهى الحسين، أو الذهاب إلى الشيخ إمام بحارة " حوش قدم " فى الغورية. وطرأ على ذهنى الذهاب من نفس الطريق الذى أتيـتُ منه، لكننى تذكرتُ تلك العانس اللعينة، وثمة شئ آخر ورد على خاطرى لكن سرعان ما تلاشى عندما لمحتُ نفس الفتاة ذات الفستان الأحمر القصير مقبلة مع صاحبتها.. لم تواتنى رغبة فى الاحتكاك بهما أو معاكستهما، لكن الملعونة همستْ لصاحبتها بشئ ما، وعلت وجهيهما ابتسامة ماكرة. قالت الأولـى باسمة:

-هئ.. يموت.. جاته خيبه..

وأضافت صاحبتها:

-رجال آخر زمن..

ابتسمتُ رغما عنى وواصلتُ طريقى نحو شارع الأزهر.

*       *       *

طأطأتُ رأسى موافقا على الجزء الأول من جملة عم مصطفى، لكننى تعللتُ بعدم الجلوس معه أو معرفته عن قرب. وهمستُ لنفسى.. لا أستطيع النظر إلى عيون الأمهات أو إلى أكف الآباء فى مثل هذه الحالات. وطلبتُ كأس دُبْل بدون ثلج.

..عليّ مات..

أو مات عليّ، سيان. فالفعل قد وقع، وعليّ ليس الفاعل. وموته لا تعادله لحظة حياة أو لحظة حلم. كان ومضة وانتهى الأمر.

مات..

فعل وفاعل. والفاعل ليس عليّ، لكنه مات على كل حال، وباءت جميع محاولات وضع موته فى أحد طرفى المعادلة بالفشل. حاولوا فى الصباح العثور على معادل موضوعى لموته، ولتبرير صمتهم وعزوفهم ونزقهم القاتل. وفى النهاية شيَّعوه فى جلال ومهابة واحترام، ثم جلسوا يتذكرونه، وربما شربوا على روحه بعض الخمر فى فناجين القهوة.

مات.

أ من الممكن أن تُقال هكذا ببساطة؟ وأن يُتخذ الفعل معبرا للوصول إلى معادلة مريحة، خادعة فى استقرارها، تعبِّر عن فعل أكبر بكثير من كل المعادلات؟ فعليّ يدخن الشيشة.. يسكر.. يتشاجر مع سيد.. يشتم عم مصطفى.. يسب الحكومة.. يرطن بالأسبانية.. يتحدث عن فن الباليه وعلاقته بالصوفية فى مطلع القرن الثالث والعشرين.. يحاول جاهدا تفسير العلاقة بين تشريح الجمجمة عند إخناتون بمثيله عند عبدالمجيد البقال.. يعاكس امرأة بوقاحة فى الطريق.. يربط ساخرا بين الحروب العربية وبين حروب الماعز فى جنوب إيطاليا، كلها أفعال وأقوال واقعية بصرف النظر عن كون بعضها منطقيا ومفهوما أم لا، وبغض النظر أيضا عن كون البعض الآخر منها مبتذلا رغم خفة ظله..

-كأس بالثلج، يا عم مصطفى..

لكن أن يذهب هكذا ببساطة.. يااا.. ه..

-وبالليمون ولا تبص لى بهذا الشكل..

لم أجالسه مرة واحدة منذ رأيته على المقهى، ولم أفكر فى ذلك أبدا إلا فى الفترة الأخيرة.. لكن لماذا؟ أ كان ذلك بسبب لسانه السليط عندما يختلف مع حمدون فى تحديد أصل المصريين وعلاقته بالبيضة والفرخة، أو يتفق مع مرقس على أن اليهود بريئون من دم المسيح؟ أم بسبب أحاديثه المتشابكة عندما يرتدى ثوب المثقفين ويمتطى الدواب العرجاء لمتمردى الزمن الجديد، فيعلن ضاحكا أن اليهود استيقظوا يوما من نومهم فوجد كل منهم ورقة فى فناء بيته عليها عبارة " لقد تخلَّصنا منه "، وإلى الآن بابا روما نفسه لا يعرف من كتبها؟

-وكأس بدون أى شئ، يا مصطفى..

فى الصباح قال سيد ببساطة: الله يرحمه. وقال أحد الأصدقاء: لقد مات عندما انطفأت بداخله جذوة الحلم. ولما أعجبته الجملة، أخذ نفسا عميقا من الشيشة وأخرجه فى بطء ومهابة مُحَرِّكا رأسه فى أسى، بينما مصمصتْ الجالسة إلى جواره شفتيها فى ألم وحزن. وبعد قليل قاموا جميعا ليدفنوه بأيديهم، ويشاركوا فى ردمه تماما بالتراب.

-هات جزر وكأس بدون ثلج، يا مصطفى..

… دخل مبتسما. لم يكن مرتديا ملابس بيضاء مثل أطياف المنام، ولم يكن ممتطيا ناقـة ولا بعير. كان عاريا تماما ومجروحا فى القلب. اتجه إلى ركنه المفضَّل وجلس. نظر إلىّ فى المرآة وقال: أنت ابن كلب-وبصق فى وجهى.

 

( 17 )

يموت عليّ يونس ثم ينتحر شكرى طوبار ـ هكذا تسير الأمور تبعا للترتيب الزمنى العادى. ولكن الزمن الافتراضى الذى يمكننا أن نسافر فيه إلى الأمام يمكنه أن يجعل الترتيبات الزمنية العادية مختلفـة قليلا، فلكل زمن قوانينه، ولكل واقع أيضا ـ حتى الواقع الافتراضى، قوانينه. وعندما يحكى ماجد يعقوب، من خلال الزمن الافتراضى، عما حدث لشكرى أو لعليّ، فليس معنى ذلك أنه سيفلت مـن مصيره. ولكن من الذى سيحكى عنه؟ لقد كفَّ منذ زمن بعيد عن كتابة القصص السيئة ـ على حــد قوله ـ، أى أنه لن يترك نصا مثل سمير منسى أو عماد صالح، ولن يجد صديقا يحكى عنه كما حكى هو عن عليّ وشكرى. فهل يمكن أن تحكى عنه إحسان، خاصة وأنها بشكل ما فى نهاية الثمانينات ستصبح زوجته، وستنجب له ولدين وابنة على وجه السرعة. أم من الممكن أن يحكى هو عن نفسه مادامت هناك إمكانية لذلك حتى بعد الموت؟ المسألة ليست معقَّدة إلى هذا الحد، فالزمن الافتراضى يمكنه أيضا أن يوفر لك إمكانية عالية للقاء الذين سيأتون فى المستقبل ويرحلون ـ يموتون فيه باعتباره ماض. وبصورة أخرى، فلو تقدَّمنا فى الزمن الافتراضى إلى ما بعد موت ماجد يعقوب، فمن الممكن الغوص فيه والتقاء ماجد والاستماع إليه، بل وحتى رؤيته وهو يموت بالصدفة فى حادث اصطدام أتوبيس، يقوده سائق مسطول، ببناية ضخمة. الطريف، والذى أثار ضحك الناس فى ذلك الوقت، أنه لم ينج من الحادثة سوى السائق والمحصل المسطولين تماما: كان المحصل يقدِّم سيجارة محشوة للسائق، وحينما لمح كل منهما البناية الضخمة من بعيدا، تصوَّرا أنه لم يعد هناك وقت لعمل أى شئ، فقفزا معا إلى خارج الأتوبيس الذى اندفع بقوة هائلة، ولم يتوقَّف إلا عندما اصطدم بباب حديدى ضخم فى الداخل.  

لكن العبث كل العبث أن نترك الآن الواقع الآنى ونظل نلف وندور ونتسكع فى الزمن الافتراضى وكأن الواقع الآنى قد أصبح جنة للبشر أجمعين ! القضية معقدة، خاصة وأن منصور الذى قرر السفر اليوم لا يزال مستلقيا بين اليقظة والنوم والسكر. وكلما أفاق قليلا، تذكر أنه لابد وأن يجعلها تئن وتصيح لا محالة، ثم يذهب فى غفوة ورأسه يكاد ينشطر.

بشير لا يزال متكوِّرا على نفسه فى ذلك الكوخ الخشبى العارى يلعن السفر والبرد والليل، ويعطى أذنيه لصوت القطار، أى قطار ينتشله من هنا.

منصور يمكنه أن يسافر نهارا، فهو يملك النقود والأوراق الشخصية. أما بشير لا يمكنه السفر إلا ليلا. منصور يعرف إلى أين سيذهب فى القاهرة، ولكن بشير لا يعرف اتجاهه فى مصر كلها. من هنا تحديدا تفترق الطرق، أو بالأحرى لا تلتقى المستقيمات المتوازية رغم أنها بجوار بعضها على مستوى واحد. فهل يمكن للتعب والمرض والإرهاق أن تعطل بشير وتعوقه عن النهوض للحاق بالقطار؟ وهل تصميم منصور على غزو قلاع المرأة الحصينة بدون سلاح يمكن أن يجعله يؤجل سفره إلى حين الفوز والانتصار والظفر بغنيمته وخصوصا أنها لم تمانع فى التسليم ورفع الراية البيضاء من بداية المباحثات؟

أسئلة كثيرة، وتخمينات نظرية تحتمل التحقق أو عدمه. فالإنسان يحاول دائما أن يضع افتراضاته النظرية لصالحه، أو لخدمة أغراضه. ولكن لحسن الحظ: حظ الإنسان طبعا، لا يوجد فى العالم احتمالان فقط. هناك دائما احتمالات كثيرة، بل وفى الاحتمال الواحد توجد عدة سيناريوهات. وأحيانا، أو كثيرا، عندما يتحقق أحد الاحتمالات تكون هناك بعض الأجزاء التى لم تتحقق، وهذا يحدث أيضا مع الاحتمال الذى لم يتحقق ـ تتحقق منه بعض الأجزاء فقط. هذان الشكلان من الاحتمالات يمكننا بشكل أو بآخر أن نضيفهما كاحتمالين جديدين لنكتشف أننا نملك احتمالات كثيرة للغاية فى هذه الحياة.

بشير لا يستطيع فعلا اللحاق بالقطار لأسباب كثيرة يمكن تخمينها. ومنصور يؤجل سفره، وبطريقة ما يستطيع أن يغزو دنياه الجديدة جزئيا: بأقل الخسائر تبعا للمصطلح العسكرى، وبشكل جزئى تمهيدا للغزو الشامل وتمشيط المنطقة. ومن أجل الحفاظ على ماء الوجه لابد وأن يكون هناك مصطلحا سياسيا يُخَدِّم على مثل تلك الحالات التى لا تُعد نصرا أو هزيمة: أوقفنا الخصم عند حدوده ولقَّناه درسا لن ينساه، أو كانت مقاومة الخصم عنيدة لما يمتاز به من كذا وكيت.. ولكننا مع ذلك استطعنا، رغم حالتنـا العصيبة، أن نفقده الكثير من عدته وعتاده ونجبره على الجلوس حول مائدة المفاوضات. وفى حالة منصور، ستكون مائدة المفاوضات هى مجرد فراش دافئ يوفر له بعض القبلات ومداعبه الخصم قليلا، لأن الحالة لا تسمح بالانقضاض وتوجيه الضربة القاضية.

غفا بشير بعد أن تيقن تماما أنه لن يسافر هذه الليلة، بينما ظل منصور طوال الليل حول طاولة المباحثات يناور ويراوغ. والخصم يدرك جيدا حالته المعنوية وقدراته المادية. فدنيا من خبرتها تعرف أن ما يدور الآن من مفاوضات، ليس بالضبط ما سيتم التوقيع عليه والالتزام به، ولكنها مجرد مناورة لكسب الوقت، وإلى أن  يمتلك الخصم المناور قدرته على الهجوم. وأدركت أيضا أن الخصم ينوى الهجوم فى الصباح كآخر فرصة للانتصار. فأعدت نفسها هى الأخرى للتسليم بشكل جزئى وعلى فترات حتى يشعر الخصم أنه قد انتصر فعلا.

فى الصباح استولى منصور على قلعته بضربة واحدة لم تتكرر، فلم يستمتع الخصم بالهزيمة التى مَنَّى نفسه بها. ومن أجل الحفاظ على النصر الغالى كان لابد وأن يتصرَّف منصور على نحو معين: نهض من الفراش بطريقة أثارت ابتسام دنيا. ارتدى ثيابه، وراح يبحث عن حقيبته من أجل أن يعطيها نقودها. ولكنها قالت ضاحكة:

-لا، لا تكلف نفسك، فى المرة القادمة. طُل علينا إذا أتيت إلى مطروح. نحن دائما هنا.

حسبها منصور جيدا، وقال بعض كلمات لم تفهم دنيا منها شيئا، وانصرف مسرعا.

نهض بشير قرب الظهر. لم يجبره على ذلك سوى الجوع. وكما كان يحصل على طعامه هناك-فى القاهرة، حصل عليه هنا فى مرسى مطروح. ولكنه حسب أيضا حساب القطار ورحلته الليلية. فراح يلف ويدور فى الشوارع التى عرفها بالأمس حتى عثر على ضالته فى صبى أقل منه بقليل يحمل خبزا وبعض اللفائف. سار وراءه حتى سنحت الفرصة، وانقض عليه. ركله ركلتين، دفعه بقسوة وغلظة، ألصقه بالحائط، ناوله لكمتين قويتين أخرستا صياحه الذى كان قد بدأ، واختطف ما تمكنت يداه من اختطافه، وتلاشى من المكان.

 

( 18 )

قطار الليل المتأخِّر يطلق صفارته الأخيرة إيذانا بالانطلاق من مرسى مطروح إلى القاهرة.

بعد لف ودوران وتفحُّص اختار منصور عربة شبه خالية من الركاب: لا يأتى من الناس سوى الضرر، وأنتَ معك أجر نصف شهر. من الأفضل أن تبتعد عنهم وعن شرورهم، تشرب زجاجتك، وتنام حتى وصول القطار إلى محطة مصر.

بشير يقف مثل فهد صغير لا يظهر منه سوى عينان تلمعان بحدة فى الظلام: الركوب من المحطة خطر. والقفز فى قطار مثل قطار مطروح ليس بالأمر الصعب.

يلف بشير ويدور فى القطار بحثا ليس عن عربة دافئة أو مقعد، وإنما عن عربة مأمونة يمكنه أن يزوغ منها وقت اللزوم: لا يهم البرد أو الضجيج، أهم شئ هو السلامة. وبعد مقارنات وتفحصات لا يجد سوى عربة مظلمة تماما. وبمجرد أن تعتاد عيناه الظلام، يكتشف أنها شبه خالية: جندى يستعد للنوم فى أحد أطرافها.. وآخران يهمسان لبعضهما البعض بأشياء تثير ضحكهما.. ورجل فى ملابس مدنية يجلس فى وسط العربة محتضنا حقيبة صغيرة وبيده زجاجة. فكَّر بشير: الجلوس فى الطرف الآخر للعربة خطر، فلا أحد يدرى من يمكنه أن يدخل فجأة.

اختار بشير مقعدا فى وسط العربة، فى الصف المقابل للصف الذى يجلس فيه الرجل المدنى. جلس ورفع قدميه فوق المقعد. أحاطهما بذراعيه ودفن رأسه فى المساحة الدافئة بينهما، وبين الحين والآخر ينظر، من خلال الفتحة التى تركها خصيصا، نحو الرجل الجالس هناك.

بين الجرعة والأخرى يلقى منصور بنظرة عابرة إلى هذا الجسد الصغير. النظرة تبدو عابرة أثناء رفع الرأس لتناول جرعة الدفء، ولكن الشك يقلق منصور، يوتره: ما هذا الفأر الصغير.. من الممكن أن يكون نشالا أو لصا، وربما يضربك بسكين ويخطف الحقيبة، وينقلع. ولكن جسده الضئيل لا يوحى بذلك، جلسته الهادئة المستكينة لا تنذر أبدا بالخطر. ولكن الاحتياط واجب فأولاد الحرام لم يتركوا لأولاد الحلال شيئا.

تناول منصور عدة جرعات متتالية حتى أحس بالدفء ينبعث من جسده. ولكن الشك لم يفارقه، والقلق يطيِّر النوم من عينيه. ولم يعد أمامه سوى أمر واحد: أفتح معه موضوعا، أسأله. كلمة من هنا وكلمة من هناك حتى أصل إلى آخره. لابد من تقليبه.

وفجأة خطرت على بال منصور فكرة جهنمية: الولد صغير وهادئ، وربما يكون متسوِّلاً أو متسكِّعا بدون أهل أو عمل، وزكريا أخى وحبيبى، فما المانع من أن يجد زكريا مساعدا له، ويجد الولد لقمة عيش شريفة ونظيفة! أعمال التصدير-ولاحت على وجهه ابتسامة خفيفة-رائجة، وزكريا يعمل فى التصدير فقط، بدون استيراد، وبدون فرق عملة أو عمولة. حقك وحقهم وإنا لله وإنا إليه راجعون. الولد يُسَخِّن الماء ويسكب عليه ماء الورد. سيعلمه زكريا كيف يخبِّئ نصف زجاجة ماء الورد، وسيعلمه كيف يهز رأسه فى انفعال على كلام الواقفين الذين يرددون بين الحين والآخر "الغُسل أمانة، اقرأ القرآن يا عم زكريا، اغسل هنا، اغسل هناك". سيعلمه أيضا كيف يوسوس لأهل الفقيد بأن يكون الكفن من خمس أو ست طبقات، ويُفَضَّل أن يكون من الحرير. وسيذهب زكريا ومساعده بعد يومين أو ثلاثة لاسترداد الكفن من المقبرة.

كافأ منصور نفسه على تلك الفكرة بجرعة محترمة: ولكن هل سيقبل الولد بعمل كهذا؟ وما المانع! عمل شريف يحترمه الناس ويقدِّسونه، أما عملية استرداد الكفن، فهى موضوع آخر، لأن زكريا لا يفعل ذلك مع كل الناس. فهو مثلا قد دفن لى أربعة أبناء وكان الكفن على نفقته الخاصة. لا يهم من أين أتى به، المهم أنه كفَّن لى أبنائى الواحد بعد الآخر فى أكفان من حرير. زكريا سيقبل، فأنا أعرفه، ولكن ماذا لو رفض الولد؟

إذا رفض بشير فسوف يقترح عليه منصور حمزة أن يعمل صبيا بمقهى المغربلين الذى يتجمعون فيه. ولكن لماذا يحاول منصور جذب الولد ناحيته، والبحث له عن عمل؟ يضحك منصور: لابد أن يكون هناك موضوع حتى أعرف ما يدور برأسه. ومن ناحية أخرى، إذا وافق على العمل مع زكريا، أكون بذلك أسديتُ إلى الاثنين معروفا، فمن يضمن الزمن؟ وإذا وافق على العمل بالمقهى، فسوف يقوم بالواجب معى ومع ضيوفى مجانا، أو فى أسوأ الأحوال سيعطى بالتقسيط ويحصل على النقود لنفسه بعيدا عن رقابة صاحب المقهى، وربما ساعدنى بشكل أو بآخر فى جذب الزبائن لى. وحتى إذا رفض هـذا وذاك، فسوف أكون قد قلَّبتُه وعرفت ما يدور برأسه ـ وتحسس منصور حقيبته.

بشير يحسبها جيدا: المحصِّل سيأتى قرب الفجر، وإذا جاء قبل ذلك سيكون الموقف أصعب. ولكن الأصعب من هذا وذاك، هو محطة مصر. كيف سأخرج من المبنى؟ لابد أن أقفز قبل دخول القطار. لن أبقى دقيقة واحدة فى هذا المكان الملعون. سأبحث عن مكان آخر، فى الحسين أو الغورية، فى عابدين أو الدرب الأحمر.. ولكن كيف يمكن الوصول إلى تلك الأحياء؟ وأين يمكن أن أعيش؟

نظر بشير بطرف عينه إلى الرجل الجالس هناك: لعله يساعدنى. ولكن كيف يمكن التحدث معه؟ كيف يمكن أن أنتقل الآن وأجلس إلى جواره، وأحكى له؟..

منصور يشرب ويحسب الأمر جيدا. وبشير ينوى فتح ما معه من لفافات ودعوة الرجل إلـى الطعام.

قال بشير بصوت هادئ:

-تَفَضَّل يا عم-ونظر نحو الرجل فى براءة.

-تَفَضَّل ـ كرر بشير. ولكن الرجل كان قد استغرق فى النوم.

حدَّق بشير فى وجهه بضيق وغضب، وفكَّرَ: لا يهم، النهار له عيون. وليس من المناسب الآن إيقاظه ودعوته إلى الطعام-وفجأة غرق فى نوبة نوم مفاجئة.

شُبرا.. وتعالى ضجيج أصوات المجندين واحتكاك أحذيتهم بأرضية القطار.

هب بشير مفزوعا. نظر حوله. لم يكن هناك أى شئ قد تغيَّر سوى بعض الضوء الذى يدخل من نوافذ وأبواب عربة القطار. كان أول ما حضر إلى ذهنه هو المُحَصِّل: أين هو؟ هل جاء وانصرف دون أن يراه؟ أم أنه رآه ولم يوقظه؟ أم أنه لم يأت بعد؟ ولكن كيف لم يأت ولم يعد هناك سوى دقائق معدودة على الوصول إلى محطة النهاية؟ ومد يده إلى داخل الكيس. أخرج قطعة خبز وراح يلوكها. وفجأة نظر إلى الرجل الذى ما يزال نائما: لم تعد هناك حاجة إلى دعوته للطعام. الوقت نفسه لن يكفى للحديث معه. وحينما لمح بشير الزجاجة تحت المقعد أدرك أن الرجل لن يستيقظ الآن، ولن يستيقظ إلا إذا أيقظوه فى محطة مصر.

من خلال النافذة لمح بشير مسكنه السابق، والكشك الخشبى المتفحم. مد رأسه من النافذة، رأى المحطة من بعيد، تقترب، وتقترب، والقطار يهدئ من سرعته. استعد للقفز، ولكنه توقف فجأة، استدار، نظر إلى الرجل النائم، تأمَّل وجهه الذى يشبه حبة البطاطس المسلوقة، ورأسه الذى وكأنه قد خرج لتوه من فم تمساح، وصلعته الناتئة إلى الأمام، وأذنيه الكبيرتين بشكل يثير الضحك.. اقترب منه بخفة وهدوء، سحب الحقيبة فى ثقة، واتجه نحو النافذة.

 

( 19 )

.. حظك نحس يا منصور. ابن الملعونة هذا فعلها وتبخَّر، ولم تسعفك حصافتك وأفكارك النيِّرة. وأضاف منصور وهو يقترب من ميدان العتبة: الخمر اللعينة هى السبب، لو كنتُ قد ظللتُ مستيقظا ولو لنصف ساعة أخرى! العوض على الله. الآن يجب الاستعداد إلى لقاء زلابية. مرة واحدة فى حياتى أردت الدخول عليها بيد غير فارغة، مرة واحدة فى حياتى حلمتُ بلقاء إنسانى-وضحك منصور-لكنه الحظ العاثر. لن تصدِّقنى. وإذا صدَّقتنى، فسوف تسأل عن أجر الشهرين السابقين. ماذا أقول لها؟

-الحمد لله على السلامة، يا منصور.

-مرحبا، يا زلابية-رد منصور بجدية، وهو يفكِّر بسرعة بماذا يمكنه أن يرد على أسئلتها التالية.

-ستظل هنا أم ستعود مرة أخرى؟

-لا، يا زلابية، سأبقى هنا. الحياة هناك من غيرك بلا طعم.

-أصيل، يا منصور. أهم شئ الستر، ولا أحد ينام من غير عشاء.

ضحك منصور فى نفسه، وقال:

-فعلا، يا زلابية، لا أحد يموت من الجوع..

-قم يا رجل، قم بدل ثيابك حتى تكون على راحتك.

منصور يعرف العلامات والإشارات. لا يذكر كم عاما بالضبط يعيش معها، ولكنه يعرف ما تفكِّر فيه: يعرف أن الماء الساخن سيكون جاهزا فى لمح البصر، ويعرف أن الغذاء سيكون دسما على الرغم من أنه لم يرسل لها قرشا واحدا طوال شهرين، ناهيك عن أنه تركها بدون نقود. ستغيِّر هى الأخرى ثيابها، وستجلس أمامه.. وبعدها إلى الفراش لا محالة. ولكنه متعب، ومزاجه فى الحضيض بسبب ابن الملعونة الذى سلبه نقوده وحقيبته.

-كيف الأحوال، يا زلابية؟

-يقولون أن زكريا خرج من المستشفى.

-ومتى دخلها؟

-بعد سفرك بعدة أيام. قالوا أنه الكبد، أو الطحال، لا أدرى. وربما القلب، أنا لا أعرف فى هذه الأشياء. هيا يا رجل، قم..

-ومن أخبرك؟

-أم سماسم. وطلبت نقودا أيضا.

-وأين هو الآن؟

-من أين أدرى، يا رجل..

خرج منصور مهرولا وهو يتنفس الصعداء: الحمد لله، مزاجها عالٍ وليس هناك ما يعكِّره. وانطلق نحو مدافن الدرَّاسة.

زكريا يعيش فى الدَرَّاسَة. هكذا يقول للناس. ولكنه فى الحقيقة يسكن أحد المدافن بجوار أم سماسم منذ سنوات طويلة. وهو لا يعانى فقط من الكبد والكِلى والقلب، وإنما من الروماتيزم أيضا. دخول المستشفى بالنسبة له أسوأ من الأوجاع، ولذا سكتَ طويلا، واستساغ الرقاد بين الحين والآخر وعناية أم سماسم به. فزكريا، بينه وبين نفسه، يحب المرض ولا يعرف ذلك سوى اثنين: منصور وأم سماسم. يحب المرض أو التمارض وعناية أم سماسم به لأنه يعتبر ذلك تعويضا عما لم يستطع الحصول عليه طوال سنوات عديدة لم يتمكن فيها من استمالة أم سماسم وكسب رضائها-حبها. وأم سماسم تعرف ذلك، ولكن ما باليد حيلة، فبعد وفاة أبى سماسم-المدفون فى نفس المقبرة التى تعيش فيها الآن -لم يكن هناك سوى منصور. هى تحب منصور، وترتاح إليه ومعه، ومنصور يحبها ويجد فيها ومعهـا سلواه. زكريا يعرف ذلك، ولكنه يعتقد أن منصور يمكنه التنازل عنها لأنه متزوج ولديه صدر دافئ يتكئ عليه وقت الحاجة. منصور يعرف ما يدور برأس زكريا، ويعرف أيضا أن زكريا يدرك جيدا أن أم سماسم لن تحب أحدا آخر.

فكَّر منصور: معنى ذلك أنها النهاية. يدخل المستشفى ويظل بها أكثر من شهر، ثم يتركونه هكذا بدون شئ.. أمر محيِّر. لعل أم سماسم استشعرت خطرا فهرَّبته من هناك، أو ربما تركوه ليموت بين أهله-وضحك منصور-ولكن أى أهل؟ زكريا فرع مقطوع ستنتهى شجرته بموته. ومرت سحابة حزينة فى عينيه: أنتَ أيضا فرع مقطوع يا منصور. وأم سماسم أيضا.. لا، لا.. أم سماسم لديها ابنة، ولدى الابنة أولاد وبنات. أنتَ المقطوع يا منصور. وزلابية مقطوعة.. ما الذى حدث بالضبط؟ هل يمكن أن تنجب زلابية الآن، بعد الأربعين؟ لماذا لا؟ ممكن، كل شئ ممكن. ولكن لماذا لم تنجب بعد دفن الولد الرابع؟ هل يئستْ من الولادة والموت والدفن والحزن؟ أم أن العيب فيك أنتَ يا منصور؟

اكتشف منصور أنه لم يتحدث مع زلابية فى هذا الشأن بعد آخر حزن. انصرف عنها، تقوقع فى داخل نفسه، وقوقعته الخمر والفقر وضيق ذات اليد: كيف يمكن أن أنجب أولادا وأنا لا أستطيع إعالتهم؟ المجرم فقط هو الذى يجرؤ على مثل هذا الأمر.

يترك منصور ميدان الحسين فى اتجاهه نحو مدافن الدرَّاسة. يسير ساهما، ينظر إلى داخـل نفسه، يتطلَّع إلى الماضى فى حزن وهم وألم: إذا كانت أم سماسم قد طلبت نقودا من زلابية، فمعنى ذلك أن زكريا على وشك الرحيل. إذن لابد من شراء الكفن، وإقامة السرادق، أى سرادق ولو حتى فى مدفن أم سماسم حتى نقلل التكاليف. سيكون مدفنه هو نفس المدفن الذى يعيش فيه، والسرادق إلى جواره. لا داعى لعمل سرادق، سنضبط الراديو على محطة القرآن الكريم، وسنجلس قليلا. وكان الله بالسر عليم. ومع ذلك فلابد من نقود.. الله يلعنك يا ابن الكافرة.. كان من الممكن الآن أن تنفعنا هذه النقود..

بشير يبحث فى ميدان الحسين عن مكان ملائم. ولكنه يتركه بعد أن يرى الوجوه الغريبة الكثيرة التى تجوب المكان بشكل مستمر لا ينقطع. قال: طالما هنا أجانب وسُيَّاح، وفلاحين وصعايده، فالمخبرون لن يفارقوا هذا المكان. واتجه إلى شارع الغورية، نحو الدرب الأحمر والباطنية لعله يستطيع العثور على زاوية ملائمة.

زكريا يرقد جثة هامدة تتردد أنفاسه ببطء وصعوبة. المقبرة غارقة فى العتمة والبرد، وأم سماسم تجلس متكوِّرة إلى جواره. دموعها تلمع فى الظلام بصمت وهدوء.

-مساء الخير، يا أم سماسم..

-منصور؟!!

-خير..ماذا حدث..

-زكريا بيموت، يا منصور-قالت أم سماسم هامسة، وهى تجذبه من يده إلى الخارج-لم يعد يرى أو يسمع. ربما يموت فى أية لحظة، لن يطلع عليه الصباح.

-والعمل؟

-ماذا بك، يا منصور؟ هل كنتَ فى أمريكا؟ ألا تفهم بالعربية؟ زكريا بيموت.. سندفنه هنا بهدوء. ولكن الكفن، يا منصور.. من أين لنا بالكفن؟ أنفقتُ كل ما معى طوال الشهرين الماضيين.

-لا يهمك، سأتصرَّف.

 

( 20 )

الناس فى هذه الأحياء يعرفون بعضهم البعض: بالأسماء والألقاب، وفى أسوأ الأحوال بالشكل. والمخبرون لا يسكنون مصر الجديدة وجاردن سيتى والزمالك-قال بشير: بعد أن تجوَّل طويلا فى الباطنية والدرب الأحمر والغورية. وقال: الأماكن المأمونة هى التى يتغيَّر فيها الناس، يسافرون، ويعودون، ويقضون مصالحهم. إذن لم يبق أمامك سوى العودة إلى محطة مصر، أو البحث عن مقابر قريبة، حيث يروح الناس ولا يعودون، وحيث يروح المودعون أيضا، ويعودون بين الحين والآخر، ثم تطول فترات الانقطاع بين الزيارات، وتطول، إلى أن ينسوا تماما…

منصور يسير فى طريق عودته مهرولا نحو شارع محمد عليّ. العرق يتصبب من جبينه رغم البرد. المساء يهجم بسرعة، والوقت لدى منصور أصبح الآن من ذهب: لابد من توفير مبلغ، أى مبلغ لشراء كفن، أى كفن والسلام. لابد من إكرام زكريا ودفنه دفنة تليق به. لن يقرضك أحد، يا منصور. الكل يعرفونك، وأنت مدين للجميع. لن يشفع لك موت زكريا. موتك نفسه لن يشفع لك. زلابية لن توافق على بيع أى شئ. ليس أمامك غير العمل. صندوقك هو الذى سينفعك فى هذه اللحظة. ولكن الوقـت ضيِّق، وإذا عثرت على زبونين أو ثلاثة سيكون كرم من عند الله. فهل ستكفى قروشهم القليلة لشراء كفن لزكريا؟

يسحب منصور الصندوق فى عجلة، وزلابية تقف على رأسه متعجبة:

-إلى أين يا رجل؟

-زكريا بيموت-قال منصور وهو يضع مسحوقا بنيا فى إحدى الزجاجات.

-وما شأن زكريا بالصندوق؟ هل ستسقيه الصبغة، أم ستدفنه فى الصندوق؟

-اذهبى عنى يا امرأة، سأعمل قليلا ربما رزقنى الله بكفنه-قال ذلك وهو يصب الماء فى الزجاجة.

-خذ يا منصور-خلعت زلابية من صدرها سلسلة ذهبية كان قد أهداها لها حينما ولدتْ له الابن الأول.

احمرَّ وجه منصور، وكادت الزجاجة تسقط من يده وهو يرجها. ولكنه تذكَّر أن السلسلة ليست ذهباً كما قال لها آنذاك: فما العمل الآن؟ يأخذها أم يرفضها؟

-لا، لا يمكن يا زلابية. هذه ذكرى. ذكرى عشرتنا وأيامنا الحلوة-قال منصور واندهش بشدة حينما أحس بتهدُّج صوته، وبتلك الأحاسيس التى تنتابه فجأة نحو زلابية، فكتم رعشة مفاجئة كادت تزلزل كيانه وتفضحه أمامها.

الذكرى.. العشرة.. الأيام الحلوة.. يااا..ه-قال منصور وهو يسير مهرولا-: كلنا مشدودون إلى ساقية واحدة، وبحبل واحد. مربوطون بسلسلة واحدة قوية لا تنقطع، ولن تنقطع.. زكريا.. وزلابية.. وأم سماسم.. وسماسم.. كلنا. ولكننى لم أكن أعرف أنك هكذا يا زلابية. سبحان مُغَيِّر الأحوال.. من حرامية فراخ وغسيل إلى ملاك طاهر.. 

.. ميدان الحسين ملئ الآن بالناس. ولكنهم لا يشغلون بالهم بتلميع أحذيتهم: لأن أغلبهم يسير حافيا، أو يستخدم مداسا من البلاستيك الرخيص. أما الذين يلبسون أحذية، فهم يستخدمونها كوسيلة انتقال رخيصة، وليس من أجل الأناقة. وإذا فكَّر أحدهم فى بطر وبذخ التلميع، فهو يدفع وكأنه يقطع من لحمه. حتى السُيَّاح الذين يلبسون الأحذية فى بلادهم، يخلعونها بمجرد المجئ إلى هنا ويلبسون الأحذية الكاوتش أو الصنادل البلاستيكية، ولم يبق فقط إلا أن يسيروا حفاة، على الأقل من أجل المشاركة الوجدانية، والإعلان عن التفهُّم والمشاطرة. المقهى فى المغربلين مثل المقهى فى الدرب الأحمـر.لا فائدة. ليس هناك إلا الذهاب إلى وسـط البلد: هناك الأساتذة والبهوات والبقشيش السخى. هناك يعرفون قيمة الحذاء اللامع. وقيمة الرجل الذى يلبس حذاء نظيفا. نساؤهم يحترمن ذلك، ويعتبرن أن شخصية الرجل فى حذائه. ونعم النساء ! …

بدأ منصور من كافيتريا " الأمريكين " على ناصية شارع سليمان باشا. راح يعمل بسرعة. انتقل من مكان إلى آخر حتى وصل إلى جروبى فى ميدان طلعت حرب. أحصى ما معه من نقود. لم تكن تكفى بعد. لمح بار " الكونكورد " من بعيد، تهللت أساريره: هنا سأعمل. السكارى لا يبخلون. دفع الباب بهدوء، ودخل. سار وبيده الفرشاة، رسم على وجهه ابتسامة ودودة مستعطفة. بدأ بمدير البار، ولكن الرجـل قال:

-ولكن ليس هنا. اجلس على الباب-وأصوات من هنا وهناك تنادى عليه.

أخذ منصور يعمل بنشاط وحيوية وهو يمنى نفسه بعائد سخى. وفجأة قال: أى عائد سخى والمحلات تغلق أبوابها. متى سأشترى الكفن. لا، لن ينفع ذلك. نهض، دخل إلى البار، اقترب من مرقس إسحاق وعلى يونس، أخذ أحذيتهما وأعطى كل منهما قطعة ورق ليريحا قدميهما عليها. خرج، ثم دخل ثانية فى هدوء، اقترب من مجموعة أخرى بعيدة نسبيا، أخذ أحذية شكرى طوبار وعماد صالح. لمحه مدير البار، فابتسم منصور:

-حالا، حالا.

تلاشى منصور فى لمح البصر من شارع سليمان باشا. استقل تاكسى وطار إلى ميدان العتبة  توقَّف على رأس شارع الموسكى. نزل مسرعا واتجه إلى سوق " الكانتو ". ولكن لم يكن هناك أحد. كل أغلق محله، أو لملم بضاعته وانصرف. لعن منصور سوق " الكانتو "، وسائق التاكسى، ونفسه، واليوم الأسود. لن يستطيع بيع هذه الأحذية قبل العاشرة من صباح الغد، ولن يتمكنوا من شراء الكفن قبل الحادية عشرة فى أسوأ الأحوال. ولكنه تساءل: لماذا انصرفوا اليوم هكذا مبكرا؟! عادة ما يسهرون حتى العاشرة. لم يعد أمامه سوى الدعاء لزكريا بطول العمر ولو ليوم واحد. وضحك فى نفسه: الحمد لله، الطقس شتاء ولن تتعفن الجثة إذا مات اليوم. وعموما فسنقوم نحن بغسله ودفنه ـ لا يهم.

عاد منصور متجها إلى الدرَّاسة فى بطء وحزن. لاحظ فى الطريق بعض التجمعات. وكلما اقترب من ميدان الحسين، زادت التجمعات، وصارت أكثر شراسة وضجة. لم يكن الأمر يعنيه من بعيـد أو قريب. كل ما يهمه الآن هو التصرف والإسراع فى إنهاء مهمته.

نظرت إليه أم سماسم فى عتاب وغضب:

-هل جننت، يا منصور؟ أين كنتَ طوال كل هذا الوقت؟

-كنتُ أدبر نقودا. هل..؟

-بعد خروجك مباشرة.

-وما العمل؟-سأل منصور وهو يقدم كل ما معه من نقود إلى أم سماسم.

-ستُصَلَّون عليه الفجر أنت وزوج سماسم وتدفنونه قبل طلوع الصباح. القبر جاهز، حفره زوج سماسم أثناء غيابك.

-والكفن؟

-سنكفِّنه بملاءة بيضاء من ملاءات سماسم الجديدة.

وتساءلتْ فجأة:

-ما هذه التجمعات التى تسير هناك؟

-لا أدرى.

-يقولون أن الحكومة سترفع أسعار العيش.

-إذن هى مظاهرات.

-أعرف أنها مظاهرات، ولكن هل سترفع الحكومة أسعار العيش؟

-ومن أين لى أن أعرف. هل أنا وزير العيش؟

ابتسمت أم سماسم رغما عنها، وقالت:

-لم تتغير يا منصور-وطفرت من عينها دمعة.

لم يعد منصور إلى البيت رغم أنه تذكَّر زلابية أكثر من مرة أثناء حديثه مع أم سماسم. انتابه قلق مفاجئ عليها: مظاهرات وهى وحدها بالبيت، هل لديها خبز أم لا؟ وقرر: سأشترى لها سلسلة ذهبية غدا، فزكريا لم يعد بحاجة إلى شئ. 

المظاهرات تستهوى بشير. يتنقل من تجمع إلى آخر وهو يفكر: البقاء فى هذه الأحياء خطر. سأعود إلى محطة مصر. ولكن ماذا يحدث، لماذا كل هذا الهرج والمرج؟

وفجأة عم السكون الشوارع. سكون مشوب بالتوتر والترقب والقلق. سكون يحسه بشير ويعرفه جيدا: يشبه سكون العنابر فى الليل قبل أن يهجم الأولاد الكبار على الصغار، مثل السكون الذى حدث عندما هاجمه المخبرون أسفل القاطرة، والسكون الذى قطعه صوت الرجل فى مرسى مطروح، علـى البحر، وهو يصيح على أولاده. سكون مرعب ينذر بالخطر.

انزوى بشير فى ركن معتم بأحد الأزقة الجانبية فى شارع الموسكى. وخلف عربة محملة بالبضائع وضع رأسه على حقيبة منصور واستغرق فى نوم طويل عميق لم يكن يقطعه سوى نبش القطط فى أكوام القمامة المتراكمة هنا وهناك.

 

( 21 )

فى حالات قليلة كانوا يبقون فى "الكونكورد" حتى الساعة الثامنة أو التاسعة صباحا. ولكنهم أضاعوا الليلة حتى منتصفها فى ضحك لم يضحكوا مثله فى حياتهم. ما فعله ماسح الأحذية أطار عقولهم فـى البداية، وأصاب البعض بلوثة حقيقية، لدرجة أن عماد صالح استخدم الموقف فى الهجوم على الطبقات الكادحة والفقراء بشكل عام. وقال:

-هؤلاء هم الفقراء، يسرقون وينهبون-اتجه نحو سمير منسى وشكرى طوبار، وأضاف-هذه هى البروليتاريا الكادحة، أولاد الكلب اللصوص.

رد عليه سمير ضاحكا:

-أنا أيضا فقدتُ حذائى. وأيضا شكرى طوبار. ولكن لا يجب أخذ الأمور بهذه الحساسية. ولا يجوز خلط البروليتاريا بشرائح البروليتاريا الطفيلية التى تصنعها ظروف أخرى غير التى تصنع البروليتاريا الحقيقية…

استمر الحديث حول هذا الموضوع إلى ما بعد منتصف الليل، ثم انقلب بفعل البيرة والدخان إلى ضحك لم يضحكوه من قبل حين اكتشفوا أنهم لن يستطيعوا العودة إلى بيوتهم قبل حلول الصباح، وقبل أن تفتح محلات الأحذية القريبة.

لم يكن الأمر يعنى أيا من عاملى البار مادام سيكون هناك بقشيش سخى. مدير البار أيضا، رغم تضرره من الموقف وفقدانه لحذائه، لم يكن يعانى نفس معاناة الرواد الدائمين: فهو يملك حذاء إضافيا فى مكتبه بالداخل.

المدير كان يعرف، من طول العشرة والخبرة، الأيام التى إما سيبقون فيها حتى الصباح، أو سيصلون فيها الليل بالنهار. كان يعرف ذلك من سياق الحديث ونوعية المناقشات، أو من الزعيق والسباب، أو من وجود ضيوف جدد، خاصة وإذا كانوا نساء: محليات أو أجنبيات. ولكن ما حدث اليوم أكد له أن الأمر سيستمر حتى طلوع الشمس.

فى الصباح لاحظ المدير أن هناك حركة غير عادية بالشوارع. الوجوه فى الخارج غريبة، ليست نفس الوجوه الصباحية التى تمر عليه يوميا. الحركة سريعة ومتوترة: فى مجموعات مختلفة الأعداد والأحجام-طلاب وموظفون وحرفيون، وبشر عاديون تماما. قال الرجل:

-يبدو أن هناك شيئا ما قد …

وضاع صوته بين كلمات شكرى الحماسية:

-القصيدة الشعرية هى ذات وموضوع فى نفس الوقت. فأنا أكتب القصيدة، وهذا هو الجانب الذاتى. ولكننى على استعداد للموت فى سبيل أن تصل هذه القصيدة إلى الناس، هنا يكمن الجانب الموضوعى فى الشعر …

-يبدو أن …

ومرة أخرى تضيع كلمات مدير البار حين يرد عليّ يونس على شكرى طوبار:

-فى أى زمن تعيشون؟ هل تتصورون أنكم فى القرون الوسطى؟ ليست هناك قصيدة شعر تصنع ثورة. أنتم تعرفون من يصنع الثورات.

يسأله شكرى فى لهفة مصطنعة:

-ومن هم؟!

تسلل المدير والعمال من البار وأغلقوا الباب الزجاجى بالمفتاح.

كان الدخان كثيفا، والكحول يعمل طوال الليل بهدوء، وإذا أضفنا السهر والإجهاد وتوتر أول الليل، سنكتشف ببساطة أن الموجودين الآن بالبار مجرد جثث لم يعد منها سوى ألسنة ثقيلة، وعيون نصف مفتوحة يحجبها الدخان، ويحجب عنها ما يجرى فى الشارع، حتى أن جملة شكرى طوبار الأخيرة، قبل أن يضع رأسه على الطاولة ويروح فى سبات عميق، قد تبخرت وكأنها لم تكن:

-سوف نُضَيِّع حياتنا كلها فى السؤال عمن يصنع الـ..

مال عماد صالح نحو سمير منسى متسائلا:

-ماذا قال؟

( 22 )

هب بشير من نومه على صوت ضجيج وفرقعات وانفجارات. تصور أنه يوم القيامة حين رأى الحرائق مشتعلة فى العربات المحملة بالبضائع، وزجاج الفترينات يتساقط وكأنما من تلقاء نفسه. ترك الحقيبة وطار من مكانه فى اتجاه ميدان العتبة، رأى جموعا غفيرة تسير، وهتافات عالية لم يكن يفهم منها شيئا.

سار بين الجموع وهو يشعر بدفء وأمان رغم وجود فرق الأمن المركزى التى تقف على أهبة الاستعداد. أخذته تيارات المظاهرات الجامحة فى طريقها بطول شارع 26 يوليو، ثم إلى شارع رمسيس، واتجهت نحو ميدان التحرير. وفى ميدان عبدالمنعم رياض كانت فرق الأمن المركزى تسد الطريق، بينما احتلت سياراتها الضخمة الميدان. سارت الجموع إلى لقاء الفرق المدججة بالسلاح. علت طقطقات خفيفة فى البداية، تراجعت مؤخرة المظاهرة بينما هجمت المقدمة، تحولت الطقطقات إلى أصوات طلقات رصاص حقيقية، تساقطت أجساد، وانحرفت أخرى إلى اليسار، نحو ميدان طلعت حرب. كان الجنود يحتلون الميدان، سياراتهم تحيط بالتمثال العالى. سارت الجموع المنفصلة تجاه الميدان، وفى نفس الوقت كانت هناك جموع أخرى تتقدم من الشوارع الستة المؤدية إليه. وجد بشير نفسه فى أحدها، لا يستطيـع التراجع، ولا يستطيع الانحراف يمينا أو يسارا. ترك جسده يسير بقوة الدفع نحو الميدان، فى اتجاه تمثال طلعت حرب. الجموع تهجم من كل الاتجاهات، والجنود يوجهون أسلحتهم. الجموع تكاد تطبق على صدر الميدان الملئ بالسيارات العسكرية والجنود المسلحين المستعدين لإطلاق الرصاص فى أية لحظة. وفجأة تهجم من الخلف مجموعات غفيرة من المخبرين والجنود فى ملابسهم المدنية، ينزلون بهراواتهم على الأجساد التى أججها حماس الهجوم والأمل فى اكتساح هذه البقعة السوداء التى تحتل صدر الميدان، تشتعل الحرائق فجأة، يتساقط زجاج الفترينات، تتناثر أجساد الناس فى رعب وهلع، تتفرق، تتشتت يمينا ويسارا. يشعر بشير فجأة بالبرد والخوف، يطير الرعب بجسده: فى أى اتجاه-لا يهم. كل ما يهمه الآن هو الإفلات ليس من جنود الأمن المركزى الذين يقفون كالتماثيل، وإنما من هؤلاء المخبرين الذين يضربون ويهشمون ويشعلون الحرائق، من تلك الوجوه القاسية والأيدى الغليظة التى لو أمسكت بـه لمزَّقته.

ومن بعيد يلمح بشير باباً زجاجياً مغلقاً ما يزال يطل منه بصيص ضوء خافت. اتجه نحوه، انطلق بكل ما تبقَّى لديه من قوة، دفعه بيده، بيديه، أخذ يركله بقدمه، يدفعه بجسده. ثم خارت قواه، فتوقَّف. نظر إلى الخلف فى رعب ويأس لمح أجسادا تركض كالأشباح، وأخرى تطاردها بهمة وتصميم. ألصق جسده بالباب الزجاجى معطيا ظهره للشارع والناس والمخبرين وطلقات الرصاص. دفن وجهه بقوة فى الزجاج: الدخان بالداخل كثيف، الأجساد متناثرة على المقاعد والطاولات كيفما اتفق، رؤوسها ملقاة أمامها على الطاولات والصدور.