تقرير عن السينما في بغداد بعد العام 2003

رسالة العراق

ميسون الباججي

وقد تكون عملية انتاج الافلام قد أصبحت أحد سبل طلابنا للبقاء على قيد الحياة، والوقوف عاطفياً وروحياً في وجه الدمار. ولذا انكبوا على العمل بحزم وحماس. فأجروا تحرياتهم وتحضيراتهم ليكونوا جاهزين للتصوير. وكنا نحن مترددين حائرين بين دفعهم إلى الشارع ليتفقدوا العالم من حولهم بالكاميرا من ناحية، وخوفنا على سلامتهم من ناحية أخرى. ثم ادركنا أن علينا أن نستمر وأن علينا أن نتعامل مع الوضع بمرونة، وأن نكون مستعدين للارتجال. وبناء على هذا اجتمعنا مع الطلاب لنناقش معهم العواقب الأمنية لتصوير القضايا الحساسة والسياسية التي كان بعضهم قد اختارها كموضوع للتصوير الميداني. وعليه قرر معظم الطلاب ترك بعض مواضيعهم والبدء في البحث عن قصص بديلة يمكن تنفيذها بأمان تحت الظروف الحالية. وفي النهاية كانت الأفلام التي انتجوها اكثر قرباً من أنفسهم، وذات طابع شخصي اكثر مما كان في تخططيهم، وكانت المواضيع أقرب لبيوتهم، ومعظم الأفلام في حاراتهم وبين أصدقائهم وعائلاتهم. لقد اتممنا التصوير كله في أكتوبر/ تشرين الأول 2005، وقررنا أن نقوم بالمونتاج في عمان، لأننا رأينا أن من مصلحة الطلاب الابتعاد عن بغداد قليلاً، لنخفف عنهم بعض المتاعب والضغط اليومي الذي كان يواجههم هناك. لم تتح لأحد منهم فرصة لمغادرة البلاد من قبل. لم يكن لدينا إلا القليل من المال و استخدمنا شقق أصدقائنا، وبعض مساحة مكتب لنقوم بتركيب أجهزة المونتاج وتجهيز عملنا. كنا نبدأ عملنا في الصباح، ولا نفرغ منه إلا في المساء. كان قاسم مقيما في شقة مع الشباب، وكنت أنا في شقة البنات. أحياناً كنا نخرج سوياً في المساء، وأحيانا أخرى كنا نعود إلى البيت بعد العمل في مجموعات منفصلة. وهناك، وأثناء العشاء، كنا نتبادل القصص والفكاهات و نناقش السياسة والعائلة والحب و الأفكار. ومع الوقت لمسنا أن الطلاب بدأوا يشعروا بارتياح وشعرنا بنمو فرصة انفتاحهم وانفتاح آفاق جديدة أمامهم. كان ذلك بالدرجة الأولى لأنهم -ولأول مرة في حياتهم- كانوا خارج بغداد، وبعيدين عن بيوتهم، لكن عملهم على أفلامهم كان له أثر كذلك. كافحوا لينفذوا أفكارهم، فتعلموا كيف يقوموا بهيكلة الفيلم، وواجهوا مشاكل تقنية، ودراماتيكية. وفي النهاية أصبحت الأفلام التي انتجوها شخصية الطابع و صادقة، لأنها كانت تحتوي على تناقدات، وازدواجية التجارب التي كانوا يعيشونها، والتي كانت المصدر المباشر لهذه الأفلام. كانت الأفلام بسيطة، وربما بدائية من الناحية التقنية، لكنها كانت تكشف عن المشاكل التي تواجه العراقيين في حياتهم اليومية، وتعكس اكتشافهم للمرونة التي يتطلبها الصمود.
فيلم "أيام بغداد" للمخرجة الشابة هبة باسم من كركوك كان أطول الأفلام، و مدته 35 دقيقة. وكان الفيلم عبارة عن مذكرات مرئية مؤثرة عن آخر أعوامها الدراسية في جامعة بغداد، وعن بحثها عن مكان للعيش وكيف تعاملت مع المشاكل العائلية، وبحثها عن العمل، ثم تخرجها ورؤيتها الخاصة للتغييرات السياسية الجارفة التي تجري في البلاد، وعن معاركها التي خرجت منها كامرأة حرة...لقد كشفت هبة للكاميرا عن حزنها وغضبها وحيرتها وأملها. وفي لحظة تقابلت فيها عينها مع عين العدسة غنت أغنية عراقية جميلة ومؤلمة في آن واحد...وكانت إحدى أكثر تفرعات الفيلم درامية، قصة قريبها علي الذي استهدف لأنه كان يعمل مترجما، فأصيب بجروح خطيرة، عندما التقط شاحنة هاتف محمول كانت ملغمة بمادة ال"تي أن تي" المتفجرة، تم القائها في حديقته... وتنتقل هبة من مكان إلى مكان في الفيلم، فتجد غرفة في بيت تستأجرها من سيدة، تعرض عليها فيما بعد أن ترافق رجلا مسنا لتستغله ماديا، ثم اضطرت عائلة هبة المتكونة من ثلاث أخوات، وأم، وأخ إلى مغادرة كركوك بعد أن ضاقت الحياة بهم كعائلة عربية في المدينة.
كانت عملية المونتاج محفوفة بالمشاكل التقنية، وخصوصاً لأن التصوير قد جرى بعدة كاميرات، وعدة مقاييس بحكم الضرورة، فأصبحت حياكة خيطان الدراما المختلفة في قصة واحدة مهمة حساسة. لكن في نهاية المطاف وجدنا هبة راضية نسبياً عن الفيلم، رغم إنها كانت تتأمله بعين ناقدة، واتضح أنها قد تعلمت الكثير. وتركت هبة عمان بعزم على الاستمرار في إخراج الأفلام، و نتمنى لها كل خير في مسيرتها هذه. لقد عُرض الفيلم في عدد من المهرجانات، وفاز بجائزة الأفق الجديد الفضية التي تُقدم في مهرجان الجزيرة الدولي للفيلم في الدوحة، كما فاز الفيلم بالجائزة الذهبية في مهرجان روتردام للفيلم العربي. وحالما عادت هبة إلى بغداد، عادت معها المشاكل: فقد جاءت صاحبة البيت الذي استأجرته مع عائلتها، برفقة رجال مسلحين، وطالبت العائلة بالرحيل. ورغم أنهم كانوا قد وقعوا على عقد معها، ورغم قيامهم بتسديد كل الفواتير في موعدها، وجدت صاحبة البيت زبائن آخرين مستعدين لدفع المزيد، الأمر الذي أفقدت عائلة هبة عقد الإيجار. لم يعد للعائلة ما يمكن اللجوء إليه، فلا الجهاز القضائي يعمل، ولا الحكومة، ولا قوى الأمن تساعدهم، فارغموا على البحث عن مكان آخر للعيش فيه. وفي وقت لاحق وجدت العائلة بيتاً آخر للإيجار، في حي عمالي في بغداد، غير أنه كان خاضعا لسيطرة ميليشيات إسلامية، وزعت منذ وقت قريب منشوراً على بيوت الحي محذرة فيه: لا يسمح للنساء من الآن فصاعدا أن يخرجن من بيوتهن دون حجاب، كما تمنع النساء من ارتداء البنطال والجينز، ولا يسمح لهن بقيادة السيارات، وإذا حدث أن تنقلت إمرأة بالسيارة عليها الجلوس في المقعد الخلفي حتى إن كان قائد السيارة أخاها أو أباها.