تقرير عن السينما في بغداد بعد العام 2003
رسالة العراق
في يونيو/ حزيران 2003 كنت جالسة في مقهى في رام الله، مع صديقي قاسم. وهو مخرج عراقي مثلي، عاش في لندن فترة طويلة. وكان قد أمضى عشر سنوات ذاهباً وإيابا من وإلى فلسطين، حيث كان يلقي دروساً مكثفة في الإخراج. وكان عدد من طلابنا السابقين قد بدأوا في العمل السينمائي، والآخر أسس شركات انتاج خاصة بهم ... فيما نحن كنا نحرك قهوتنا ونفكر في العراق. ثم بدأنا في البحث عما يمكن تقديمه، وما قد يستفيد منه العراقيون. في ذلك المساء، وبإلهام من تجاربنا في فلسطين، قررنا أن نؤسس مركز تدريب سينمائي مجاني في بغداد. كانت الفكرة أن نقدم برامج قصيرة للتدريب الأساسي في التصوير والصوتيات والإضاءة والمونتاج والأفلام التصويري واخراج القصص الصغيرة. كنا نخطط لنكون مؤسسة مستقلة تتلقى دعماً من المؤسسات الخيرية والنقابات والجهات الخاصة. مر وقت طويل على العراق، كان انتاج الأفلام فيه، دون الخضوع إلى التعاليم التي كانت تفرضها الحكومة بسيطرتها، أمراً مستحيلاً. وبسبب المقاطعة، كان العراق يعاني نقصاً في مواد الفيلم، وقطع غيار الكاميرات، ومختبرات التحميض، وكاميرات التصوير الجديدة نسبياً، والتكنولوجيا المعلوماتية بكل أشكالها. وحتى طلاب وأساتذة أكاديمية الفنون الجميلة، لم يكن لديهم فرصة كبيرة لانتاج الأفلام أو حتى للتعامل مع الكاميرا. 35 سنة من الديكتاتورية، وثلاثة حروب مدمرة، و ثلاثة عشر عاماً من العقوبات الأكثر شمولاً لكافة المجالات في التاريخ، واحتلال عسكري، وعنف سياسي رهيب، وجرائم فظيعة، ومستقبل غامض، ومخيف.. لقد تركوا العراقيين في حالة تروما وغيبوبة. لكن مقاومة هذه الأمور قد أصبح جزءاً من روح الصمود والمقاومة بما يشمل ذلك من الابداع الفني، والعمل الخلاق المواجه لما يمكن وصفه بتفكيك العالم. قررنا، قاسم وأنا، أن ننقل خبراتنا للشباب لنساعدهم في تحرير مواهبهم، وطاقاتهم الإبداعية، وذلك عبر تقديم تدريب مهني يمكنهم من نقل قصصهم إلى الشاشة، وهو أقل ما يمكن تقديمه. وجدنا منزلا في بغداد، فقمنا بترميم مواسيره، واشترينا له مولد طاقة كهربائية. ثم اقتنينا بعض الأثاث الرخيص و كاميرات الديفي، ثم بدأنا في أول تدريب لنا في مارس/آذار/ 2004، و كان التركيز خلال التدريب، الذي كان مدته شهراً، على قيادة الكاميرا، والصوت، والإضاءة. وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2004، بدأنا في التدريب على إخراج الأفلام التصويرية، وبدأ الطلاب في انتاج أفلام قصيرة بأنفسهم. رغم أن خطتنا كانت أن نستمر في التدريب لمدة عشرة أسابيع، إلا أن الوضع الذي كنا نعمل في ظله أصبح غامضا، وعنيفا وخطيرا. وكان على الطلاب أن يتسللوا عبر المدينة، أن يتخطوا الشوارع المسدودة والحواجز الأمنية، أن يتهربوا من الدبابات ويحتاطوا من الانفجارات. وفي بعض الأحيان فشل الطلاب في الوصول إلى الدروس، رغم محاولاتهم المستمرة، عبر أحد الطلاب عن هذا الوضع قائلاً: "هل من خيار آخر؟ أتريدوننا أن نبقى في البيت ونفقد الأمل تماماً؟ كلا. أقول دعائي في كل صباح قبل أن أخرج من البيت ليرضى الله عني، وأصر على التصالح مع والدَي قبل خروجي إذا كنا متشاجرين، وأتأكد من كون الأمور على ما يرام بيننا قبل مغادرتي للبيت. لا أدري إن كنت سأعود أم لا" و بينما كان التدريب مستمرا، تعرضت حياة بعض طلابنا للعنف بشكل مباشر، فتعرض بعض أقارب طالبين للخطف، وأصيب قريب أحد الطلاب بجروح خطيرة في انفجار، و قُتل عم أحد الطلاب في عملية انتحارية. وقد تكون عملية انتاج الافلام قد أصبحت أحد سبل طلابنا للبقاء على قيد الحياة، والوقوف عاطفياً وروحياً في وجه الدمار. ولذا انكبوا على العمل بحزم وحماس. فأجروا تحرياتهم وتحضيراتهم ليكونوا جاهزين للتصوير. وكنا نحن مترددين حائرين بين دفعهم إلى الشارع ليتفقدوا العالم من حولهم بالكاميرا من ناحية، وخوفنا على سلامتهم من ناحية أخرى. ثم ادركنا أن علينا أن نستمر وأن علينا أن نتعامل مع الوضع بمرونة، وأن نكون مستعدين للارتجال. وبناء على هذا اجتمعنا مع الطلاب لنناقش معهم العواقب الأمنية لتصوير القضايا الحساسة والسياسية التي كان بعضهم قد اختارها كموضوع للتصوير الميداني. وعليه قرر معظم الطلاب ترك بعض مواضيعهم والبدء في البحث عن قصص بديلة يمكن تنفيذها بأمان تحت الظروف الحالية. وفي النهاية كانت الأفلام التي انتجوها اكثر قرباً من أنفسهم، وذات طابع شخصي اكثر مما كان في تخططيهم، وكانت المواضيع أقرب لبيوتهم، ومعظم الأفلام في حاراتهم وبين أصدقائهم وعائلاتهم. لقد اتممنا التصوير كله في أكتوبر/ تشرين الأول 2005، وقررنا أن نقوم بالمونتاج في عمان، لأننا رأينا أن من مصلحة الطلاب الابتعاد عن بغداد قليلاً، لنخفف عنهم بعض المتاعب والضغط اليومي الذي كان يواجههم هناك. لم تتح لأحد منهم فرصة لمغادرة البلاد من قبل. لم يكن لدينا إلا القليل من المال و استخدمنا شقق أصدقائنا، وبعض مساحة مكتب لنقوم بتركيب أجهزة المونتاج وتجهيز عملنا. كنا نبدأ عملنا في الصباح، ولا نفرغ منه إلا في المساء. كان قاسم مقيما في شقة مع الشباب، وكنت أنا في شقة البنات. أحياناً كنا نخرج سوياً في المساء، وأحيانا أخرى كنا نعود إلى البيت بعد العمل في مجموعات منفصلة. وهناك، وأثناء العشاء، كنا نتبادل القصص والفكاهات و نناقش السياسة والعائلة والحب و الأفكار. ومع الوقت لمسنا أن الطلاب بدأوا يشعروا بارتياح وشعرنا بنمو فرصة انفتاحهم وانفتاح آفاق جديدة أمامهم. كان ذلك بالدرجة الأولى لأنهم -ولأول مرة في حياتهم- كانوا خارج بغداد، وبعيدين عن بيوتهم، لكن عملهم على أفلامهم كان له أثر كذلك. كافحوا لينفذوا أفكارهم، فتعلموا كيف يقوموا بهيكلة الفيلم، وواجهوا مشاكل تقنية، ودراماتيكية. وفي النهاية أصبحت الأفلام التي انتجوها شخصية الطابع و صادقة، لأنها كانت تحتوي على تناقدات، وازدواجية التجارب التي كانوا يعيشونها، والتي كانت المصدر المباشر لهذه الأفلام. كانت الأفلام بسيطة، وربما بدائية من الناحية التقنية، لكنها كانت تكشف عن المشاكل التي تواجه العراقيين في حياتهم اليومية، وتعكس اكتشافهم للمرونة التي يتطلبها الصمود. فيلم "أيام بغداد" للمخرجة الشابة هبة باسم من كركوك كان أطول الأفلام، و مدته 35 دقيقة. وكان الفيلم عبارة عن مذكرات مرئية مؤثرة عن آخر أعوامها الدراسية في جامعة بغداد، وعن بحثها عن مكان للعيش وكيف تعاملت مع المشاكل العائلية، وبحثها عن العمل، ثم تخرجها ورؤيتها الخاصة للتغييرات السياسية الجارفة التي تجري في البلاد، وعن معاركها التي خرجت منها كامرأة حرة...لقد كشفت هبة للكاميرا عن حزنها وغضبها وحيرتها وأملها. وفي لحظة تقابلت فيها عينها مع عين العدسة غنت أغنية عراقية جميلة ومؤلمة في آن واحد...وكانت إحدى أكثر تفرعات الفيلم درامية، قصة قريبها علي الذي استهدف لأنه كان يعمل مترجما، فأصيب بجروح خطيرة، عندما التقط شاحنة هاتف محمول كانت ملغمة بمادة ال"تي أن تي" المتفجرة، تم القائها في حديقته... وتنتقل هبة من مكان إلى مكان في الفيلم، فتجد غرفة في بيت تستأجرها من سيدة، تعرض عليها فيما بعد أن ترافق رجلا مسنا لتستغله ماديا، ثم اضطرت عائلة هبة المتكونة من ثلاث أخوات، وأم، وأخ إلى مغادرة كركوك بعد أن ضاقت الحياة بهم كعائلة عربية في المدينة. وتحدثت أخوات هبة عن امتعاضهن من اضطرارهن إلى ترك أصدقائهن في مدينتهن. ثم تجد هبة عملا، وهو مساعد مخرج في مسلسل تلفزيوني، ولكنها كانت منزعجة لأن أية فتاة تعمل في هذا المجال الذي يطغى عليه الطابع الذكوري يتصورونها فريسة سهلة. وفي النهاية، ورغم صعوبة العثور على مسكن، ورغم عدم تمكنها من الدراسة لانقطاع الكهرباء، تتخرج هبة من الجامعة. في لحظة تدفق عاطفي أمام الكاميرا تعترف هبة أن دراستها كانت "نعمة ونقمة في آن واحد"...وتحدث هبة الكاميرا عن الانتخابات المقبلة، وتصرح بأنها لن تقترع، وانها حتى لا تعرف أيا من المرشحين، لكنها تندم على هذا القرار فيما بعد. وعندما يحين وقت الاستفتاء ينشأ لديها أمل فتقرر أن تشارك، وتنهي فيلمها قائلة: " قد يكون لدينا فرصة، إذا سمح للاستفتاء أن يتم في أمان. أما إذا تم التشويش عليه باعمال عنف، فلن يبقى لنا إلا الدعاء للأموات الذين سوف يسقطون من بيننا" أما الآن، فعندما أشاهد الفيلم بعد مرور تسعة أشهر، تفتت البلد فيها، وانزلق في دوامة العنف المتفاقم، فإن مشاهدة هذه اللقطة الأخيرة من الفيلم قد تحولت إلى لحظة مؤثرة يصعب تحملها. لم تكن فكرة هبة الأولى أن تخرج فيلماً شخصياً بهذا الشكل، كانت فكرتها الأصلية هي التركيز على عائلة أحد الأطفال الذين قتلوا في أحد الانفجارات. وأمضت ساعات تسعى فيها لكسب ثقة العائلة، وجمع قصتهم. كان يهمها أن تعرف كيف يتعامل المرء مع هذا الألم، وكيف يمكنهم التغلب على هذا النوع من التروما. هذا سؤال وقضية جوهريان للغاية بالنسبة للعراق. كيف يمكن للمرء أن يتغلب على الشعور بالعجز والمعاناة التي مر بها، و كيف يمكن للمرء أن يخرج مستفيداً من تجربة هذه التراجيديا التي نعجزعن وصفها، وكيف يمكن تحويلها إلى قوة للحياة؟ ولكنها اكتشفت انها لن تتمكن من تنفيذ هذا الفيلم، لأن التصوير في تلك المنطقة أصبح في غاية الخطورة. فقررت عند ذاك أن تروي حكايتها. كانت هبة منفتحة وصادقة في فيلمها، وقد أثبتت شجاعتها الفائقة في التعبير عن مشاعرها وظنونها وغضبها أمام الجمهور، و خصوصاً كونها إمرأة. كانت عملية المونتاج محفوفة بالمشاكل التقنية، وخصوصاً لأن التصوير قد جرى بعدة كاميرات، وعدة مقاييس بحكم الضرورة، فأصبحت حياكة خيطان الدراما المختلفة في قصة واحدة مهمة حساسة. لكن في نهاية المطاف وجدنا هبة راضية نسبياً عن الفيلم، رغم إنها كانت تتأمله بعين ناقدة، واتضح أنها قد تعلمت الكثير. وتركت هبة عمان بعزم على الاستمرار في إخراج الأفلام، و نتمنى لها كل خير في مسيرتها هذه. لقد عُرض الفيلم في عدد من المهرجانات، وفاز بجائزة الأفق الجديد الفضية التي تُقدم في مهرجان الجزيرة الدولي للفيلم في الدوحة، كما فاز الفيلم بالجائزة الذهبية في مهرجان روتردام للفيلم العربي. وحالما عادت هبة إلى بغداد، عادت معها المشاكل: فقد جاءت صاحبة البيت الذي استأجرته مع عائلتها، برفقة رجال مسلحين، وطالبت العائلة بالرحيل. ورغم أنهم كانوا قد وقعوا على عقد معها، ورغم قيامهم بتسديد كل الفواتير في موعدها، وجدت صاحبة البيت زبائن آخرين مستعدين لدفع المزيد، الأمر الذي أفقدت عائلة هبة عقد الإيجار. لم يعد للعائلة ما يمكن اللجوء إليه، فلا الجهاز القضائي يعمل، ولا الحكومة، ولا قوى الأمن تساعدهم، فارغموا على البحث عن مكان آخر للعيش فيه. وفي وقت لاحق وجدت العائلة بيتاً آخر للإيجار، في حي عمالي في بغداد، غير أنه كان خاضعا لسيطرة ميليشيات إسلامية، وزعت منذ وقت قريب منشوراً على بيوت الحي محذرة فيه: لا يسمح للنساء من الآن فصاعدا أن يخرجن من بيوتهن دون حجاب، كما تمنع النساء من ارتداء البنطال والجينز، ولا يسمح لهن بقيادة السيارات، وإذا حدث أن تنقلت إمرأة بالسيارة عليها الجلوس في المقعد الخلفي حتى إن كان قائد السيارة أخاها أو أباها. في العراق، كثرت الحوادث التي تستهدف فيها المجموعات المسلحة المتطرفة النساء، فتعرضن للعنف أو حتى للقتل من قبلهم. وعلينا أن نتعامل مع هذه التهديدات بجدية. وبالنتيجة أصبحت هبة وأخواتها يرتدين الحجاب الذي لم يعتدن على ارتداءه من قبل، وصرن يحترن يومياً أمام المرآة فيما يمكن ارتداءه لضمان سلامتهن في الطريق إلى المدرسة والعمل. وفي هذه الأجواء وجدت هبة صعوبة في التفكير في تصوير الأفلام كامرأة. لا زلنا، قاسم وأنا، مشغولين بالتفكير في إيجاد طريقة لتستمر هبة وطلابنا الآخرون في تطوير أفكارهم و قدراتهم السينمائية. ورغم الصعوبات والمخاطر المرتبطة بالأمر، قد يبقى تحدي التمسك بالأمل هو المعنى الذي يجدر الاحتفاظ به. وهذه بالطبع قضية كل واحد منا في هذه اللحظة، وليست فقط قضية تخص طلابنا.