رسالة تونس
ندوة دولية حول النصّ وعتباته
والقيروان تكرّم سعيد يقطين
انعقدت بكلية الآداب بالقيروان ندوة دولية حول "النصّ وعتباته" أيام 6-7-8-9 مارس 2006 حضرها عدد كبير من النقّاد والباحثين العرب قدّمت خلالها أكثر من 55 مداخلة مدارها موضوع "العتبات" في حقول معرفية كثيرة الأدب، الحضارة، اللغة، الجغرافيا القديمة وأدب الرحلة، النقد والترجمة. ونذكر من المتدخّلين: د عبد الفتّاح الحجمري ود شعيب حَليفي ود عبد اللطيف محفوظ ود سعيد يقطين ود محمد وقيدي من المغرب خالد بو زياني وعبد الحق بلعابد الطاهر رواينية من الجزائر وعبد الله أبو هيف وحسن حميد من سوريا ورضا بن حميد ومحمد الخبو والأزهر الزناد والعادل خضر ولطفي الدبيش من تونس. وقد افتتحت الندوة يوم الثلاثاء 6 مارس بجلسة برئاسة د سعيد يقطين قدّم خلالها محمد الباردي مداخلة بعنوان: التصدير في روايات ابراهيم الكوني وقدم البشير الوسلاتي "عتبات النص في قصص يوسف إدريس بينما قدم عبد الفتاح الحجمري مداخلة بعنوان "المطالع والخواتم في الرواية: الأنواع والوظائف". تناقش جملة من القضايا النظرية المتصلة بمطالع النصوص وخواتمها بما هي عتبات مكوّنة لجزء من ماهية النص، ومحددة لأفق تلقيه وتأويله كذلك. ولا شكّ أن تناول تلك القضايا على الوجه المطلوب لا يمكن أن يتمّ دون تبيّن اختيار منهجي يكون مدخلا لازما لبحث وظائف وأنواع المطالع والخواتم النصية، علما أنّ هذا الاختيار المنهجي يتمثل نظرية للنص وللموازي النصي حدودها المفهومية هي مجال تفكير: بويطيقا النص الأدبي على الأقلّ من الناحية البلاغية والأسلوبية، أي من ناحية تشكّل المعنى والدلالة النصيتين. السرديات من خلال اهتمامها بالبعد السردي للمطالع والخواتم، أي علاقة الحكاية بمختلف الوحدات السردية بدءا من الجملة السردية الأولى، مرورا بالمتتالية الجملية والفقرات والمقاطع السردية. وينفتح هذا البعد السردي، كما نعلم، على خصوصية الصوت السردي والتقعيرات الفضائية والزمنية. التداولية لأنها تهتمّ بتحليل مختلف إجراءات التلفظ والتواصل الأدبي، من زاوية التلقي ودور القارئ. السميائيات حين تهتمّ بالعلاقات الميتا- لسانية والتبوغرافية لكلّ مسار حكائي. السوسيونقد أو السوسيوبوبيطيقا التي تمكّن من فهم إجراءات المرور من خارج النص إلى داخله، وكذا أسئلة الواقعي والتخييلي. يبدو الموضوع بهذه الصفة متسعا ومتشعبا، ويحتمل إمكانات متعددة في التناول والتصوّر. من هنا، يرتكز تحليل مطالع النصوص وخواتمها، في هذه المداخلة، على مساءلة بعض عناصر التأليف الروائي من ناحية التكوّن، والنظر إلى كيفية تركيبهما بحسب انتشار الحكاية. ولأن تركيب الخطاب من تركيب الحكاية، فإن مطالع النصوص وخواتمها ليست بنيات مجردة، ولكنها تحقق حكائي متصل بفضاء نصّي، تناصي، ومعمار نصي، أي متصل بمعجم وصورة. متى تنتهي بداية النص؟ ومتى تبتدئ نهاية النص؟ وقد استثمر الباحث بعض المعطيات النظرية المشار إليها للإجابة عن السؤال السالف، مستعينا في ذلك بجملة من النصوص الروائية العربية بغاية التمثيل والتحليل. أما الجلسة العلمية الثانية والتي ترأّسها فرحات الدريسي فقد تميّزت بمداخلة الأستاذ محمد وقيدي من المغرب حول "عتبات النص الفلسفي" ومداخلة محمد طاع الله حول الاستشراق حيث حاول الردّ على ما ورد في الترجمة العربية لدائرة المعارف الإسلامية. أما الجلسة العلمية الثالثة فقد عادت بالندوة إلى الرواية، بعد مداخلة لفرحات الدريسي حول منزلة "المقدمة" ووظائفها في انتاج المعرفة، حيث قدّم الأستاذ محمد الخبو قراءة في غلاف رواية تباريح الوقائع والجنون لإدوار خرّاط، انطلق محمد الخبو في مداخلته التي من عادات القراءة الخاطئة والتي تعبر الغلاف إلى متن الكتاب، دون أن تتوقف عند لوحة الغلاف وعتبات الكتاب" فغالبا ما يقتحم القارئ الرواية بعد أن يقرأ عنوانها، فلا يهتم بما رسم على الغلاف من رسوم قد تكون من وضع المؤلّف أو من تشكيل أحد الرسّامين" ويرجع ذلك الباحث إلى عادات القارئ الذي ينوي انجاز فعل القراءة من خلال ما هو مكتوب متتابع. لذلك يفترض الخبو أن مداخلته ستكون غريبة لأنها ستعنى بلوحة الغلاف وعلاقتها بالسرد. وأنهى د محمد الخبو مداخلته قائلا: "إن تركيب اللوحة على غلاف الرواية الخرّاطية "تباريح الوقائع والجنون" تركيب ذو بعد إيحائي انعكس على النص الذي تعدّد فيه أصداء هذا الغلاف تصريحا وتلميحا وتركيبا للأحداث ورواية لها، سردا ووصقا: فإذا النص تشتّت وتركيب، أجزاء وأشكال كلّية في علاقة دائمة وفي متنه يتمكن النص ولكنه لا يفقد زمنيته التي تصبح زمنية تستنبط استنباطا ولا توجد من وجه النصّ في نطاق ما يسمّى بالشكل المكاني". والحق أن هذا المبحث كان قد طرحه جينيت في كتابه "عتبات" وتناوله بالدرس عدد من الإنشائيين في أكثر من مستوى ولكنه بقي مثار جدل، ويبدو أن مداخلة الخبو تكتسب مشروعيتها أساسا من أن لوحة الغلاف التي كانت من وضع ادوار الخراط/ المؤلف إلى جانب صلتها بالنص السردي الذي اجتهد محمد الخبو في تحليله وفق علاقته بلوحة الغلاف. وهو ما رآه البعض غائبا في طرح آمال النخيلي التي قدّمت قراءة في عتبات رواية "قصة حب مجوسية" لعبد الرحمان منيف وتوقّفت عند لوحة الغلاف أيضا والتي كانت من وضع الناشر ودار جدل كبير في النقاش حول جدوى الاهتمام بالأغلفة واللوحات إذا ما كانت هذه الأغلفة غير ثابتة وهذه اللوحات ليست من وضع الكاتب وكان قد أشعل فتيل هذا النقاش د عبد الفتاح الحجمري عندما سأل آمال النخيلي سؤاله المفخّخ :"ماذا لو تغيّرت لوحة الغلاف في طبعة أخرى ؟هل ستتغيّر المداخلة؟ وأجابت الباحثة بنعم! وهذا يعني أن الباحثة ستضطر إلى كتابة قراءة مختلفة لكل طبعة من الرواية انطلاقا من لوحة غلافها المتحرّكة. و تواصلت الندوة في يومها الأول بمجموعة من المداخلات في البحوث الحضارية واللغة واللسانيات والنقد القديم قبل ان تحط الرحال بجلسة نموذجية ترأسها الأستاذ الأزهر الزناد وقدم خلالها شعيب حليفي من المغرب مداخلة متميّزة بعنوان "فاعلية التخييل في البداية السردية "و يعتبر شعيب حليفي من المختصّين في هذا المبحث إلى جانب عبد الفتاح الحجمري وسعيد يقطين فقد سبق وأن ألّفا في الموضوع العديد من البحوث وأصدرا عددا من المؤلفات فيه. قسّم شعيب حليفي موضوعه إلى مدخل ومحورين: في المدخل عالج الباحث الجملة البداية وعلاقتها بتشكيل النص والتأويل .. كما تحدث عن الارتباط التفاعلي بين النص والبداية مما يجعل أية مقاربة تغيب النص أثناء الحديث عن عتباته تصبح ضربا من الدجل النقدي؟ وتطرق في المحور الأول إلى ثلاثة مستويات.ربط في المستوى الأول بين النص والتخييل والجنس الأدبي ثم بالأفق الذي تحدده الكتابة.. وحلل في هذا السياق رواية محمد برادة (مثل صيف لن يتكرر) متوقفا عند التذكر واللغة والتكرار (انطلاقا من مفهوم ادوارد سعيد في بدايات). المستوى الثاني اهتم بعلاقة البداية بالإدراك وبالتأويل محللا رواية (جسر بنات يعقوب) لحسن حميد وبداياتها الراسمة لإدراك يساهم في تحقق تآويل جديدة. كما اختبر الباحث هذا المستوى في رواية (خطبة الوداع) لعبد الحي مودن وفي رواية إبراهيم نصر الله (شرفة الهذيان). المستوى الثالث حول البداية الروائية والتنوع متوقفا فيه عند أعمال الروائيين عبد الجبار العش وعزت القمحاوي ومصطفى الكيلاني وكيف أن بدايات نصوصهم السردية تنطلق من التذكر والمعرفة والوعي بالكتابة. المحور الثاني من ورقة شعيب حليفي جاء في التحليل وقد قسمه إلى جزء أول اختبر فيه البداية في السرد القديم من خلال نموذجين وهما اللوح الأول من ملحمة جلجامش وحكاية طسم وجديس كما وردت في التاليف الأدبية والتاريخية للخلوص إلى ملاحظات أولية ـ نسبية وقابلة للمساءلة ـ حول تلك البدايات، أهمها أنها تختزن تقييمات صريحة وضمنية وهو أمر ناتج من تأثير الثقافة الفقهية والتاريخية. أما الجزء الثاني فقد خص به رواية (في مكتبي جثة) لفرج الحوار.. وبعد تحليله لثلاث عتبات تفتتح الرواية (الإهداء والتمهيد ثم الجملة البداية) خلص أن العتبات جاءت لبناء الأفق التخييلي عبر ثلاثة أشكال من النفي: نفي المأزق في الإهداء، ونفي التهمة في التمهيد، ونفي الاعتقاد في البداية الروائية. ثم ربط الباحث بين هذه الآفاق وفاعلية التخييل في الرواية. و قدّم بعد ذلك الأستاذ رضا بن حميد، والذي سهر على تنظيم هذه الندوة، مداخلة بعنوان "عتبات النص قي رواية جمر وماء" وتميّزت مداخلته بالجدية والشاعرية في آن ثم اختتمت الجلسة بمداخلة الأستاذ عبد اللطيف محفوظ من المغرب بقراءة سيميائية في عناوين مجموعات قصصية مغربية هي: ترانت سيس للمرحومة مليكة مستظرف وتفاح الظل لياسين عدنان وسوء الظن لعمر والقاضي ... حملت المداخلة من العناوين: "إستراتيجية تمثيل وتمثل العنوان" (دراسة سيميائية في القصة القصيرة المغربية) وقد اتخذت السيميائيات البورسية مرجعية لها، فقد انطلقت من وضع تساؤلات حول وظيفة العنوان وحول العلاقة بين النظر إليه بإطلاق والنظر إليه بوصفه مرتبطا بجنس أدبي محدد وبحقبة زمنية محددة. لينتقل بعد ذلك إلى دراسة علاقة العنوان بالنص انطلاقا من ثلاثة محاور أساسية: تحديد شكل تمثيل العناوين للنصوص التي تؤشر عليها، انطلاقا من اعتبارها نصوصا مصغرة، تدل على عوالم دلالية ممكنة، ذات علاقة من جهة بالموسوعة الثقافية، ومن جهة بالنصوص التي تؤشر عليها. تحديد شكل العلاقة الرابطة بين مضامين النصوص ومضامين عناوينها، مع التركيز على محاولة ضبط أنواع تلك العلاقات بين كونها أيقونية أو تأشيرية أو إشارية. البحث في أشكال تمثل القصاصين المغاربة للعنوان، وذلك انطلاقا من توظيف نتائج المحورين السابقين في دراسة العلاقات المضمرة والجلية بين مضامين نصوصهم وعناوينها. أما اليوم الثاني فقد تميّز بمداخلات كل من الأستاذ سعيد يقطين من المغرب الذي قدّم محاضرة عميقة بعنوان" كيف يتحوّل المناص إلى نصّ: حول العتبات النصّية في الأمثولة العربية" وجاء في مداخلته: " يتوفر لبعض النصوص، على خلاف بعضها الآخر، عدد كبير من العتبات أو المناصات. ويمكن تقديم كتاب كليلة ودمنة مثالا لذلك . فهو تتصدره خمس مناصات خارجية لأنها ذات طابع فيلولوجي وتاريخي . ومناص واحد داخلي ذو بعد نقدي هو عرض عبد الله بن المقفع للكتاب الذي عمل على ترجمته إلى العربية. إن مناص ابن المقفع ذو طبيعة خاصة لأنه يؤسس لنوع محدد هو الأمثولة، كما أنه يحدد أسلوب هذا النوع وطريقة حكيه بناء على تفاعله مع نص كليلة ودمنة . كما أنه يجعله منفتحا على طبقات قرائية متعددة، ويجعل أغراضه ومقاصده متعددة . لكل هذه الاعتبارات لم يبق هذا المناص فقط عتبة لكتاب كليلة ودمنة، ولكنه تحول إلى نص نموذجي اقتفى أثره كل من صنف أو ألف في الأمثولة العربية من النمر والثعلب لسهل بن هارون إلى فاكهة الخلفاء لابن عربشاه. يبدو لنا ذلك في مناصات الكتب من جهة، وفي طريقة عرضها وأسلوبها السردي، وفي تعدد أبعادها ومراميها التي يختلط فيها جميعا الهزل بالجد، وتمتزج الحكمة باللهو . وما كان لمناص ابن المقفع أن يتحول إلى نص لولا تدشينه لنمط جديد من كتابة عرضه للكتاب الذي حاول من خلاله أن يقدم رؤية شاملة ودقيقة لكتاب كليلة ودمنة ." بينما تحسّس خالد بو زياني من الجزائر موضوع العتبات من خلال دراسة سيميائية لرواية "فوضى الحواس" لأحلام مستغانمي وقدمت بعد ذلك وناسة الصحراوي قراءة في عتبات آخر مؤلفات محمود درويش "في حضرة الغياب" وركّزت بالأساس على عبارة نص التي وسم بها درويش كتابه في ما يشبه التمرّد على أجناسية الأثر. وحاولت الباحثة تقليب الأمر بالمساءلة والتحليل في مداخلة مكثّفة حملت عنوان "كيف تكون تجربة الشاعر عتبة نصّية؟" تقول الباحثة: "اللافت للانتباه في عنوان هذا النص عبارة "نص" في فضاء فرعي يشغل عادة وظيفة تحديد الكاتب جنس ما قد كتبه "قصة ـ رواية" لكن الشاعر اختار في هذا المقام أن يصف كتابه ب"نص"، فتستوقفنا هذه العبارة "نص" لنطرح أسئلة في شأن طبيعة الكتابة في هذا النص "في حضرة الغياب". فتقودنا إلى اكتشاف النص فنجده نصّا معقّدا رغم إيهام الكاتب بوضوحه بنية ومضمونا. إنه سرد يحاول استرداد كل ضائع قد عبث به الواقع :الموطن ـ الوطن ـ الذوات والأشياء الحميمة ـ الأحداث الكبيرة والصغيرة ـ ... الحب والجسد في تعالق معقّد ـ تجربة الموت في عمليتين جراحيتين قد أجريتا على الشاعر حقيقة لا خيالا". ولكنه وهو يسرد يتورّط في لعبة التصوير فتكون الاستعارة بالمرصاد. وهذا ما نبّهنا إلى حضور خطاب آخر لطيف مع حديث الشاعر وسرده، هو خطاب كتابة واصفة أو "ميتا خطاب" يسائل آليات الكتابة مساءلة استعارية فيصور لعب الطفل يريد استرداده كي يستمرّ خيال الطفل ولكنه في الحقيقة وهو يكتب هذا "النص" يمارس درويش لعبا فنّيا فيسرد طفولة الشاعر لاعبا بالكلمات عن طريق الكتابة " وتخلص الباحثة إلى أن هذا النص يمثّل عتبة إلى تأمل تجربة الكاتب وتجربة الكتابة وأسرارها. في الجلسة العلمية السابعة قدّم الباحث عبد الحق بلعابد من الجزائر بحثا حول "المناص بين التناول والتداول" .يتنزل بحثه في تتبع حركية مصطلح المناص (paratexte) في كتاب "عتبات" لجيرار جينيت، وعند المشتغلين عليه من الغربيين بخاصة، في أبحاثهم ومؤلفاتهم، إلا أن نقطة ارتكازنا كانت على الكتاب المفتاح وهو عتبات، فبحث عن المسالك التي سلكها جينيت للخروج من شعريات النص إلى شعريات المناص، وماهي التمظهرات التي عرفها قبل وبعد ظهور كتاب عتبات، وعليه فسنتتبع هذا المصطلح : قبل كتاب عتبات لجينيت وفي كتاب عتبات نفسه، وكيف استقر كمصطلح مستقل داخل الجهاز المفاهيمي، والمشروع الشعري لجينيت. ماهي الأفاق البحثية التي فتحها كتاب عتبات بعد صدوره. ليكشف عن الفتوحات المعرفية والتحليلية التي جاء بها الكتاب للمشتغلين على خطاب العتبات،التي أصبحت تقارب في الكثير من المجالات المعرفية بدء بالنص الأدبي مرورا بالنص البصري، وانتهاء بالنص الرقمي. بهذا نصل إلى وضع وتاريخ مؤجل/ مؤقت للعتبات التي تعي باختلافيتها كنص مؤجل دائما.. وقدّم الروائي الفلسطيني حسن حميد شهادة روائية بعنوان "عتباتي" تحدّث فيها عن الكتابة بوصفها تداخل وتواشج مع تجارب الآخرين وورد في المداخلة: "ما من أحد يكتب بمفرده وما من مكتوب لم تخالطه أحبار الآخرين أو أنفاسهم. لا روح صافية للمؤلّف، أو المؤلّف" ووصف الكاتب بالرّوح التي "تشكّلت من أرواح عديدة، ونار صارت باجتماع نيران عديدة، وقبضة يد فيها أصابع عديدة." وأكّد حسن حميد في شهادته على اجتماعية الكاتب واجتماعية المكتوب الذي رآه أشبه ما يكون باجتماع الطيور في تحليقها "فقد تحسبها العين منظومة في خيط واحد....أو دائرة واحدة، أو خط واحد... لكن من يعرف اجتماع طيور القطا يعرف أن الحذر هو خيطها الجامع لها.." وورد في الشهادة قول حميد: "ما أكثر عتبات نصوصي، وما أكثر الذين اجتمعوا عليّ، وفيّ، وحولي .. وأنا أكتب نصوصي، وما أكثر الأنفاس والأحبار، والدروب، والأرواح التي ليست لي... و قد شاعت وتبدت في نصوصي ... أبدا لا أدّعي أنني أكتب بمفردي. وإن كان الباب مغلقا علي، كما لا أدّعي أن نصّي هو إيقاعي بمفردي ... إطلاقا .. حين أكتب أشعر بآلاف الأيدي تكتب معي، وأن طلاقة ريشتي آتية من انهمار حبر الآخرين فيها" ويذهب حسن حميد بالتناص والتفاعل بعيدا فأحاسيس الكاتب أيضا يمكن أن تخالطها أحاسيس الكتاب الآخرين، يقول" إن الحزن الذي يلفّ أسطري ليس حزني وحدي، وأن النهايات الخواتيم التي أوجدتها لم تكن صبغة روحي وحدي وإنما هي صبغة أرواح كثيرة عديدة". وانتقل بعد ذلك حسن حميد إلى الحديث عن متن رواياته وكتاباته عامة ليتنقل من الإجابة عن سؤال كيف يكتب النصّ إلى الإجابة عن سؤال ماذا قال ؟ ولماذا ؟ فاخذ هذا الجزء من الشهادة طابع السرد السير ذاتي عاد فيه حسن حميد بالذاكرة إلى سنوات الطفولة الأولى وفضاءات المخيّم وعذابات الترحيل . في الجلسة المسائية قدّم الأستاذ العادل خضر بحثا بعنوان: "نسيان الاسم ... شوق المسمّى، أو الجاحظ واللعب بالأختام" وقد اختار الباحث من العتبات عتبة "اسم المؤلّف" واعتنى في هذه العتبة باسم الجاحظ بوصفه أحد المؤلفين القدامى الذين جعلوا من أسمائهم لعبة،سمّاها الباحث "لعبة الأختام" وقد انطلق من نصّ قصير: "وحدثت أن الجاحظ قال: نسيت كنيتي ثلاثة أيام،حتّى أتيت أهلي، فقلت لهم: بم أكنّى؟ فقالوا بأبي عثمان." بيّن الباحث أن ما نسيه الجاحظ ليس الاسم وإنّما اسم الاسم أو اسم الكنية أو الدّال الذي يمثّل الاسم. فالجاحظ يذكر أن له كنية، ولكن كبت ونسي هو اسم الكنية. وعلى عمل النسيان كان مدار القسم الأوّل من العمل بوصفه عملا نفسانيا لا شعوريا.كان فيه شوق الجاحظ يتمثّل في يَنسى بأن ينسى اسمه،و مشهد النسيان هذا قد كرّر عمل النسيان النفسي اللاّواعي بطريقة واعية في مشهد الكتاب وفي لعبة هي لعبة الأختام فالختم هو الإمضاء أو التوقيع والذي يضعه المؤلّف على الطين أو الختان الذي يغطّي الكتاب. هذا الموضع لم يضع فيه الجاحظ اسم اسمه وإنما امتنع من ذكر اسمه منشئا بذلك الامتناع وضعية طريفة هي وضعية اللقاطة،إذ أصبح النصّ لقيطا مجهول الأب لأن المؤلّف لم يهب لنصّه اسمه فاللّقيط هو الذي لا يعرف اسم أبيه ومن خلال هذا الوضع الطريف ابتدع الجاحظ لعبة سمّاها الناقد "لعبة الأختام"فكان يضع في موضع اسمه أسماء من سبقه من المؤلفين بالخليل ابن احمد وابن المقفع ... وسمّى الناقد هذه اللعبة "فنّ اللعب مع الأموات" لأنّ الجاحظ كان يمضي بأسماء الموتى فكأنّه يحييهم في شكل كتاب واحيانا كان الجاحظ يترك موضع الاسم دون توقيع فيخرج الكتاب دون اسم "مبهما غفلا".و في الكتب التي لا يَعرف وضّاعها. وقد سمّاه الباحث العادل خضر الاسم الغفل أو فن الإبهام ثم عرض لعبة ثالثة سمّاها"آباء القصيدة أو فنّ التبغيل" وفي هذا الفنّ كان الجاحظ يضع كل الأسماء التي تبتدأ باسم كنيته"أبو عثمان" ويذكر سلسلة من الأسماء من ضمنها اسمه"أو عثمان" فلا يعرف مؤلّف هذه القصيدة. وبهذه الطرق الثلاثة يمتنع الجاحظ عن ذكر اسمه امتناعا يؤسس فنّ اللقاطة أو لعبة الأختام التي تنتهي في كتاب الحيوان وتحديدا في مقدمته التي اعتبرها البعض فهرست كتبه ففي المقدمة يعترف الجاحظ بكل الكتب التي ألّفها ذاكرا عناوينها معترفا بنسبتها إليه وبهذا تنتهي اللعبة ويتمكّن المؤلّف من التمتّع باسمه وبكتابه معا. تكريم سعيد يقطين وشهدت القيروان ليلة الخميس 8 مارس تكريما للأستاذ سعيد يقطين على جهوده الكبيرة في الرقي بالنقد العربي وبمناسبة اختتام نشاطه كأستاذ زائر بكلية الآداب بالقيروان، وألقى الأستاذ رضا بن حميد كلمة مؤثّرة أشاد فيها بالدكتور سعيد يقطين وبجهوده ومساهمته البارزة في تشكيل رؤية نقدية عربية متفتّحة وأصيلة كما أثنى على سعيد يقطين الإنسان ثم اخذ الكلمة الأستاذ سعيد يقطين ليؤكّد على أن القسم الإنسانية والتعاون المغاربي والعربي في مجال العلوم والآداب وأطال الحديث حول ضرورة حماية المشرق فينا ورعاية الطفل الذي يسكننا لأنه الضامن الوحيد لصلاحنا وجمال كهولتنا وشيخوختنا .... و تداول الكلمة بعد ذلك عدد من الحضور من المشرق والمغرب تأكيدا لنجاح هذه الندوة على مستوى علمي وحميميتها الكبيرة حيث كانت تبدأ من الصباح الباكر وتتواصل حتى ساعة متأخرة من المساء بنقاشات جادة تتحوّل في كثير من الأحيان إلى مداخلات على المداخلات . واختتمت الندوة مساء الجمعة 9 مارس بعد أن شهدت حوالي 14 جلسة ألقي معظم مداخلاتها بالعربية وبعضها بالفرنسية،و رغم تفاوت المداخلات من حيث القيمة العلمية التي تقدّمها فإنّ الحضور أجمع على نبل المبادرة التي جمّعت أجيالا مختلفة من الباحثين العرب بعضهم كان ملتزما بموضوع الندوة وملمّا بقضية المصطلح [عتبات] وبعضهم قام بعملية لي عنق لأطروحته الجامعية أو لبحوثه المنجزة ليقحمها إقحاما في دائرة الندوة فبان أمره مكشوفا لكل مطّلع وأحسب أن إدارة الندوة ستسهر على "غربلة" هذه المداخلات ساعة تجهّزها للنشر.