هل تصبح أبوظبي عاصمة الثقافة في الخليج؟ سفح مليارات الدولارات من أجل "حوار الحضارات"
رسالة الخليج
بقدر كبير من البهرجة الإعلامية وبعناوين احتلّت واجهات الصحف الإماراتية، تم الإعلان عن إقامة فرع لمتحف "اللوفر" الفرنسي الأشهر والأعرق في فرنسا والعالم في إمارة أبوظبي. وعلى الرغم من النبرة العالية التي طغت على آلية الإعلان عن الخبر على نحو وشى بانتصار ما بعده انتصار إلا أن "المواطن" رجل الشارع العادي في أبوظبي، و"الوافد" المشغول في تتبع تقلّبات سوق الأسهم، غير الآمنة، وقوانين الإقامة، التي قد تسفر عن "انقلاب أبيض" محتمل بين عشية وضحاها مع تواتر الاجتهادات التي تبحث في سبل تقليص العمالة الوافدة وارتفاع الأصوات المتدثرة بدثار "الوطنية" مطالبة بقطع الطريق أمام أي اقتراح بتوطين العمالة شبه الخالدة، وبلوغ الغلاء المعيشي مستويات قياسيّة لم يتوقفا كثيراً أمام هذا الحدث الثقافي العظيم، الذي لا سابق له خليجياً وعربياً، في مجتمع يقسمه خطّ تعسفي إلى شقين: مجتمع استهلاكي مريح بالمطلق ومعسكر عمل استنزافي مرهق بالمطلق. وكانت "الصفقة الثقافية" المكلفة لإقامة "لوفر أبوظبي"، التي تشبه ظروفها المستبطنة وملابساتها المثيرة للجدل صفقات السلاح، قد كشف النقاب عنها في السادس من مارس الماضي، مع إعلان تفاصيل الاتفاق الذي تم بين حكومتي أبوظبي وفرنسا ضمن جمل شعرية "مصطلحيّة" رنانة ذات طابع "بروباغاندي" إنشائي من نوع: "سعي أبوظبي إلى تبوّء موقعها الريادي كمركز للثقافة في المنطقة وتحولها إلى مركز إشعاع حضاري وتنويري زاخر بالتنوع والتعدد الثقافي والمعرفي"، و"سعي فرنسا"، كما جاء على لسان وزير ثقافتها رينو دونديو دوفابر من خلال إقامة المتحف إلى المساهمة "في تعزيز الحوار الحضاري بين الشرق والغرب." أما كلفة هذا الحوار الحضاري الخلاق، الذي سيذيب العديد من المرارات قطعاً بين الشرق والغرب، ويطفئ فتيل الصراعات المشتعلة في بقع العالم الإسلامي الساخنة، فيبلغ 525 مليون دولار أميركي (400 يورو)، تدفعها أبوظبي لاستغلال اسم "اللوفر" مدة ثلاثين عاماً، بالإضافة إلى 747 مليون دولار أخرى لقاء خدمات استشارية وتدريبيّة وتقنية يوفرها الفرنسيون الضليعون بإرثهم "اللوفري"، والإرث الفرنسي العريق في هذا الإطار، لتدريب الكوادر المحلية على التعاطي مع جانب مستجد في الثقافة، لا عهد للإمارة حديثة التأسيس بها، خاصة وأنها، كما بقية إمارات الدولة، لا تملك إرثاً فنياً، ناهيك عن غياب حركة تشكيلية ذات وزن، خارج إطار الطفرات، على مستوى منطقة الخليج عموماً، (لتتخطى قيمة الصفقة بذلك 1.3 مليار دولار دون أن تشمل كلفة بناء المتحف الذي ستتكبده حكومة أبوظبي ودون أن تغطي الصفقة كذلك كلفة اقتناء المتحف مجموعته الخاصة من الأعمال الفنية)، وهو ما يعنى أن ثمة ملايين أخرى، إن لم تكن مليارات، ستُسفح في سبيل إثراء الحوار الحضاري المنتظر. بموجب الاتفاقية المعلنة، يقوم "لوفر باريس" بتعيين العاملين وإدارة المتحف، كما يستضيف "لوفر أبوظبي" العديد من المجموعات الفنية على شكل إعارات لفترات طويلة الأجل من متحف اللوفر ومتاحف فرنسية أخرى مثل "مركز جورج بومبيدو" ومتحف "دورسيه" و"فيرساي" و"رودان"، على أن يبني المتحف الجديد، بفضل الخبرات الفرنسية "المشتراة"، مجموعته الخاصة، مع تأكيد أبوظبي، على لسان القائمين على المشروع، بأن "لا قيود على نوع الفن المعروض"، وهو ما يعنى أن حفنة المتذوقين للفن في أبوظبي سيتاح لهم التملي في تأويلات الميثولوجيا الإغريقية للآلهة والخلق، والتمعن في "تضاريس" فينوس العارية قبل توقع ابتسامة "الموناليزا"، التي قد تثير الضجر بموازاة الحيرة، جراء عدم الفهم! على أن غياب أي مظاهر احتفائية في أبوظبي على مستوى ثقافي أو شعبي باستقبال اللوفر، الذي يتوقع أن يفتتح في العام 2012، وسلبية المواطن جنباً إلى جنب مع الوافد في تقليب الخبر على جوانبه وإعادة تدوير معطياته لجهة دوره في خلق حالة ثقافية مستجدة، وتعاطي الناس مع الحدث، بوصفه من جملة "المشاريع السياحية" الكثيرة التي تكاثرت في الإمارة في السنوات الأخيرة إلى جانب مراكز التسوق والترفيه، لم يعن أن خبر الصفقة الثقافية مرّ مرور الكرام.. تماماً! فوراء الأكمة ما وراءها. في فرنسا، أقام المثقفون الفرنسيون الغيورون على إرث بلادهم الدنيا ولم يقعدوها، متهمين حكومة بلادهم بأن لا هم لها سوى الربح، حتى وإن عنى ذلك التضحية بمعايير ثقافية لطالما دخلت في صلب "إنجيل" الهوية الثقافية الفرنسية القائمة على الخصوصية والفردية والترفع عن الطابع الاستهلاكي للثقافة والفن الذي يميز، بالمقابل، الثقافة الأنجلوساكسونية في وجها الأميركي المستحدث. ويؤمن كثيرون أن الحكومة تعمدت أن تتستر على المفاوضات الخاصة بإقامة "لوفر الصحراء" أو "اللوفر في الرمال"، كما وصف "لوفر أبوظبي"، لتتصرف بما هو ليس لها، علماً بأن هذه المفاوضات التي استغرقت شهوراً وتعاطت معها الحكومتان الظبيانية والفرنسية بأعلى درجات السرية كما لو أن التفاوض يتم على طائرات مقاتلة، محملين دوفابر، وزير الثقافة الفرنسي، مسؤولية التفريط بكنوز فرنسا الأغلى، وتصفية الإرث الفرنسي، رمز كبريائهم وفخارهم. على أن السؤال الذي يعنينا الوقوف عنده هو لماذا "لوفر أبوظبي" في أبوظبي؟ ومن هذا السؤال نحاول الوقوف عند المشروع الأكبر، أو طموح الإمارة الأكبر.. بأن تنتزع لقب "عاصمة الخليج الثقافية"؟ فهل يستند هذا الطموح إلى مقومات مشروعة؟ في ما يتعلق بالشق الفرنسي من السؤال، أو بالأحرى التساؤل، قطعاً صحت فرنسا في العقد الأخير لتكتشف أن حصتها من "العولمة" باتت شريحة بالكاد تشبع غرورها، مقابل خضوع العديد من الدول شبه المحسوبة عليها، حتى تلك ذات الطابع الفرانكفوني لهيمنة الثقافة الأميركية. أما حلفاؤها، ذوو الوشائج الثقافية الأقرب إلى الروحية والعقلية الفرنسية، فهي إما أنها تتطاحنها الحرب الإقليمية، مثل لبنان، (ناهيك عن الموزاييك اللبناني الطائفي المقعد، بالتجاذبات السياسية المضنية الذي يجعل قيام دولة مؤسسات حلماً صعب المنال في المدى المنظور) أو يتطاحنها الفقر وتنامي الحركات "الإسلاموية" فيها مثل دول المغرب العربي. ولما كانت دولة الإمارات تحديداً ممثلة بعاصمتها أبوظبي، تعد شريكاً اقتصادياً أثيراً بالنسبة لفرنسا، هذه الشراكة التي تعززت أكثر ما يمكن من خلال صفقة طائرات "2000 - 9" المقاتلة التي باعتها فرنسا للإمارات في العام 2002 ضمن صفقة بلغت أكثر من 5.5 مليارات دولار، حرصت فرنسا، ولا تزال، على أن تستقطع أكبر حصة ثقافية لها فيها، مدركة صعوبة المعركة التي تواجهها في مقابل المد الأنجلوساكسوني المستشري، ليس إماراتياً فحسب وإنما على صعيد دول الخليج العربي كافة. ومع زيادة التقارب الفرنسي الإماراتي "اللساني" عبر تدشين عدد من المؤسسات الخاصة بتعليم الفرنسية، وهو تقارب بلغ ذروته مع تدشين فرع جامعة السوربون العريقة في أبوظبي العام الماضي، يبدو جلياً أن فرنسا ماضية قدماً في إطار تعزيز ونشر الثقافة الفرنسية في الإمارات. وهي خطة طموح بالتأكيد، لكنها أبعد ما تكون عن طابع خيري غيور يهدف إلى مد جسور الحوار بين الحضارات، ذلك أن كلفة إقامة هذه الجسور تفوق كلفة جسور الاسمنت والحديد الحقيقية! والتقارب بين الشرق والغرب، على ما يبدو، لا يتـأتى إلا بسفح المليارات على معبد الذات الغربية الاستعلائية، التي لا تزال تنظر إلى نفسها بوصفها الراعي.. المعطي والمانح، لكن بشروط. عودة إلى أبوظبي، فإن الثابت أن الإمارة صحت ذات يوم لتجد نفسها وقد تخلّفت عن جارتها النشيطة دبي، التي اكتسبت عن جدارة عاصمة الخليج الاقتصادية والثقافية. إعلامياً، لا تزال دبي، من خلال مدينة دبي للإعلام الأكبر من نوعها في الشرق الأوسط، تتصدر المشهد، مع وجود مؤشرات إلى لحاق العاصمة القطرية الدوحة في ركابها، فما الذي تبقى لأبوظبي؟ في السنوات الخمس الأخيرة، لهثت أبوظبي لتبحث لنفسها عن موقع في الخارطة. تخففت من طابعها المحافظ والمتكلف بعض الشيء، الذي كان يجعلها أقرب إلى إمارات الشمال المحافظة مثل الشارقة، مقارنة بالطابع الحياتي المنفتح لدبي، ودشنت مجموعة من المشاريع السياحية والثقافية الضخمة على أمل أن تستقطع جزءاً من حصة دبي في السياحة، مع علاوة ثقافية، بحيث تكون قبلة الخليج والعالم العربي في مجال السياحة الثقافية ذات الطابع العالمي. لهذا الغرض، انطلق مشروع جزيرة "السعديات"، كأكبر وأفخم مجمع ترفيهي وثقافي في الخليج. تقع جزيرة السعديات على بعد نصف كيلومتر من شواطئ أبوظبي، وتضم استثمارات تتراوح قيمتها من 27 إلى 29 مليار دولار، من بينها إلى جانب اللوفر، متحف غوغنهايم الأميركي للفن المعاصر، الذي زفت أبوظبي العام الماضي للعالم خبر "شراء اسمه" واستضافة نسخة ظبيانية منه مقابل 400 مليون دولار، ودار المسارح والفنون والمتحف البحري وحديقة البينالي، وما إلى ذلك من مشاريع ذات طابع ثقافي نخبوي تهدف إلى إعادة تخليق وتشكيل صورة الإمارة الحضارية، وهي صورة تبدو موجهة للغرب، مستندة على إرث مغترب تماماً عن إرث البلاد، أكثر منها موجهة للداخل، أو محيكة من مقومات "إرث" البلاد الاجتماعي والفكري، وبيئتها ذات الخصوصية، رغم محاولات تسطيح هذا الإرث أو إنكاره. من المشروع جداً أن تسعى أبوظبي لأن تكون عاصمة الثقافة في الخليج. ومن المشروع جداً "استيراد" بعض المؤسسات الثقافية العربية والعالمية من منطق الإضافة أو البناء على ما هو قائم. لكن يجدر بنا أن نتوقف عند هذا "القائم"، إن كان قائماً. هل يمكن أن نصنع إرثاً من إرث ليس لنا؟ كيف نستورد متحفاً للفن المعاصر دون أن يكون لدينا متحفا لفن البلد وأهل البلد وإرثها، على جدته وطراوته؟ كيف نخلق مظاهر للثقافة، ونتكبد في ذلك المليارات، دون أن نرسي مفهوم الثقافة كممارسة حياتية يومية مجدولة في بنيتنا المجتمعية والفكرية على نحو يستدعي أن نستثمر في الفرد أولاً، كقيمة تعكس أوجه الثقافة المختلفة، وفي الفرد ثانياً.. وفي الفرد عاشراً؟