وعي الإسلاميين بـ "الدولة" اقتصر على الإجراءات والغيبيات ولم ينفذ إلى "البنية"
· الدولة جمعت البشر على أساس المنفعة ثم أصبح عليهم قبول حكم المصلحة الذاتية الجماعية للمؤسسة الجديدة التي خلقوها
· الدولة عند هيجل ليست ليست صوت الله وحسب بل هي الله متجسدا!!!!
· النظريات التي قام معظمها على إنكار الصلة بين الدين والحياة أخذت فيها مفهوم لـ "الفطرة" .. وأخذت "بنية" الدين!!
· شيخ الإسلام مصطفى صبري: "كان ظني عند مغادرة تركيا إلى بلاد العرب التي جاء منها نور الإسلام إلينا أني أستريح من مجاهدة الملاحدة. لكني وجدت الجو الثقافي أيضا مسموما"
في 10 ديسمبر 2010 سئل المؤلف في حوار مع موقع "السكينة" عن السلفية فقال إن التيار "تعرض لظلم كبير، فلا تكاد توجد رؤية فكرية شاملة أي كونية إلا وفيها بالضرورة بعد سلفي. والعلمانية نفسها فيها بعد سلفي ذلك أن لحظة تأسيسها خلفها وكلاسيكياتها المؤسسة تنتمي إلى الماضي، وهي بالتالي ذات بعد سلفي."
وعن القطاع الثقافي بمؤسسة أخبار اليوم يصدر له قريبا "السلفيون من الظل إلى قلب المشهد". ويرصد فيه ما بعد تنحي مبارك، حيث أصبح مصطلح "السلفية" أحد أكثر الألفاظ حضورا في الخطاب العام (الإعلامي والتحليلي والسياسي) على السواء، وأصبح المشهد السياسي الذي أعقب ثورة يناير أشبه بـ "حفل تعارف" يعيد كثير من المصريين فيه ترتيب ما يعرفون والتعرف على ما كانوا يجهلون!
وإذا كانت الظاهرة السلفية قد كشفت عن قدرة على التأثير لم تكن منظورة بهذا الحجم من قبل فإن الأمر يتصل بانطلاق الظاهرة من عقالها، بالقدر نفسه الذي يرتبط بقدرة النظام السابق على تضخيم ظواهر وإخفاء أخرى وفقا لحسابات سياسية وأمنية معقدة ومتقلبة. و"السلفية" تعبير يختصر الكثير من الاختلافات والتمايزات بين تيارات ثلاثة تشكل معا "الظاهرة السلفية": العلمية، الحركية، والجهادية. ورغم الشيوع الكبير لهذا التقسيم فإن ثمة من يتحفظ عليه بناء على اعتبارات لها وجاهتها.
قرنان من المخاض!!!
تمر المنطقة العربية بلحظة لم تشهدها منذ عشرات السنين على وقع تداعي عدة أنظمة سياسية في فترة قصيرة، وكما هو متوقع، كلما مرت المنطقة العربية بأزمات سياسية حادة، يعاد طرح أسس ومبادئ عامة ومناقشة مفاهيمها من جديد، لكن ربما دون تجديد. وأصل القصة كما هو بادٍ بوضوح تام في المشهد المصري الراهن ما تعانيه مجتمعات عربية عديدة من أزمة في بناء "الدولة"، ويرى مفكرون غربيون أن غياب الاستقرار في بلدان نامية كثيرة هو نتيجة للعجز عن تحديد مفهوم الدولة والأسس والأنماط المعيارية (أخلاقياً وتنفيذياً) التي تحكم المجتمع، حيث لا يزال الصراع مستمرا لتحديد هذه الأسس. ويرجع البعض ذلك إلى أنه بعد الاستعمار انبعثت الدولة في معظم العالم الثالث كمفهوم قانوني لها شرعية دولية، رغم غياب العوامل الاجتماعية والتنظيمية والاقتصادية التي تتطلب نشوء دولة كحقيقة واقعة، بينما في الغرب، مثلا، نشأت الدول ككيانات اجتماعية اقتصادية سياسية عسكرية ثم حاولت أن تحصل على اعتراف قانوني يشرِّع وجودها.. ومن ثم فإن ذلك أعاق بعض دول العالم الثالث من إنتاج عوامل ولادتها الطبيعية وبناء دولة فعلية. وثمة من يرى أن فكرة الدولة في الفكر السياسي العربي الإسلامي الحديث، كانت فكرة أيديولوجية وليست مشروعاً معرفياً نهضوياً حقيقيا كما أن الخلط بين مفهومي "الخلافة الإسلامية" و"الدولة الوطنية الحديثة"، وكأنهما مفهوم واحد، كرس الالتباس.
فصياغة نظرية الخلافة تعود إلى القرن الخامس الهجري وما تلاه، أي بعد تدهور مؤسسة الخلافة في الدولة العباسية (الماوردي المتوفى عام 450 هـ، والغزالي المتوفى عام 505 هـ، وابن جماعة المتوفى عام 732 هـ). ومعظمها تبلورت كأفكار مثالية حول ما يجب أن يكون وليس كدراسة وصفية لما هو قائم بالفعل؛ لأن القائم كان متدهورا مع تزايد حركات المعارضة المختلفة. ولم يظهر مفهوم الدولة الحديثة في الفكر العربي والإسلامي دفعة واحدة، بل عبر مراحل، وأدرك النهضويون من الدولة الحديثة "التنظيمات"، واقتصر وعيهم عند هذا الحد، ثم ظهر مفهوم "المواطنة" التي تعتمد على الرابطة الجغرافية السياسية، وهو من أهم مفاهيم الدولة الحديثة، لكنه لم يكن واضحاً بالقدر الكافي. وسرعان ما برزت أزمة الهوية وتحولت لقضية مزمنة بعد أن حل الدولة الوطنية محل الخلافة.
ويرى المؤلف أن وجه القصور الرئيس أن نقاش الإسلاميين حول "الدولة" اقتصر على وجه واحد – غالبا ما نوقش منفصلا – من وجوه مركب ثلاثي. وأما نقاش الإسلاميين فاقتصر على: الظاهر (الإجراءات)، والخفي (الغيبيات) دون التعرض لواسطة العقد في بنية الفكرة، ونعني بها: نقطة التلاقي بين الغيبيات والإجراءات والقيم، فحضور ما هو غيبي في مفهوم ليس اختيار فقيه متشدد أو مدرسة فكرية محافظة، بل صفة لصيقة بمقولة "الدولة" كثمرة للتفاعل بين: الإجراءات والغيبيات والقيم. والدولة بهذا المعنى لا يمكن تعريفها تعريفا جامعا مانعا دون استكناه ما وراء المفهوم من مسبقات قد تقع "تصنيفيا" في عالم الفلسفة والماورائيات، لكنها تسهم بقدر كبير في تحديد حدود المفهوم وكذلك في تقرير المحرمات والممكنات وترتيب الأولويات.
ومن أهم المعضلات التي تطرحها الدولة الحديثة على المسلمين أنها تنطلق أساسا من طبيعتها المتجردة من البعد الأخلاقي إلى درجة كبيرة. فالدولة الحديثة: رابطة تقوم أساسا على الاعتبارات المصلحية الوقتية ولا تعترف بقيم أزلية ثابتة. وقد لخص هاري إكستاين هذا البعد قائلا إن: "الدولة كانت استجابة وظيفية للانهيار الشامل للمجتمع الذي كان يوما متكاملا...وكبديل للقيم المعتادة والسلطات الأميرية التي كانت لا تزال جزءا لا يتجزأ من المجتمع، جاءت أفكار ميتافيزيقية ذات بعد عقلاني زائف وطبيعة لاهوتية زائفة أيضا، بالإضافة إلى فكرة أن الدولة ذات السيادة باعتبارها المبدأ الأسمى للمجتمع المتحرر من". وهكذا بنيت الدولة الحديثة على فراغ أخلاقي وانطلقت تخلق في داخلها قيمها الخاصة بها "منطق الدولة"، الذي مثل اعتبارات تعلو على كل قيمة أخلاقية باسم "مصلحة الدولة العليا". ففي البداية جرى تجميع البشر ليس على أساس المبادئ بل على أساس المنفعة الذاتية، ثم أصبح عليهم بعد ذلك أن يقبلوا حكم المصلحة الذاتية الجماعية للمؤسسة الجديدة التي خلقوها.
وفي مرحلة تالية من مسار التطور تجسـَّد التناقض بين ما هو علمي (وصفي) وما هو أخلاقي، فقد استخلص هيجل من افتراضات هوبز أن الدولة (أو السلطة العليا فيها) هي المرجعية الأخيرة فيما يتعلق بالأخلاق والقيم. فالدولة عند هيجل ليست فقط الحكم بل هي التجسيد الحي للحق والعدل، والدولة ليست صوت الله وحسب، بل هي الله متجسدا.
ويرصد ممدوح الشيخ تباينا واضحا في رؤية كل ثقافة للوحدات المؤسسة للاجتماع الإنساني والعلاقة بينها إلى موضوع الصلة بين "رؤية الدولة" و"مفهوم الفطرة". وتكشف الدراسات في العلوم الإنسانية الحديثة أن كل الرؤى الأيديولوجية الكبرى في العصر الحديث (التنوير الأوروبي – الماركسية – الرأسمالية – النازية – التمركز حول الأنثى –.. .. ..) جميعها تنطلق من مفهوم لما يسمى "الحالة الطبيعية للإنسان". وهذا المفهوم ينبني على أفكار مسبقة لا تقبل البرهنة عليها، فهناك من يرى الحالة الطبيعية للإنسان جماعية، وهناك من يراها فردية، وهناك الفيلسوف الانجليزي توماس هوبز الذي يعتبر الإنسان بالضرورة "ذئبا لأخيه الإنسان"، وأن الحياة البشرية هي – بالضرورة – "حرب الكل ضد الكل"، أما الفيلسوف باروخ سبينوزا، مثلا، فنفى وجود الشر نهائياً.. .. .. وهكذا.
ومن المفارقات أن هذه النظريات التي قام معظمها على إنكار الصلة بين الدين والحياة الإنسانية عموما أخذوا مفهوم "الفطرة" من الأديان وأقاموا مناهجهم الفكرية بشكل مماثل تماما لـ "بنية" الدين، فهناك: غيبيات وشرائع ومنظومة قيم. وفي الإسلام فإن الفطرة الإنسانية هي من الله: "فطرة الله التي فطر الناس عليها"، والنفس الإنسانية بحسب المفهوم الإسلامي للفطرة ألهمها الله دواعي الفجور والتقوى: "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها".
ومع بزوغ فجر "الأيديولوجيات"، بظهور فكر التنوير الأوروبي، ظهرت للمرة الأولى رؤى كونية للإنسان (الفرد والمجتمع)، والكون، وما وراء الكون، تستند إلى مفاهيم للفطرة لا تعتمد على المصدر الديني للمعرفة.
ورغم أن مصر لم تكن الوحيدة بين شقيقاتها التي تعرضت للغزو الاستعماري الغربي إلا أنها كانت – بشكل استثنائي – موضوع اهتمام خاص من القوى الدولية على نحو جعلها ساحة حرب هوية بدأت قبل قرنين ولم تنته حتى اليوم. وكما كان الفتح الإسلامي بداية مسار جديد لتاريخ مصر، كان العام 1805 بداية مسار جديد لمصر انفصلت فيه – عمليا فقط – عن الدولة العثمانية بعد أكثر من ألف عام من الاستظلال بمظلة دولة إسلامية جامعة لم ينقطع تتابع سلالاتها الحاكمة منذ أسس بنو أمية دولتهم. وانطلاقا من رؤيته لمكانة مصر يصف أرنست رينان تجربة محمد علي بما يلي:
"إن أهمية مصر الاستراتيجية بالنسبة لملكوت البحار كما بالنسبة للاستيلاء على أعماق أفريقيا إنما تشير إلى أنه حين يلعب بلد ما دورا يمس المصالح العامة للبشرية فإنه يجري دائما التضحية به في سبيل هذه المصالح. والبلد الذي تكون له مثل هذه الأهمية بالنسبة لبقية العالم لن يسعه الانتماء إلى نفسه إذ يجري تحييده لحساب البشرية . . . ومصلحة الحضارة الأوروبية هي التي تتطلب هذه التضحية إن مصر سوف يتم حكمها دائما من جانب مجموع الأمم المتحضرة . . . وسلالة محمد علي المالكة ليست سوى دمية بيد أوروبا، إن فرنسا على مدار ثلاثة أرباع القرن قد وجدت حلا لهذه المشكلة الصعبة حلا سوف يكون مثار الإعجاب عندما تبين التجربة أية دموع ودماء سوف يدفعها العالم ثمنا للحلول الأخرى. لقد ارتأت أن تحقق عبر أسرة مالكة مسلمة من الناحية الظاهرية (!!!).. ..هيمنة الروح الحديثة على هذا البلد غير العادي الذي لا يمكن تركه منتميا إلى البربرية دون أن يترتب على ذلك إلحاق أذى فادح بالصالح العام". و"يرد محمد علي وأسرته المالكة على خاطره فورا وهو يصف الملوك اليهود المتأثرين بالروح الهللينية والذين يخدمون روما بالخروج على روح إسرائيل الدينية".
ووصف "مسلمة من الناحية الظاهرية" يطرح أسئلة عديدة عن مدى دقة وصحة وصف محمد علي بأنه كان صاحب مشروع لتجديد شباب الدولة العثمانية، ومن ثم يطرح أسئلة عن دوره في إخراج مصر – بقوة السلطة المطلقة والدولة المركزية – من سياق تاريخي ضارب بجذوره في تاريخها إلى سياق جغرافي ما زال يبدو حتى اليوم مستعصيا على الهضم!
وكانت حوادث العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين بما شهدته من فصول متوالية من الصراع الإسلامي العلماني برهانا على صحة هذا الإدراك. وقد كان المستشار طارق البشري المفكر المؤرخ – نائب رئيس مجلس الدولة الأسبق – من أكثر المثقفين اهتماما بهذا الصراع، وقد كتب يصور الانقلاب الفكري الذي أحدثه طغيان الوافد في الواقع الثقافي المصري قائلا: "كنا في الماضي نقف على أرض الموروث ونتحاور فيما يصلح لها من حضارة الغرب وأدواته لندخله عليها، ثم صرنا أو صارت كثرتنا تقف على أرض الوافد أو أرض خليط، ونتحدث عن التراث بضمير الغائب ونتحاور فيما نستحضره فيه. نحن نتساءل الآن عما نستدعي من التراث، بعد أن كان آباؤنا يتساءلون عما يأخذون من الوافد".
ويتوقف المؤلف بتفصيل أمام مشهد من مشاهد الصراع بين الوافد والموروث. والمشهد في مجلس النواب المصري، والمتحدث النائب الدكتور عبد الحميد سعيد الرئيس العام لجمعيات الشبان المسلمين، وقد قدم استجوابا عام 1931 نشرت نصه بالكامل مجلة الشبان المسلمين مستخرجا من محاضر جلسات مجلس النواب. أما موضوع الاستجواب فهو عبارات من المحاضرات التي أملاها الدكتور طه حسين على طلابه في كلية الآداب بقصر الزعفران عام 1927 – 1928، وحسب الاستجواب فقد أملى الدكتور طه حسين على طلابه ما يلي:
"وصلنا في المحاضرة الماضية إلى موضوع اختلاف الأساليب في القرآن، وقررنا أنه ليس على نسق واحد. واليوم نوضح هذه الفكرة فنقول: لا شك أن الباحث الناقد، والمفكر الحر الذي لا يفرق في نقده بين القرآن وأي كتاب أدبي آخر يلاحظ أن في القرآن أسلوبين متعارضين لا تربط الأول بالثاني صلة ولا علاقة، مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذا الكتاب قد خضع لظروف مختلفة، وتأثر ببيئات متباينة، فمثلا نرى القسم المكي منه يمتاز بكل مميزات الأوساط المنحطة، كما نشاهد أن القسم المدني أو اليثربي تلوح عليه إمارات الثقافة والاستنارة، فأنتم إذا دققتم النظر وجدتم القسم المكي يتفرد بالعنف والشدة والقسوة والحدة والغضب والسباب والوعيد والتهديد مثل "تبت يدا أبي لهب وتب* ما أغنى عنه ماله وما كسب* سيصلى نارا ذات لهب* وامرأته حمالة الحطب". "والعصر* إن الإنسان لفي خسر"، "فصب عليهم ربك سوط عذاب* إن ربك لبالمرصاد"، "كلا لو تعلمون علم اليقين* لترون الجحيم". ويمتاز هذا القسم أيضا بالهروب من المناقشة وبالخلو من المنطق فيقول: "قل يا أيها الكافرون* لا أعبد ما تعبدون " إلى قوله: "لكم دينكم ولي دين". ويمتاز كذلك بتقطيع الفكرة، واقتضاب المعاني وقصر الآيات، والخلو التام من التشريع والقوانين، كما يكثر فيه القسم بالشمس والقمر والنجوم والفجر والضحى والعصر والليل والنهار والتين والزيتون، إلى آخر ما هو جدير بالبيئات الجاهلة الساذجة التي تشبه بيئة مكة تأخرا وانحطاطا".
"أما القسم المدني وهو هادئ لين، وديع مسالم يقابل السوء بالحسنى، ويناقش الخصوم بالحجة الهادئة والبرهان الساكن الرزين فيقول: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا"، ويهجر مع أعدائه الترهيب والقسوة، ويسلك سبيل الترغيب والتطميع في المكافأة فيقول: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"، و"من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب"، كما أن هذا القسم ينفرد بالتشريعات الإسلامية كالمواريث والوصايا والزواج والطلاق والبيوع وسائر المعاملات. ولا شك أن هذا أثر واضح من آثار التوراة التغير الفجائي الذي ظهر على أسلوب القرآن مأخوذ عن التوراة".
.........
"وعلى الجملة فإن ما في هذا القسم المدني من هدوء ومنطق وتشريع وقصص وتاريخ يدل دلالة صريحة على أن الظروف التي أحاطت بهذا الكتاب إبان نشأته تطورت تطورا قويا". و"هناك موضوع آخر يجب أن أنبهكم إليه، وهو مسألة الحروف العربية غير المفهومة التي تبتدئ بها بعض السور مثل: ألم، ألر، طس، كهيعص، حم، عسق.....إلخ فهذه الكلمات ربما قصد منها التعمية والتهويل أو إظهار القرآن في مظهر عميق مخيف، أو هي رموز وضعت لتميز بين المصاحف المختلفة التي كانت موضوعة عند العرب. فمثلا: "كهيعص" كانت رمزا لمصحف ابن مسعود، "حم عسق" كانت رمزاً لمصحف ابن عمر، وهلم جرا، ثم ألحقها مرور الزمن بالقرآن فصارت قرآناً".
ولا تعليق!!
وقد كانت سنوات الثمانينات فترة إعادة هيكلة ساحة العمل العام بعد "الهدنة" بين الإسلاميين والدولة في فترة حكم أنور السادات. ففي العام 1985 خرج الشيخ جاد الحق على جاد الحق عن صمته منددا بالتضييق على الصوت الإسلامي في الإعلام لينضم بذلك إلى جبهة المواجهة مع العلمانيين. يقول الإمام الأكبر: "إن الصحافة على اختلاف مستوياتها ونوعياتها واتجاهاتها قد أغفلت إنها أداة تثقيف وتعليم وأن من واجبها أن تفسح حيزاً يومياً يقرؤه الصغار والكبار يتناول فيه العلماء والكتاب قضايا الساعة الحادة والجادة ويشردون فيها الضال ويهدون الحائر دون توغل في مسالك التيه الذي تمتلئ به الصحف من تشكيك في العقيدة وتعرض للإسلام بأقبح الفكر وأشده فساداً وضلالاً وإضلالاً، وما حجبت صحيفة شيئاً من ذلك تقديراً لعقيدة الإسلام وشريعته وحفاظاً على مشاعر الشعب وتدينه". وهو ما كرره عام 1987.
وشهد منتصف تسعينات القرن الماضي صدور حكم قضائي بالتفريق بين الدكتور نصر حامد أبو زيد وزوجته ليشير إلى توسع دائرة الصراع بين "الموروث" و"الوافد" على نحو غير مسبوق، حيث كان التفريق تطبيقا لموجبات الحكم عليه بالردة عن الإسلام.
النشأة: قراءة جديدة
وتحت هذا العنوان يشير ممدوح الشيخ إلى أنه عندما طويت صفحة الخلافة الإسلامية عام 1924 كانت مياه كثيرة قد جرت في النهر، بحيث أصبحت نهايتها مجرد تحصيل حاصل لأوضاع عملية على الأرض جعلت مصر لا ترتبط بالدولة العثمانية إلا برابطة واهية قطعها الإنجليز ببرود عندما رأوا ذلك من ضرورات أجواء الحرب العالمية الأولى. وقد جعل زوال رابطة الخلافة بعد ذلك بسنوات كل جدل عن مشروعية هذا الإجراء بلا قيمة، وهذا في الحقيقة أحد "المعطيات القانونية" المهمة التي لا يتم التوقف عندها عند الحديث عن هوية مصر، ذلك أن هذا الإجراء كان أول انقطاع في التتابع الذي شهدته مصر منذ الفتح الإسلامي من الناحية الشكلية. فهل أسقط هذا الإجراء ما يترتب على "حق الفتح"؟ وهل أصبح الاستمرار الوحيد الباقي استمرار "قيمي" لا "قانوني".
وقد استقبلت مصر آنذاك أهم رموز الإسلام في العالم الإطلاق، ذلك هو شيخ الإسلام مصطفى صبري الذي كتب في مصر عمله الضخم "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين"، وفيه يصف انتقاله إلى مصر قائلا: "وكان ظني عند مغادرة تركيا إلى بلاد العرب التي جاء منها نور الإسلام إلينا أني أستريح من مجاهدة الملاحدة. لكني وجدت الجو الثقافي أيضا مسموما". ولا ريب في أن ما صدم شيخ الإسلام مصطفى صبري صدم آخرين، ما وفر المناخ الملائم لظهور تيار يواجه هذا المد.
وعن إشكالية التعريف يقول المؤلف إنه رغم الإقرار بحقيقة أن السلفية المعاصرة في مصر يقارب عمرها قرن من الزمان، إلا أن الاهتمام بها على النحو الذي تشهده الأوساط العامة السياسية والإعلامية ارتبط بشكل مباشر بثورة الحادي والعشرين من يناير. وقد تراوحت مواقف السلفيين ما بين صمت مريب أثناءها وبين مشاركة فريق منهم فيها وسط جدل حول مشروعيتها. وكان افتقار مواقف السلفيين في مصر إجمالا إلى الرؤية السياسية والاستراتيجية للأحداث انعكاسا لحقيقة أن الظاهرة السلفية هي في الحقيقة مظلة تنضوي تحتها تيارات وحركات مختلفة.
والسلفيون طائفة حركات وتيارات يدعون إلى مجموعة أفكار محورها المناداة بالعودة إلى "خير القرون" وهي أصبحت معقدة ومتنوعة الأفكار والرؤى إلى الحد الذي بات معه من الصعوبة بمكان الإحاطة الدقيقة بكل مكونات المواقف السلفية، والوقوف على أفكارها ورموزها، واتجاهاتها وقواها، وبالذات بعد الثورة التي تباين فيها السلفيون تمامًا. والبعض يتهم الأجهزة الأمنية في نظام مبارك بالوقوف وراء انتشار التيار السلفي كي يصنع توازنا مع الإخوان، وعن طريق القنوات الفضائية سمح لهم (السلفيون) بالتمدد في المجتمع. ويتناول المؤلف الجمعية الشرعية وجماعة أنصار السنة المحمدية نموذجين للمؤسسات ثم يرسم خريطة لأهم تكوينات السلفية كالدعوة السلفية بالإسكندرية والسلفية الحركية (الشعبية)، السلفية المدخلية، والسلفيين المستقلين. ويتناول ممدوح الشيخ الأفكار تحت عنوان: السلفية من النص إلى العالم.
ولا نبالغ إذا قلنا إن ثورة الخامس والعشرين من يناير تمثل الميلاد الثالث للحركة السلفية المصرية المعاصرة، فالظاهرة التي ولدت قرب مطلع القرن العشرين دفعت إلى الظل عدة مرات. وقد كانت السبعينات سنوات التأسيس الثاني للسلفية المصرية. وتحت عنوان: "أسئلة الظل وتحديات ما بعده" يتناول المؤلف ما بعد ثورة يناير.