خليفة وقاسم حداد يعلنان الحب في مواجهة القوى الظلامية "ربيع الثقافة" في البحرين
رسالة الخليج
المرحومة سعاد حسني، طيّب الله ثراها وأبقى فتنتها قائمة في المتخيلة، أعلنتها ذات لحظة سينمائية أزلية، حين شدتْ بصوتها العذب: "الدنيا ربيع والجوّ بديع،" ليصبح ربيعنا، منذ تلك اللحظة، بديعاً بالضرورة. لكن ربيع البحرين، على ما يبدو، إذ حمل كل أشكال البديع الثقافي والإبداعي من أمسيات شعرية وعروض مسرحية وموسيقى وعروض رقص فولكلورية عالمية وندوات ونقاشات وسجالات ضمن مهرجان "ربيع الثقافة" المنتظر، لم يكن جوه بديعاً، عكرته ريح خماسينية، سلبت نسمة الشعر العليلة ونفحة الفن إذ يرتقي بالنفس ويحملها إلى مصاف التجلي والانتشاء الإبداعي. كان البحرينيون والعالم التوّاق للاختلاف الجميل في هيئة قصيدة أو أغنية أو حكاية راقصة بكل لغات الأرض التي لا تجد صعوبة في التسلل إلى الروح على موعد متجدد مع "ربيع الثقافة" البحريني الذي افتُتح في الأول من مارس الماضي وتستمر فعالياته المتنوعة حتى الثالث عشر من إبريل الجاري. ولقد جاء البرنامج الغني للمهرجان، الذي ينظمه قطاع الثقافة والتراث الوطني في البحرين، ليؤكد مسعى البحرين نحو استعادة مكانتها كمركز ثقافي أصيل، وهو مسعى شرعي تماماً بالنظر إلى تاريخ تلك البلاد، التي على صغر مساحتها، صدّرت للخليج قيماً إنسانية نبيلة كالتعددية والانفتاح والتسامح والليبرالية، وسعة صدر أهلها لكل أنواع التلاقح الفكري والثقافي والسياسي، وهي قيم أُريد لها في السنوات الأخيرة أن تستحيل، للأسف، إلى إرث غابر ومنسي تتبرأ منه شريحة "انغلاقية" انعزالية سطت على البرلمان، دائرة صنع القرار الأولى، باسم الشعب، تحت غطاء "إسلاموي"، وليس إسلامياً. هبت ريح الإسلامويين العاتية على "ربيع الثقافة" عشية العرض الافتتاحي للمهرجان، وهو عرض "مجنون ليلى"، المسرحية الموسيقية الشعرية الراقصة، المأخوذة عن ديوان شعري وضعه الشاعر البحريني قاسم حداد في العام 1996 (بمشاركة الفنان التشكيلي العراقي ضياء العزواي) ويحمل العنوان نفسه، ترجمه بصوته وعوده وموسيقاه في استعادة بصرية مشهدية غنائية أخاذة، لا تقل إبداعية عن المنتج الشعري، الفنان والموسيقار اللبناني مارسيل خليفة. شمل العرض أغنيات لأميمة خليل ويولا كرياموس، اللتين قدمتا وصلات فردية وثلاثية مع خليفة، مع إلقاء حداد أبيات شعرية في موازاة لوحات "كوريغرافية" تعبيرية قدمها قرابة ثلاثين راقصاً وراقصاً، في إعادة تمثيل لحكاية الحب التاريخية، التي ألهمت العشاق على مدى القرون، وشكلت أساساً لإبداعات إنسانية محتفى بها عالمياً. وما كان نسمة ليلية عليلة لوّنها الشعر إذ انجدلت الكلمات الحييّة في الموسيقى المنسدلة بشغف وبوح الجسد الخافت، استنهضت نوستالجيا عذابات الحب وسقم الروح العطشى للوصل على مر الأزمان، تحولت إلى ريح عاتية عصفت بالمهرجان، وذلك حين شن رجال الدين هجوماً ضارياً على عمل خليفة - حداد والمهرجان ككل، ضمن حملة "طالبانية" مسعورة شهدت في البحرين في السنوات الأخيرة تغلغلاً متزايداً في مؤسسات الدولة السياسية والثقافية والأكاديمية والاجتماعية، مستغلين، لسخرية القدر المرة، الأجواء الديمقراطية في البلاد وقبة البرلمان التي صادروها للتضييق على الحريات العامة وتجريد البحرين من مكتسباتها التاريخية، وسلبها إرثها الثقافي الأميز في المنطقة بوصفها حاضنة للتراث والحداثة جبناً إلى جنب في تناغم معرفي وإنساني لطالما كان نموذجاً يُحتذى به من قبل دول الجوار. أما ذريعة رجال الدين التي ساقوها في هجومهم على "مجنون ليلى" بنسخة خليفة - حداد فهي أن العرض، بما شمل من رقصات ذات طابع "حسي" و"مثير" يعد نوعاً من "خدش الحياء"؛ هذا المصطلح الموضة، الذي طفا على مشهد محاكم التفتيش الدينية المستحدثة على الإبداع في مختلف صوره. (ولنا في "محكمة التفتيش" الإسلاموية الفلسطينية التي طالت كتاب "قول يا طير.." وكادت تفتك به مثالاً على عربدة نفر نصبوا أنفسهم أوصياء على الفكر والحريات العامة.) الغريب أن نشهد وحدة دينية نتوق لها في أصقاع أخرى من العالم الإسلامي (كالبقعة الساخنة جداً في العراق حيث الفرقة السنية - الشيعية من أسباب الموت "العبثي" اليومي)، وذلك حين ضم رجال الدين السنة في البحرين صوتهم إلى رجال الشيعة، في لعبة "تسييسية" رخيصة ومكشوفة، لضرب مهرجان "ربيع الثقافة"، متعللين بعرض غنائي مسرحي راقص دعا إلى الحب والحياة في مواجهة هزيمة الفرد العربي وموته يومياً! هاهي الحياة تدبّ على منابر الخطباء في المساجد! الشيخ عيسى قاسم، عرّاب جمعية الوفاق الوطني الإسلامية المعارضة والذي يعد أبرز شخصية شيعية في البحرين، أعلنها في خطبته لصلاة الجمعة بأن "ربيع الثقافة دعوة صريحة للغواية باسم الحب على المسرح المكشوف في تحدٍّ سافر لدين هذا البلد وحرماته وقيمه وأحكامه وطبيعته وذوقه وحيائه وطهره وعفافه." من طرفه، وكي لا تفلت اللعبة السياسية من أيدي السنة، خرج الشيخ على مطر، وهو سنّي، على مصليه في خطبة الجمعة ليقول: "علينا بمحاربة أماكن الفساد والرذيلة، الاستغلال السيئ للمرأة، وتجسيدها كما في الإعلانات وبعض المجلات، وما حصل في ربيع الثقافة من عرض مسرحية فيها لقطات تثير الغرائز وتشجع على ارتكاب الفاحشة." كما هاجم النائب في البرلمان عن الإخوان المسلمين خالد محمد المهرجان واصفاً إياه بـ"ربيع السخافة"، مطالباً وزير الإعلام بفتح تحقيق عاجل "بما يضمن عدم تكرار تقديم هذا النوع من العروض!" لتكتمل فصول المهزلة بتصويت البرلمان على اقتراح تقدمت به كتلة "الأصالة" السلفية، وصادقت عليه الكتل الإسلامية السنية والشيعية في المجلس، على تشكيل لجنة تحقيق حول مهرجان "ربيع الثقافة"، وخصوصاً في بعض مشاهد العرض الافتتاحي لثنائية مارسيل - حداد، وهو تحقيق يتوقع أن تستمر فصوله لأسابيع، وربما شهور، قادمة. لكن البحرين، هذا البلد الذي سارت الثقافة فيه جنباً إلى جنب مع قيام دولة المؤسسات والمجتمع المدني، ضمن نسيج متناغم قوامه الحرية والاختلاف البنّاء أكبر من يسطو عليها حفنة ظلاميين من دعاة العفة الزائفة، ممن نصبوا أنفسهم قيمين على شرف الأمة، المتسترين وراء قيم الإسلامُ منها براء لتمرير أجندة سياسية تهدف إلى شلّ البلد سياسياًَ وفكرياً وثقافياً! إن البحرين أكبر من هؤلاء، والبحرين، في النهاية، ليست هؤلاء، وإن طرحوا أنفسهم ممثلين للشعب. فلقد تداعت العديد من القوى السياسية والثقافية للدفاع لا عن المهرجان فحسب وإنما عن مكتسبات تاريخية أوّلها، كما أن آخرها، حرية المعتقد والفكر والرأي. ففي بيان بعنوان "دفاعاً عن الثقافة والإبداع" وقعته 53 جمعية أهلية وسياسية ومهنية ونسائية ونشر في الصحف البحرينية، تم التنديد بما وصف محاولات بعض القوى السياسية في مجلس النواب خنق مناخ الحريات والإبداع في البحرين، عن طريق فرض نفسها وصية على خيارات المواطنين. وجاء في البيان: "نعرب عن مساندتنا ودعمنا القوي للمبدعيْن الكبيرين (أي مارسيل خليفة وقاسم حداد) المشهود لهما بالنتاج الرفيع في الحقلين الأدبي والفني والدور الريادي في مجالات النهضة والتنوير والدفاع عن حقوق الإنسان، ولكل مبدع يقف في وجه التعسف الفكري على أرض البحرين ذات التاريخ الطويل في التنوير والتسامح والتعددية الثقافية والتقاليد العريقة." وفي خطوة دعمت موقف الليبراليين، اعتبر مجلس الشورى البحريني (المعين من قبل الحكومة) في بيان له أن "مهرجان ربيع الثقافة يمثل خطوة كبيرة لرفد مشروعنا الإصلاحي الذي يؤكد على تكريس انفتاح البحرين على العالم." من جانبهما، أصدر كل من الشاعر البحريني قاسم حداد والموسيقار اللبناني مارسيل خليفة بياناً بعنوان "جئنا نعلن الحب" أكدا فيه: "عندما ذهبنا إلي التراث العربي بحثاً عما يضئ حاضرنا، ونستعيد به ما نسيناه وما افتقدناه في حياتنا الراهنة، نعني الحب، جلبنا درّة الحب الخالدة، شعلة الوجد التي لا تخبو جذوتها ما دام هناك عاشق أو عاشقة يتنفسان الحب." وواصلا: "وما كان لدينا غير مطمحٍ واحدٍ: أن نحرض الناس علي الفرح لا الغياب، علي الحياة لا العدم. كانت غايتنا أن نعبّر عن العاطفة الإنسانية في أبهي وأنقي تجلياتها، وأن نمجّد الجدير بالتمجيد: الحب." ومضيا: "لكن أبداً لم يخطر ببالنا أن ما نقدمه من عرض نظيف وبريء، ومتجرّد من النوايا السيئة والخبيثة، سوف يتم تأويله -غيابياً- بخلاف ما هو مقصود، وسوف يري فيه حماة الدين والأخلاق والطهارة عملا فاحشاً ومعيباً، وسوف يرون فيه خروجاً علي الشريعة الإسلامية والأخلاق العامة." وتطرق بيان خليفة - حداد إلى ما وصفاه بالإرهاب الذي يمارسه النواب على الفكر بالقول: "إن محاولة نواب الكتل الإسلامية، وأتباعهم، التصدي لعمل "مجنون ليلي"، ولكافة فعاليات "ربيع الثقافة" في البحرين، وتشكيل لجنة تحقيق في ما يسمونه خروجاً علي الشريعة، مثل هذه المحاولة لا ننظر إليها بوصفها رغبةً في تصفية حسابات سياسية أو شخصية، بقدر ما ننظر إليها، عميقاً، كمحاولة مقصودة، ومنظمة، لإرهاب كافة أشكال الفكر والثقافة، وقمع كل مسعى إبداعي.. الثقافة الحرّة، الرافضة للامتثال، هي المستهدفة." وأضافا: "إنها دعوة صريحة ومباشرة للانغلاق، لمصادرة حق الآخر في التعبير، لإنكار تعددية الأصوات، والمفارقة أن تنطلق هذه الدعوة من موقعٍ (برلمان) يُفترض فيه أن يكون منبراً لمختلف الأصوات والاتجاهات." ويتساءل حداد وخليفة في البيان: "هل يليق بوطن متحضر أن يمثّل شعبه نوّابٌ يتوهمون امتلاك السلطة.. سلطة المنع والكبح والمصادرة؟ نواب ترتعد فرائصهم كلما لاحتْ في الأفق قصيدة أو أغنية لا تمتثل لشروطهم فيستنفرون الكراهية والتعصب؟ نوابٌ يرون الشيطان الرجيم يسكن في كل أغنية أو رقصة أو مشهد أو نص؟ نوابٌ يظنون أن الله يبسط، لهم وحدهم جناحَ الرحمة ويعادي الآخرين؟" وهكذا، في انتظار ما تسفر عنه لجنة التحقيق "الباطلة" فإننا نجدد إيماننا بالبحرين دولة وحضارة وثقافة ومجتمع حيوي منفتح، يُعطي كما يأخذ، ويقوم على الفكر الاستيعابي لا الفكر الإلغائي الإقصائي.. نجدّد ثقتنا بالبحرين كبيئة قابلة لاحتضان كل أشكال الفكر الحر، في تزاوج خلاق منطلقه، كما منتهاه، الحرية.. الحرية التي يتنفسها الشعب من رئة عريضة.. مترعة بالحياة.