تكون الكاتبة المغربية الزهرة رميج، وبتشديدها، ومنذ العنوان، ومن حيث هو "استراتيجيا سردية"، على (عزّوزة)، الاسم المثقل بدلالات الثقافة المغربية الشعبية، قد أبدت رغبتها في الانتماء إلى تلك "الحلقة الروائية" التي تؤثـِّثها أسماء تنتمي للسياق نفسه، وعلى نحو ما يمكن أن نستخلص من دلالات، وفي إطار من دائرة العناوين ذاتها، في روايات مغربية من مثل "حرودة" و"ميلودة". وهذا لكي لا تفوتنا الإشارة إلى متون روائية مغربية حفلت بأسماء شبيهة وتقع في أساس القاع المغربي في جغرافيته السرية وفي جدليته الاجتماعية التقليدية. وتشير الباحثة الفلسفية الراحلة ماري سيسيل ديفور المليح، وفي واحدة من ألمع أفكار كتابها الفلسفي "الكتابة الأليغورية" (L’écriture allégorique)، إلى أننا لا نختار أسماءنا، وإنما نجد أنفسنا فيها. وهي فكرة في غاية من الأهمية، لولا منحاها "المثالي". ذلك أن مناط الاعتراض، هنا، ومن منظور النقد الثقافي الذي نأخذ به، أن الأسماء تظل، وفي النظر الأخير، مرتبطة بالمجال الثقافي بل ومحكومة بهذا المجال. ومن ثم فإنه لا مجال لـ"المصادفة" في التسمية.
والأسماء السابقة تظل من الأسماء "الممتلئة ثقافيا"، وكل ذلك في المدار الذي لا يفارق "جراح المغرب" ككل ولا سيما على مدار فترة "التشكـُّل الكولونيالي الصاعد". ولذلك فإن الإقدام على "أسماء ــ عناوين" من النوع الأخير جدير بأن يشير إلى "الاختيار الثقافي" الذي يسعى الكاتب إلى "التخندق" فيه. غير أن "اختيارا" من هذا الصنف لا يخلو من صعاب بسبب من فائض الأسباب التي تجعل من استدراج هذه الأسماء إلى دوائر "التخييل الروائي" عملا لا يخلو من "توابل إثنوغرافية حارقة وزائدة". وهذا ما يبرز، أكثر، في بعض الكتابات الروائية الفرانكفونية التي لا تزال "الآلة الإعلامية الغربية" تحرص على ضمان انتشاراها المتزايد في سياق حرصها على مواصلة "التنميط الاستشراقي العنصري" للإنسان المغربي والعربي بصفة عامة.
لقد آثرت رواية (عزّوزة) (2011)، بدورها، وعلى طريقتها، الخوض في هذا الموضوع الشائك أو بالأحرى في هذا اللغم الكامن، والأهم، وفق "منظور" لا يخلو من كبير دلالة على الرغم من أنه يكشف عن ذاته بأشكال ظاهرة. ومن جهتنا فإن مقاربتنا تكشف، بدورها، عن "منظورها النظري" وإن من خلال مقولات منهجية وتصورية معدودة وعلى أمل أن تتصادم مقاربتنا هاته مع مقاربات أخرى تعنى بالرواية نفسها التي تسعف، وحقـّا، على قراءتها اعتمادا على مناظير مختلفة واعتمادا على أدوات تحليلية متباينة. ويحصل ذلك في سياق يظل فيه الباحث والمهتم والدارس، وللثقافة المغربية بصفة عامة، ينتظر، وبتلهـَّف، ظهور عمل وازن يمكـِّنه من "التشابك الفكري المثمر" مع سؤال الأدب باعتباره ــ وفي الوقت ذاته ــ سؤالا للفكر والجمال والخيال .. إلخ.
والمؤكد أن الكاتب لا يكتب تحت تأثير النظرية، ومن يفعل ذلك لا يعدو أن يكون عمله "تطبيقا" مخلا بالإبداع ذاته في عوالمه الانشقاقية والمنفلتة من "سطوة التنظير". ومن هذه الناحية بالذات، والتي هي ناحية التحرر من "وحش النظرية"، يضمن الكاتب لعمله نوعا من "الحوار المضمر" مع "الرائج" أو "المعتمد" في مجال النظرية. وفي هذا الصدد يصعب القول بأن الزهرة رميج كتبت نص (عزّوزة) تحت تأثير "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي"، وكما يصعب ــ من ناحية موازية أو بالأحرى مقابلة ــ قراءة نصها (عزّوزة) بمعزل عن "المكتسبات المعرفية" التي حققتها النظرية نفسها في مجالات ثقافية متعددة لعل أهمها النوع الروائي بحكم تشابك مرتكز هذا النوع، وهو السرد، مع التاريخ والجغرافيا والإثنولوجيا والأنثروبولوجيا .. إلخ. وفي الحق يصعب ادِّعاء تلخيص النظرية هاته أو ادعاء التمكـُّن من "تطبيقها"، ذلك أنها جاءت لتنقض أي شكل من أشكال الوثوق المعرفي والتمركز الفكري. فـ"أهميتها المعرفية" كامنة على مستوى ما تتيحه من أفق، رحب، لـ"التحليل" الذي لا يفارق، في النظر الأخير، "التدخل" و"التشخيص". وهذا بالإضافة إلى "الإحكام النظري" الذي تقوم عليه، وهذا على الرغم من المظهر الذي تظهر به وهو مظهر "الكرنفال الأكاديمي" أو "التوليف المفاهيمي". والأهم، في النص الروائي، هو "خلفيته الثقافية" التي تجعله منشغلا بقضايا الذاكرة والهوية والسرد والأمة والمنفى .. إلخ.
ونص (عزّوزة) جاء ليتحرر من الانغلاق في التصور الأدبي المعزول، أو حتى من التراوح ما بين "التحقيق" و"التخييل" من أجل التشابك مع بعض هذه القضايا. فالنص، وفي إطار من مطمح تعضيد نظرته، يفسح مجالا، جليا، للأمثال الشعبية والأغنية الشعبية ولأحكام الثقافة الشعبية وأقوالها المأثورة وعباراتها المسكوكة .. وعلى النحو الذي يجعل "الثقافة قوة كامنة في الأدب" تبعا لأحدى أفكار النقد الثقافي. والكاتبة تبلغ، في هذا الانفتاح، حد "التناص الموجب"؛ ذلك أن هذه الأقوال ليست مقحمة أو مفروضة، وإنما تفرضها اللحظة أو الرغبة في تصعيد هذه اللحظة. وهذا بالإضافة إلى أن عملية التناص هاته تظلّ تتأطر في إطار من "السرد الواقعي الخيطي" وفي إطار من اللغة المتفصِّحة التي تحرص الكاتبة على أن تنأى بها عن "التهجين" و"التكسير". ولعلَّ هذا ما لا تخطئه، حتى، "القراءة الأولى" للنص.
وما حفـَّزنا، وأكثر، على الإفادة من "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" هو "الاستعمار" الذي عانت منه عزّوزة، بل وتشكـَّلت شخصيتها في إطار من سياقه المتدافع. ولذلك ففهم هذه الشخصية لا يمكن لدلالاته الكبرى أن تستخلص إلا من خلال السعي إلى محاولة فهم هذا الاستعمار و"فك شفراته" الكبرى التي كانت عزّوزة مجلى لها. وهذا الاستعمار كان مزدوجا أو مضاعـَفا: استعمار خارجي (سياسي) واستعمار داخلي (ثقافي). وكان الاستعمار الثاني الأكثر حضورا في النص الروائي؛ فيما كان الاستعمار الأول لا يحضر إلا بشكل متقطّع وتكميلي، غير أنه كان يصبُّ في المصب ذاته الذي هو مصب "التحقير" و"الاستنزاف". وإذا كان مناط تشكـّل الاستعمار الأول هو الأرض وفي المدار الذي لا يفارق التسييج والاستغلال فإن مناط تشكل الاستعمار الثاني هو الجسد وفي المدار ذاته الذي لا يفارق التسييج والاستغلال. وفي كلتا الحالين فإن المطلوب هو الامتثال والخنوع.
وعلى المستوى الأول، وفي اعتقادي، لم تكن عزّوزة تواجه "الحماة" القاسية التي كانت ــ ظاهريا ــ وراء القسط الأكبر من "جراحاتها"، ولا حتى زوجـها أحمد الذي كان يخصـُّها، وفي الأغلب الأعم بدون سبب أو بـ"سبب عائم ومزعوم" ("التأديب")، بوجبات من "الضرب" و"الضرب الدامي" في أحيان وأحيان كثيرة. لقد كانت، في العمق، تواجه "ثقافة قمعية فولاذية مفترسة وسائدة" هي علامة على "المجتمع التقليدي" كما تنعته الأنثروبولوجيا السياسية. والمجتمع الأخير، وفي حال رواية (عزّوزة)، هو "مجتمع قبلي انقسامي مصغـَّر"؛ وكان هذا المجتمع، وفي وحدته السياقية الكبرى، هو الماسك بالمغرب وسواء على مدار الفترة التي تتحدث الرواية عنها أو الفترة التي تلتها بعقود. كانت عزوزة، وباعتبارها "نموذجا"، تصارع بنيات بأكملها، أو مؤسسات لا مرئية، وداخل سياق كولونيالي متدافع يصرّ بدوره على تثبيت وضع "التجهيل" الذي يسمح له بمواصلة معزوفة "المهمة التحضيرية" للاستعمار. فالزواج من غير الأقارب هو مس بـ"سمعة الأب" داخل القبيلة، وقبل ذلك هو مس بـ"الميثاق الانقسامي" الذي تؤكـِّده العبارة الشهيرة "أنا ضد أخي وأنا وأخي ضد ابن عمي وأنا وابن عمي ضد الغريب [أو "العالم"] التي اعتمدها الأنثروبولوجيون (الأجانب في الأغلب الأعم) في دراسة المجتمع المغربي في فترات سابقة (الستينيات الصاعدة، بصفة خاصة). و"اللي دَّا من غير قبيلتو تهرس من ركبتو" تبعا للمثل المتداول في دراسات "المثل الشعبي" بالمغرب. وكما أن تلخيص المرأة في "الإنجاب"، وإلى الحد الذي يجعل منها "آلة للتوليد" فقط كما قال السوسيولوجي المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي، بل ويجعلها تلد ووحيدة وكـ"الكلبة" كما في حالة من حالات عزّوزة (ص117)، هو من صميم "النظرة البارتريكية" (والقامعة، للمناسبة) للمرأة في دورها في الحياة. وكما أن قبول المرأة بالحياة، وكما هي، دلالة على نوع من القبول بما يضمن للمجتمع "استقراره". والخلاصة: سجن لا مرئي أو منفى داخلي تتحرك المرأة داخله مثلما يتحرك بداخلها. وليس غريبا أن تشير الرواية، وفي أكثر من موضع، إلى هذا السجن أو المنفى.
أجل لقد قاومت عزّوزة، وفي أكثر من محطة، هذه الأدغال وبدءا من اجتياز عقبة اختيار الزوج من غير الصهر أو "صهرهم" تبعا لتعبير الرواية وعلى نحو ما خلف ذلك من "هياج" و"جنون" في الأب. ولم يهدأ لهذا الأخير بال إلا بذبح كبش حتى يدفع عنه العار وسط "الدوار". وكما أننا لا نعدم، في مواضع أخرى من الرواية، مواقف حتى وإن كانت عفوية فإنها دالة على نوع (ولو بسيط) من "الوعي المقاوم". فقد كانت، وعلى شاكلة بنات جنسها في بقاع الأرض، حريصة على تصعيد الوعي بـ"الانهمام بالجسد" باعتباره "سلاحا" في وسط يصرُّ، وعبر ماكينات الثقافة السائدة، على "تخريب" هذا الجسد قبل الأوان. ورغم المواقف السابقة، وغيرها، فلم تتمكن عزّوزة من إحداث "ثقب" في جدار "الثقافة" التي كانت تحيط بها من "الأمام" ومن "الخلف"، لكن بغير الفهم الرمزي الإنساني الذي يعطيه كلود ليفي ستراوش للثقافة حين يقول بأنها توجد أمامنا وخلفنا. ما يوجد، وفي حال عزّوزة، وحال المرأة ككل، ولا سيما في تلك الفترة، ومن جميع الجهات، هو "القمع اللاهب" الذي يبلغ حد التقتيل بالتقسيط أو التدريج. وفي هذا الصدد لا يمكن تفسير "موت" عزوزة، وغير المفاجئ، دون استحضار عوامل من مثل الجهل والمرض والعداء .. وغير ذلك من العوامل الأخرى ــ وبمتعلقاتها ــ التي تشكل بنيان الثقافة سالفة الذكر.
وفيما يخص الاستعمار فليس من شك في أن المقصود، وفي حال الرواية، وحال المكان الذي تدور فيه، هو الاستعمار الفرنسي الذي لم يكن، وسواء على مستوى التضمين أو اللزوم، يغاير الاستعمار الاستيطاني التقليدي إن نقل يغذِّي هذا الأخير. ومن هذه الناحية فعزّوزة، وفي سياق الوعي المقاوم، والذي سلفت الإشارة إلى بعض مؤشراته، كانت رافضة للاستعمار، وعلى وجه التحديد من ناحية "دعوى طيبوبة المعمـِّرين". وتجدر الملاحظة، هنا، إلى أن عزّوزة، التي عاشت في فضاء تجهيلي يربط المدرسة بالكفر والإلحاد، بل ويحرِّم أصلا تعليم المرأة، لم تكن مؤهلة لإظهار ولو الحد الأدنى من الوعي النظري بالاستعمار وعلى النحو الذي يجعلها تساجل وتجادل بأن "الغرب هو من تقدم نحو الشرق وليس العكس" (إدوارد سعيد: الاستشراق، ترجمة: محمد عناني، ص91). ومن ثمَّ، كما يمكن أن تواصل، كانت فظاعة الاستعمار وجرائمه ونفاقه .. إلخ. فأفكارها، حول الاستعمار، استقتها من "المعايشة" (المريرة) له، وعلى وجه التحديد من ناحية الذكرى المؤلمة المتمثلة بقتل هؤلاء لأبيها. ولذلك، وفي حوارها مع مرجانة زوج حارس بيت مسيو فرانسوا، رفضت التمييز بين الطيـِّب والشرِّير في حشود المعمـِّرين؛ وهو "التمييز" الذي كان يعتقد في "نجاعته" كثير من الأهالي. تقول: "كان أبي يجلسني في مجلس الرجال .. كنت أسمع أحاديثهم عن المستعمر الفرنسي. أبي كان طيبا ولم يؤذ أحدا في حياته. ولا يمكنه أن يقتل النصارى إذا كانوا طيبين!". وكما تضيف: "عين الاستعمار مبثوثة في كل مكان!". فعزّوزة أبعد من "معاداة الاستعمار" و"التبجح الوطني" .. إلخ.
وعزّوزة، وكما يستخلص من النص، كانت لها مواهب، وكانت من النوع الذي بإمكانه أن يؤكد على حضور من نوع آخر. إنها نموذج لـ"المرأة الحادكة" بالتعبير المغربي الدارج الذي يأخذ به الباحث السوسيولوجي محمد جسوس في كتابه "رهانات الفكر السوسيولوجي بالمغرب". غير أنه لم يسمح لها ولو بالحد الأدنى من ذلك، وبكلام نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي: لم يسمح لها بـ"السرد". فالسياق كان معاكسا وشرسا، وكان "القتل الرمزي" فيه يسود في أي مكان. وكان الجسد هدف "التدمير"، وهو ما عبـَّرت عنه مرجانة عندما قالت عن زوجها (ولعزّوزة نفسها): "بلخير لا يزال في كامل قواه الجسدية، ونشاطه الجنسي لا يزال عاليا"، وتضيف قائلة: "والله لو كنت حجراً لتفتتُ". إنه مشكل ثقافة بأكملها، لا يكتفي فيها الرجل بأن يكون مجرد "شهوة ضالـَّة" تبعا لتعبير سارتر. ولذلك يسهل التأكيد على أن "الاستعمار الداخلي" كان، وبمعنى من المعاني، الأشرس والأفظع مقارنة مع الاستعمار الخارجي، ذلك أن الاستعمار الأوَّل كان أكثر إصرارا على "امتهان" الذات وإذلالها بشكل مقرَّب ومفصـَّل. وهذا ما جعل عزّوزة تصرخ: "ليتهم قتلوني معه [أبيها] .. ليتهم جاؤوا دوارنا وقتلونا جميعا .. يكونون بذلك، قد أعفوني من رؤية هذه الحماة الشريرة وجعلوني لا أتذكر وأنا في الآخرة، إلا الحياة الجميلة التي عشتها بين أهلي" (ص153). ثم إنها ولما خرجت بمفردها إلى دار مرجانة، وجدت نفسها في طريق العودة "تفكر في هذا الانتصار الذي حققته على حماتها بخروجها وحدها. أحست وكأنها خرجت من سجن كان محكوما عليها أن تظل فيه العمر كله. غمرتها نشوة عارمة، فإذا بها تجثو وتقبل الأرض وهي تقول: أحمدك يا رب، وأشكر فضلك!"(154).
غير أن ما سلف، ومن موقف اتجاه الاستعمار الداخلي، كان في نوبات الغضب؛ ذلك أن عزّوزة ليست من الصنف الذي يرضخ. ولذلك كانت "وكلما طالبها أحد بالصبر والخضوع لحماتها وزوجها رددت لازمتها المألوفة: هل يمكن لبنت علي الجعايدي الشجاع المقدام الذي لم يكن يخشى حتى النصارى أن تستسلم للظلم والهوان؟ لن يحدث ذلك ولو قطعوا جسدي إربا وشووه وأطعموني إياه!" (ص63). وكما أن "شرَّ الاستعمار" كانت عزوزة قد تأذّت منه من خلال دور الدعارة التي حرص هذا الأخير على السماح لها، بل ورعايتها طبيا (وإداريا بصفة عامة). وهو ما تشير إليه الرواية بدورها: "هذه الدار تختلف عن بقية دور الدعارة المنتشرة في ضواحي المدينة. إنها دار مرخص لها من طرف السلطات الاستعمارية. تخضع للمراقبة الصحية. يؤمها النصارى العاملون بالمدينة غالبا، ما بين الجمعة ليلا ويوم الأحد الثانية زوالا" (ص80).
أجل إن الدعارة واحدة من المهن القديمة عبر التاريخ تبعا للقول المتداول، غير أنه في حال الدائرة التي كانت تتحرك فيها عزّوزة كانت ــ الدعارة ــ أحد المظالم التي لحقت بها. ففي هذه الدار، وغيرها، كان الاستعمار يمارس "عدوانيته الجنسية" كما ينعتها الناقد الأسترالي (والرائد في دراسات ما بعد الاستعمار) بيل أشكروفت، وكان ذلك لا يتحقق إلا من خلال عدوانية من صنف آخر هي ــ وإذا جاز الاصطلاح ــ "عدوانية التحويل الاسمي" التي لا تفارق "المحو الثقافي" الذي لا يفارق بدوره ما أسماه فرانز فانون بـ"الخيالات الخاصة بالاغتصاب" التي كانت تقع في أساس أحلام المستعمر الفرنسي تجاه المرأة (وإن كان فانون يقصد، هنا، إلى المرأة الجزائرية). وعلى مستوى الخيالات الأخيرة قرأنا، وفي نص (عزّوزة)، عن "فاطمة" التي تحوَّلت إلى "فاتي"، وعن "مريم" التي تحولت إلى "ماري" أو "مدام ماري". وهذه الأخيرة تزوجت من مسيو جاك الذي شرط عليها عدم الإنجاب. وكما في ورد النص: هو "لا يريد أطفال ملوثين بدماء العرب. La sale race كما يقول" (ص303).
ونحن، هنا، لا نريد أن نستعيد ما بات يعرف، في أدبيات "ما بعد الكولونيالية"، بـ"القاعدة الشهيرة" للشاعر الإنجليزي ــ الذي كان في خدمة الإمبراطورية الإمبريالية ــ روديارد كيبلنغ: "الشرق والغرب كمستقيمين متوازيين لا يلتقيان" أو ــ وبلغة جازمة ومباشرة ــ "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا". يهمنا ما ذهب إليه طاغور من أن "الشرق والغرب، باستمرار، أحدهما يبحث عن الآخر، ومن الضروري أن يلتقيا". غير أن اللقاء، هنا، على أساس من "الاستغلال الجنسي"، وكل ذلك في المدار الذي يحفظ لـ"الآخر" "آخريته". وحتى على صعيد "التواصل الجنسي" ــ وغير المتكافئ ــ فإن "التصادم الصامت" يظل واردا؛ وهو ما أسرَّت به ماري نفسها لأحمد عندما قالت له: "الجنس مع النصارى لا طعم له" (ص302). وفي سياق أحداث الرواية: فعلى "ماخور طامو" سيتردد، ومن جديد، لكن هذه المرة، أحمد الزوج لا أحمد الحر والطليق. وقد عاد إلى الماخور بعد أن غاب عنه طويلا (أربع سنوات). غير أنه لم يتغيـَّر لأنه "ابن الدار" (ص80)، ولذلك "لم يفسد الزواج لا خصاله ولا ذوقه" (ص82). وفي الماخور نفسه كان قد غنم من كل من فاتي وماري وقبل أن يغنم من "الحمرية" التي سيتزوج منها، وعلى نحو استنزفه ماديا وجنسيا، وعلى النحو الذي أفضى به إلى أن يصير "مشكلة"، وسواء بالنسبة لذاته أو للمقرَّبين منه، ومما أشرّ، وفي النهاية، على "موته المجازي".
أجل لم يكن أحمد "مواليا" للاستعمار، أو متعاونا معه، أو جاسوسا له مقارنة مع شخصية بنحمادي الذي بلغ به حدّ التحرش الجنسي بعزّوزة في لحظة فرارها خوفا من أن يذبحها زوجها أحمد في أحد اعتداءاته عليها. غير أن هذا الأخير كان، ودون وعي منه، مأخوذا إلى ما يسمَّى في نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي بـ"التماهي الكولونيالي"، وكل ذلك في إطار من ما يعرف ــ في النظرية ذاتها ــ بـ"الرغبة الكولونيالية" تبعا لاصطلاح روبير يونغ. و"ما من محلي إلا ويحلم مرّة في اليوم على الأقل بأن يحلّ مكان المستوطن" تبعا لتصور فرانز فانون الذي يذكرنا به الناقد الهندي الأشهر وما بعد الكولونيالي هومي بهابها في كتابه "موقع الثقافة" (ص110).
ولعل أول ما يفرض ذاته، وعلى صعيد الملاحظة النقدية، وبعد استخلاص المراكز الدلالية ودورانها في نص "عزوزة"، هو "تسمية الأدب النسائي" التي يتأطر داخلها النص. وحتى إن لم يكن هناك من مبرر لاستعادة النقاش (النقدي) حول التسمية فإن ذلك لا يمنع من التأكيد على التمييز، والذي راح يأخذ به نقاد عرب أيضا، ما بين "رواية المرأة" و"الرواية النسائية". وعلى مستوى الشق الثاني، من الثنائية، تتأكـَّد "الهوية الأنثوية" و"الرؤية الأنثوية" .. وعلى وجه التحديد من ناحية التصدي، الصامت، كما في حال نص (عزّوزة)، لـ"المجتمع التقليدي القامع" و"الغاصب"... وكل ذلك في المدار الذي لا يفارق محاولة صياغة "رؤية مغايرة" للعالم وللبشر والأشياء التي تحيط بهذا الأخير. هذا وأن الزهرة رميج، وسواء في نص (عزّوزة) أو نص "أخاديد الأسوار"، لا تفصح عن "لوثة الموضة" في أثناء التعاطي لـ"الأدب النسائي" وعلى النحو الذي يجعل النص يفتقد للعمق الأدبي والثقافي، وحتى الإنساني. هذا، أيضا، ولا تفوتنا الإشارة إلى عدم تخندق الكاتبة في هذا الأدب وبشكل مطلق وكلي .. فتحوُّلها إلى "الكتابة بشوارب الرجل" بارز في أكثر من موضع من مواضيع الرواية ولا سيما في أثناء وصف "عوالم ماخور الدعارة". والكاتبة بدورها، وفي أثناء الوصف الأخير، وتحت ضغط الإحساس بـ"الجندر"، أو "الهوية الجنسية" تبعا لترجمة جابر عصفور التي نميل إليها، أشارت إلى "المرأة التي تحمل شيئا من الرجل" والعكس صحيح.
إننا لا نعدم، في النص، نوعا من "النبرة الرومانسية" التي جعلت الكاتبة تنساق مع عزّوزة وبشكل سافر وجارف، وعلى النحو الذي أفضى بعزّوزة إلى نهايتها المحتومة وغير المفاجئة. غير أن النبرة الأخيرة تظل مضمرة أو تظل عائمة ما بين المراكز الدلالية بسبب من إيقاع "حموضة الواقع القروي" أو إيقاع "نتانة الزفت الاجتماعي القروي الخانق" الذي بدا طافحا في الرؤية التي تلوي بالنص. وهذا بالإضافة إلى "الوصف" الذي أسهم في الحد من سيادة النبرة الرومانسية. والظاهر أن الوصف من المرتكزات التي بدت ذات دور بارز ولا فقط على مستوى الحد من جماح خيطية السرد رغم تقنية الاسترجاع أو توقيفه تبعا للغة الرطان البنيوي، وإنما على مستوى صياغة "الأطروحة" التي سعت الكاتبة إلى تبليغنا إياها. وما أكسب الوصف نفسه أهمية مضاعفة هي "السخرية" التي بلغت حد التأكيد على "جمالية القبح"، وحصل ذلك في مواضع كثيرة داخل الفضاء الدلالي للرواية.
غير أن الأصل في حكاية النظرة، أو الأطروحة سالفة الذكر، وهو ما تفصح عنه سيرة الكاتبة البيوغرافية التي ينبغي الاستئناس بها بمعنى من المعاني، هو "الفكر الاشتراكي" الذي كانت الكاتبة قد تشبـَّعت به وعلى النحو الذي بدا "متينا" و"متماسكا"، و"صادقا" أيضا، منذ رواية (أخاديد الأسوار) التي سبق لنا أن خصـَّصنا لها دراسة مطوَّلة نشرت ضمن مقالات الكتاب الجماعي المكرّس للرواية نفسها (ضد الصمت والنسيان) (2010). إننا لا نعدم هذا الفكر في رواية (عزّوزة)، لكن من خارج دائرة "المد اللفظي الثوري" أو "البلاغة الزائدة".
من الناحية الأخيرة يظهر أن الكاتبة سعت، ومن خلال النوع الروائي، وباعتباره مجالا للكمون أو الإضمار الثقافي، إلى الاضطلاع بنوع من "أداء المثقف" على مستوى التصدي لـ"الألغام الحارقة" التي لا تزال تلوي بـ"السرد" (بمعناه الموسـَّع) وتعوق ــ بالتالي ــ "بناء الأمة". لقد آثرت الخوض في الموضوع القديم/ الجديد المتمثل بـ"نساء العالم الثالث"، لكن دون أن تستقرَّ على حكم "لا وجود للمرأة في العالم الثالث". فالمرأة موجودة، غير أن المشكل في "النسق الثقافي المفترس" الذي كانت مرسى له. و"الحريم"، كما قيل، هو "إفراز ثقافي". وعزّوزة، في النظر الأخير، ضحية هذا النسق أو ضحية "الوراثة الاجتماعية" لا "الوراثة أو المؤهلات البيولوجية". ذلك أن الكاتبة جعلتها تمتلك قدرا جليا من الوعي الذي برهنت عليه في أكثر من محطة كما أسلفنا، ودون أن يفوتنا أن نشير هنا إلى أغنيتها عن الجنود الألمان (ص114).
ويبقى أن نختم أن (عزّوزة)، ورغم تراوح النص بين التخييل والتحقيق، ليست كائنا من "لحم ودم" كما قد يتبادر إلى الذهن. أجل إن علاقة الكاتبة معها لا تخلو من "صلات وجودية"، غير إنه من المفيد أن نلتفت إلى "ألاعيب التخييل الروائي" و"الإيهام الروائي" التي تتحرك عزوزة في إطار منه؛ بكلام الناقد الفرنسي الألمعي رولان بارت: إنها "كائن من ورق". وهي "نموذج" لنوع من "الوعي المقاوم الصاعد" وقتذاك، وأهميتها أنها ألقت "الحجر في تلك البركة الراكدة" و"المخيفة" كما يمكن أن نضيف.
وبالنظر إلى انعكاس الاستعمار على التاريخ، وبالنظر إلى أهمية المجال الأدبي على مستوى فك الالتباس ما بين التاريخ والاستعمار، فإن ما بقي من الاستعمار هو (عزّوزة) ذاتها. وعزّوزة، وبكشفها عن المجتمع القبلي الانقسامي، وبهجرة الأسرة إلى المدينة، وعلى النحو الذي أفضى إلى "ميلاد البروليتاريا" التي تحدّث عنها روبير مونطاني وسواه، تكون عزّوزة هي المغرب ذاته في مرحلة من مراحله الصعبة وهي مرحلة الأربعينيات الصاعدة. الظاهر أن الكاتبة إحدى حفيدات "عزّوزة". والظاهر أيضا أننا كلـُّنا عزّوزة، وأن موتها مسؤولية الجميع. وهي ماتت قبلنا أو ماتت بدلا منا؛ ولذلك إننا مدعوون جميعا إلى رد الاعتبار لها. والرواية هي علامة على طريق المواجهة الأعرض، وكل ذلك من خلال "رد الفعل كتابة" (Contre Attaque Par L’Ecriture) تبعا للمصطلح الرائج على نطاق واسع في "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي"
وكم كان سيكون لافتا، في تصورنا، لو أن الكاتبة كانت قد أثرت نصها بـ"لوازم "النص الثالث" (Third Text) ما بعد الكولونيالي"، ولا سيما على مستوى التنصيص، ومن خارج "جرد التفصيل"، في "الإقليم الثقافي" أو في المكان الذي يتحدَّد زمانيا ومكانيا وثقافيا بل وأرشيفيا كما يقول إدوارد سعيد، أو المكان باعتباره علـَّة التشكل الروائي، ومع ما يستدعيه هذا التشكل من "ازدواج لغوي" .. إلخ. غير أنه لا يمكن إلزام الكاتبة بالنظرية، ويكفي أن نصها ينخرط فيها وبشكل أوضح، مقارنة مع نصوص تدعـِّي الانخراط "الواعي" في النظرية. فكم من رواية كتبت من منظور "الخطاب الميتاروائي" بلغة الرطان النقدي الثمانيني بالمغرب؟ وكم بقي من هذه الروايات؟