أبعاد وحدوية
منذ انتشار المد القومي في الوطن العربي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، برزت الأحزاب والحركات القومية التي تدعو إلى قيام اتحاد للعرب في أي شكل من أشكال الوحدة. فقد ظهر في المشهد السياسي إذ ذاك حزب البعث العربي الاشتراكي، القوميون العرب، الناصريون، ويُمْكننا أن نُضيف إلى القائمة حتى الحزب القومي السوري .
فشل حزب البعث في تحقيق أول أهدافه
غير أنه من سوء الطالع أن أحدا من أولئك لم يستطع تحقيق المُبْتغى، فحزب البعث الذي وصل إلى السلطة في كل من سوريا والعراق، فشل في تحقيق هدفه في الوحدة لأن العلاقات بين البلدين لم تكن وديّة البتة، إن لم نقل إنها كانت عدائية في أغلب الأحوال، ويكفي أن نُذَكر بأن سوريا قد اصطفت إلى جانب إيران ضد العراق في حرب الخليج الأولى، ثم عادت مرة ثانية وانضوت تحت لواء التحالف الدولي لطرد العراق من الكويت، وفي المرة الثالثة عندما قررت الولايات المتحدة وبريطانيا غزو العراق لم تبد سوريا موقفا مناوئا لهذا الغزو، وإن كانت ارتعدت فرائصها خوفا من أن الدور سيكون عليها بعد العراق، ولهذا احتضنت بشكل خجول قيادات حزب البعث العراقي التي وَلت أدبارها للعدو، تاركة الشعب العراقي يواجه مصيرا تعيسا، كما سمحت سوريا بشكل سري للمتطوعين للقتال في ساحة الوغى في العراق بعبور أراضيها بادئ الأمر، غير أنها ما لبثت أن انقلبت على عقبيها، حين تبيّن لها أن أولئك المتطوعين كانوا من الإسلاميين الجهاديين، حيث شرعت في القبض على أولئك المتطوعين وتسليمهم إلى دولهم التي ألقت بهم في غياهب السجون بتهمة انتمائهم لتنظيم القاعدة الإرهابي!
تحالف مذهبي إقليمي
ولما كان السوريون يتقنون لعب أوراقهم السياسية بمهارة فائقة، وكانوا تحت وطأة خوف مُفرط من أن تكون بلادهم هي الفريسة التالية للنسر الأمريكي. لذا فإنهم ذهبوا إلى تعميق تحالفهم الإستراتيجي إلى الغور الأبعد مع حليفتهم إيران، درءً للخطر الغربي الداهم، إلا إن آيات الله في إيران كانوا أكثر دهاء من السوريين في التعامل مع الحراك الاستراتيجي الأمريكي المستجد، حيث يكاد المرء أن يُزْعم على القول أن الإيرانيين تحالفوا ـ إن لم يَقٌلْ تأمروا ـ مع الغرب على الإطاحة بالنظامين السنيين "طالبان" في أفغانستان و"نظام صدام" في العراق . وبهذا التحالف أو التآمر أو الدهاء المتناهي سَمِه ما شئت، تمكنت إيران من جهة من التخلص من نظامين عدوين لدوديّن لها، ومن جهة أخرى صرفت نظر الغرب عن سعيها لتحقيق برنامجها النووي. والملفت للنظر أن إيران عادت لتناكف الغرب في الساحة العراقية، مبدية رغبةً جامحة في لعب دور أساسي في مقاومة الوجود الغربي في العراق، حيث لم تتوان عن دعم الشيعة العراقيين لمقاومة الاحتلال الغربي.
وفيما تحقق لإيران حلمها في الإطاحة ب "طالبان" و "صدام"، كما أنها قطعت شوطا بعيدا في تنفيذ برنامجها النووي، أكتفي السوريون بالركون إلى كون الدور الإيراني في العراق كفيل بالحؤول دون أن يُغامر الغرب بغزو سوريا، وعندما حاولوا الشروع في تنفيذ برنامج نووي متواضع الطموح عاجلتهم إسرائيل بضربة مباغتة لمفاعل نووي صغير، كان قيد الإنشاء في شمال سوريا! ثم أنه لم يمض طويل وقت حتى عَدْلَ الغرب استراتيجيته، وعاد مهددا وتوعدا بالويل والثبور ضاغطا على إيران في شأن برنامجها النووي، وداعما للمعارضة السورية التي زلزلت نظام بشار الأسد حتى صار آيلا للسقوط بين لحظة وأخرى.
ألا يمكن للمرء أن يقول أنه ثمة قصور في المنظور الإستراتيجي للأمن القومي العربي الذي كان من المأمول أن تضطلع به سوريا بحكم دورها النضالي وموقعها الاستراتيجي وثقلها السياسي، لاسيما بعد خروج مصر من المعركة بتوقيعها اتفاقات "كامب ديفيد"؟ بل يكاد أن يجرؤ أي كان على أن يُوَهِي أيضا التصور الاستراتيجي للأمن الوطني السوري ذاته، الذي رَكَنَ إلى حالة المراوغة السياسية والتعامل مع المتناقضات الإقليمية، والانخراط في حروب جزئية صغيرة سواء مع الأطراف المتنازعة في لبنان، أو مع العدو الاستراتيجي إسرائيل، ولكن ليس في الجولان بل في لبنان، تارة عبر المقاومة الفلسطينية، وأخرى من خلال المقاومة اللبنانية، وثالثة بدعم حزب الله! والمُحصلة في جميع الأحوال الجولان لا تزال مُحْتلة، وتم الاقتناع أن الأمور بخير مادام لم تسقط العاصمة على رأي مظفر النواب!
الناصريون وتجربة وحدوية يتيمة
أما الناصريون فقد كانت لهم محاولة يتيمة للاتحاد مع سوريا لم تدم أكثر من ثلاث سنوات، وطفق كل من الناصريين والبعثيين كل طرف يُلْقي باللائمة على الآخر ويُحَمِلْه مسؤولية الفشل. وتجدر الإشارة هنا إلى توحيد شطري اليمن الذي بدأ باتفاق الطرفان، وما إن طفت على السطح بوادر العودة إلى الانفصال سارع النظام إلى استعمال القوات المسلحة لتثبيت الوحدة بالقوة، غير أن ذلك لم يُجْدِ فتيلا فها هي اليمن تكاد تتشظى إلى ثلاثة أقطار وليس إلى قطرين فحسب .
شطحات القذافي الوحدوية
ونحسب أن القاري الكريم في غنى عن استعراض الشطحات الوحدوية للعقيد القذافي من ميثاق طرابلس ـ ليبيا، مصر/ السودان ـ إلى اتحاد الجمهوريات العربية ـ ليبيا/ سوريا/ مصرـ إلى الجمهورية الإسلامية ـ ليبيا/ تونس ـ إلى الوحدة الاندماجية ـ ليبيا/ مصر ـ إلى اتفاق " حاسي مسعود" ـ ليبيا/ الجزائرـ إلى الاتحاد العربي الأفريقي ـ ليبيا/ المغرب ـ إلى الاتحاد المغاربي ـ ليبيا/ تونس/ الجزائر/ المغرب/ موريتانيا. كل هذه المحاولات باءت بالفشل، وذهبت مع الريح ولم يبق منها إلا الاتحاد ألمغاربي الذي يُمكن للمرء أن يشخص حالته بأنها حالة موت سريري!
الأنموذج الوحدوي العربي الناجح
في آخر هذا النفق المظلم لدرب الوحدة العربية يبدو ثمة بصيص ضوء كأنه شمعة يأتي سناها من غياهب ذكريات الفشل المتكرر، إنها تجربة دولة الأمارات العربية المتحدة. كانت دولة الأمارات العربية المتحدة في بداية الأمر من عام 1969 إلى عام 1971 دولة تتكون من تسع إمارات، حيث كانت كل من قطر والبحرين تنضوي تحت لواء هذه الدولة، غير أنهما انسحبتا من هذه الدولة الفيدرالية التي أصبحت تضم سبع إمارات فقط . وكان الأنموذج الوحدوي الذي استطاع الراحل الشيخ زايد بن سلطان أن يحققه واقعيا بقيام دولة الأمارات العربية المتحدة واستمرارها دولة اتحادية فيدرالية، هو الأنموذج الوحيد الذي استطاع الصمود والبقاء دونما ضجة إعلامية ولا صخب عقائدي متشنج مثبتا أن الأمور الصعبة قد يتأتى تحقيقها بقليل من الجهد وبمقدار أكبر من النوايا الطيبة والبساطة السمحة، والترتيب المتأني البعيد عن التنطع والدعائية. وقد تكون التجربة الوحدوية لدولة الإمارات، هي التي استلهمت منها دول مجلس التعاون لدول الخليج المنهج والأسلوب الذي أتبعته في سياق بناء تجربتها الوحدوية، وإن كانت الأسباب التي دَعَتْ لقيام مجلس التعاون لدول الخليج تختلف بعض الشيء . فعلى الرُغم من أن ثمة العديد من المعطيات الجغرافية والاجتماعية والسياسية التي تجعل قيام اتحاد بين الدول العربية في الخليج أمرا قابلا للنجاح، غير أن ما عجل في تأسيس مجلس التعاون هو:ـ
1 ـ نجاح ثورة "الخُميني" في إيران وهو ما أدى إلى تحول إيران إلى عدو للولايات المتحدة، وترتب على ذلك أن أصبحت الدول الصديقة للولايات المتحدة، والتي من بينها الدول العربية في الخليج، عدوة لإيران. ناهيك عن إعلان إيران عن رغبتها في تصدير الثورة إلى شعوب ودول المنطقة وهو ما أثار فزع المنطقة برُمتها وليس دول الخليج فحسب. وهكذا أصبحت إيران مصدر خطر أستوجب اتقاء شرها بكل السبل، ليس أقلها تشكيل تحالف أمني بين دول الخليج العربية.
2 ـ اندلاع الحرب العراقية الإيرانية بصرف النظر عن أسباب تلك الحرب، ومن المسؤول عن قَدح الشرارة الأولى التي أدت إلى اضطرامها، حيث كانت تلك الحرب مؤشرا بيّنا على جدية الأخطار التي تنتظرها المنطقة. ولذلك سارعت دول الخليج العربية إلى إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية. غير أن ليس كل ما يراد يُدرك، فلم يتمكن المجلس من تحقيق مبتغاة نظرا لعدم تناسب ميزان القوى بين دول الخليج من جهة وإيران من جهة أخرى. فسرعان ما تصاعدت وتيرة الحرب بين العراق وإيران لتستهدف ناقلات النفط، ولم يكن من مفر أمام دول الخليج العربي لكي تؤمن تصدير نفطها إلا الاستعانة بقوات عسكرية أجنبية، وهذا ما تم حيث تقاطرت على المنطقة حاملات الطائرات والمدمرات الحربية التابعة لحلف شمال الأطلسي، وقطع حربية أخرى تابعة لجيوش دول شتى. وما كادت تنتهي حرب العراق وإيران، إذ بالآلة العسكرية العراقية تلتهم دولة الكويت في ساعات معدودة، حيث فر أميرها وولي عهده وباقي الحاشية والحكومة طالبين النجاة لدى المملكة العربية السعودية. وهكذا تأكد بما لا يدع مجالا للشك عجز مجلس التعاون لدول الخليج عن حماية الأمن لأعضائه!
ورُغم أن المجلس قد قام في الأساس على أساس تأمين الحماية العسكرية لدولة، وكانت سلطنة عُمان قد دأبت على المطالبة بتكوين جيش موحد لدول الإتحاد، لاسيما وأن دول المجلس هي الأعلى إنفاقا على شراء الأسلحة في دول المنطقة، إلا أنها كانت تعوزها سياسة دفاعية موحدة. أما قوات "درع الجزيرة" فقد ظلت ذات دلالة رمزية أكثر منها حقيقة واقعة، وإن كانت قد قامت بعمل يتيم تمثل في إعادة الاستقرار في مملكة البحرين، في أعقاب القلاقل التي أثارها الشيعة هناك، تلك القلاقل التي جاءت وكأنها أصداء لهتافات جماهير الربيع العربي في تونس، مصر، ليبيا، اليمن، وسوريا. ثم أن قوات "درع الجزيرة" لم يتأت لها أن تستوعب كل جيوش الدول الأعضاء، إنما انضوى تحت إمرتها فقط عدة كتائب من كل جيش من جيوش الدول الأعضاء.
غير أن عدم استطاعة مجلس التعاون لدول الخليج العربية تحقيق الهدف الرئيس من إنشائه لم يُثن المجلس عن تفعيل دوره كمنظمة للتعاون الاقتصادي ،الثقافي والأمني بين الدول الأعضاء في تلك المجالات. وقد حقق المجلس عدة إنجازات ، فمنذ عام 1983 ألغيت كافة الرسوم الجمركية بين دول المجلس على البضائع ذات المنشأ الوطني، وفي عام 2003 تم إنشاء اتحاد جمركي بين دوله، كما تم إقرار حرية التنقل ولإقامة لمواطني دول المجلس، كما تم أيضا إقرار حرية حركة رؤوس الأموال وحرية التملك والاستثمار. وهي إنجازات بطبيعة الحال تظل في تقديرنا إنجازات متواضعة إلى حد بعيد، لاسيما وأن مجلس التعاون سلخ من الزمن أكثر من ثلاثة عقود! يضاف على ما تقدم من القصور العسكري لدول مجلس التعاون، ما يتوقع أن ينجم عن الانسحاب الأمريكي من العراق من تفاقم للصراع السني الشيعي في الساحة العراقية وانعكاسات ذلك على دول مجلس التعاون. ناهيك عن تأجيج ثورات الربيع العربي لِحُمَى سقف مطالب الجماهير في دول المجلس، سواء في شأن الحقوق السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وإن كانت دول المجلس قد قامت بتقديم حزمة من الحوافز الاقتصادية للمحتاجين من مواطنيها، غير أن ما قامت به من خطوات سياسية في شأن تحديث هياكلها السياسية لم يكن موائما لسقف تطلعات الجماهير المتعطشة لزيادة مساحة الحرية السياسية والمشاركة الفعلية في ممارسة السلطة. وأغلب الظن أن الأمر الذي أثار قلقا عميقا لدى عدد من قادة دول مجلس التعاون ـ عدا قطر ـ هو ذلك التناغم الذي طرأ على علاقات الإدارة الأمريكية مع الحركات الإسلامية الأقل "تطرفا" كجماعة الإخوان المسلمين في مصر، حزب النهضة في تونس والإخوان المسلمين في ليبيا!
في تقديرنا أن ما ذُكر أعلاه، وربما تُضاف إليه أسباب أخرى أدنى أهمية، هو ما دفع العاهل السعودي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله، استنادا على ما نصت عليه المادة الرابعة من النظام الأساسي لمجلس التعاون المتعلقة بتحقيق التناسق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع الميادين وصولا إلى وحدتها، إلى أن يدعو في الدورة الثانية والثلاثين للمجلس التي عقدت بالرياض، الدول أعضاء المجلس إلى ضرورة الانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد. وتأسيسا على ذلك تم تشكيل هيأة تأسيسية لهذا الاتحاد تضم ثلاثة أعضاء عن كل دولة، على أن تقوم الدول بتسمية أعضاءها في موعد أقصاه الأول من فبراير 2012، وتقدم الهيأة تقريرها المبدئي في شهر مارس 2012 إلى مجلس وزراء الخارجية في دورته الأولى لهذا العام، لرفعها لقادة دول المجلس، على أن ترفع الهيأة توصياتها النهائية إلى اللقاء التشاوري لقادة دول المجلس الذي يُزمع عقده في شهر يونيو 2012 م.
ثلاثون عاما عمر مجلس التعاون، فهل سيتحول إلى دولة اتحادية مشروع الاتحاد في ستة أشهر؟ وهل ستوافق دول المجلس على التنازل عن جزء من سيادتها لاسيما في شأن الدفاع، الشؤون الخارجية، المالية، والأمن كي يتأتى قيام دولة اتحادية "فيدرالية"؟ أم إن دولا سوف لن توافق ـ كقطر التي تطمح إلى لعب دور دولة كبرى ـ فيما ستوافق دولا أخرى؟ وبالتالي ينفرط عِقْدْ دول مجلس التعاون، ويصار إلى أن تكون في الخليج دولة اتحادية فيدرالية تضم أربع أو خمس دول، فيما تبقى قطر وربما البحرين دولا مستقلة عن الدولة الاتحادية المتصورة، ويكرر التاريخ نفسه مرة أخرى كما حصل في دولة الأمارات العربية المتحدة، حيث لم يدم بقاء قطر والبحرين في تلك الدولة أكثر من عامين؟ كل هذه الأسئلة برهن الإجابة، غير أن الشهور القليلة القادمة كفيلة بالإجابة على كل هذه التساؤلات .
وجدير هنا أن نشير إلى أن القول بإمكانية قيام اتحاد "كونفيدرالي" هو قول يجافي المُراد ويفتئت على التوجه الوحدوي الذي يفترض أن العاهل السعودي يقصده بدعوته. إذ أن شكل الاتحاد الذي تنضوي تحت لوائه الآن دول المجلس هو في حقيقة الحال لا يمكن وصفه إلا بأنه اتحادا كونفيدراليا، ولا يتصور أن يدعو خادم الحرمين إلى قيام اتحاد هو قائم أصلا. في نهاية المطاف نود التذكير بأن استراتيجية الولايات المتحدة نحو منطقة الخليج كانت في سبعينيات القرن الماضي تقوم على أساس ما عُرِفَ إذ ذاك بـ"مبدأ نيكسون" الذي يقضي بالاعتماد على قوة إقليمية في المنطقة تتولى مَهَمَةْ استقرار الأوضاع بالنيابة عن الولايات المتحدة، لضمان استمرار ضخ النفط العربي إلى دول الغرب، وهو الدور الذي اضطلع به شاه إيران.
وبعد أن تفجرت الثورة الإيرانية عرفت الاستراتيجية الأمريكية في الخليج "مبدأ كارتر" الذي مؤداه أن تتولى الولايات المتحدة بنفسها حماية مصالحها في منطقة الخليج. وتم بناء عليه إنشاء قوات التدخل السريع. أما في عهد "ريغان" فإنه تم العمل بمبدأ "كارتر" مع التأكيد على ضرورة إعادة هيبة الولايات المتحدة، مع اعتماد سياسة الاحتواء المزدوج لكل من إيران والعراق، وهي السياسة التي أدت إلى حرب الخليج الأولى التي استمرت ثمانية أعوام. وفي عهد بوش الأب تم الحفاظ على هذه الاستراتيجية، غير أنه ما إن انهار الاتحاد السوفييتي، حتى كشرت الولايات المتحدة عن أنيابها وحَشَدَتْ حُلفاءها، ولم يبخل "صدام" في أن يوفر لها الذريعة باحتلاله للكويت، حيث تدخلت قوات حلف الأطلسي وقوات حليفة أخرى منها قوات عربية، لطرد القوات العراقية من الكويت، وكانت تلك بداية التدخل المباشر للولايات المتحدة في منطقة الخليج. أما في زمن الرئيس "بيل كلينتون" فقد تم الاكتفاء بالقصف بصواريخ "كروز" بعيدة المدى وفائقة الدقة. وهي الصواريخ التي قصف بها مبنى المُخابرات العراقية، حيث دك ذلك المبنى بصواريخ "كروز" التي تم إطلاقها من مدمرة كانت تمخر عباب البحر الأحمر، عقابا على محاولة اغتيال "بوش الأب" أثناء زيارته للكويت بعد خروجه من السلطة! ثم جاء عهد "بوش الابن" الذي فعل ما لم يفعله الأوائل، حيث اُصْطُنِعَتْ ذريعة تفجير برجي التجارة، لتأتي الولايات المتحدة بقضها وقضيضها ومن وراءها جيوش بريطانيا وقوات حلف شمال الأطلسي لتدك أفغانستان وتحتلها ومن بعدها العراق.
أما الآن في عهد "أوباما" فإن الاستراتيجية الأمريكية اتخذت منحىً جديدا، يعتمد على حلف شمال الأطلسي مدعوما بقوات أمريكية في تأمين منطقة الخليج، وذلك لكي تتفرغ الولايات المتحدة للمواجهة الصعبة للتنين الصيني في المُحيط الهادي. أمن الخليج شأن غربي بامتياز، لا يُركن فيه إلى طرف أو أطراف، قد تكون واهية في لحظة من اللحظات، مما قد يتسبب في أمور لا يُحمد عقباها، سواء أكان هذا الطرف مجلس التعاون أو دولة الخليج العربي الاتحادية المتوقع قيامها، بل حتى إن كان هذا الطرف دولة في قوة إسرائيل فلن يؤثر ذلك على هذه الاستراتيجية
وزير مفوض بالخارجية الليبية