يتناول الباحث اللبناني في هذا النص المكتوب أصلا بالفرنسية السمات المشتركة في الشعر العربي في دولة الاستيطان الصهيوني بفلسطين ويرد الكثير منها إلى السياق الاجتماعي السياسي الذي يعيشه الشعراء والمواطنون العرب. مؤكدا ثراء الشعر العربي فيها وتنوعه الهائلين في المواضيع والأسلوب الشعري.

نحو حساسية جديدة

الأدب العربي في فلسطين المحتلة

صبحي البستاني

ترجمة بسمة العمري
تحرير موسى خوري

إذا قبلنا ببديهية العلاقة بين العمل الأدبي والسياق الاجتماعي- السياسي الذي سبق ميلاد هذا العمل فإننا نضع الأدب العربي في دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين في إشكالية فريدة. إذ يبقى هذا الأدب محكوما من سياقين سمتهما الصراع غير المتساوي: الأول مباشر وهو إسرائيلي بالضرورة،  والثاني أكثر اتساعا من الأول وهو فلسطيني- عربي. لأن ذلك كذلك، يبقى هذا الأدب غير مفهوم بدون الرجوع إلى الظروف الخاصة بالمنطقة التي يُبدع فيها. لا شك أن هذا الأدب فرض نفسه كعنصر أساسي في الحقول الثقافية والأدبية الإسرائيلية والعربية – ولأسباب متنوعة – بعد حرب 1967 حيث بدأت تتشكل علاقة متبادلة وطيدة بين الأدب الفلسطيني العربي الذي يطلق عليه أدب الداخل، والأدب العربي الفلسطيني المسمى بأدب الخارج.

سيقتصر هذا النص على الكتابة الشاعرية العربية في دولة الاستيطان الصهيوني بفلسطين مع الإشارة إلى التيارات التي أثرت في تطوره وفي قيمه الجمالية.
ينقسم هذا النص إلى ثلاثة أجزاء:
. شعر المقاومة (شعر ذو سمات نضالية)
. حساسية جديدة تتأسس على الذاتية والتجربة الفردية الخاصة
. صوت شعري حميم: الصوت النسائي

1- شعر المقاومة
بعد حرب 1967 تحوّل أدب الداخل الفلسطيني، والذي لقبه غسان كنفاني بـ" شعر المقاومة"(1)، من البكاء على الأطلال إلى النضال. كان شعراء هذا التيار في علاقة مباشرة مع اليسار الإسرائيلي، وفي أغلب الأحيان كانوا ينتمون أو يميلون إلى الحزب الشيوعي راكاح، وكانت الجريدة الأسبوعية "الاتحاد" وملحقها الأدبي "الجديد" بمثابة منبر ينتشر من خلاله هذا الأدب. ويمثل هذا التيار بشكل خاص ثلاثة شعراء هم: توفيق زياد، وسالم جبران، وشفيق حبيب.

كان توفيق زيّاد (1929-1994)، العضو في الحزب الشيوعي الإسرائيلي والنائب المنتخب في الكنيست، يجسّد في شعره صوت المدافع عن شعبه وعن جميع المضطهدين. إلى ذلك مثّل شعره  إيديولوجية النضال بامتياز، فقد كان مؤمنا بانتصار الحقيقة وخلاص الأرض من ناهبيها ومحتليها، وظل يمارس نضاله عن طريق الكتابة والكلمة. في قصيدة "مليون شمس في دمي" يقول:

"سلبوني الماء والزيت

وملح الأرغفة

سلبوني كل شيء

غير قلب

وضمير

وشفة"

ويتأكد هذا الصوت السلميّ في قصيدة "الذي أملك":
"أنا إنْسانٌ بسيطْ

لمْ أضعْ يوماً على كتفيَّ مدْفعْ

أنا لمْ أضْغطْ زناداً

طول عُمْري

أنا لا أمْلكُ إلاَ

بعْضَ موسيقا تُوَقَّعْ

ريشةً ترْسمُ أحْلامي،

وقنِّينةَ حِبْرْ

أنا لا أملكُ حتَّى خُبْزَ يوْمي

وأنا بالكادِ أَشْبعْ."(2) 

انضم سالم جبران إلى الحزب الشيوعي راكاح في عام 1962 وأصبح محررا في جريدة الاتحاد ورئيس تحرير جريدة الغد التابعة أيضا للحزب. في شعرة الملتزم والمناضل جمع جبران بمهارة بين الأمل واليأس، بين الفرح والحزن. ولم يضعف ابتعاده الجبري عن مسقط رأسه في الجليل الأعلى ارتباطه بهذه الأرض، فقد كان دائما موجودا بها بعقله وقلبه. فأرضه كانت ولا تزال جميلة. ويقول في قصيدته "ما يشاء" :

"كان الجليل ناساً

وتربة وخضرة وماء

وبعد أن حرمت أن أزوره

صار الجليل جنة

وناسه آلهة

وصار حتى ليله ضياء

أقول للقياصرة الصغار: ما أضعفكم

قد تحبسون خطوتي

لكن قلبي هائم في وطني

يزور أي بقعة يشاء

يفعل ما يشاء"(3)

يعيش المواطن العربي في دولة الاستيطان الصهيوني بفلسطين وضعا خاصا، من العلامات الفارقة لهذا الوضع ولاءٌ مزدوجٌ: ولاء للدولة وقوانينها من جهة، وولاء لشعبه وقادته من جهة أخرى.(4) هذا الوضع أدى إلى تكوّن أحاسيس متناقضة ومتضاربة خلّقت تمزّقا دائما بين نقيضين. ينعكس هذا التمزق في شعر جبران، ففي قصيدة "الشبح" يعبر سالم جبران عن ازدواج مشاعره وتعايش الفرح والحزن في قلبه:

"أشعر بالحزن وبالفرح

جميع أيامي التي مرت وأحلامي عن

المستقبل

ملفوفة ببعضها تطل لي

أشعر أن العمر ليل دامس

وأنه أجمل من قوس قزح"(5)

سُجن شفيق حبيب (1941) من قبل السلطات الإسرائيلية عام 1990 بعد نشر ديوانه "عودة إلى المستقبل" وذلك لاتهامه بالتحريض على الانتفاضة. في شعره المتسم بالكلاسيكية يصرخ حبيب غاضبا ضد المحتل الذي يؤسس وجوده على العنف وينظّر لحقيقة أن المؤسسة التي ترتكز على الدم لابد أن تنهار وتتهدم. وبنفس النبض والصوت المتحدي والصارخ يكتب عن القدس وعن الأرض المقدسة، ويعبر عن يأسه لرؤيتها وهي تحرسها الذئاب.(6)

وهكذا تصبغ شعر المقاومة إيديولوجيةٌ وهدفٌ سياسيٌّ يحيله إلى أدب ملتزم ذي أسلوب بسيط ومفهوم من قبل جمهور القراء. كانت النتيجة، بالضرورة، أن ضحى هؤلاء الشعراء بالشاعري من أجل السياسي.

2- ميلاد حساسية جديدة
شهد الشعر العربي في دولة الاستيطان الصهيوني بفلسطين ميلاد حساسية شاعرية جديدة. وفي مواجهة نفس الأزمة السياسية "أصبح الأدب، والشعر بشكل خاص، قادرا على التعبير عن العنف دون أن يكون عنيفا ودون أن يتنازل الشاعر عن التزامه الثقافي والاجتماعي والسياسي"(7)، وبدأ بروز البحث عن جمالية جديدة مصدرها الذاتية والتجربة الشخصية النابعة من الحياة اليومية.

لعب ميشيل حداد (1916-1997)، الحاصل على جائزة الدولة الإسرائيلية للأدب العربي عام 1983، دورا هاما في الحقل الأدبي العربي في دولة الاستيطان الصهيوني بفلسطين. كان حداد أول من أسس عام 1955 "رابطة الشعراء العرب في إسرائيل" وهو صاحب مجلة "المجتمع" عام 1954 وأول رئيس "لرابطة الكتاب الفلسطينيين في إسرائيل" عام 1987. يتناول حداد في قصائده، وهو الشاعر المسهب، جوانب عديدة، فقصائده تغني الأرض وتمدح الطفولة بأسلوب يتسم بسهولة نسبية ومفعم بالذكريات والحنين والتقاليد الشعبية. وبالرغم من أن المقاومة لا تشكل المحرك الرئيسي في شعره، إلا أن عددا من قصائده تعبر عن اليأس والتعب بالإضافة إلى إصراره على المقاومة عبر الكتابة.(8)

أنطون شماس (1950)، الذي كان متأثرا بالرمزية، كتب ثلاث مجموعات شعرية عبر فيها عن التركيب المعقد للوجود القومي والثقافي واللغوي للفلسطينيين في دولة الاستيطان الصهيوني بفلسطين بعد 1948.(9)  كرس أنطون قلمه للكتابة وذلك لوعيه بأهمية الحفاظ على الذاكرة والعادات في مسقط رأسه بالجليل الأعلى وأهمية إحيائها في الكتابة.

في قصيدته "ثم كيف ستأتي القصيدة" يقول:

"أفتح خريطة العالم

أبحثُ فيها عن ضيعةٍ

أضعتها

أبحثُ في جيوبِ جدّ ما عرفته

عن فُتاتِ حكايات وروائح طريفة"

ولأن أنطون شماس يؤمن بمسؤولية الكاتب عن مهمة ما، لذلك يعبر عن خوفه من الموت الذي يمكن أن يلحق به قبل أن ينتهي من مهمته، ففي نفس القصيدة يقول:

"أخاف أن أموت قبل أن

تُدركني جميع الكلمات التي تطاردني

فلا يذكرني أحد"(10)

3- صوت جديد حميم:
مع نداء خوري(11) يتحقق انبثاق صوت شعري جديد، ونهج جديد للمقاومة والنضال والالتزام، فأعمالها تعيّن تطورا واضحا باتجاه الخاص والحميم. تخالف وتتجاوز نداء خوري بكتابتها الجريئة والعميقة البلاغةَ المعتادةَ التي تركت طابعا مميزا لعشرات السنين في الأدب العربي في إسرائيل. وعلى الرغم من أن المواضيع التي يتناولها ديوانها الأول "أعلن لك عن صمتي" تذكر، إلى حد ما، بمواضيع الأدب الفلسطيني الكلاسيكي، إلا أن غموض الصور والأسلوب الفريد للغة يكشفان عن عمق في التمزق الشخصي ومهارة في التعبير عن الالتزام. فرؤيتها للعالم الخارجي تتشكل عبر "أنا" الشاعر وحول كتابة الذات التي تصبح كالمرآة  تعكس ما هو خارجها من حب وعنف.

في قصيدتين قصيرتين تشكّلان افتتاحية الديوان تعبر خوري عن ثنائية شكّلت كينونتها. ففي القصيدة التي تحمل عنوان "نداء"، وهو في نفس الوقت اسم الشاعرة، تقارن نفسها بدجاجة مذبوحة ممزقة بين "آلام" تشوهها وتدميرها. ويكون المنادى في القصيدة هو "أنت" الضمير العائد على شخص مذكر غير معروف ولكن له وجود ومعنى ايجابي في النص، وبين هذين القطبين تعبر الشاعرة عن اضطرابها:

"الألم يُقطعني ونداؤُك يشدُّني

أنتفضُ وتتمرَّغُ أجنحتي

في دماءِ عنقي...

وأهوي أعانقُ الضياعَ

على ترابٍ لدغتهُ الأرجلُ

ذبحتني ريشةُ الطُّهرِ".(12)

في قصيدة ثالثة بعنوان "كلمة السر"، تكتب الشاعرة المعادلة بين الشهيد والميلاد وتنادي على "فارس الموت" ليجلب وطنا وبيتا وكرمة. تنادي عليه ليمنح جميع الشروط الضرورية لميلاد جديد، وكلمة السر لهذا التشكل الميلاديّ تكمن في الشهيد:

"مهلاً ..

لكل شوارعِ الدنيا

أعراسُ اقدامنا..

لكُل الأبوابِ المغلقة

كلمَةُ السرِ..

ويكونُ استشهادي..

بكل شوارعِ الدنيا..

يكونُ ميلادي" ص 24

تغلب نفس الروح على جميع قصائد الديوان، فبحث الشاعرة عن السعادة يمر من طريق التضحية والدم والانتظار. قصيدة "قلاع الرحيل" تصور هذا البحث بامتياز:

"أبني أعشاشاً من الفرح

فوقَ غاباتي

وأمضي

أنتظرْ.."

"أبني قلاعاً من الرحيلِ

وأمضي

إلى بلدي"(13)

إلا أن هذا البحث مقرون بالاحتفالات والأعراس عن طريق الجسد فتقول الشاعرة:
"أبني ساحات رقص

فوق جسدي

وأمضي..

أبني أعراساً

على ليلي الساهرْ

وأمضي

أصلي.."(14)

وهكذا تتوطد الروابط بين جسد الشاعرة وشخصياتها، وتنتهي القصيدة بتقديس هذا التوحد حتى يتحوّل إلى قربان يصير تحققه بعملية قداس طقوسي؛ فنداء خوري تستعير من طقوس الكنيسة الأرثوذوكسية اليونانية العبارة التي يلفظ بها الكاهن ليقدس الزواج وهو يضع التاج على رأس العروسين، إذ يرنم  الكاهن مصليا للإله:
"بالمجد والكرامة كللهُما..

إكليل غار ودمٍ

ودروبُ حقٍ

وعرسُ فرسانٍ حمر

في جسدي.."(15)

وتمثل فكرة الخلاص المستوحاة من المسيحية جوهر جميع قصائد الديوان الثاني "جديلة الرعد" (1989) وفيه تتوجه الشاعرة بتركيز ملحوظ على "الأنا"، على الجسد، وعلى الحواس إلى مخاطب مذكر مجهول الهوية. يحيل هذا المخاطب إلى عدة إشارات في القصائد، إلى الوطن من غير حدود واضحة، إلى الأرض التي تنتمي إليها الشاعرة. هل هو الوطن الذي تعيش فيه أم هو الوطن المفقود؟ هذا الغموض الإرادي يعكس، في رأيي، صورة شاعرة ممزقة بين مشاعرها المتناقضة.  وربما يشير ضمير المخاطب "أنت" المجهول الهوية في قصيدة "جديلة الرعد" إلى الإسرائيلي. ففي هذه المواجهة بين "الأنا" والـ "أنت" تستنكر نداء خوري، بالمهارة المعتادة في قصائدها، دائرة العنف المغلقة وتلوم الآخر الإسرائيلي - وهو أحسن من يعرف معنى الموت والخوف - على نقله الخوف للشاعرة، لهذه الأنا التي يتجاهلها وينكر وجودها، وللأسف لا يخلق هذا التوحّد في الخوف سوى "البندقية"، "الموت"، "مجانين الثورة" و "كل الخوف من الحكاية" كما تقول خوري:
"من رحم أمي

إلى الأبد

يمتد صراخي وجديلتي رعدٌ

صراخ لا لغة فيه

فأنت تدرك معنى الموت

وتنكر عليَّ وجودي

وتمضي .."

"تجعل باب بيتي فرناً

يتقد بي

تجعله معتقلا أنصهر فيه

وتبني موتك مني

وتحطُّ ما حملت

من خوف في جثتي

ثم تعانقني وتلاحقني

بكل معاني الحرية

توافيني

بكل معاني المنيَّة

وألد منك الموت..

ألد لك مجانين الثورة

وكل مخاوف التاريخ . "(16)

تتطلع الشاعرة إلى التوحد ولكن بدون أسلحة ولا عنف. عندما كانت صغيرة كانوا يقصون عليها حكاية "الأفران" وكانت تبكي حتى أنها كرهت الخبز لأنه كان مرتبطا في ذهنها وفي خيالها بالأفران. وفي نهاية هذا المقطع فقط، تعرف الشاعرة بمن تخاطبه فتستبدل الضمير "أنت" بالإنسان. ولهذا الإنسان تعبر عن حبها وعشقها. تضمه بين ذراعيها لتعلن حريتها والحياة التي ترمز إليها بال"نخيل".
"أنتَ الذي  بكيتـُه  يوماً

كنت  صغيرة

سمعت حكاية الأفران

كرهت الرغيف

عشقتك يا إنسان

في بطون الليل

في أزقة الجراح

ينفجر الرغيف  قنبلة

ويتناولون

قربان الشهادة

يصمت الجوع

يمتلئ  الليل  محبة

يتسع صدر الأرض صدري

وأحضنك

أمتص  منك  مـاءكَ

كل مـائكَ

قطعة صحراء أنـتَ

ينبت فيها دمي موتاً حريةً ونخيلاً"(17)

في قصيدة "حَيْثُ لا أكون" تنطوي الشاعرة على نفسها في محاولة أخيرة لإيجاد هويتها ولكن، وكما في الديوان السابق، تعاني من تمزق مؤلم:
"حين أعود إلى ذاتي

أفرغ العالم مني

اقترب من شفاهي

وأقـبِّـل فمي

قبلات صمت

حين أعود ليلاً إلى جلدي

أشلح الناس عني

أحس بالحرية "(18)

ولكن يتضح أن هذا الهدوء ليس سوى وهم حين تضيف:
"أرى  ذاتي  نصفين

أحاول الالتحام مرة

أحاول أن أعصر

نصفاً على الآخر

أحاول أن أشرب

أن أكون نصفاً واحداً

وعبثا أحاول أن أكون"(19)

في الدواوين التالية، تبتعد الشاعرة أكثر فأكثر عن السياسي من أجل عودة واضحة إلى الحميمي والخاص. ويتجلى هذا التوجه منذ القصيدة الأولى التي تفتتح ديوان "زنار الريح"  فبتوجهها إلى شريكها المشار إليه بالضمير "أنت" تجول الشاعرة في اللامعقول وفي الرغبة في التحرر من الطريق المرسوم لها سلفا من قبل المجتمع. هنا تستعين الشاعرة بمجاز "الريح":
"إلى اللامعقول فيك

إلى التشرد فيك

إلى الأنامل التي تزنّرني بلهاث الريح

تبعثرني بالعناق

فيك"(20)

"زنار الريح" الذي يحملها لعالم الجنون حيث تنتعش بعيدا عن سلطة (نير) العقل:
"يفك زنار الريح

يُزنِّرُني

وأجنُّ

يلفني على خصر الريح

يشدني من الروح

يصلي معي زنَّار آهاتي

ثم نحترق"(21)

يعتبر هذا الديوان بمثابة ترنيمة (نشيد) للمرأة التي تتشكل رغما عن إرادة الرجل.
"عشقت الغيم، عشقت الضباب

وبقي أن أعشق الريحَ

أنسى خاصرتيَّ

أتوارى

في غضب الأحصنة"(22)

ينقسم الديوان إلى 8 أقسام أولها "طقوس شرقية" مكرس للمرأة ولوضعها في الشرق. فالمرأة في عين الرجل ليس سوى شيء للاستهلاك وعلاقته بها شبيهة بعلاقته "بأرجيلته". هنا تعبر نداء خوري عن ثورتها في الفصول التالية وتقول للرجل الشرقي:
"يا ابن العتمةِ من ولاَّك

عليَّ

من علّمَ مزراب السطح

ألحان الجنَّاز"(23)

وتسترجع القصيدة الأخيرة " ذاكرة القمح" بعض صور القصيدة الأولى، وتقدس المرأة كنبع الحياة. ففي لوحة مستوحاة من العادات القروية تُشبه المرأة بالقمح، رمز الحياة. ويتأكد هذا الرمز عبر المقاربة بين المرأة التي تطحن القمح والمرأة التي تلد فنقرأ:
"يا امرأة البرغلِ والدخانِ والحطبْ

في حضنِكِ تجرشين، تحرقين

وعرزالُك بيتُ اللهّب

تدمنين العتاب

تتقنين كلَّ اللغاتِ إلاّ لغةّ العِنَبْ"(24)

وأما القصيدة الأخيرة فتنتهي بهذا المقطع الذي يختم الديوان:
"تُدوِّر الرحى بين ساقيها

يتساقط برغلاً

ينضج

وتلد

قد داخ الحجرُ

وامتلأنا"

من الواضح أن الشاعرة تستمد عالمها الشاعري لبحثها الاستهلالي الدائم من مصدرين أساسين: الحياة اليومية وكل ما يمثل الذاكرة القروية، والعالم الديني وخاصة الديانة المسيحية. فتستوحي عناوين أكثر من قصيدة من العهد القديم والعهد الجديد: "قداس الفصح"، "إنجيل الغضب"، "أسفار الكفر"، "إصحاح اللهب". وفي هذا الديوان تستخدم الشاعرة قصة العشاء الأخير ليلة صلب المسيح. ومثل المسيح تقول:
"اكْسِرْ الرغيف كسرةَ إيمان

وكسرة جوعٍ وانْتَظِرْ

مناولتي الأخيرة"

الخاتمة:
تعود السمات المشتركة في الشعر العربي في دولة الاستيطان الصهيوني بفلسطين إلى السياق الاجتماعي السياسي الذي يعيش به الشعراء والمواطنون العرب. إحدى هذه السمات التي تشكل بعمق الشعرَ والأدبَ العربي بشكل عام هي الثنائيةُ التي يشعر بها ويعبر عنها الكاتب. فيمثل التمزق بين انتماءين أحد المحاور، ويمثل مسعى البحث عن الهوية محورين أساسين يوحدان الشعراء. ولكن يتسم الشعر المعاصر على وجه الخصوص بثراء وتنوع هائلين من ناحية المواضيع ومن ناحية الأسلوب الشعري، وهو بهذا استطاع أن يفرض نفسه بقوة في الحقل الأدبي الإسرائيلي والعربي ليحتل مكانا في الحركة الإبداعية الما بعد حداثية.

 

باحث لبناني وأستاذ بمدرسة اللغات الشرقية بباريس

 

هوامش وإحالات

 (1) نظر مطاع الصفدي، مقدمة للأعمال الكاملة لسميح القاسم، دار العودة، بيروت، 1973، ص 23.

 (2) توفيق زياد، أشد على أياديكم، 1966، (سلمى الخضراء الجيوسي)

 (3)  سالم جبران، قصائد ليست مهددة الإقامة، الناصرة، 1972 (سلمي الخضراء الجيوسي)

 (4) انظر شمعون يلاص، الأدب العربي والصراع في الشرق الأوسط، باريس، انتروبوس، 1980، ص 55.

(5)  نفس المصدر

 (6) شفيق حبيب، صريخ في البرية، الحكم للطباعة والنشر، الناصرة، 2001، ص 7.

(7) ShemonEyben,  Jisr bayna thaqafatayn (Un pont entre deux cultures : poèmes choisis, arabes et hollandais), Mu’assasat al-hijra, Amsterdam, 1992, p. 270.

 (8) ميشيل حداد، من أرصفة الحرية، دار المشرق، شفا عمر، 1984، ص 45.

 (9) Sara Descamps-Wassif, Dictionnaire des écrivains palestiniens, Insitut du Monde Arabe, 1999, p. 101.

(10)  سلمى الخضراء ص 298

(11)   ولدت نداء خوري في فسوطة بالجليل عام 1959 في نفس القرية التي ولد فيها أنطون شماس. حصلت على شهادة التوجيهي من مدرسة راهبات مار يوسف بالناصرة ثم حصلت على بكالوريوس الفلسفة والأدب المقارن من جامعة حيفا. وهي عضو اتحاد الكتاب العرب. ترجم ديوانها "النهر الحافي" إلى العبرية عام 1990 في دار نشر أشكولوت.

 (12) نداء خوري، أعلن لك صمتي، عكا، 1987، ص 20

(13) نداء خوري، أعلن لك صمتي، عكا، 1987، ص 70

(14) نفس المصدر، ص 71

(15) نفس المصدر، ص 72

(16) نداء خوري، جديلة الرعد، دار الشرق، شفاعمرو 1989، ص83

(17) نداء خوري، جديلة الرعد، دار الشرق، شفاعمرو، 1989، ص 86

(18)  نفس المصدر، ص60

(19) نداء خوري، جديلة الرعد، دار الشرق، شفاعمرو 1989، ص 61

(20) نداء خوري، زنار الريح، أبو رحمون، عكا، 1992، ص 3 

(21)  نداء خوري، زنار الريح، أبو رحمون، عكا، 1992، ص 5

(22) نفس المصدر، ص 4

(23)  نداء خوري، زنار الريح، أبو رحمون، عكا، 1992، ص 21

(24) نفس المصدر، ص13