هذه مراجعة لكتاب مهم يتناول موضوع الترجمة لمؤلف خبرها تنظيرا وممارسة وجرب خباياها، وهو ما يحاول الكتاب في النهاية، تشكيله كرؤية متكاملة من شأنها إعادة تأسيس وعينا النظري بطبيعتها وتحولها الى نسق منظم محكمة بقواعدها بعيدا عن تلك النظرة الآلية، أي بوصفها عملا يحظى ببعد جمالي وتخييلي إلى جانب هذه الرؤية التي يقدمها عن الترجمة بالتركيز على شعريتها وأبعادها الجمالية ومياسمها التعبيرية.

الترجمة من رؤية الجمود إلى شعرية النسق

هشام الدركاوي

يعالج كتاب “أبراج بابل شعرية الترجمة من التاريخ إلى النظرية” لمؤلفه حسن بحراوي، الصادر عن منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط في طبعته الاولى سنة 2010. قضية الترجمة باعتبارها عملا نسقيا لا تقل أهميته عن باقي العلوم الانسانية الأخرى كالنقد والأدب، منطلقا في ذلك من إشكالية علمية مؤداها، ضرورة تشكيل تاريخ تقريبي لشعرية الترجمة يأخذ طابعا إجرائيا وظيفيا يبدأ من مرحلة ما قبل تاريخها وصولا إلى بروز وتبلور ضروب متباينة من الوعي، بل متكاملة على مستوى التفكير في ممارسة الترجمة. وذلك بعدما ساد التفكير السلبي عن الترجمة باعتبارها عملا دونيا وثانويا لا تتعدى مهمته النقل إلى الإبداع والجدة، هذا فضلا عن النظرة التجزيئية التي تعزل الممارسة الترجمية عن محيطها الاجتماعي والثقافي. وقبل التوغل في لفائف الكتاب وطواياه والوقوف عند أهم محطاته الفكرية وأرخبيلاته العلمية الموزعة عبر فصوله الخمسة، يتحتم علينا الوقوف عند عتبة العنوان، باعتباره مؤشرا قرائيا يضيء لنا سدف القراءة والخروج بنا من التعمية إلى الإيضاح. دال العنوان: يتبادر إلى ذهن القارئ لحظة الاصطدام البصري بدال العنوان الرئيس “أبراج بابل” أنه أمام عمل تاريخي خاص بالحضارة البابلية، التي هي من أهم الحضارات الشرقية، وبأهم جوانبها ألا وهو العمران المتمثل في “الأبراج”، غير أن هذا اللبس سرعان ما يزول عندما ننتقل إلى العنوان الفرعي الذي أنيطت به مهمة تخصيص وتقييد دال العنوان الرئيس: “شعرية الترجمة: من التاريخ إلى النظرية"، الذي يحدد لنا موضوع الكتاب الذي جعل من الترجمة موضوعه الأساس، ليس باعتبارها عملية نقل آلي ميكانيكي من لغة لأخرى، وإنما باعتبارها عملية إبداعية لا تخلو من مياسم الجمال والشعرية والجدة والابتكار وما تحمله من رؤية للعالم شأنها شأن الإبداع الفني، إن لم نقل إنها تتجاوزه لجمعها بين الحسنين، البعد الجمالي التخييلي، مادامت عملية إبداع ثان لنص مبدع بلغة معينة لها أساليبها وتراكيبها الخاصة إلى لغة ثانية تشذ عنها في التعابير والأساليب والتراكيب، أحيانا، الشيء الذي جعل المترجم يحافظ على نفس المعاني ونفس التأثير باختيار التراكيب والصيغ والأساليب المناسبة، والبعد النقدي الإجرائي لما تحتمه من إعمال الفكر ورجحان العقل، في الوعي بمكامن الجودة والرداءة في كلا اللغتين. وإلى جانب هذه الرؤية التي يقدمها العنوان الفرعي عن الترجمة بالتركيز على شعريتها وأبعادها الجمالية ومياسمها التعبيرية، يبئر لنا كذلك المسار المنهجي للكتاب “من التاريخ إلى النظرية” الذي تبنى فيه مؤلفه رؤية ديكارونية ومنهجا تاريخيا تحقيبيا يتتبع من خلاله أهم المحطات في تاريخ الترجمة ما قبل الميلاد (الاغريق، الفراعنة) وصولا إلى تشييد صرح نظري متكامل عنها (الترجمة) أواخر القرن العشرين. وتبرز أهمية المنهج التاريخي في معالجة قضية الترجمة في تتبع مختلف المراحل التي قطعتها، مذ كانت عملا يتم في غياب الوعي بها وبخصوصيتها ووظائفها ومناهجها، إلى أن تم الوعي بأهميتها، في إطار المثاقفة وتبادل التأثير والتأثر، في الرقي والتقدم والازدهار، انتهاء إلى بناء نظرية خاصة بها - على غرار باقي النظريات - تحدد خصائصها وماهيتها ووظائفها وقوانينها وطرائقها. هذا فضلا عن اجتراح جملة من الكفايات المعرفية والثقافية والمنهجية التي يجب توفرها في المترجم.

وسيرا على الرؤية التاريخية والمنهج التحقيبي الذي تغياه الموضوع، وقف المؤلف عند ثلاث محطات رئيسية وفاعلة في تاريخ الترجمة:  

مرحلة ما قبل تاريخ الترجمة: تم الوقوف في هذا المبحث، على ثلاثة عصور: الترجمة في العصور القديمة - الترجمة عند قدماء المصريين-الترجمة عند اليونان- والجامع بين الممارسة الترجمية في هذه المرحلة، رغم اختلاف البيئات والأزمنة، أنها “كانت تتم بطريقة حدسية ولأغراض تواصلية نفعية أو دينية، وبخلو الساحة من أي تأمل نظري أو هاجس تحليلي”، غير أنه وفي غياب الوعي النظري بالممارسة الترجمية، فقد تباينت الأهداف من الترجمة بين المصريين الذين كانوا يركزون فيها على البعد التواصلي الذرائعي النفعي، باعتبارها عملا إداريا يتم داخل البلاطات والقصور لتحرير المعاهدات السياسية مع الجيران والخصوم، منذ الألف الثالثة قبل الميلاد، إلا أن الأمر حسب “بالار” “لم يكن يتعلق في جميع الأحوال بمترجمين بل بتراجمة”، لأن المصريين كانوا يتوفرون على تراجمة - في بلاطاتهم- مكلفين بترجمة العلاقات التجارية والسياسية، رغم كونهم (المصريين) كانوا ذوي نزعة متمركزة على الذات، في اعتبارهم أن الشعوب الاخرى التي لا تتكلم لغتهم شعوب متوحشة. وهذا ما تؤكده تلك العمليات الجينالوجية التي أسفرت عن وجود العديد من النقوش الفرعونية بلغات مختلفة، الدالة على ممارسة العمل الترجمي: أهمها الحجرة الوردية المسماة حجرة رشيد، التي أشار هنري كوبار في تحليله لها الى “ان الهيروغليفية كانت تسجل الكلام الالهي (الوظيفة الأسطورية). والديموطية تستعمل في نسخ الكتب (الوظيفية المرجعية)، بينما تتداول اللغة اليونانية في أوساط الحاكمين في مصر البطليموسية الوظيفة التواصلية”. أما في مرحلة العصور القديمة فيؤرخ لأول عمل ترجمي بذلك الحدث المتضمن في الكتاب المقدس (التكوين)، الذي يصور لنا حال اولئك المنحدرين من النبي نوح، الذين كانوا يتكلمون لغة واحدة فساورتهم الرغبة في إعلاء برج عال في مدينة بابل ليرتقوا إلى أسباب السماء، ولكن الإله غضب من صنيعهم هذا فعاقبهم ببلبلة ألسنتهم، مما اضطرهم إلى ابتكار الترجمة للتفاهم في ما بينهم. يلاحظ من هذه الحادثة أن الغاية من الترجمة في العصور القديمة هي التواصل، ثم ستنتقل بعد ذلك إلى التعليم إثر بروز بعض التخطيطات والصور باعتبارها دوالا تقودنا إلى المعنى المقصور (مدلولات). هذا فضلا عن الوظيفة التثقيفية والسياسية التي تمثلها تلك الجهود الأكادية لنقل مقومات الحضارة السومرية من أجل تشكيل سجلهم الأدبي، انطلاقا من الموروث الأدبي السابق، وكذلك الرقي بتسييرهم السياسي. غير أن هذه الفترة ستشهد أهم ترجمة أدبية، إذ تم نقل أعظم ملحمة بابلية، ملحمة “جلجامش” الملك الباحث عن عشبة الخلود إلى لغات الشرق الأوسط، الحورية والحثية. والملاحظ على هذه الحركة الدينامية للترجمة، انها “لم تكن لتطلق في المنطقة حركة نشيطة للترجمة بالمعنى الأدواتي للكلمة، وإنما كان لها الفضل المحدود في تدشين ممارسة سيصير لها شأن وأي شأن في المستقبل”. في حين أنه لم يكن للترجمة أي حظ عند اليونان لسمو مكانتهم العلمية آنذاك وقوة شوكتهم الثقافية سيادة وانتشار لغتهم، إذ كما هو معلوم تاريخيا أن الشعوب المتقدمة فكريا وثقافيا لا تسعى للأخذ من الشعوب التي دونها قيمة، وإنما العكس. لكن هذا لا يمنع من وجود بعض الطقوس الرمزية والدينية عند اليونان، بل والاجتهادات اللغوية التي من شأنها تشكيل أنوية للترجمة. كما شكلت التفاتات أرسطو النبيهة للغة ووظائفها الدلالية والتداولية وما ينجم عنها من تعدد المعاني والمرادفات سندا مهما لمنظري الترجمة. وعلى عكس اليونان، فقد وعى الرومان بأهمية الترجمة في عملية بناء دولتهم على كافة الأصعدة والمناحي، فانبروا لترجمة كل التراث اليوناني باعتباره النموذج الأسمى والأرقى آنئذ، فبدأت الأعمال والترجمات تثرى إلى أن تم نقل كل الموروث اليوناني إلى اللغة اللاتينية تقريبا، خاصة الأعمال الأدبية: كالملحمة والإلياذة والأوديسا.  

مرحلة تاريخ ما قبل نظرية الترجمة: سعى المؤلف في هذا الفصل إلى تتبع تلك الجهود التي بذلها العرب خاصة، واللاتينيون في نقل وترجمة ثقافة الأمم الأخرى خاصة الإغريق والفرس، الشيء الذي نجم عنه بروز مدارس خاصة بالترجمة. ورغم الجهود المبذولة في نقل الأعمال الإغريقية والفارسية المختلفة (الأدب، الفلك، الطب، التنجيم، الهندسة، الفلسفة...) فإن الفعل الترجمي لم يكن محكوما برؤية نظرية وسند إبستمولوجي وخلفيات فلسفية، وإنما كان بدافع الحاجة إلى معرفة لغة الأمم الأخرى للوقوف عند طرائق تفكيرهم أو للتبادل السياسي معهم أو للاحتياط منهم واحترازا من مكرهم، وهذا ما يتضح جليا إبان نأنأة الدعوة الإسلامية، إذ نلفي الرسول (ص) يحث زيد بن ثابت في كثير من المواقف على تعلم اللغات الأخرى، ومن ذلك يذكر الخزاعي التلمساني (ت 789هـ) “أن زيد بن ثابت كان يكتب للملوك ويجيب بحضرة النبي (ص)، وكان ترجمانه بالفارسية والرومية والقبطية والحبشية، تعلم ذلك بالمدينة من أهل هذه الألسن”. والملاحظ على حركة الترجمة إبان الدعوة الاسلامية أنها كانت تنحو منحى ديبلوماسيا بغية توسيع دائرة الدعوة والتواصل مع الناس (ساكنة المدينة) على اختلاف السنتهم، وكذلك أثناء الفتوحات، كما اتخذت أيضا طابعا استراتيجيا، حيث أصبح تعلم لغة الاخر المعادي خاصة اليهود، طريقا لكشف نواياه ومضمراته. في حين ارتبطت الترجمة في العصر الأموي وكذا العصر العباسي برغبة الحكام في نقل العلوم إلى الثقافة العربية، كما هو الشأن مع الامير الأموي خالد بن يزيد والخلفاء العباسيين (أبو جعفر المنصور (158هـ) وهارون الرشيد والمأمون. إذ وجدنا أن كل أمير وخليفة يهتم بمجال من المجالات، وبالتالي يحث المترجمين على ترجمة كل تلك الأعمال إلى اللغة العربية، ذلك أن الخليفة العباسي المنصور كان مولعا ومفتتنا بعلم النجوم، مما حدا به إلى أمر مترجميه بنقل كتاب أقليدس المسمى “كتاب الأصول والأركان” إلى العربية، ثم كتاب “السند والهند” وصولا إلى كتب الأدب الفارسية “كليلة ودمنة”، وأمهات الكتب العلمية لأرسطو طاليس وبطليموس. ويذكر المؤرخون أنه أيام المنصور ترجمت أعمال كثيرة في شتى العلوم: المنطق الأرسطي، مؤلفات الطب (أبقراط جالينوس)، منها ما وصلنا ومنها ما لم يصلنا فتلقفته يد الضياع. ووعيا منهم كذلك بأهمية الترجمة شجع الخلفاء العباسيون خاصة (هارون الرشيد والخليفة المأمون صاحب “بيت الحكمة”) المترجمين وأجزلوا لهم العطاء تحفيزا لهم وتقديرا لجهودهم. وبالتالي ازدهر العمل الترجمي في هذه المرحلة، فسخرت له كافة الموارد والأدوات من دعم وتشجيع واقتناء للكتب والمخطوطات واتخاذ المترجمين والبعثات إلى اليونان وبلاد فارس وتشييد المؤسسات (بيت الحكمة)، الشيء الذي أغنى الخزانة العربية بذخائر ونفائس من الكتب من مختلف العلوم والمجالات: الأدب، الفلسفة، الطب، العلوم... وأذكى بذلك جذوة التوقد الفكري العربي المتوسل بالأقيسة المنطقية والمعتمد على الحجة والبرهان، وهذا ما تؤكده الفرق الكلامية آنذاك. وإلى جانب جهود الخلفاء في هذه المرحلة انبرت بعض النخب والعائلات والأسر المرموقة في تطوير الترجمة وانتعاشها، منها آل البرامكة ذوو الأصول الفارسية الذين كرسوا جهودا جبارة لدعم حركة الترجمة، خاصة من الفارسية إلى العربية. كما برزت أسرة بني موسى بن شاكر الذين عهد الخليفة المأمون لأبنائها محمد وأحمد والحسين بتسيير “بيت الحكمة” والإشراف عليه. كما أسسوا بذلك دارا مخصصة لإقامة المترجمين يلتقي فيها العارفون باللغات وأرباب العلوم لمباشرة أعمال الترجمة. وإلى جانب هذه الأعمال المؤسساتية التي اضطلعت بها الدولة ممثلة في خلفائها أو في بعض الأسر والنخب المثقفة، شهد العصر العباسي كذلك بروز ثلة من المثقفين والكتاب والمترجمين الذين اجترحوا لنفسهم عملا خاصا جعل من الترجمة ديدنه وطفقوا يترجمون الأعمال العلمية والأدبية والفلسفية، ومن أشهر هؤلاء، (حنين بن إسحاق العبادي، الكندي، إسحاق بن حنين، متى بن يوني...). ونتيجة لهذا الازدهار والانتعاش الذي عرفته الترجمة تأسست مدرسة بغداد كمركز حضاري وثقافي عربي لها جملة من الخصائص والميزات منها:  

أ- التخصص: إذ كان كل عالم ومترجم يهتم بترجمة الأعمال في نطاق تخصصه.

ب- المراجعة وازدواجية النقل: رواد هذه المدرسة لم يكتفوا بالنقل، بل مارسوا عملية المراجعة على الترجمات السابقة، وكذلك كانوا ينقلون الأعمال اليونانية إلى اللغة السريانية ثم إلى اللغة العربية، نظرا لقرب اللغة السريانية إلى اللغة العربية من حيث المفاهيم وكذلك نظرا لصعوبة النقل المباشر عن اليونانية.
ج-النفعية: الاقتصار على ترجمة العلوم والكتب التي تهم العرب في هذه الفترة دون غيرها.
د- التأويلية والنقد: نظرا لصعوبة المصطلحات والمفاهيم واختلاف بنية النظريات، لجأ المترجمون العرب إلى تأويل بعض المفاهيم حسب فهمهم لها انطلاقا من المرجعية الثقافية. فمثلا تمت ترجمة الكوميديا والتراجيديا الأرسطية إلى المدح والهجاء، نظرا لكون العرب لم يعرفوا المسرح والتجسيد على الركح والمشاهدة، كما هو الحال عند اليونان. وإنما كان الشعر ديوانهم وعلمهم الذي لم يكن لهم علم سواه، بل وبرز كذلك وعي (نظري) ناجم عن تراكم متون الترجمة وعن التتبع والاستقراء الدقيق. كما فعل الجاحظ الذي تنبه إلى استحالة وجود ترجمة أصلية مطابقة للأصل المأخوذ عنه، مادام أن الأصل في نظره يقوم على (الخلق) والترجمة تقوم على النقل، هذا فضلا عن استحالة ترجمة بعض العلوم إلى لغات أخرى، خاصة الشعر العربي القائم على الوزن لأنه “لا يجوز أن يترجم ولا يجوز أن ينقل، متى حول تقطع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه وسقط موضع التعجب كالكلام المنثور”. أما صلاح الدين الصفدي فيقسم الترجمة إلى مدرستين أو طريقتين، الأولى تقوم على النقل الحرفي للكلام المترجم القائم على الاستبدال من دون مراعاة للتراكيب والدلالات المختلفة، أي استبدال كلمة مكان أخرى من دون الوعي بخصوصية كل لغة على حدة، في حين تقوم الثانية على النقل الحر المتحكمة فيه شروط القراءة المعنوية والنقل المعنوي، وذلك عندما يعمد المترجم إلى فهم معنى الجملة الأصلية والتعبير عنها بطريقة أخرى. وانطلاقا من هذين التصورين يتبدى لنا جليا أن الوعي بصعوبة الترجمة وعدم قدرتها على النقل الصحيح، وكذا محاولة وضع ضوابط لها في غياب المصطلحات والمفاهيم، هم منهجي وعى به العرب منذ منتصف القرن الهجري الثالث. وإلى جانب التركيز على جهود مدرسة بغداد وخصائصها ومترجميها- في هذا الفصل- تمت الإشارة إلى مدرسة طليطلة التي احتلت مكانة مرموقة في أسطوغرافيا الترجمة نتيجة احتكامها إلى شروط النسق والنظام والعمل الجماعي المحكم الذي لا يقصي الجهود الفردية، مادام مؤمنا بالتخصص والاتقان الفردي في بعض الميادين والمجالات. وتعد هذه المدرسة نتيجة عوامل كثيرة أهمها غنى وتنوع فئات المجتمع الأندلسي بعد رحيل العرب عنه. إذ كان يضم العرب واليهود والمستعمرين، أي الساكنة التي تعربت لغتها وبقيت على دينها المسيحي، مما سيشكل رافدا مهما من روافد الترجمة وغناها، ثم الوعي بأهمية ترجمة التراث العلمي والفلسفي الذي خلفه العرب بعدما تم اكتشاف العجز والتخلف العلمي الذي عاشه اللاتينيون، كما شكل التراث العربي كذلك قنطرة مكنت الغربيين من الاطلاع على تراث وذخائر أسلافهم الإغريق، الذي حوت الثقافة العربية كثيرا منه، خاصة مدرسة بغداد. هذا فضلا عن التأكد من ضعف اللغة اللاتينية التي سادت لمدة طويلة ولم تعد قادرة على مسايرة التطورات المتسارعة مما بشر بظهور لغات محلية كثيرة، منها القشتالية (الاسبانية) والفرنسية. ومما زاد على حفز روح الترجمة في هذه المرحلة انها كانت تتم على واجهتين اثنتين: الواجهة الأولى التي كانت تعمل تحت سلطة وهيمنة الفكر الكنسي والسلطة البابوية، إذ كان القساوسة والبابويون أول من دعا إلى الاستفادة من التراث الفكري الفلسفي العربي والانكباب على ترجمته، مع قصر العناية على المؤلفات العلمية من فلك وتنجيم وطب... أما الواجهة الثانية فهي التي كانت تتم تحت إشراف السلطة الامبراطورية ممثلة في الملك الفونس العاشر الذي كان مولعا بالعلوم الحقة والفلسفة وغيرها ويشجع على ترجمتها حتى إنه “من كثرة ما رفع رأسه إلى السماء فقد عرشه”. إلا أن ما يمكن تسجيله على العمل الترجمي في هذه المحطة الأندلسية سواء ما تم في الحقبة الأولى تحت سلطة الكنيسة (ق 12م) أو الحقبة الثانية التي كانت تتدبر مقاليدها الامبراطورية والدولة (ق 13م) أن أغلبية المترجمين كانوا من الأجانب (الايطاليين ـ اليهود...)، والعمل الترجمي كان ينحو نحو التخصص والتدقيق، حسب اختصاص المترجمين. العمل الترجمي كان منظما وفي إطار مجموعات عمل، الجامع بين أعضاء كل مجموعة على حدة، وحدة التخصص، وذلك تحت إشراف إما الأب او الملك (ألفونس) - العمل الترجمي عمل معقلن، بعدما تم الوعي به في تجاوز التخلف واللحاق بركب التقدم. - الترجمة كانت تعتمد تقنية التعليق ووضع الحواشي والطرات - على غرار ما فعله العرب أثناء ترجمة الفكر اليوناني - قصد الشرح والتفسير. - الشروط المعمول بها، كانت شروطا انتقائية (انتقاء العلوم الحقيقة بالتقدم والازدهار) وإقصائية (إقصاء كل ما له علاقة بالعادات والتقاليد والدين الخاص بالمسلمين). - الترجمة لم تكن في عمومها بريئة ومكتملة الشروط، بل كان يتم اللجوء في أغلب الأحيان إلى الاختزال والتلخيص لتعلة أن الكتابة العربية كتابة مغرقة في الإطناب اللغوي. كل هاته الجهود الترجمية إذن، ساعدت أوروبا في هذه المرحلة على إحداث قطيعة مع الفكر الكنسي وبناء مجتمع مدني حر يقدس المعرفة والفكر ويقطع مع التحجر والانغلاق.

تاريخ نظرية الترجمة: رغم طول هذا الفصل، الذي تفرع عنه فصلان آخران وأهميته، فإننا سنقتصر على اختزال وتكثيف مختلف مواده واستقطار الجامع بينها من دون تتبع التفصيلات، وذلك راجع بالاساس إلى أن مختلف الرؤى والتنظيرات التي تم الوقوف عندها انطلاقا من الخطيب الروماني “شيشرون” انتهاء إلى “انطوان بيرمان” شكلت اجتهادات تنظيرية شخصية تختلف باختلاف المرجعيات وزوايا النظر والتصورات وكذا بالمادة (الترجمات) التي تمت ملاحظتها. وإن كانت تتفق أغلبها في جانب من الجوانب. مما جعل كل هذه التنظيرات قاصرة عن تشكيل نظرية معيارية عامة وشاملة، تربأ بذاتها عن التنابذ والتناجز، بمثابة أرضية يتم الاحتكام إليها كلما أردنا خوض غمار الترجمة واستكشاف مفازاتها. ويمكن حصر مواد هذا الفصل انطلاقا من التقسيم التالي:

أ- مترجمو العصر الوسيط: تميزت حركة الترجمة في هذا العصر بالاقتصار على ترجمة النص الديني ترجمة حرفية، باستثناء بعض الترجمات التي ضاقت ذرعا من الترجمة الحرفية وشقت لنفسها طريقا قوامه الوضوح وأناقة العبارة. وجاء هذا الاقتصار على النقل الحرفي والتركيز على البعد النفعي نتيجة لتسلط الفكر الكنسي المتحجر الذي يرفض صوت الاخر ويخنق صدى الابداع فيه.
ب- مترجمو عصر النهضة: ستشهد الترجمة في هذه المرحلة حركة لافتة نظرا لتأثرها بالتحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي عاشها العصر، كما أنها ستعرف انتشارا واسعا بحكم الانكباب على الأعمال الشعرية والإبداعية والفنية ترجمة ودراسة، هذا فضلا عن تأثر المترجمين بنظريات الجمال والفن وبعض المدارس الفنية، علاوة على بروز تيارات ومدارس خاصة بالترجمة لكل منها أسلوبه الخاص (الحفاظ على الأصل، تجاوز الأصل، النقل.

وبحكم التسمية (عصر النهضة) لا بحكم التوافق الزمني، يمكن أن ندرج ضمن هذا المحور تلك الجهود الترجمية التي عاشها المجتمع المصري الذي عاش النهضة مبكرا مقارنة مع باقي الشعوب العربية الأخرى نتيجة احتكاكه بالثقافة الأوروبية (حملة نابوليون) مما شجع على إرسال البعثات إلى الخارج وبروز الترجمة كشكل راق من أشكال المثاقفة التي تسمح للذات برؤية عيوبها ونقصها في مرآة الآخر، وفي هذه المرحلة بالذات تمت ترجمة الكثير من العلوم والفنون قصد بناء الذات وتشييد أركانها للحاق بركب التقدم، وفي نفس الفترة (ق 19) التي عاشت فيها مصر نهضتها، شهدت حركة الترجمة بالمغرب نوعا من الانتعاش نتيجة التأثر بالآخر البراني إبان الحملة الفرنسية على المغرب ابتداء من سنة 1912 في نطاق الحماية.
ج- لحظة التأسيس: (ق 20) شكلت هذه المرحلة بالذات، قفزة نوعية في حركية الترجمة، استنادا الى تلك الجهود الفردية لكثير من الرواد والمفكرين الذين صرفوا جهودهم، رغم اختلاف التخصصات، للبحث في الترجمة باعتبارها عملا نسقيا ذا ضوابط وخصوصيات وشروط، إبداعية أكثر من مجرد الاعتقاد بفكرة النقل والتحويل، لذلك هب رواد وعلماء من أمثال والتر بنيامين وجورج مونان ورومان جاكسون انتهاء إلى انطوان بيرمان لتأسيس نظرية خاصة بالترجمة تباينت خطواتها بتباين تصورات كل واحد كل منهم على حدة، إلا أن الجامع بينهم جميعا هو التأكيد على تجاوز النص المترجم أثناء نقله إلى لغة التحويل لهاجس القراءة والتلقي، وكذا تجاوز عملية الترجمة لحيز النقل إلى فضاء الإبداع الذي تتداخل فيه شعرية اللغة الأولى بشعرية اللغة الثانية وبالتالي تشييد رؤية نوعية للعالم وعوالم أكثر فسحة ورحابة.

وكتخريج عام فإن هذا الكتاب من الأهمية بمكان بحكم الرؤية التاريخية الدياكرونية التي تتبعت الاسطوغرافيات التاريخية من أجل تشكيل رؤية متكاملة من شأنها تأسيس وعي نظري ممتد الأطراف ومتكامل الرؤى ينقل الترجمة من رؤية الجمود إلى قراءة النسق التي تجعل منها عملا منظما محكم القواعد.


باحث من المغرب