يمثل فيلم "300 إسبارطي" نموذجا لتلك التجارب السينمائية التي حاولت أن تمتح من الأسطورة موضوعتها المركزية واستشكالا يقودها لبناء رؤيتها الجمالية، لكن هذه المحاولات غالبا من كانت تغلف بخطابات أخرى، لعل "التسييس" إحداها وهو ما يعالجه هذا المقال من خلال نموذج التجربة السينمائية الأمريكية والتي قدمت لنا تجربة تحاول في العمق الدعوة إلى مقاومة كل أنواع الاستعمار حتى وإن كان الطرف المستعمر يمثل إمبراطورية عظمى.

تسييس الأسطورة في السينما الأمريكية

سليمان الحقيوي

كان للتاريخ دائما قِديسوه وخَونته، حراسه ولصوصه، غموضه ووضوحه...وكانت هذه الثنائيات مصدر متعة للكثيرين ممن تأسرهم غواية الماضي البعيد وأحداثه، وقد نالت الأساطير اليونانية قدرا كبيرا من الإعجاب، فكانت ولا تزال مادة دسمة لمختلف الفنون، لذلك ستعمل السينما الأمريكية على الرجوع إلى أحداث التاريخ، سواء لإرضاء أهواء الجمهور أو استخدام هذا التاريخ لأغراض سياسية.   

      فيلم"300 إسبارطي" من أبرز الأفلام التاريخية المتقنة الصنع، أنتج عام 2007 ، وهو من تأليف "فرانك ميلر" بناء على قصته المصورة" comics" خماسية الأجزاء، وكانت عناوينها الشرف، الواجب، المجد، القتال ثم النصر، كما نالت هذه  القصص جائزة أحسن قصة مصورة في مهرجان آيزنر في عام 1999. وتعود علاقة ميلر بهذه القصة إلى مرحلة الطفولة حيث شاهد وهو صغير فيلم" 300 إسبارطي" الذي أنتج عام 1962 وأبهرته هذه القصة البطولية وعاشت بذاكرته طوال هذه المدة، أما مخرج الفيلم "زاك شنايدر"  فقد نجح في توظيف كل الإمكانات السينمائية والتقنية المتاحة للحصول على قصة تاريخية بثوب عصري أبهرت المشاهد، وأول العوامل التي ضمنت النجاح لهذا العمل هي تركيزه على أحداث حرب "ثيرموبيلاي thermopylae" الكبرى بين الفرس واليونان وهي جزء من صراعهما الطويل، وهذا الاختيار كان كفيلا بضمان النجاح والتميز للقصة، وعدم تحمل عناء الخوض في التفاصيل، الشيء الذي لفت الانتباه إلى الأحداث والشخصيات.

 وتدور أحداث الفيلم حول موقعة "ثيرموبيلاي" أي الأبواب  الساخنة  التي جرت في العام 480 قبل الميلاد وفيها واجه جيش إسبارطة المكون من ثلاثمائة جندي بقيادة الملك "لونايدس" جيوش الفرس التي بلغت مليون جندي حيث سيظهر "ليونايدس" حنكة كبيرة في قيادة جيشه مستفيدا من  ضيق معبر ثيرموبيلاي وهو موقع استراتيجي لا يسمح عرضه بمرور أكثر من 18 رجلا وعلى يمينه توجد حافة جبلية شاهقة. وخروج "ليونايدس" وجيشه -كما جاء في الفيلم- جاء نتيجة نية  الاستيلاء على اسبارطة  حيث أرسل"زيريكسيس" رسوله من بلاد فارس ليعرض على الملك "ليونيداس" رغبته في الاستيلاء على إسبارطة وضمّها إلى مستعمراته لكن "ليونيداس" يرفض العرض ويفضل المواجهة والموت على خيار الاستسلام والخنوع، ويستعد لمواجهة الجيوش الفارسية عند مضيق ثيرموبلاي قبل زحفها إلى  إسبارطة، فيحاول استمالت حرس الآلهة و الأوراكل من أجل دعم خيار الحرب، لكنه يصدم برفضهم، لأن ذهب "زيريكسيس" كان أحب إليهم من حرية إسبارطة، فيقوم باتخاذ قرار شخصي ليجمع أفضل ثلاثمائة محارب في إسبارطة ويذهب بهم إلى ساحة المعركة مسطراً أروع معاني التضحية والبطولة، لقد برع اليونان في استخدام استراتيجية حربية متقنة بالاستفادة من الأرض والتضاريس التي تمنحهم الأفضلية في أية معركة يخوضونها على أراضيهم حتى لو كانوا لا يتمتعون بكثرة عددية مقابل أي جيش يواجههم وهذا الأمر تحقق في معركة ماراثون وكذلك في معركة سالاميس البحرية إلى جانب معركة البوابات الساخنة (ثيرموبيلاي)، ويعود السبب في عدم انهزامهم بسهولة أيضا إلى حسن اجادتهمم لاستخدام تسليحهم وعتادهم الذي شاهدناه بالفيلم المكون من الدرع الثقيل والرمح الطويل والسيوف الخفيفة. إن مُشاهد هذا العمل السينمائي يلاحظ بِيُسر الرؤية السينمائية التي اعتمدها المخرج "زاك شنايدر" حيث يغلب الطابع التقني والرسوم ثلاثية الأبعاد، فكان الفيلم خاليا من المشاهد الواقعية، كما أن أحداث الفيلم لم تخرج عن  القصة المرسومة "لفرانك ميلر" ، لكن كل هذا لم ينقص من اعجاب الجمهور الشديد بقصة الفيلم وخصوصا تضحية "ليونايدس" وجيشه.

إن خوض حوار مع فيلم إسبارطة يستضمر أكثر من مغامرة، لأن مثل هذه الحوارية تأخذ إسقاطات سياسية تجعل من الإمساك بمغزى الفيلم -في ظلها- أمرا صعبا؛ فمعلوم أن هذا العمل قد حقق نجاحات باهرة، لكن بموازاة  ذلك فقد خلف ردود أفعال متباينة خصوصا وأن عرضه قد زامن تهديدات واشنطن بالحرب على إيران فوجهت هذه الأخيرة على لسان  الرئيس "أحمد النجاد" اتهامات لهذا العمل حيث وُصِف بإظهار الفرس في صورة السفاحين الهمج المستعمرين، وانه يأتي في سياق تشويه صورة إيران، وهي انتقادات قد تصيب في بعض الجوانب، لأن شعار هوليود دائما هو السينما في خدمة السياسة، لكن من زاوية أخرى فقصة هذا العمل بقصد أم بغير  قصد هي ضد سياسة أمريكا الاستعمارية التي تنبذ كل أشكال المقاومة وتزرع في كل البلدان ما يمنع حدوثها، في حين نجد الفيلم في عمقه  دعوة إلى مقاومة كل أنواع الاستعمار حتى وإن كان الطرف المستعمر يمثل إمبراطورية عظمى، وكذلك فالأسلوب الفارسي في المساومة هو شبيه بأسلوب أميركا "معي أو ضدي"، و  تضحية ليونايدس بجيشه كانت درسا لدويلات اليونان من اجل التوحد -وهو ما حدث لاحقا-  هي عبرة للأمة العربية التي لا تتقن إلا لغة الفُرقة، ومن هذه الزاوية يتضح أن هذا العمل يحتمل أكثر من تأويل بحسب المنطلقات التي قد نعتمدها في الحكم. أما من حيث وفاء العمل لأحداث التاريخ فنجده قد ركز على معركة "ثيرموبيلاي" ومارس نوع من التعتيم على معركة أخرى كانت تجري في نفس الوقت حيث كان هناك أسطول بحري يوناني بقيادة" ثيموستكليس" الذي أجهض المخطط الفارسي الرامي إلى مفاجأة جيش ليونيداس ومهاجمتهم من الخلف، وعدد جنود الجيشين لم يكن بالطريقة التي عرضها الفيلم فقد فاق 300 بكثير عند الإسبارطيين، وقل عن المليون عند الفرس، لكن هذه التفاصيل هي اختيارات المؤلف والمخرج، لأن عملهما حاول رسم الأسطورة كما هي دون محاولة لجعلها أكثر عقلانية، وهذا ما يفسر الأشكال التي صور بها الجيش الفارسي والمخلوقات التي ظهرت في الفيلم، وهذا كله يتسق مع طبيعة الأسطورة من حيث هي أسطورة، ومع طريقة الشعراء في تخليد التاريخ والأساطير، فالشعراء تغلب عليهم العاطفة ولا يعنيهم الإنصاف بقدر ما تعنيهم الحماسة والإثارة، وهم منحازون دائماً، فلا غرابة أن يظهر الفرس بهذا الشكل البغيض طالما أن الأسطورة يونانية المصدر ومتعلقة بعدوهم الأول في ذلك الوقت.

 بالإضافة إلى القصة لا يمكننا أن نتجاوز أداء الممثلين في هذا العمل وخصوصا "جيرارد باتلر" الذي أدى ببراعة فائقة دور الملك "ليونايدس" من حيث تحركاته أو قسمات الوجه والانفعالات، بينما كانت الشخصيات الأخرى تدور في فلكه أو تساهم في بداية رسم الأحداث لتنتهي عند ليونايدس. ولا ينازع  جودة هذه العناصر قيمة إلا عنصر الصوت المتمثل أساسا في الموسيقى التصويرية التي قام بأدائها الموسيقار "تايلر بيتس" حيث وافقت بشكل كبير مشاهد الفيلم سواء في مشاهده الحزينة أو مشاهد الحرب والمعارك، مساهمة في تعالق الصوت والصورة لتزيد من درجة الانفعال والتأثير.

لم تكن القصة التي أتى بها "زاك شنايدر" من بنات أفكاره وإنما هي قديمة قدم الأساطير اليونانية ذاتها، وإنما المستحدث هو طريقة تناوله لها وصوغها في إطار تقني يركز على جزء مهم منها، ولعل الباعث الأكبر في إنتاج هذا العمل تجاري محض لكنه حقق متعة فنية كبيرة، أما الانتقادات التي وجهت إلى الفيلم فهي تعود بالأساس إلى درجات الفهم المتباينة عند المتلقي ومنطلقاته الشخصية في الفهم.  

 

كـاتب وناقد سينمائي من المغرب