يكتب القاص المصري عن السباح قاهر المانش والراوي الكاتب ومصيرهما المشترك دون أن يلتقيا في الواقع. حكاية جمعت الاثنين - وإن من طرف من واحد- على امتداد سنوات تكشف عن مفارقات الواقع التي تدعو للسخرية والتي أثرت في حياتيهما حتى رحيلهما عن الدنيا.

لم أكن هناك .. لأنه

محمد زهران

فى اللحظة التى أنهيت فيها كتابى القصصى الأول، والذى وضعتُ له عنواناً شهياً وقابلاً للتأويل " وددت لو أن.. "، استطعتَ أنت يا " عبده " عبور المانش لتسجل رقماً قياسياً جديداً فى زمن عبوره من الشاطئ الإنجليزى إلى الشاطئ الفرنسى، لقد أصبحتَ مشهوراً جداً يا " عبده " وأُطلقت عليك أوصاف " قاهر المانش "  و " سباح الجليد " و "تمساح النيل "، وأشياء أخرى من هذا القبيل، كل هذا بينما كنتُ أبحث عن ناشر للكتاب، ولأنه كان من الصعب العثور على ناشر متحمس لكاتب شاب، فقد بدأت محاولاتى الأولى تصيبها الخيبة المتكررة، كما أن محاولاتى الثانية والثالثة أصابتها الخيبة الشاملة. لم يكن بإمكان أحد تصور أن مجرد كاتب مبتدئ بإمكانه كتابة قصص جيدة بهذا الشكل وبهذه اللغة وبهذا الجنون، كما أن العنوان " وددت لو أن " لم يرق لكثير من الناشرين. جلستُ فى البيت مكتئباً وكدتُ أقرر التمزيق الكامل لكل أوراقه لأنعم أخيراً براحة الفشل.

وأنت كنت نجماً تتباهى بصورك وحواراتك الجرائد اليومية والأسبوعية، هذا لأن التلفاز لم يكن قد ظهر حتى هذا الوقت فى بلادنا، ورغم ذلك فقد نافست بشهرتك الطاغية عمالقة السينما.. ولم لا؟ لقد كان إنجازك مذهلاً، ولم يكن ليُصدق أبداً. كنت كمعجزة يا " عبده " وكمعجزة عثرت على ناشر تحمس لكتابى فنشره، وفرحت فرحاً كلاسيكياً، واشتريتُ عشر نسخ على حسابي ووزعتها على الصحف والمجلات التى ظلت تنشر اسمك وصورتك، دون أدنى التفات لكتاب سيئ الإخراج لكاتب مغمور صدر من مطبعة شعبية معنية أساساً بكتب المواد الدراسية لطلبة الجامعة.

لكل هذا وددت لو اعتذرت عن تمزيقى لكل الصحف والمجلات التى تحمل صورك وكلماتك، فقط لأنها تجاهلتنى، أعرف أنه لا ذنب لك، لذا وددت لو اعتذرت، ووددت لو أنك تسمع.

بعد صدور الكتاب بأسابيع قليلة استطاع الحاج " حسن " تاجر الغلال أن يشتريه بعشرة قروش، ولأن الحاج " حسن " لا يحب القراءة ويقتنى الكتب لمجرد اقتنائها، فقد وضع كتابى الصغير بجوار مئات من الكتب التى لم تُخدش صفحاتها، هكذا كنت بين أساتذتى الكتّاب الكبار على قدم المساواة، هنا.. وتحديداً فوق رف خشبى بمكتبة الحاج، باعتبارها جزءاً بسيطاً من ديكور منزله الجديد.

ويا للصدف العجيبة يا " عبده "، ففى هذه الأيام قامت زوجة الحاج المهووسة بترتيب الأشياء، بفرد صفحة جريدة - تحمل إنجازك العظيم وصورتك المهيبة - على الرف الخشبى أسفل كتابى، لذا فقد أمكننا أن نلتقى، أنتَ فى جريدة تُستخدم كغطاء - ليس إلا – لرف خشبى، وأنا فوقك تماماً : كتاب تسكنه روح المؤلف.

واستطعت أنت أن تحمل ثقلى المقدر بأربع وعشرين ألف كلمة، تحملها دون حق فى الاختيار، ودون تذمر لأجل صورتك البطولية وأنت تخرج من البحر عارياً بنصفك الأعلى، مرتديا نظارة بحرية تضعها على عينيك مبتسماً، كنتَ مبتسماً ابتسام صقر خرج من معركته خائر القوى.

وتعارفنا فى أجواء غاية فى الميتافيزيقيا، حدثتنى عن المياه الباردة وجذبة الموت فى كل ذراع تضرب به الماء، والرياح التى أطارت عقل الأمواج فأثارتها عليك، وأخيراً.. اكتمل كل شئ بالأمطار والبرق والرعد، ولكن للأسف لم يكن حديثك ملائماً للجو الرومانسى حولنا، إذ كان الباشا " حسن " الذى تخلى عن لقب الحاج، واشترى لقب " باشا " يراقص امرأة تركية فى حفل افتتاح البيت بعد أن انتحى بها جانباً بعيداً عن الضيوف، فى الصالون الكبير وسط الشموع الخافتة.  انتبهت إليك مرة أخرى، وكنتَ تتحدث عن القارب المرافق لرحلتك فى الخلف، والذى كان يدعوك باستمرار للانسحاب وعدم المضى قدماً فى طريق الموت.

وبكيتَ يا عبده.. بكيتَ هنا على الرف الخشبى، عندما استعدت أحاسيس الفقد والضياع فى المياه الباردة ولحظات اختفاء القارب المصاحب، والحيرة المرعبة بين الموت والحياة الهشة فى غرفة بلا باب فى حارة ضيقة، وضوء مرفأ شاطئ النهاية الذى يتراقص كما يتراقص " الباشا " الذى تحول رقصه إلى عناق وقبلات همجية.

كل هذا يا " عبده " يا رفيقى الذى يحملنى مرغماً على هذا الرف الخشبى، مشابه تماماً لحالى ككاتب مغمور، لا يجد من ينشر له، وعندما وجد، لم يجد أحداً  يشتريه إلا هذا " الباشا "، وعندما وجد من يشتريه لم يجد أحداً يقرأه، كم وددت لو قرأنى     " الباشا " كما يقرأ الآن جسد التركية المنحدرة من عائلة فقيرة فى الأناضول، وكم وددت لو استطعتُ أن ألتقط هذا الماء الذى ينهمر من كتابى على صورتك فيعود بك مرغماً إلى أجواء ضربات الذراع فى بحر العواصف الرعدية. ولأنك عظيم وقوى كمعجزة  فقد مسحت بيدك على صفحاتى المغلقة وبدأت تقرأنى.

*    *     *

 ويمر الوقت، دون أن نعرف على وجه اليقين إذا كان هذا الوقت مجرد أيام وأشهر أو سنين، ولكنها على الأرجح سنوات طويلة  قد مرت من الكتابات المتواصلة، ومئات الطبعات والترجمات إلى لغات لم أفكر يوماً أن يقرأنى أصحابها..

ويمكننى القول فى يقين إننى  تتبعتك قليلاً، ولمدة غير محددة، ثم نسيت فى غمرة الشهرة والندوات والمؤتمرات واحتفاليات التكريم.

وعندما قرأتُ حزيناً خبر فوز آخر بجائزة نوبل التى كنت مرشحاً لها لسنوات، لم يصبنى أسىً بمثل ما أصابنى عندما قرأتُ الخبر المجاور فى الجريدة، كان يتحدث عنك وعن إنجازك منذ أربع وثلاثين عاماً، وبعد سرد مجموعة ألقابك التى أعرفها جيداً، تحدثوا عن دكان " فلافل عبده المانش " ذلك الدكان الصغير الذى تديره فى حارتك الضيقة، فتذكرت كتابى الأول وصفحة الجريدة التى تحمل صورتك.

فى هذه اللحظة عزمت على أن ألتقيك واقعياً، ثم فكرت وعزمت على أن أكتب أولاً قصة عنك أحملها إليك فى ذات الوقت الذى تحملها الجرائد.

ولكن الوقت لم يمهلنى، ولأنه لا يمكنك يا " عبده " تصور الأشياء حين تدور، فقد دارت الأشياء هكذا دون تدخل منا فحرمتنا من الالتقاء. كنتُ قد مِت قبل أن أكتب قصة مستحقة عنك، قصة عن بطل أصبح يُقطّع عجينة الطعمية ويرميها فى الزيت المغلى ثم يخرجها بعد تمام النضج ليبيعها فى قراطيس. ولأن الأشياء دارت هكذا، فقد قرأتَ أنتَ خبر وفاتى فى جريدة مصحوبة بملحق عن أعمالى وجوائزى وأوسمتى وصورى، وعندما نحيتَ الملحق جانباً وأنت تتأمل صورتى، فكرتَ بى قليلاً، وقررت أن تحمله إلى البيت لتقرأه قبيل نومك.

واسترحتُ فى قبرى وتذكرتك باعتزاز لأنك تذكرتنى، ولكنك نسيت ملحق الجريدة الذى يحمل صورى فغفرت لك نسيانك لأننى كنتُ قد نسيتك أيضاً. وفى اليوم التالى عنفتَ الصبى الذى يعمل لديك لأنه التقط الملحق ولفه بهيئة قراطيس وبدأ يرص فيها الطعمية الساخنة، عنفته وأفرغت الملحق وتأملت صورتى ثم مسحتها فى بنطالك من لطخات الزيت، وفردتها أمام عينيك مدققاً فى صورتى ومتجاهلاً الزبائن الذين تدافعوا عليك.

وبعد أن مات " الباشا "، وباع ابنه الوريث من زوجته التركية مكتبته المتحفية إلى تاجر كتب، والذى  باعها بدوره إلى باعة متجولين، تُرى أى قدر دفعك إلى شراء هذه النسخة بالتحديد، وما الذى يضغط عليك بحيث تبكى وأنت جالس فى فراشك ليلاً بينما تقرأنى واقعياً هذه المرة.

ثم – الآن – من ذا الذى يفسر غضبى الهائج عليك.. غضبى المتلاطم كأمواجك، والذى دفعنى للنهوض وتوسل الخروج لأننى عرفت كل شئ..  هنا، حيث لا توجد أشياء لا يمكن اكتشافها. عرفت أنك عظيم إلى أبعد مدى، وإنسانى بطريقة لا تخطر على البال، لأنك فى تلك الليلة.. ولحظة تعارفنا على ذلك الرف الخشبى،، أنا فى كتاب ضئيل الحجم خرج من مطبعة شعبية، وأنت على صفحة جريدة تزهو بأخبارك. فى هذه اللحظة تحديداً.. لحظة اختلاط ماء بكائنا الحار..  أبدلتَ حظكَ بحظى.. وكان مقدراً أن تكون مدرباً ومحاضراً رياضياً عظيماً..

وأن أكون بائعاً للطعمية.