بعد "عطش الماء" يحلق بنا الشاعر المغربي المغترب في "سفره"، لكنه في كل مرة يجدد عطش الشاعر الدائم وهو يعيد مساءلة وجوده وصوره، ومن خلاله يؤجج عوالم النص بمجازات وصور ويجعلها أكثر انفتاحا لا على صفاء العالم بل على تضاداته وتناقضاته المتفاقمة.

من سِفْر الماء

عبداللطيف الإدريسي

 

1. سيمفونية الخَشْفِ الصامِتِ

 

إلى آسية العلوي.. لك كلّ السيمفونيات بأصوات أطفال العالم البريئة، وكثير من الحبور.

في القَيْظِ

عَلى ظَهْرِ زَوْرَقي الأزْرَق

أَزْرَعُ قَطَراتِ ماءٍ أَثيرٍ

وَفي دَواخِلي تَجْتازُني وِدْيانُ ظَمَأ تَحْمِلُ في طَيّاتِها خَشْفُ بَيْداء عَقيم

يُكلّمُني الطُّحْلُبُ الشّاحِبُ وَقَدْ أَرْغاهُ الجَفافُ  

يَسْأَلُني مِنْ وَراءِ بَحْرِ الظُّلُماتِ عَنِ اليَمِّ المُدَنَّسِ وَالزَّوْرَقِ الأَزْرَقِ الَّذي فارَقَهُ في تِلْكَ اللَّيْلَةِ المَوْشومَةِ بِوَحَلِ أَرْضٍ اغْتَصَبَها بِعالُ السِّعْلاةِ وَرِجالُ جيرانِها.

(سَتُجيبُهُ الآلِهَةُ ما يَلي وَفَوْقَ رُؤوسِها مِظَلاّتٌ مُعَلَّقَةٌ يحْمِلُها حُثالة عَبيدِ البحّارة)

يا وَرْداً  كانَ يَكْسو البِحارِ بِلَوْنِ خَجَلِهِ

لَقَدْ كَبَحَهُ رُبّانٌ يَنْفَلِتُ كَالزّاووق سابِحاً وَسْطَ العَتْمَةِ

لَقَدْ باتَ لَوْناً بِلا لَوْنٍ

لَقَدْ أَصْبَحَ سَفينَةً، معَدِّيَّةً بَيْنَ الضِّفَّتَيْنِ

يَنْقُلُ ما تَبَقَّى مِنْ ضُروبِ المجانينِ وحُطامِ الأَفْياءِ

لَقَدْ أَضْحى شِراعاً يَتَسابَقُ في حَصْدِ غَنائم

قَطَراتِ الماءِ الأثيرِ الّتي زُرِعَتْ في القَيْظِ

 

يَهْجُرُني الأزْرَقانِ

وَيَفْقِد زَوْرَقي فَضاءَهُ المَعْلوم

وَبَيْنَ الحينِ وَالحينِ

يخْتَرِقُني صَدى امْرَأَةٍ مِنْ بني نُمَيْر

يَصِلُني مَعَ عارِضٍ غَيْر حامِلٍ:

"أَرى الشَّجَرَ يمْشي"

يَبْكي أَمَل بَيْنَ يَدَيْها

يَصْرُخُ         

"لمْ يُصَدِّقوا العَرّافَةَ المقَدّسَة"

وَأَبْقى وَزَوْرَقي كَسيزيف نَسْبَحُ وَسْطَ كُثبان الرِّمالِ

نَزْرَعُ ظِلالَ قَطَراتِ الماءِ الأثير

 

بيزوس المحروسة 5 نوفمبر 2011

 

2. أَبْجَدِيةُ الماءِ والمِلْحِ

لَيْلٌ طَويلٌ يُدَرِّبُني عَلى الرَّتابَةِ، وَنَهارٌ يَسْتَكِنُّ خَلْفَ أُفُقٍ آثِمٍ، وَلا عَوارِض تُلَقِّنُنِي أَبْجَدِيَّةَ الماءِ.

- وَأَنا في مَهْدٍ مِنْ خَشَبٍ مَضْغوطٍ، شَظايا ما تَبَقّى مِنْ سَفينَة نوحٍ -

نَصَحَتْني عَرّافَةُ المَكانِ بالرَّحيلِ مَعَ مَجيءِ أولى حَبّاتِ المَطَرِ.

كَيْفَ لي بِالرِّحيلِ - قُلْتُ وَأَنا ما زِلتُ في المَهْدِ - وَلَقَدْ وُلِدْتُ مِنْ غَيْرِ زَعانِفَ، وَريشُ البَطَّتَيْنِ مَغْشوشٌ لا يَرْقى في الماءِ الضَّحْلِ ؟ كَيْفَ لَهُما أَنْ يَسْبَحا بي أَنا الغَيْلَمُ الخَطِلُ ؟

 

وَراءَ الماءِ مَوْجاتٌ مِنْ سَرابٍ رَعَنَها ضَوْءُ الشَّمْسِ الظَّمْآنُ.

وَرَاء الماءِ عُيونٌ مِنْ ماءٍ آسِنٍ تَمُدُّ عَيْنَ صقلوب الدّامِية وَلا أبولو في الأُفُقِ لِيَفْقَأَها.

وَهَلِ العَيْنُ الواحِدَةُ يَشوبُها الحَوَلُ ؟

تَمْتَمَتِ العَرّافَةُ، وَالماءُ قَدْ حَضَنَهُ الصَّقيعُ

وَكانَ الماءُ قَدْ أصابَهُ الشَّوصُ.

العَيْنُ بَعيدَةٌ..

ماءُ السَّلْسَبيلِ قُدِّمَ قُرْباناً لِلْمِلْحِ

فَلا الماءُ صارَ يَرْوي عَطَشي

وَلا عَطَشي يَكْفي الماءَ

هَزَمَني تَصَدّي المِلْح

وَتَبَخُّرُ الماء

تَجَمَّدَ فُؤادي

وَصِحْتُ مِنْ وَسَطِ مَهْدي المُتَواري

وَمَتى كانَ المِلْحُ يُزْهِرُ ؟

 

عِنْدَ المَنْبَعِ...

لَقَّحَتْ روحُ المِلْحِ اليَمَّ العَتيقَ بِكُلِّ أَنْواعِ العُقْمِ

لَمْ يَعُدْ يَعْنيني تَخَلُّصُ صاحِبِ النونِ

وَالحوتُ أَمامي يَنْتَحِرُ هاهُنا عَلى ضِفافٍ هَجَرَها بوسيدون وكُلُّ أرْبابِ البانتيون

وَهَجَرَها النّوْرَسُ مُصاحِباً سَمَكَ السّلْمونِ في رِحْلَتِهِ إلى المِياهِ العَذْبَةِ.

 

راودَتْ سَمَكَ السّلْمونِ فِكْرَةُ العُقْمِ

لَنْ يَضَعَ بَيْضَهُ

عِنْدَ المَنْبَعِ..

لَنْ يَحْرُسَ بَيْضَهُ

عِنْدَ المَنْبَعِ..

لَنْ يَموتَ وَيَحْيى بَيْضُهُ

عِنْدَ المَنْبَعِ..

عَيْنُ الماءِ وَروحُ المِلْحِ صِرْتُ

أَذوبُ في مائي مَعَ أولى حَبّاتِ المَطَرِ

وَكَالعَنْقاءِ أَخْرُجُ مِنْ مِلْحي كُلَّما نَضَبَ النَّبْعُ...

          

بيزوس المحروسة 6 نوفمبر 2011

 

3. وَتَخْضَلُّ البَيارِقُ في دُجْنَةِ اللَّيْلِ

بَيارِقُ القَبيلَةِ أَضاعَتْ وَهَجَها الرَّفْراف

تَراها

- عَلى طولِ السُّبل الّتي كانَتْ قَد ارْتسَمَتْ فيها أعْلاماً أو نُصُباً –

تَشْكو غِيابَ الأشِعَّةِ وَانْعِكاساتِ حَبَّاتِ المَطَر

فَلا الرّيحُ عادَتْ تُواسيها

وَلا رَفْرَفَةُ الحَمام

 

...إلى القَبيلَةِ

عادَ البازُ كَسيرَ الجَناحِ

لَمْ يَجِدْ عَلَمَهُ الذي تَعَوَّدَ عَلَيْه؛

رَحَلَ كُلُّ البَيازِرَةِ

مُنْذُ زَمان

حامِلينَ ما تَبَقّى مِنْ بَيارِقِهِم الشاحِبَة

باحِثينَ عَنْ وِدْيانٍ وافِرَةٍ

وَأَرْضٍ خِصْبَةٍ مِعْطاء

مُسْتَقَراً لبَعيرِهِم حامِلَةُ الخِيام،

وَما تَبَقّى مِنَ المَالِ :                                                       

خَليطٌ مِنْ نِساءٍ تَصْلُحُ لِجَميعِ المَهام (روبوت كهربائي)               

وخَليطٌ مِنْ عَبيدٍ مِنْ كُلِّ الأجْناس (خُرْدَة)

وَمَعِزٌ يَرْعى فُضُلاتِ خُبْزٍ حَجَرِيّ وَكَثيرٍ مِنَ الوَرَقِ المُقَوّى وَالبْلاستيك

وَبيزانٌ عَمْياءُ العَيْنِ وَالبَصيرَةِ تَصْطادُ الجِرْذانَ

زَنْقَةً زَنْقَةً

بَيْتاً بَيْتاً

وَسناجِقُ أَجْدادِهِمْ بِالتَّبَني تِلْكَ الّتي هَزَمَتْهُمْ في لُغَتْهِمْ

فَنَسِيَتْهُمُ الإلَياذَةُ

وَكُلُّ الكوميديات

وَالتراجيديات

 

إِسْقاطٌ أَتْعَبَ أبا الوَليدِ في فَجْرِ قُرْطُبَةَ

وَالصِّبْيانُ يُحاكونَ المَآذِنَ وَنِداءٌ لِصَلاةِ فَجْرٍ يُتَرَجّى وَلَنْ يَصِلَ

إهمالٌ دَوَّنَهُ حَكيمُ كِتابِ "الألِفِ" شارَةً لِحَسْرَةٍ عَلى ما ضاعَ مِنْ ذاكَ الذي تَوَلّى

في حِينِ

أَنَّهُ

مَنْطِقاً

وَعَقْلاً

كانَ لَهُ أَنْ يُصَلّيَ ثمّ يَتَجلّى،

لَكِنَّهُ

خَرَّ راكِعاً لآلِهَةٍ سَتَنْكَرُهُ مَرَّتَيْنِ،

لَيْتَهُ

ما صَلّى:

مَرَّةً وَهُوَ ما زالَ عِنْدَ عَتَبَةِ مَأْواه

وَأُخْرى عِنْدَما يَلْحَظُ بِعَيْنَيْ عَدَمِهِ ذَلكَ المَوْعودُ المُسْتَحيلُ،

فَيَصمُتُ وَيَنْساه!

 

بيزوس المحروسة 11 نوفمبر 2011

 

شاعر من المغرب {مقيم في فرنسا}