18 يومًا من عمر الصراع في مصر.. وعليها!

سمير درويش

الثمانية عشر يومًا الأولى من عمر "الثورة المصرية": من 25 يناير إلى 11 فبراير 2011، كانت جولة من جولات صراع طويل مازال دائرًا بين طرفين رئيسيين: شعب يتطلع إلى الحرية والاستقلال، وقوى غربية- تمثلها أمريكا- تعاونها قوى داخلية ترتبط معها بمصالح مالية واقتصادية، تهدف إلى تأمين التواجد الأمريكي الغربي فوق آبار نفط الخليج، فالغرب يعرف القيمة الإستراتيجية لمصر ومدى تأثيرها في محيطها، وأن أي مشروعات تخص المنطقة يجب ألا تعترض عليها القاهرة، على الأقل، فقد قادتها للحرب مع إسرائيل، ثم عادت وجرتها للسلام معها، كما أن القوات الأمريكية وحلفاءها احتاجوا لغطاء عربي، تقوده مصر، لإخراج القوات العراقية من الكويت عام 1990، وهناك الكثير من الحوادث التاريخية المشابهة الدالة على ذلك.

في اليوم الأخير، 11 فبراير، ظن الثوار أنهم قضوا على خصمهم بالضربة القاضية، وأخرجوه من الساحة مستسلمًا، فنظفوا الميدان، وأقاموا به احتفالية كبرى وغادروه منصرفين إلى أعمالهم، لكن تعاقب الأحداث أثبت أن الروح لم تغادر جسد الغريم، وأنه ما يزال قادرًا على إحداث مفاجآت من شأنها تغيير النتيجة لصالحه في جولات تالية، ذلك أنه يتمدد داخل التربة المصرية منذ زيارة أنور السادات- رئيس مجلس الأمة وقتها- إلى أمريكا عام 1966، تلك التي وضعت خطط المستقبل، وساعد نجاحها الرحيل المفاجئ للرئيس عبد الناصر، وصعود رجال السادات الذين يتبنون المخطط الغربي، ومنهم حسني مبارك.

الأيام الثمانية عشر شهدت علاقة عكسية بين سيناريوهين: "سيناريو الغضب" الذي تصاعد بشكل مضطرد، و"سيناريو الثورة المضادة" الذي انحدر إلى نقطة لم يبلغها من قبل، كلاهما تطور- سلبًا وإيجابًا- بفعل عوامله الداخلية والخارجية، حتى اصطدما في اليوم الأخير، حين أعلن عمر سليمان عبر بيان بثه التليفزيون الحكومي حصريًّا؛ عن (تخلي) حسني مبارك عن الرئاسة، وتكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شئون البلاد. لكن اصطدامهما على هذا النحو الخشن لم يوقف تطورهما الذي سأجتهد في توضيحه.

بقي أن أقول إن "الغاضبين" هم امتداد الحركة الوطنية المصرية الحديثة التي تشكلت منذ ثورة القاهرة التي اندلعت في بداية القرن التاسع عشر ضد خورشيد باشا، وأتت بمحمد علي واليًا على مصر، ثم امتدت إلى الثورة العرابية، وثورة 1919 وما تلاها من نضال وطني في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، والتي حاول جمال عبد الناصر أن يتبنى مطالبها الوطنية والاجتماعية- على الأقل- بعد أن عطَّل هذا النضال بالاستيلاء على السلطة في يوليو 1952، قبل أن ينقض عليها أنور السادات الذي سار عكس توجهاتها، فأعطى أمريكا 99% من مفاتيح الصراع في المنطقة، وعقد معاهدة سلام منفردة مع إسرائيل.. ويأتي حكم حسني مبارك امتدادًا طبيعيًّا له، وإن افتقد إلى الكاريزما.

1- سيناريو الغضب:

ثمة خطة هلامية- تم الكشف عنها بعد التخلي- تهدف إلى خروج ناشطين من خمسة مناطق شعبية مزدحمة بالسكان تطوِّق القاهرة من اتجاهاتها كافة، تلتقي في ميدان التحرير بعد ظهر 25 يناير، رافعين شعارًا رئيسيًّا هو "عيش، حرية، كرامة إنسانية". الاسم: "يوم الغضب"، والمناسبة: "عيد الشرطة" يعكسان التصور المبدئي للسيناريو، هو مجرد مظاهرة تطمح إلى اجتذاب عدة آلاف تعلن غضبها من سياسات الداخلية في قمع المتظاهرين والمعتصمين سلميًّا، الذين اعتادوا الوقوف على سلم نقابة الصحفيين بشارع الجلاء، أو سلم دار الحكمة في القصر العيني، أو أمام مجلسي الشعب والشورى ومجلس الوزراء، تتفاوت مطالبها بين رفض سياسات النظام إزاء الملفات الداخلية والعربية، ومطالب فئوية لقطاعات من عمال المصانع والشركات الذين تضرروا من سياسة الخصخصة، ومن تدنى الأجور وارتفاع الأسعار، بالإضافة إلى رفض التوريث الذي أصبح الملف الأبرز في مصر في السنوات الأخيرة، رغم صمت مؤسسة الرئاسة وبيت الرئيس، والامتناع عن تأكيد أو نفي المعلومات الخاصة به.

الحشود الغفيرة التي انضمت إلى الناشطين أعطتهم قوة لم يكونوا يحسبون حسابها، وجعلتهم يطورون سيناريو "الغضب" إلى سيناريو "ثورة": أولاً بالبقاء في الميدان بعد انتهاء اليوم الأول للتفكير في الخطوة التالية، بينما مشهد هروب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي ليس بعيدًا عن الأذهان. وثانيًا، دفعهم إلى تطوير الشعار إلى: "باطل"، ثم: "ارحل"، حتى وصل إلى: "الشعب يريد إسقاط النظام"، وقد اصطفَّ إلى جوار الغاضبين أفرادٌ ذوو مكانة اجتماعية: صحفيون وفنانون وكتاب، ومؤسسات حقوقية ونقابات، ومحطات تليفزيونية أبرزها قناة الجزيرة مباشر، ودول عربية وأجنبية، أعطت الفعل الأبعاد التي يحتاجها للاستمرار.

على أن هذا السيناريو الذي تطور بشكل سريع، ووصل إلى ذروته مساء 11 فبراير بقرار التخلي؛ لم يكن يمتلك رؤية عميقة لمستقبل صراع من هذا النوع، ربما لأن التاريخ العربي كله ليس به تجربة يمكن الاهتداء إليها والاقتداء بها، كما كان يجهل حجم وإمكانيات الطرف الآخر، حتى يمكننا أن نقول إن الفعل كان رومانسيًّا، اختلط فيه الغضب بالغناء بالتمثيل باللعب بالرسم بالكاريكاتير بالسخرية، وأخذ قوته الدافعة غالبًا من الزخم الذي خلفته التجربة التونسية، ومن أخطاء الطرف المقابل التي أهمها "موقعة الجمل"، حتى أنهم تركوا الميدان طواعية لـ"الثورة المضادة" وانتقلوا من موقع الفعل القوي المؤثر، إلى رد الفعل المشغول بالدفاع عن النفس، كما أن الغاضبين لم يقدموا إجابات- حتى الآن- عن أسئلة كثيرة تخص حجم الأدوار التي لعبتها مؤسسات دولية مثل "شركة جوجول"، ودول مثل "رومانيا"، بشكل مباشر أو غير مباشر، كما أنهم منذ تركوا الميدان في ذلك اليوم لم يتفقوا حول قضية واحدة، حتى حين نقلت شاشات محطات التليفزيون العالمية صورًا لقوات الشرطة العسكرية وقوات الصاعقة وهي تعتدي بوحشية على المتظاهرين في ميدان التحرير، ضربًا وسحلاً وصعقًا وحرقًا، وصورة فتاة تم تعريتها وسحلها في مشهد تقشعر له الأبدان، فقد خرج فؤيق منهم يبرر وحشية المجلس العسكري، ويلقي باللوم على المسحولين!

2- سيناريو الثورة المضادة:

كان النظام المصري قد وصل إلى قمة غروره قبل يناير، مستندًا إلى تأييد خارجي: عربي وأمريكي، وإلى تحالف داخلي مشبوه مع رجال المال والأعمال، فلم يكترث بردود أفعال الآخرين على سياساته: سخر منهم حسني مبارك في عدة خطابات، ومضى في سيناريو نقل السلطة لابنه رغم اعتراضات هنا وهناك، حتى إنه لم يعر اعتراض المؤسسة العسكرية- المكتوم- اهتمامًا، وأطلق العنان لقوات الأمن بأنواعها لتروع الناس، وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير تزوير الانتخابات البرلمانية بشكل فج، لا حياء فيه. ولأن سيناريو "الغضب" لم يكن مُتوقَّعًا، شكلاً ومضمونًا، بالطريقة التي ظهر عليها يوم 25 يناير، فأحسب أن السلطة- ودوائرها- أُسقط في يدها، وتخبطت: في البداية كان القرار هو الحيلولة دون وصول المتظاهرين للميدان عبر إغلاقه بقوات أمن كثيفة، مع عدم التعرض للذين ينجحون في الوصول إليه، حتى إذا ما فرَّغوا شحنة غضبهم، انصرفوا عائدين إلى بيوتهم لينقضي الأمر وتعود الحياة إلى طبيعتها.

سيناريو "الثورة المضادة" الذي فاجأته المظاهرات وقع في خطئه الأول عندما اعتدى بالقوة على من تبقى في الميدان منتصف ليلة 25/26 يناير، كما أخطأ حينما لم يتعامل مع الحدث بالسرعة والحسم المطلوبين مراهنًا على الوقت الذي ظن أنه يعمل لصالحه، وكان الخطأ الأكبر هو "موقعة الجمل"، فقد عمد إلى طرد المتظاهرين من الميدان بأكثر الطرق تخلفًا أمام كاميرات الفضائيات، وحين صمد الثوار وانهزم البلطجية، انهار السيناريو وبدأ في الانحدار السريع، ولم تفلح معه كل محاولات ضخ الدماء، حتى وصل إلى أدنى درجة، حيث اضطر حسني مبارك إلى الخروج من المشهد نهائيًّا.

3- سيناريو "نعوم تشومسكي":

هناك فارق رئيسي بين السيناريوهين وضحناه، أن الأول عفوي رومانسي على العكس من الثاني الذي تحميه رءوس أموال، وأجهزة مخابرات، ومراكز بحث، وقوات عسكرية محمولة جوًّا وبحرًا، وقواعد منتشرة في حزام جغرافي حول مصر، ودول لها مصالح كبرى طويلة الأمد. لهذا حين وصل السيناريو الأول إلى ذروته انتشى الثوار وتصوروا أنهم أتموا ما خرجوا من أجله ووضعوا نقطة على السطر، وقد ساعدهم على هذا ردود الفعل التي خرجت عن مسئولين غربيين، تصف الثورة المصرية بأنها فارقة في التاريخ، وأنها سوف تدرَّس في المعاهد الإستراتيجية.. إلى آخر الفخ، فتفرغ الثوار لتلقي التهاني، واستلام الدروع من الهيئات والنقابات ومؤسسات العمل المدني، والظهور الكثيف في الفضائيات.. بينما كان أصحاب السيناريو الثاني يخططون لكيفية عبورهم "الأزمة الطارئة" التي اعترضت سبيله، وشرعوا بالبدء في إصدار تصريحات وبيانات تعظم الفعل الثوري وتضمن إخلاء الميدان تمامًا، الآن وفي المستقبل، من بسطاء الشعب الذين انحازوا إلى الناشطين، وبدأت عملية كبرى لتفريغ الثورة من مضمونها، تمهيدًا للعودة إلى مربعهم، وإن بوجوه جديدة، وبخطاب جديد، وبأدوات مراوغة تدغدغ مشاعر العاديين.

هنا بدأ تنفيذ سيناريو "نعوم تشومسكي" لـ"منع ديمقراطية حقيقية" في مصر، عبر خطوات جربتها أمريكا- بنجاح- في أكثر من مكان في العالم، مستخدمة ذيولها في تنفيذه: "قم بإصدار تصريحات رنانة عن حبك للديمقراطية، ثم حاول الإبقاء على النظام القديم ربما بأسماء جديدة"، وهذا ما كان: فقد أدى المجلس الأعلى للقوات المسلحة- الذي ورث دور مبارك- التحية العسكرية للشهداء، ثم أضاف العشرات إلى قائمتهم، دهسًا بالمدرعات وقتلاً بالرصاص الحي، في ماسبيرو ومحمد محمود وقصر العيني.. وغيرها، إضافة إلى التعذيب الوحشي والسجن وفقء العيون، وأشرف بنفسه على فصول فتنة طائفية تم بموجبها حرق وهدم بعض الكنائس بشكل متعاقب، دون أن يتم محاكمة الفاعلين، متزامنًا مع حملة إعلامية شرسة- تقودها قنوات فضائية مشبوهة- تستهدف الإساءة إلى الثوار، وتحميلهم ذنب كل إخفاقات الفترة الانتقالية، ثم اختصر مطالب الثورة في انتخابات حدد ملامحها مسبقًا بحيث يضمن شكل البرلمان القادم، شابها الكثير من التزوير. ثم أصدر القضاء أحكامًا ببراءة قتلة الثوار من ضباط وأفراد الشرطة بحجة الدفاع عن النفس وعن المنشآت الحكومية، تمهيدًا لبراءة مبارك نفسه الذي لم يوقع مستندًا يأمر بالقتل، وفي هذا الإطار نُشرت تقاريرٌ صحفية عن لقاءات تمت بين مبارك ومرشد الإخوان المسلمين في المركز الطبي العالمي، تم الاتفاق فيه على أن يمهد الإخوان لحكم براءة مبارك، مقابل أن يكف يد "سكان طره" عن إفساد التجربة البرلمانية الأولى لهم.

النتيجة النهائية لتطبيق "سيناريو نعوم تشومسكي" هي تراجع- حتى لا نقول هزيمة- "سيناريو الثورة"، وإعادة الاعتبار لـ"سيناريو الثورة المضادة". مع ذلك، لا أعتقد أن النزال حُسم نهائيًّا، فمازالت الساحة مفتوحة على كل الاحتمالات، والمتصارعان كل منهما يمتلك أسباب القوة التي تجعله لا يقبل الهزيمة بسهولة، وبشكل نهائي، في المدى القريب على الأقل.

 

شاعر من مصر.