يخص الناقد المجلة بهذه المقالة التي يتناول فيها نصوصاً للشاعر سعدي يوسف، كان نشرها في "الكلمة". يتوقف عند الدلالة الزمكانية لإنتاجها ونشرها، ويعقد صلات وصال بنيتها اللغوية ومواقيت كتابتها مع شخص الشاعر ومزاج قلمه الشعري، إضافة إلى أنه يثير التساؤل حول تلاعب الشاعر على حبائل النوح والغنائية في قصائده.

سعدي في «الكلمة»

مصطفى القلعي

في نصّي هذا، أنا لا أقصد أن أسأل سعدي في أسرار شعريّته. فهو، إن عرفها، ما حدّث عنها أحداً. وإنّما غايتي كلّها المحاولة؛ محاولة أن أحاور نصوصه الشعريّة الثلاثة المنشورة في العددين الأخيرين السابع والثلاثين(1) والثامن والثلاثين(2) من مجلّة الكلمة العربيّة اللندنيّة. وهذه المحاورة أطمح إلى أن تكون مشاركة منّي سعدي في الاحتفاء بعودة الكلمة بعد احتجاب الأشهر الأربعة الأولى من سنة عشر وألفين.

سعدي لا يحبّ النظام

في العدد السابع والثلاثين من الكلمة، نشر سعدي قصيدتين أطلق عليهما اسم "قصيدتان". وفي العدد الثامن والثلاثين، نشر قصيدة واحدة عنوانها: "خِشْفٌ خلفَ السياجِ". لندن تجمع بين القصائد الثلاث، إلا أن الزمان يفرق بينها. ومرجعنا، هنا، تواريخ توقيع القصائد التي ثبّتها سعدي بنفسه مع النصوص منشورةً في عددي المجلّة كما هو شأنه في مجمل ما نشر من مجاميع ودواوين.

إنّ تاريخ كتابة قصيدة عدد يونيو الثامن والثلاثين يجعلها الأخيرة في الترتيب الزمانيّ. فهي موقّعة بتاريخ (27/03/2010). وهو عمق الربيع الهادي عندنا في بلاد المغرب التي يعرفها سعدي جيّداً. وقصيدة عدد مايو السابع والثلاثين "روايةٌ روسيّةٌ" أولى الاثنتين ممضاة بتاريخ (22/11/2009)، والخريف عندنا بدأ يستعدّ للأفول تاركاً ملعب الكون للشتاء في قصيدة "رمسيس الثاني" ثانية الاثنتين المؤرّخة بتاريخ (17/02/2008)، وقد سبق أن نشرها سعدي في أعماله الشعريّة التي لم تكتمل(3). و"قصيدتان" منشورتان معاً وتحملان عنواناً جامعاً في العدد نفسه. ولكنّ سنة ونصفاً تقريباً تفصل بين كتابتهما. والموقّعة ثانياً وردت الأولى في الترتيب. والموقّعة أوّلاً كانت الثانية.

هذا يعني أنّ ترتيب النصوص على هذا النحو آن نشرها في الكلمة اختيار من سعدي. فلماذا لم يرتّب سعدي "رمسيس الثاني" أوّلاً و"رواية روسيّة" ثانيًا آن نشرهما؟ "قصيدتان" منشورتان في العدد نفسه كما لاحظنا، فما الفارق الدلاليّ بين نشرهما على ترتيب إمضائهما وبين نشرهما على خلافه؟ لماذا حافظ على رتبة الثالثة "خشف خلف السياج" ثالثةً ولم يفعل مع الأولى والثانية؟ ألأنّ قصيدة "رمسيس الثاني" سبق نشرها فسبّق عليها "رواية روسيّة" تكريماً لبكارتها عند القارئ، فسعدي يهتمّ بالتأكيد بهوس القارئ العربيّ بالبكارة ويقرأ له ما يلزم من حساب؟ أم لأنّ سعدي لا يحبّ النظام ككارل ماركس(4) رفيقِه وإن كان نظامَه الخاصّ؟ أم لأنّه لا يحبّ الأنظمة تماما كما لا تحبّه الأنظمة لاسيّما العربيّة منها تلك التي يحكمها ذوو ربطات العنق أو التي يحكمها ذووا العمائم؟

سعدي لا يُثنّي ولا يُثلّث

إذن، بدأنا مع ترتيب القصائد أثناء نشرها في الكلمة سنة تسع وألفين. ثمّ عدنا إلى سنة ثمان وألفين. ثمّ قفزنا إلى سنة عشر وألفين التي تنتظم أيّامنا الحاليّة. والناظر في ديوان سعدي يلاحظ أنّه كثيراً ما يلتزم بنشر نصوصه مرتّبة على ترتيب توقيعها. لكنّه لم يلتزم بذلك في الكلمة. فهل فنقول قول السكولاستيكيّين الذي صار مكروراً؛ "إنّ الشاعر يكسر السير الخطيّ للزمان، ويعمد إلى بعثرته وتجريده من سطوته وصرامته"؟ أم نسيء الظنّ قليلاً بسعدي فنقول إنّه يمكر بالسكولاستيكيّين، فيلهيهم عن المعنى الجوهر حين يلقي لهم بما يرضي أنَفَتهم العلميّة، فيتيح لهم أن يستعرضوا في ما ألقاه لهم براعتهم الفائقة في تطبيق كلّ ما علّمتهم إيّاه المناهج الغربيّة من أدوات السيميائيّة وعلوم الدلالة الحديثة؟ أم نحسن الظنّ بسعدي، وهو أهل لحسن الظنّ به، ونكتفي بالصدفة والاتّفاق نفسّر بهما ملاحظتنا؟ أم نتركها جميعاً ونركن إلى برد الميتافيزيقا فنقول: الله أعلم بداعي سعدي إلى ترك المواءمة بين زمن الخطاب؛ زمن إنتاج القصائد، وبين زمن الخبر؛ خبر النشر طبعاً؟

عددا المجلّة اثنان. والقصائد ثلاث. نشر سعدي في أوّلهما اثنتين. ونشر في ثانيهما واحدة أحدث. فلماذا ترك سعدي المواءمة بين عددي المجلّة وبين عدد القصائد؟ لماذا لم يوائم بين عدد الاثنين وعدد الاثنتين؟ لماذا لم يعدل سعدي بين عددي المجلّة ليخصّهما بواحدة واحدة من القصائد أو باثنتين اثنتين منها؟ فيكون، حينها، العددان اثنين والقصائد اثنتين قياساً على العدد الثاني، أو يكون العددان اثنين والقصائد أربعاً قياساً على العدد الأوّل.

هل كان داعي ذلك أنّ سعدي لا يحبّ العدد الزوجيّ؟ هل يحبّ التثليث، إذن؟ لا. فسعدي لا يثلّث. ولا يثنّي. لعلّه التوق إلى فرديّته، باعتباره مواطناً فرداً وباعتباره شاعراً فرداً؛ فرديّته التي تعرّضت لمحاولات إلغاء كثيرة من جهات متعدّدة. منها التراث. ومنها الحداثة الغربيّة. ومنها العادات والفلكلور. ومنها سطوة اليوميّ. ومنها المجتمع. ومنها الدين. ومنها سيادة الحاكم الأغرّ. فسعدي شاعر قادم من بلاد احترف أهلها انتهاك ذات الفرد واستلابها وتذويبها في خدمة ذات مطلقة لامرئيّة متعالية أو خدمة ذات أرضيّة طامحة إلى الإطلاق، تمارس طموحها ذاك ولا تقوله، حاكمة بأمرها وأمر الفرد. تطوّعه. وتقوّمه ملوّحة بالعصا. وتجبره على تمجيدها. وتربّي سمعه على ألفة اسمها الجليل منذ الجنينيّة. وترضعه حليب الطاعة في المهد.

وقد خبِر سعدي ذلك كُلَّه خِبرةً كافية تسمح له بإبداء رأي موضوعيّ في المسألة السياسيّة حين جرّب أن يقول للحاكم بأمره: "أنا سعدي الشاعرَ لا أستطيع أن أنحني لك ولا أن أنحني لسواك. أريد، فقط، فرديّتي التي هي فرادتي وحريّتي". لكنّ الحاكم لا يحبّ ذلك طبعاً. ولم يكن يرضيه إلاّ تسبيحُ الأفراد والجماهير باسمه صباحَ مساءَ. ولا يهنأ نومه إلاّ بنسيان الأفراد أسماءهم كما لو أنّهم ولدوا غفلاً منها. ولم تكن نتيجة تجربة سعدي مع سيادة الحاكم بأمره تلك لطيفةً عليه. وتاريخ العلاقة بين الحاكم والشاعر في الثقافة العربيّة المعاصرة شاهد على ذلك.

سعدي في إجازة

المكان الذي ولدت فيه القصائد الثلاث واحد: لندن. والسنوات التي كتبت فيها ثلاث: ثمان وألفان تسع وألفان عشر وألفان ميلاديّات. ومعدّل الاختيار الذي اعتمده سعدي نصّ عن كلّ سنة. ومن الأربعةِ الفصولِ وقّع نصوصه الثلاثة في ثلاثة منها: شتاء ثمان وألفين، خريف تسع وألفين وربيع عشر وألفين. والنظام يقتضي أن يبدأ الترتيب بالربيع الفصل الذي شهد ولادة الكون، كما حدّثت بذلك الأساطير. ثمّ يأتي الصيف فالخريف فالشتاء. كذلك هي دورة الأكوان. والصيف هو فصل الجني والحصاد، كما قال جبران. ولكنّه غير موجود في قصائد سعدي المنشورة في عددي الكلمة مادّة نصِّي هذا. فلماذا كان الصيفُ الرّابعَ المحذوفَ؟

لقد كتب سعدي نصوصاً كثيرة أخرى منشور مجملها في أعماله الشعريّة(6). والحقيقة أنّ معدّل كتابة الشعر في فصل الصيف ضعيف عند سعدي مقارنة مع باقي الفصول. هذا ما تؤكّده نظرة ولو عابرة تلقى على أعمال سعدي الشعريّة المنشورة. ولذلك أعتقد أنّه ليس من باب العبث أن يثبت سعدي تواريخ التوقيع أسفل نصوصه المنشورة لاسيّما أنّه يفعل الشيء ذاته مع مجموعاته ودواوينه.

يجيز لنا ذلك أن نفهم أنّ سعدي لا يحبّ الشتاء والخريف كثيراً. وهو يتعجّل رحيلهما. لذلك أمضى "رمسيس الثاني"  في أواخر الشتاء. وفي نهاية الخريف وقّع "روايةٌ روسيّةٌ". وبالمقابل، يبدو سعدي منسجماً مع الربيع انسجام أدونيس معه. وكانت عشتار مفتونة بالربيع؛ تترك عالمها السماويّ، وفي غفلة من الجميع تحلّق نحو الأرض. وكلّما افتقدها أدونيس عرف أنّها تسكر في الربيع. فيلحق بها ليمرح معها في البريّة. وكانت النتيجة أن أصابته فتنة الربيع كما أصابت الجاحظَ فتنةُ الكلام. فلم تفده استعاضته منها في فاتحة "البيان والتبيين". وكان أن قادت فتنة الربيع أدونيس إلى حتفه. فمات شهيد حبّيْن؛ حبِّ عشتار وحبِّ الربيع.

 

ويبدو أنّ سعدي من أحبّة الربيع. أمّا حبّه عشتارَ فثابت يخبر عنه في أشعاره. وحبّه الربيع لا يبدو حبًّا رومانسيًّا؛ حبَّ جبران، وإنّما حبًّا أسطوريًّا؛ حبّ أدونيس. ففي مطلع فصل الربيع أمضى "خشف خلف السياج". ولكن، مرّة أخرى، لماذا حذف الصيف؟ ألأنّ الصيف لا يمكن أن يكون صيفاً في لندن؟ ألأنّ لندن عاصمة الظلّ، والصيف لا يكون بمعناه إلاّ في بلاد الشمس؟ أم لأنّ سعدي يكون في إجازة في الصيف فيترحّل ويتمتّع ويزور الحانات المشهورة في الأحياء الشعبيّة ويفتتح الحانات الجديدة هنا وهناك حيثما دُعِيَ إلى شرف قصّ الشريط؟

«قصيدتان»؟

لقد حيّرني كثيراً جمعُ سعدي القصيدتين هذا الجمعَ. فما الذي دعاه إلى أن يجمع قصيدة "رمسيس الثاني" إلى قصيدة "روايةٌ روسيّةٌ" في عنوان جامع ينشرهما تحته في الكلمة؟ "رمسيس الثاني" قصيدة منشورة سابقاً في الأعمال الشعريّة، كما لاحظنا. والعنوان الذي اختاره سعدي جامعاً بين قصيدتيه لا يسعفنا بمدخل مفيد لفهم علّة الجمع بينهما. بل إنّه عنوان متوّه. وليس حمّال علامات. فهو ليس عبارة عن أكثر من اسم جنس "قصيدة" في صيغة المثنّى النكرة. ولا يعيّن موضوعَ الكلام ولا صاحبه ولا مكانه ولا زمانه ولا شخصيّة من شخصيّاته ولا قضيّته ولا أحداثه. إنّه لا يمدّنا بما يجعلنا نعدّه عتبة أولى من عتبات النصّ، كما يعبّر جيرار جينات.

فهل يعني ذلك ألاّ جامع بين القصيدتين؟ هل يعني ذلك أنّ سعدي تعسّف في الجمع بينهما؟ وما الذي دعاه إلى التعسّف على نصوصه؟ ولماذا يجبرها على الاجتماع القسريّ؟ هل يمارس سعدي العنف على نصوصه؟ إنّ الشاعر لا يحبّ العنف. وسعدي كذلك. إنّه خالق نصوصه. وهو واهبها الحياة. وهي عزيزة عليه. وهو أشدّ الكائنات عطفاً عليها وحنانا. إذن، ما هي علّة الجمع بين القصيدتين هذا الجمعَ؟ هل يكون الجامع بينهما ألاّ جامع بينهما أصلاً؟ فتكون وجهة السؤال حينها: ما الذي لا يجمع بينهما؟

بين تاريخ كتابة كلّ من "رمسيس الثاني" و"رواية روسيّة" سنة وتسعة أشهر وخمسة أيّام. الأولى موضوعها دائر حول تمثال فرعونيّ معروض في متحف لندنيّ. والثانية مدارها ذات الشاعر وحدث الكتابة. الأولى عنوانها دالّ على محتواها. وعنوان الثانية لا. عنوان الأولى واضح. وعنوان الثانية متوّه. الأوّل اسم علم. والثاني اسم جنس أدبيّ. الأوّل ذو مرجعيّة ضاربة في القدم. والثاني حديث المرجعيّة. الأوّل أسطورة. والثاني أدب. الأوّل محيل على ثقافة شرق أوسطيّة. والثاني محيل على ثقافة تنتمي إلى الشرق الأدنى مشرئبّة، اليوم، إلى الغرب تتبادل معه الغزل. والمحيّر فعلاً أنّ قصيدة "رواية روسيّة" أقرب في دورانها على ذات الشاعر وفي مناخاتها ومعجم النوح فيها وزمان كتابتها إلى قصيدة "خشف خلف السياج" منها إلى "رمسيس الثاني". فكلاهما تنفتح بالنوح على الأقلّ.

هذا مطلع "رواية روسيّة":

"آنَ ما يتناوحُ هذا الهواء

آنَ ما يتناوحُ مرأى البحيرةِ في صمتِها"

وهذا مطلع "خشف خلف السياج":

"تناوَحَتْ في المساءِ الريحُ."

وهذا مطلع "رمسيس الثاني:

"ستّ عشرةَ منحوتةً حملتْ وجهَكَ..."

لا شيء، إذن، يجمع بين القصيدتين إلاّ إمكانيّة تأويل الدلالة فيهما على أنّها حرّكت جرحاً عميقاً سكن أغوار ذات سعدي، مأتاه الشعور العاتي بخسرانه السندين المصريّ والسوفييتيّ والوقوف الأعزل هدفاً سهلاً لجشع رأس المال الليبراليّ ذي الرأس الأمريكيّ والذنب البريطانيّ وفريسة بلا حيلة أمام التهديد التنميطيّ للعولمة. لم يبق من مصر إلاّ أسطورتها الفرعونيّة. ولم يبق من روسيا الشيوعيّة إلاّ فتنة رواتها. فلا عادت الحميّة القوميّة تدفّئ سعدي. ولا عادت الإيديولوجيا تُؤويه. لنا ولك الله، يا سعدي.. لنا ولك الله.

سعدي ومعجم النوح

يتردّد كثيراً معجم النوح والصياح مسنداً إلى الريح في أشعار سعدي. ويبدو أنّ سعدي اختار النّوح اسماً لصوت الريح ينوّع عليه أحياناً باسم الصياح أو الأنين أو مشتقّات منها. فقصيدة "مسكن البحيرة"، مثلا، تنفتح به. يقول مطلعها: "تتناوح الرّيح التي تأتي من البحر"(7). وفي قصيدة "إيْسْتْبُوْرْنْ في الشتاء"، نقرأ: "والريح تناوح، صرًّا، تقذف بالبحر إلى اليابسة"(8). أمّا قصيدة "2 طبيعة" ففيها نقرأ: "ورياح تصيح"(9). وفي قصيدة "مثلّث مقلوب" كتب سعدي: "...Woo ...Woo...Woo أتسمع الرّيح؟ أتسمعها تئنّ في الغابة؟"(10). ونقرأ في قصيدة "حالة البحّار": "هذا رياح تناوحت لشهرين ملعونين"(11). وفي قصيدة "قلعة السماء البيضاء Fortezza" نقرأ: "وأسمع في الليل الريحَ تئنّ على الشبّاك"(12).

وفي هذه المدوّنة، ورد هذا المعجم في قصيدتين من القصائد الثلاث: "رواية روسيّة" و"خشف خلف السياج، كما لاحظنا أعلاه. وقد نُسب النوح إلى "الهواء" و"مرأى البحيرة" في الأولى وإلى "الريح" في الثانية. والصيغة المستعملة في القصيدتين كليهما هي الفعل "تناوح" قياساً على وزن المزيد "تفاعل" الدالّ على معنى المشاركة. وهو معنى يمكن أن يستقى من النظر في دلالة الصورة الشعريّة. فالريح متى صفّرت رجّع الصدى صفيرها. فتكون الأشياء والموجودات والكائنات كما لو أنّها شاركتها عملها.

وإن كان إسناد النوح إلى صوت الريح أدخل في مألوف اللغة، فإنّ إسناده إلى مرأى البحيرة غريب! فبهذا الإسناد يضطرب نظام الحواسّ، إذ أنّ المعجم المسند إلى حاسّة البصر السائد لا يتضمّن لفظ "تناوح". فالتناوح صوت يدرك بحاسّة السمع. ومرأى البحيرة مشهد يدرك بحاسّة البصر. فلماذا يخلط سعدي معجم السماع مع حاسّة البصر؟ أهو وفاؤه لعصيان النظام؟ أم هو ضجره من الكلام المستهلك؟ أم هو بحثه عن التخوم؟ أم هو طموحه إلى العمل على إنتاج ذاكرة جديدة للكلمات؟

غنائيّة سعدي

نصّ سعدي "خشف خلف السياج" يستدعي إلى الذهن نصًّا آخر كبيراً. إنّنا لا نستطيع أن نقرأه دون أن نستحضر "جنرال" غارسيا ماركيز في "خريف البطريق" الذي منعه المرض وبزّة الحكم العسكريّة وخطر الاغتيال من المتع جميعها لاسيّما متعة النساء. فوجد السلوى في بنات المدارس يكمن لهنّ في إحدى زوايا قصره يستميلهنّ بهبتهنّ الحلوى. فمنحنه اللذة التي لم يعرف ألذّ منها في غفلة من نياشينه وأوسمته وأعوانه وخصومه. لقد وجد فيهنّ الأنس. وعرف معهنّ الأمان والصفاء اللذين افتقدهما مذ صار حاكماً.

قال ابن منظور في اللسان عن خشف سعدي: "الخِشف الظبي بعد أن يكون جِداية، وقيل: هو خِشف أوّلَ ما يولَد. وقيل: هو خِشف أوّل مشيه، والجمع خِشَفَة، والأنثى بالهاء. الأصمعي: أوّلَ ما يولد الظبي فهو طَلاً. وقال غير واحد من الأعراب: هو طلاً ثمّ خشف"(13)

وقال سعدي عن خشفه:

"قبلَ قليلٍ كان خِشْفٌ وراءَ السور

أرقَبُهُ

يقتاتُ ما رَقَّ من نبْتٍ.

وأرقَبُهُ

يُدْني الغصونَ

ويُرْخِيها، فَتَنْسَدِحُ..."

قطعة سعدي هذه تبدّد الرّأي الشائع عند النقّاد القائل إنّ سعدي يكتب شعراً خالياً من الغنائيّة لأنّه من روّاد قصيدة النثر التي تلغي الوزن والإيقاع. إنّها قطعة موقّعة منغّمة قابلة لأن تكون مغنّاة أو منشدة. إنّها تستدعي إلى السمع طرب القدود الحلبيّة. وهي قطعة مليئة بالحياة. ففيها ينتقل الكلام دوريّا بين ضميريْ هو وأنا المتكلّم. وفيها الوصف الحركيّ القائم على رصد الموصوف أثناء الحركة؛ يعني الوصف بالفعل: يقتات/ أرقب/ يدني/ يرخي/ تنسدح. كما لم تغب عنها اللازمةُ اللازمة لتوقيع الكلام المغنّى: أرقبه/ وأرقبه. وفيها مناخات الغزل العربيّ القديم. فقد كان يطيب للشعراء قديماً التكنية عن المرأة بالغزال أو بالظبي أو بالخشف أو ما شابه. وديوان الشعر العربيّ حافل بهذه الكنايات. فهل حنّ سعدي إلى الطرب في لندن؟

تبعاً لما تقدّم، أعتقد أنّ السرّ الأوّل لشعريّة نصّ سعدي يكمن في الظرف "وراء السور" وفي الفعل "أرقبه". والسرّ الثاني متّصل بالأوّل مداره نوع الكلام؛ أحقيقة هو أم مجاز؟ إن كان الكلام على وجه الحقيقة، نسأل: مَن الذي يقع داخل السور ومَن الذي يقع خارجه؟ إن كان السور سور حديقة حيوانات أو محميّة فإنّ الخشف سيكون داخل السور. والراوي سيكون خارجه. وهو ما لا يستجيب مع الصورة الشعريّة. نترك هذا الافتراض ونمضي إلى آخر.

إن كان الكلام مجازاً، نسأل: لماذا يراقب سعدي المرأة/ الخشف متخفّياً؟ لماذا يكتفي باستراق النظر؟ هل هي من المحصّنات؟ هل حبيبة أم عابرة؟ ثمّ لماذا يقع سعدي داخل السياج ويقع الخشف خارجه؟ سياج الممنوع المحرّم يقع سعدي داخله فيمنعه من الاقتراب من المرأة/ الخشف؟ مرّة أخرى تواجه سلطةً قامعة يا سعدي.

لقد نال جنرال ماركيز لذّة الخِشَفَةِ. لكنّ راوي سعدي لم ينلها. وعلى ذلك أدلّة أربعة. أوّلها الناسخ الاسميّ "كان" الدال على انقضاء الحدث في الزمان. وثانيها ظرف الزمان "قبل قليل" ممّا يعني أنّ الراوي يستدعي من الذاكرة ذاهلا الحدث الذي انقضى للتوّ ليرتّبه ويرويه. ثالثها حالة الشعور بالفقد التي توحي بها نبرة المتكلّم وهو يروي الحدث. رابعها الفعل "أرقب" الذي أسنده المتكلّم إلى نفسه. فقد اكتفى به. ولم يسند إليه غيرَه. وحدث المراقبة يقتضي تخفّياً. ممّا يعني أنّ المتكلّم لم يملأ ناظريه من الخشف، أوّلاً. وأنّ الخشف كان وجلاً حذراً متيقّظاً مستعدّاً للهرب، ثانياً. فحتى لذّة المراقبة لم يشبع منها المتكلّم الراوي.

 

Mustapha.kalii@yahoo.fr

 

الهوامش

1.                   عدد مايو 2010.

2.                   عدد يونيو 2010.

3.                   هذه القصيدة منشورة وبالاسم نفسه ضمن مجموعة "قصائد الحديقة العامّة". انظر: سعدي يوسف: الجزء السادس من الأعمال الشعريّة، منشورات الجمل، كولونيا/ بغداد، 2009، ص433.

4.                   قال سعدي عن ماركس في نصّه: ولماذا لا أكتب عن كارل ماركس؟": "في حياته الخاصّة، لا يحبّ النظام، مرير وسيّء المزاج. إنّه يحيا حياة الغجريّ، حياة مثقّف بوهيميّ. أمّا الاغتسال والمشط وتبديل الثياب فلا يكاد يعرفها إلاّ نادرا. يستمتع بالشراب...إلخ" (نفسه ص140-144). ولابدّ أن نلاحظ أنّ سرد حياة ماركس بعين راوي سعدي كثيرا ما التبست فيه ذاتا سعدي وماركس.

5.                   قال عنه سعدي في قصيدة "قلعة السماء البيضاء Fortezza":

6.                   يأتي الربيع متأخّرا. ليس لأنّ الشتاء طويل.

7.                   الربيع يأتي متأخّرا لأنّه سيكون ثلاثة فصول.

8.                   نفسه، ص459.

9.                   انظر: سعدي يوسف: الأعمال الشعريّة، خمسة أجزاء، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، ط5، 2003، والأعمال الشعريّة، الجزء السادس، منشورات الجمل، كولونيا (ألمانيا)/ بغداد، ط1، 2009.

10.               نفسه، ص74.

11.               نفسه ص117.

12.               نفسه ص336.

13.               نفسه ص428.

14.               نفسه ص446.

15.               نفسه ص459.

لسان العرب المحيط للعلاّمة ابن منظور، قدّم له العلاّمة الشيخ عبد الله العلايلي، أعاد بناءه على الحرف الأوّل من الكلمة يوسف خيّاط، دار الجيل، بيروت/ دار لسان العرب، بيروت، 1988، المجلّد الثاني، ص836.