يمثل الشاعر المغربي أحد أعمدة شعراء الحداثة في القصيدة المغربية الحديثة، تجربة رائدة لفتت الانتباه منذ نصوصها الأولى في مجلة الناقد اللندنية. ورغم قلة حضورها في دينامية النشر إلا أنها صاغت لرؤاها ملمحا خصبا لتوليد الدلالات، وأضحت في كل نص شعري تفتح باب القصيدة على أفقها اللامتناهي وعلى أسئلة الكتابة.

ديوان العدد

باب يواربه الضوء: مراثي م. (ديوان العدد)

إدريــس عيســى

*( إنك ميت وإنهم ميتون )*ـ الزمر،30

 

                                      إلى ذكرى محمد الخمسي؛ أخا في الضوء، أخا في الألم   

 

1 ـ

المعنى؛

ما أغراك بمجاورة الضوء ـ

 

الأرض كانت معتمة

تظاهرنا بالعمى من أجل المصباح القادر

الواحد في الضوء والمشكاة

الذي هو الصحو كله،

والعِلم ظاهرا ويؤاخي المعجزة

لا يقين يغشاه فيخسفَ الضوء.

 

إنه المصباح

من غير ما مدد.

 

وكنا العميان

يمشون في هذه الأسواق

يحملون المصابيح

ويشرفون بها على الأنقاض

تحسسنا التماثيل بأيد عارفة

قلنا: " إن خامها ملح

وإنها ستذوب  في النوء

أو تنفطر إنْ رجَّتْها ريح الموسيقى

يرسلها عازفون يبدعون الآلات

ولا يتكلمون".

 

ولَّيْنا أبدا إلى الجهة الأخرى

من حيث يأتي الضوء الغريب

ولا يشير إليه الناس

 

كنا في الصيد المهلك

طريدتُنا الضوءُ وحده، نصيده بالروح

درَّبنا عيوننا على أن ترى

وكنا نسلِّطها عليه في الفلوات

كما اليائس من باب وكفُّه تفتح الباب

ـ منطويا على ضربة محَقَتْهُ ـ

يرسل على الوراء ذاكرة المكلوم

لكي ينسدل على قلبه النسيان.

 

الأمل؛

ترابنا الذي ظنَنَّا أننا نحفنه من المقالع

وننفخ فيه مخلوطا بأنفاسنا

وباللهب الذي لا يضاهى

فيكون في أكفنا حجر الفلسفة.

 

الأمل، أوه !

الاسم الآخر للضوء في هذه السوق؛

نَفَقِنا المزمنِ الذي دُسِرنا بعد الأسلاف فيه

متعرجا في اليقين وتحرسه الأنصاب

وكنا نحلم بالقرى

وفيها أنبار لا يُدَعُّ عنها الناس

ورعاة لا يهدهدون في نومهم هبوب الذئب.

 

الحدود؛

أن تَرى الأرض كلَّها عارية

وليس فيها سواك

ولا تقدرَ أن تسير.

 

بغتة، غدا سُلَّم العمارة مرقى في الجبل

وكنت تراه من باب بيتك الموارب

تقول ويُمناك على  الكشح:

" أريد أن أرى البحر مرة واحدة

   وأمشي في الشارع  الذي ما زال يفضي إلى أمس

   حيث نشرتُ ظلي على ظل الدُّلْب

   أريد أن أنزل السلم بقدم لا تخون

   هذا الجرح يرهقني. "

 

سمعتُ، وكنتُ أَبْلَع نفسي

لأني لم أقدر أن أجيئك بالبحر

ولأن الغصة التي دنت

فتحت فمي

وأسفَّتني ضغثا ساخنا من الرماد.

 

عيناك تأتلقان بالدمع

وكانت صخرةٌ تتنفس بيننا،

صخرتُك التي، من بعدُ، لن تحملها يداك.         

لذا بكيت وحدي حينما نزلتُ

قابضا على الدربزون بيد خائفة

وكنت أختض في البئر.

 

2 ـ

تشد كفي بقوة

تعصر أناملي وتبقيها كأنها لك

تتحسس العالم بي

تراني بيدي التي تخاف أن تفقدك

وتبحث عني بما تبقى منك:

أنا هنا

ظلٌّ واجف في بداهة الشبيه الذي قميصه ظلك،

يمْثُل خارجا عليك من مرآة ولا يَريم

انظر:

ألا تراني أكاد أمَّحي

وأخنس من هول ما أعلم

كأنني الطالع من بئر هارت عليه

كفَّاه ترعشان على الحافة المنهدَّة

يتنفس السماء كلها

وليس يصدق أنه نجا.

 

كم تلافيتُ نظرتك

متظاهرا بالمعنى وأُعَمِّي  القول

أُحوِّل الصُّوى كي أُقْدر الطريقَ

على أن يعود بي إليك

واحدا، وظاهرا بأقنعتي

لأني لم أكن أحفظ كفك في كفي

وأعْصِرُني كمن يقلع فسيلة من غابة سيهجرها

ويدسها في جراب

ليأخذ الغابة ،

ولأني لم أحضنك بغيابي كله

ملمِّحا أني أرى ترابا يحفر في الأرض.

 

تظاهرت بالسلوى

وكانت خيل تركض في براح

عالية الرهج من خلفها

وتكاد تخرج من ذاكرتي

 

3 ـ

تقول: " ارفق بنفسك، يا إدريس !"

تقول: " الغابة أوسع من صرختك

وأعلى من عينيك إن ارتقتا إلى الضوء.

الطائر الحر الذي ترسله  

يرتد بالبراثن مشحوذةً إلى وجهك

وظلك ما زال ينوشه المهمه. ".

 

4.

أوه ! المهمه؛

البلد التي سميتُه الخلاء

من شدة ما ماج الناس في الناس

وأوغلت الكواسر في غفلة القطيع،

إنه الجهة التي لم تكن لي

حملتها سَفاً تحت الجفون

وعبرتها بحذاء ضيق تَخِزُني منه مسامير

 

ولم أعثر فيها عليَّ.

 

5 ـ

" كثيرون ارتدوا إلى عتبات الهيكل ـ قلتَ

هم أولاء اليوم في العيد. ".

 

رأيناهم يقبِّلون الرخام

لمسوا العتبات بالأيدي والركب

وجرَوْا تحت أروقة وارسة إلى الموائد

ورضُوا عن ظلالهم ترتع  في العيد.

 

هم المتكلمون، كانوا هكذا:

ظَهْرا مقوسا في الزُّلفى

وعينين في ذلَّة الكلب.

استهلوا الأرض من مراقب المذنَّبات والشهب

وآلوا منكفئين تحت مائدة.

 

وكنا، في الأرض، نسأل: " أين الأرض؟ ".

 

6 ـ

البرحاء استلبتك

برَت شخصك بيدين ماحيتين

وصرت ترانا من الباب الكلي

من حيث يبدو العالم إرثا خلّبا:

جرابا مرقَّعا دَرِنا 

حمالته مجدولة من ليف

علَّقتْه لنا يدان على خشبة منصوبة في طريق،

فيه زاد متَسَنِّه

وتحته نعلان.

 

7 ـ

يخجلني أن تسألني عني؛

قدماك على الجمر

وتخشى دُنُوِّي من اللهب.

 

8 ـ

ارتد النطاريس إلى الزُّبُر

وإلى آلاتهم  يزِنون ظلك الأرضي

ظلَّك الباقيَ بيننا

في الشمس التي تميل

وجسمُك مطويٌّ على سرير:

 

9.

هم دائما يشيرون إلى الشناخ

بعد أن يغطس فِلْقُه الذي حطَّه الزلزال 

ويسكن من حوله الماء.

المحنة صارت أرضك الأخرى

وكنتُ أرى لك فيها خيمة واسعة

وقطيعا من الآلام معظمه ماعز ووعول،

ترعاه وحدك، هناك

وتسيِّج المرعى بالأرق

وكلما صحوتَ من غفوة طفيفة

 ورفعتَ سجفا من خيمتك كي ترى القطيع

ألفيتَ القرون تكاثرت

واتسع المرعى والسياج.

 

10 ـ

أقول: " لا تخش عليَّ من كيد

ترسي مَسرودة من معدن نادر

واسم الحي تميمة في لبتي

 

الآخرون ارتدوا إلى التماثيل

والبذار الذي ادخرتُه لاقطا إياه من صقع مهجور

لا يليق بموسم المدائح،

هنا، إزاء التماثيل

حين تعلو الأنبارَ أيدي البنادرة

ويُطرَدُ الحراثون.

 

11 ـ

تلتمُّ تحت الغطاء

تنكفئ على الوسادة، ثم تنبسط، ثم تستلقي

ثم تتمدد، ثم تلتوي، وتنعصر صامتا 

حدودك في جسدك الذي لا يشاء؛

 

غزال يصحو من غفوة في فلاة

ـ وكان يرتع تحت السنط ـ

فلم يجد ظله

ولا الشجر الذي آواه

ولم ير الفلاة.

البرحاء كانت معنا

مهتاجة وتتنسم في لباسك المبْتَلَى

رائحتَك التي اختلطت بالغيب

 

عمياءَ تلمست إمكانك الذي هو ليلها

وكانت تقيس المعنى فيك

بين صرختك الأولى خارجا إلى اسمك

وتكليمك اللهَ، هنا

بلسان الذي يؤمن بالضوء ـ

كي تعرف كفيها في الطين.

 

12 ـ

الحد؛

أن يكون جسدك جغرافيا

ولا تجدَ البرحاء حدا لخريطتها فيه.

 

13 ـ

وكنتَ الكتابَ مفتوحا ولا يحميه الضوء

ولا الليلُ الذي دنا بجناح معدني

ولم يستر سطورَه التي تشتدُّ،

 

بأيدٍ ملتاثة عدو

تصالحت عليك الآلام،

قلَّبن متنك بحثا عنك

وكن يقرأن الفراغ

والصمت الذي لم يدركه الحبر

كأنك لغزهن الذي يبطل سراحهن المشروط

كلما سعين بقناديلهن التي من ألم

كي يؤبن بها مُسْرَجة بضوء الناس.

 

لقد ردَّدن اسمك الذي لاقاك بالضوء

ملوِّحا لك بالطرس المطوي

الذي هو نسخة منك ماثلا في اللوح

وهذَيْنَ بك مفتوحا إلى أجل

 

شِفاهُهُنَّ محروقة

وفي أيديهن سَبيبُ مُشاقَةٍ من نواصي الخيل.

 

14 ـ

قارئ ويسبق الصحو والنسيان

يكفيه من الكتاب أن يرى الكتاب

كي يعْقِد المعنى

كخصلة في ناصية؛

 

لا يحب التأويل؛

المعنى نظرتُه التي تبدِّل ما ترى

وكفُّه التي تشير

فيَحدُث اللاشيءُ.

 

15 ـ

أنا الكتاب، أيضا

أنا الكتاب ـ لا مراء ـ

مرجأً، ومحفوظا، ومنذورا ليدين صاحيتين

وتذهبان بالمصباح إلى حدود الليل

 

كثيرا ما ـ مدعوكا 

ومثنيَّ الأوراق ـ وُضعت على الرفوف

وألقيت مفتوحا على تكية في أريكة أو كرسي

 

كأنني نسيج منتكث السَّدى واللُّحمة

نُزع من نول محطم

لم تتداركه يدا الحائكة:

القارئات اللواتي تداولن ليلي

ورقَّشن الهوامش بالإشارات والوشوم

هيأنني للقارئ الجهبذ الأخير

الذي يأتي ويختم المتن كله

إذا لمست كفُّه الغلافَ

ورمى نظرة واحدة

 

عميقةً لا تنتهي ويأتي بعدها النوم

كنظرة الحصان؛

 

إنه آتٍ لِواذاً من جهة ما مفتوحة إلى البحر

تدل عليه رائحةٌ قديمة أعرفها،

كلحاء الصفصاف مبتلا في آخر الخريف

 يعصف بها  معطفه  الذي كله جيوب

الرثُّ المثقلُ بالمفاتيح.

 

16 ـ

يداكَ ممدودتان

ووجهك شطْرَ الضوء

يداك ممدودتان وليستا معك

 

فتحتَ الباب؛

من استأذنت بينا كي تذهب؟

 

17 ـ

نومك أعمق من سهو "جارِ الماء"

يولِّي إلى اللا مكان

الزمهرير حبال ممسودة 

يحزمه بها موسم الثلج

 

 مجاله امَّحى

غده طير تختض لدى الجذوع

 في شباك الظل الممزقة.

 

كل هذا النوم؟

خُطَّاف يبقى دائما في منتصف القوس

بين شرفتين هما منزلان في الهجرة

السرب يمضي إلى غد الريش

قناديل مفلولة تتقدمه

 

هل تتسع السماء مرة

بغياب جناحين؟               

 

18 ـ

بكينا معا في السُّلَّم

كفُّ عليٍّ تحثني أن أنزل:

 

اثنان يتلقَّيان الصحراء كلها

وصيةً من الذي تركاه على الفراش

إذ كلمهما بصوت بعيد،

وفي السَّمت يحوم جناحان.

 

19 ـ

أورثْتَنا أ ن نراك

تجيء إلى ذاتك أبدا من كلامك الأخير

عيناك مليئتان بالسماء

وفي صمتك الكثير من الغيب.

 

20 ـ

ضوء؛

إنه الضوء في اسمه

ويلزم أن نعبر الباب

لامسين الإطار بالأجنحة.

 

بالرغم من ثقْله المعدني

الليل الأرضي عند الحدود

أخف من ريشة على أهداب:

 

يرف الجفنان،

تَهمي فراغا في الفراغ.

 

الحياة؛

يا للريشة فوق الأهداب !

 

ظلي هنا ـ أإنّه الظل؟ ـ

وتنظر إليّ من وراء الباب، هناك

أنا غاف

ريشتان على جفوني

ستطيران في هوائهما غدا

إن صحوتُ.

 

21 ـ

كذِبتُ عليك

بإشاحتي عنك إلى ما لا أرى،

وتلافيَّ نظرتَك التي تغرورق عند الباب

وبسمةٍ زيتية أُعَوِّمها على ماء الوجه

وجهي الذي أُعْديه بالبازلت

فيرعش كلما غالبتُ دمعا على كتفيك

كجلد المُهر تلسعه ذبابة الخيل

 

كذبت عليك بي

مواسيا وقفتك بضغط على مَنْكِبيك

 

ولم أقل إني أراك تمشي من غير ما حسيس

إلى باب لا يشبه الباب

تدير فيه مقبضا هشا مليئا بالغابات

هو نعاس الطير.

 

تقف في الفجوة الحاسمة

من حيث ينهال سطوع

وتُلَوِّح لي بجناح.

 

22 ـ

أيُجدي أحيانا سوى أن نوَلِّيَ

بعينين مبلولتين بماء مالح مدَّخَر

إلى الشاشات المهملة الكبرى

حيث لا يرانا أحد

وحيث نبدو نائين وأيدينا باهلة، 

جيوبنا ملأى بالقش

ومشرفين على غيابة بئر

أقدامنا تدفع الحجارة في الفوهة

نسبر الغور والصدى

والسقطةَ التي تُكَتِّل في القاع الزمنَ

 

ونرتقب أن يصفّيَ ظلالَنا

بالرجة ذاتها، الماءُ الذي أيقظناه؟

 

أما الصبر،

فحفنة من حجر الشَّبٍّ المدقوق

نلقيها بعد أن نتولّى عن البئر

في مرجل يفور

كي يحركها لنا، مديرا كفَّه بمغرفة،

الخادمُ اليأسُ.

 

23 ـ

مجروحا، أرسلك النطاريس

أشاروا بأيد واثقة إلى التخم الأكبر

حيث نخطو خطوة لا يعقبها غبار

ولا نترك، إن عبرنا، مَوْدقا في الطريق

أخفاء، سَلِسين،

كظلال غيم تميل على نافذة.

 

أشاروا إلى ذروة في الألم

ونكصوا.

وكان عليك أن تربِّي جرحك الذي شطرك

وتحمي الشعلة في المصباح

كي لا يحجبك عنّا الليل.

 

أعْداك جرحُك بالذهاب مع الظلال

تسهو وتبقى معه

كأنه زهرتك النادرة:

الصبر كلبك الرابض جنبك

ترمي له أُلْهِيَةً فيعدو

ويرتد بها إليك؛

لذا صرت تكلمنا كأنك لست أنت.

 

24 ـ

تكلمني كأنك تكلم نفسك

من المكان الذي تراه وراء الوراء:

 

ـ " طيفك مشوش، يا إدريس ـ قلت ـ

 أراك في هيئة أخرى "

اليد الكبرى لقفت طيفي

وألقته أغبش في مرآتك

كسرب يخرج من مسار محفوظ

وتشمله زوبعة

 

أُنصِت إليك وأخشع

كأني أُنصِت إلى نفسي

متكلما من مكان أدركتُه

بخطوة تبطل كل الأبواب

والعتبات

والسبل.

 

25 ـ

حجبت دموعَها  امرأةٌ في الباحة وأغضَتْ

حينما بكيتُ خارجا إلى السُّلَّم

أخوك يرعى ذهابك الوئيد

يروز أنفاسك التي تذهب

يكلمك أحيانا ويسبر صحوك؛

وشوشة هي الراية المنذرة

 تلوِّح بها يد تشرف من مرقب في الجبل

وتنبه مُسْرِين في شِعب

مصباحهم مترنح واحد

ينحدرون إلى قرية تبيد

تطمرها الرمال.

 

بِنْتك تأخذ كفك تحت الغطاء

وتهدأ

صمتها أعمق من حقل دوار الشمس

يمتد في صباح السهل

ولا تطْرُقه الريح

زادُك الضوءُ الذي ادَّخرتَه في السريرة

واسمُ الحي تردده ولا تخاف.

 

تنظر إلى زائريك

كأنهم يأتونك من نومك

من حيث تبصر أنت الباب مضروبا في الضوء

ومن ورائه الوراء كله

فسيحا ولا اسم له سوى الصحو.

 

تغفو وتذهب أبعد من سلامهم الطفيف

وأعلى من قولهم إذا تكلموا

يخرجون من الغرفة وأبقى معك

كأني أريد أن ألمس الباب

 

شيء واحد يبقى ونقتسمه:

سكينة البازلت في الرحى الهائلة

قبل أن يصل القادمون من الجُرن

ويفرغوا في فمها الحنطة.

 

أنت المسافر الآن؛

حقائبنا، من بعدك، هُيِّئَت سَبْقا

من غير أن نَعْلم

أو تطوي فيها أيدينا المتاع.

 

26 ـ

شيَّعنا نعشك إلى الجانب الغربي

من حيث تراءت، بين الربى، رُقَع البحر:

 

إي ! مدينةٌ واطئة

وكلها بيوت،

من غير ما طُرُق ولا أعمدة ولا ساعات 

يتعهد النجيلَ فيها والعكرشَ النسيانُ

 

طلَّتها على الرحابة

تُضاعِف نوم النائمين في أسمائهم صوبنا

الذين تحرسهم سطور وأعداد،

عامرةٌ إلى أبد وكلُّها غياب

وصحو وهجرة إلى غياب

ووقفةٌ لا تنتهي إزاء البحر الذي يميل

بيوتها مغلَّقة وسقفها اللانهاية.

 

هل كلمت نفسي،هناك

ولم أعثر على شفتيَّ

ولا على القول البدهيِّ الذي يُلقى في القلب

يأتي ويقرِّب إلى ظهري سارية؟

 

هل رفعت كفا ودرأت بها وهج الظهيرة؟

الشمس تسقط في جبهتي

والبحر، من حيث كنت أتقي ضربة المدى،

مروحة  كبيرة زرقاء تدهامُّ

مطوية على رف.

 

من آتاني أن أرى قبرك يُبنى

بعينين تعشيهما الشمس؟

 

إي ! مدينة بعيدة قربنا

نراها وتنأى كلما قرأنا الشواهد المنصوبة

مدينة وتسكنها داخلا في اسمك

عائدا به إلى ما قبل صرختك السُّلَّمِ

التي أرسلتها آتيا إلى الضوء،

لابسا ظلك في أول العالم

وأعلنت أنك أنت.

 

كتبوا اسمك في فلقة لوح على عجل

وغرسوه في التراب المحدَّب

ارتدوا نافضين أكفهم من فعلها

هل تلفتوا، بعدُ، إلى الشاهدة؟

 

اسمك هناك

عنوان البيوت كلها

في المدينة التي دخلناها يومئذ.

 

27 ـ

نحبك

لكننا بأيد خاشعة نهيل التراب

على ما تركتَ لنا منك

على اللا أنت الذي سيسري من بعدك في الأرض

غيابا يوسع الغياب

لتطلع فيه شجرة مبهمة

نشير إليها ونقول: " إنها الفقد "

تهزها لنا ريح الذكرى ونتبع الحفيف

لعلنا نعثر مرة أخرى عليك

 

 نحبك لكننا ننفض الأكف

من تراب نشم فيه رائحة الحدود

والبرزخِ الذي سندخله بغفوة طفيفة

وصحو، بعدها، وراء الباب

حيث يترنح المعنى ويكثر الضوء

 

تعرفك أيدينا وتنفض التراب

كأنها تبْذُر النسيان

لترتد من بعد إلى المصابيح

 

بأية أيد نؤازر الضوء؟ 

تتنفس الذكرى، غدا،  إزاء المصابيح

وينقصف الذبال المتفحم؟

 

ننفض الأكف؛

نتبرأ منها أم من فعلها البخس

الذي يسهل النسيان؟

 

28 ـ

الموت؛

ميلادنا المنقلب، هناك

صاحين، مرتدِّين بأسمائنا مصبوبةً في أصدائها

وممحوة كنقش على نقدٍ سُتوقٍ ـ

إلى ما قبل الظلمات والضوء.

 

29 ـ

أحذية مهملة

ملقاة في خندق الحرب

هذا العالمُ، ولا شيء.

 

نحيا وندمن النسيان:

نكوِّم جوارب رثة درنة

وندَّخرها، لغد باطل، في ظلمة الأحذية.

 

30 ـ

تُطوَى الأرض كلها في عتبة

عندها باب

هو الذهاب من غير ما تردد

و انفلاتٌ في استعارة تفضي إلى صمت،

و سهوٌ في نعاس الخيل،

واللغزُ والبابُ ـ

وراءه الماوراء

لا ينتهي ويواربه الضوء

 

رفة هدب،

شهقة هي خطوة قصوى في النسيان

ونكون هناك

حيث الاِسم اسْمٌ

والظاهر هنا كله أثر من كف النائم،

على زجاج نافذة مغْبرَّة.

 

31 ـ

أواعظ في مركز الحلقة

أم ناطور يحث هاجعين تحت الأشجار،

يوقظهم بنداء

ويلمس وجوههم بسعفة؟

 

من أين هبَّ؟

 صوته طريق من مجازات ووعيد

وكان يمشي في الطريق بوقع

 كمن يدكُّ بقدمه حافة ومن تحته نفر

يَعْبرون وشيعة الرمل التي تنهار

وتقوِّسها ريح بين العدوة والسفح

 

مسحاة ورفش تضربان في التراب

نهيم مكتوم

 

وحديد يهيئ النسيان؛

بيتك الذي لن تحده الجُدُر

ولا التراب الذي سيُنزَل فيه ما تبقّى منك.

 

يد واثقة تشير إلى جدث

ورجل يكلم الناس

عليه تهدلت شجرة  خروب

يهزُّها  فيخشخش المجاز.

 

استعاراته أفضت به إلى الجهة الأخرى

من حيث  أفتى وأبرم البرهان

وقال إنه رأى

وشد خرصة الباب.

 

نادى " ارجعوا إلى الباب "

ـ كأنه لم يكن بيننا ـ

وكان يومئ إليه بيد عالية

 

وقال إن الذين تبعوا نعشك إلى الحدود

لم يفتحوا وجها على ليل

لأنهم لم يذهبوا من قبل صوب الضوء

ولم يَرْدِسْ جباهَهم حجر.

 

أكنتُ أُنصِتُ إليه

أم أتبع رِكْز الذين يمشون تحت، في غباري

لابسين ظلالي

متلافين الحصى التي تتحَاتُّ

وكنتُ ـ صامتا ـ أدكُّها بقدم تعرف الحواف؟

 

 بظل معتم يتلاشى

ارتدّ الواعظ إلى جهة البحر

بيتُك استوى مقبَّبا بالثرى

والأرض، هناك، لم تعد الأرض

حديد يركم فيها التراب

فيَلْبِسها بالسماء

 

أي مجاز يقول هذا؛

خطوةً صاحيةً في الْهُنا المخلوط باللا ـ أين

كخريطة مطموسة يدعكها صبي

حيث العالم كله ظلمة تَمُورُ في قفل

ليس يفتحه سوى الدُّوار

والغيبوبة

والصمت؟

 

اسمك ـ مكتوبا على الشاهدة ـ

هو ظل اسمك

لأنك صرت لا ـ أنت

وبيتك هذا يُعلي مدى البحر كي نراه

لأننا نعرف أن الباب مضروب صوبنا

ونلمسه بالأهداب.

 

تبدأ اللانهاية

من ظل اسمك على الشاهدة

 

الصمت

هشة بشالٍ حداديٍّ

على وجه خيل لا مرئية

تتردد في المسارب بين الأجداث

تشمّ ألبسة الذين يأتون أو يمضون

حوافرها الصدى ونواصيها أثيثة من نعاس

وتتبعهم إلى باب المقبرة.

 

اللانهاية ما لم يقله الواعظ؛

صمتُك الذي يَقْلِب المجاز

واسمك الذي يرفل في البلى والمحو على اللوح الفقير

كأَيّل ينأى في أطيافه المترحلة

التي وحَّدها  ذهابه الحثيث

تأخذه سُدفة باكرة تعمر الجبل

 

31 ـ

باب بيتك مفتوح

ووجهي دوار شمس في الليل.

 

بكائي على أولى الدركات في السلم؛

قناعي المالح الآخر

أشيح به عنك كي لا تراني.

 

هذه الهشاشة

درعي التي لا تُفَلُّ

وتحميني من صدإ العالم.

 

وجهي في الفجوة بين ركبتيَّ

شهقتي كسرة حربة بسنان

أولجها وأخرجها مخلوجة وسوية

في كيس مليء بالقش.

 

أعصر عينيّ

مستقطرا أطيافك

ممزوجا بملحي وهشاشتي

كي أقدر على رفع رأسي ثانية

والتحديق في عينَيِ الحصان التائه

الآتي من الماوراء.

 

سَاهُورٌ من حوله،

حصان ونظرته الغياب

يرقل آتيا من جهة معلومة في اللا مكان

أبكي كي لا أعلم أنك تسبقني

لتلمس ناصيته الوافرة

التي يهزها في الضوء.

 

32 ـ

مطر يهمي هنا على الحديقة

مطر شبيه يضاعفه فوق بيتك الأرضي

هناك، في الجانب المنيف على أبد

حيث  يرقى البحر سلَّمه الأرضي إلى العيون.

 

الغائبون أمطار

تهمي على بقع قاحلة

تبرر ما تبقى لنا من الحدائق.

 

المطر أيضا

الرحمة التي أصابتك

ودكّت لك ذروة الآلام

كي تنزل سالما بمصباحك الأبدي

حرا ولا جرح يشطر اسمك الأول

وتلقى ذاتك صافيا

بريئا من غبار الأرض

ولك جناحان من رضى وسلام.

 

الرحمة ذاتها

آتتك أن تهمي  ظلا كلُّه أسماء

على بيتك المسقوف بالغيب

وعلى البقع التي تُرجِّع صحراء

وعلى الأرض التي لم تُمْهلك.

 

33 ـ

أكنتُ الطريقَ؟ 

 

العاشرة، الليلةَ، أتت بزمهرير.

سطح ثلجي واحد يمتد بين الغابة والبحر

وكان ديسمبر ينشر الأغطية

هاذيا بذاته التي من صقيع

برْد يكاد يلمع

كجلد شحم الأرض.

 

أمشي مبهما ومرتبكا وتعوزني أرض

كأني أمشي فيَّ معصوب العينين

خطاي تَهَجِّيَّ ما أكون

وتلعثمي بما أرى،

غائبٌ وأحاذي الأشجار على الرصيف

منشطرٌ وذاكرتي تفتح المظلات؛

كل مظلة زوبعة في السهل البراح

وتدَّرئ بها.

 

أفكر؛

تفكيري مَيْل مترنح هَرِج بسلالم

يتراكض بها رهط صبّاغين في ساحة خالية

ولا يعثرون ـ لكي يوكئوها ـ على الجُدُر.

 

فجأة،

يد تمسك بي

حميمة كأنها يدي ولا تُرى

يد من صحو ولا يقين توقفني لدى الرصيف:

العمارة حيث سكنتَ حينا

وكان لي، من بعدك، فيها بيت

تدخله من شرفته دلبتان

وظهيرة طائشة من القُمْريّ.

 

أصحو كأني أقرأ الكتاب:

حجارة الحت المنحوتة في جدار المدخل

الباب الحديد المشبك الأسود

السيراميك المموج الأزرق حول الباب

تفصل موجه جُذَذ صفر

وشجرات الدلب القديمة المسطورة

التي كانت تهْدِل  بالقُمْريِّ

 

ذاكرتي تحفر بقعة نائية:

حيوان هلوع يدحض التراب محتفزا

ويطعن بقرنيه جذع شجرة.

 

فجأة، باب

حجر وأشجار، بعد ثلاثين سنة

ذهول في الصحو الذي هو ذهول

وتيه في كتاب تكتبه نظرة غائبة.

 

ما الذي تفعله يدان

بكتاب فادح يسقط من رفّ

مفتوحا عن متن مهلك؛

كلماته تتكاثر في المحو

كلما لُقِف سطر

نشأت محله سطور أخرى  تنسخه؟

 

أمشي.

كتاب فادح في يديّ

كأني أحملني

مفتوحا، لا حد لي ويكتبني ما أراه

يضاعفني تلبُّثي إزاء الدلبِ

والبابِ الذي تلقَّى ظلالنا سنوات

وتشرد بي ولا تردني أطياف القُمْريّ

التي هي سماء مصبوبة في أجنحة

وكانت ترقرق الشارع والهديلَ

والأشجارَ والظهيرةَ الخَدِرة ـ.

 

ربما أغمضتُ،

لكني سمعتك تنزل السلم مع عليٍّ

هذا الأخِ الآخرِ في الضوء

نديمِ مصباحه أبدا إزاء الخراب

تتناجيان في ضحى صاعد بشمس

كأني ألاقيكما لدى الباب.

 

أمشي

كتاب في يدي لأقرأه طيلة الليل

مكررا سطره الأول

حيث تتناسخ ظلال باب يَصرُّ موارَبا إلى أبد

وخروم في حجارة حت

ولحاء يتفلع فوق جذوع دلب يعْمُره القمري

وأطياف الذين كانوا يدخلون

ويخرجون.

 

أكنتُ الكتاب؟

 

34 ـ

عِلْم لدُنِيٌّ لا يُلقَّن، هذه الدموع

وحَدْس مالح باللغز الذي يمزِّق الحدس:

حِدَأَةٌ تَطير مُسِفَّةً في طرف الحقل

أعلى قليلا من ذوائب الذرة

مصوٍّبة قبيل الغروب إلى الحاكورة، خلف الدار

حيث يرفل ديك في الغفلة

مشغولا بالبرهة التي تتهدل في عرفه

وبألق الريش

وظلِّه الذي لن يَدوم بعد.

 

35 ـ

الموت؛

يا للحصانِ الذي من سراب

ذي النظرة الذهابِ إلى ما وراء النوم

والذاكرة الملأى بالحطام والمدن  

التي هي ركض طويل في هذاء الخيل !

 

كم رأيناه يدنو

ويدْلي عرفه فوق الجثامين !

وكان أهل وأصدقاء ينامون

بعيدا عن الأشجار التي تحد نظرته المدوِّخة؛

التي هي فراسخ الصحو الكبير

 

وكنا ندرأ نظرته بحفنة حنطة

نمدها له ونصرفه بهشة نائمين

كأننا موقنون أنه سينأى

ويرقل في سرابه.

 

لكنه يؤوب

تجذبه رائحة في إيمائنا المرتبك

ونظرتنا التي تترنح

تَدُوخُ من رائحة فروه الذي يشتد.

 

يا للحصان الذي هو صحو الخيل

عرفه واحة

وحافره قنديل

ونظرته ارتكاس بسماء منفطرة

وكمالُ نظرةٍ إلى اللاشيء

يمشي فتعتم الجهات !

 

يا للحيوان في سراحه

لم يمشط فروه فِرْجَوْنٌ

ولم يحبسه رسن إلى عمود إسطبل

 

يا لأيدينا يأخذها إيماء

إلى ظله الذي يترحل قربنا

كضوء يضربه طفل بفلقة مرآة على الجدر،

الذي هو كمال في الظل

وغياب يبطل المعنى في الإيماء إلى الشيء !

 

أيدينا تتبعه

تدل به على اللا يقين في إيمائنا إليه

وعلى الدوار ماثلَيْنِ معا في المرأى

ويسعيان على الأرض.

 

أتَكَلَّم عنه؟

كلامي ذا هرهرة الزهر الهش

تنثره جنبة اللنتانا في الظهيرة

إذ تهزها يدٌ جَفول.

 

36 ـ

الحياة؛

الظل الطفيف الهُونُ ـ

مختلَسا وموجزا كسعفة من ظل

معكوسةٍ على شاشة اللاعب

كي يوهم أنها الريح

وأن واحة هناك تجمع الناس ـ

يلمس الأرض ويخْنَس؛

 

ظل الديك يفرفر صائحا ومنحورا بإغماء

تطير به ، وراء الحاكورة، الحدأة ـ

 

ظلنا أيضا،

مخيطا إلى ظل الديك

في مخالب ظل الحدأة.

 

مزقةٌ أخرى

بها يرقِّع النسيانُ معطفَه الرثّ.

 

37 ـ

نحن الأهداب المؤلمة المنقصفة

تزيلها الأنامل، كلما اندست، من تحت الجفون.

 

38 ـ

الصبر؛

فِلذة الطُّعم تجُذُّها من روحك

وتدخل بها الحديقةَ السفلى نازلا منحدر الصخر؛

حديقتَك التي لا يرعاها سواك

وكنت تُكِبُّ على الدالية

مفردة وواضحة  في الألم

مائلة بالضربة التي ضيقت سماءها

وألجَمَتْها عن الحفيف

جذعها القديم تورِّمه  عُجَر

وفي خصرها آثار من حربة الزمن

 

وحدك،

كنت تستأذن الليل أن يبقى معك

ولم يكن يحمل لك المصباح

كي تَلحم الفلذة بالغصن المنقِذ

وتنصِب الداليةَ

لترفع أكتافها وتلاقي الموسم الذي يجيء.

 

الدِّجْرانة كانت تتداعى

وتميل كل يوم على التراب

وكنت تسندها بظهرك

منكفئا ومولجا كينونتك كلها

بينك وبين انهيارها في النوم

كأنما انهالت فوقها سماء.

 

أوه !

الضماد الشاش الذي لففت به الطعم

لم يَحْمِ هذا من الهواء

ولا المطرِ الآسن الذي كان يهْتِن بالكبريت.

 

أراك الآن

لقد كنت البستاني

يجاهد أن ينقذ شجرة

هي كل ما تبقى من العالم، في الأرض.

 

39 ـ

لم نكن نطلب الكثير؛

أن تكون الأرض بابا ونافذة

 

لكننا لم نعثر على أرض

كأننا كنا منقلبين نمشي على الأكف

رؤوسنا إلى التراب

وأرجلنا تتدلى مطوية في الهواء.

 

أحيانا، كان اُفقُنا أفدح من حافر البغل

يعض على الشكيمة ويهدم البرهة

برفسةٍ ذروةٍ في لوثة الحيوان

وكنا نتَّقيه بأرجلنا المطوية

ونترنح من زفيفه الذي يُسقط الجدر.

 

الكينونة هكذا

كانت عصبا متشنجا

يكبح مشية البهلوان المنقلبة.

 

40 ـ

الصداقة؛

مِطرَقة البلور

حفظناها سليمة، مسنَدة إلى القلب

حتى المسامير التي ألقت بها الحياة

كي نشد بها ألواح السُّلَّم

التي كانت تتعمد خلعها،

كنا ندقها بأكف مقبوضة عارية.

 

ثلاثين سنة؛

أنت وعليٌّ وأنا

نزدهي بالمطرقة اللدود

إرثا نادرا هشا

من غير ما غمدٍ مخملٍ.

 

أحيانا ندقُّ بها أصابع الحياة في السُّلَّم

كلما ارتقته بنار،

سكرى وتهذي

يعانقها، سكرانَ،  اسمُ أحدنا.

 

41 ـ

الموت؛

لاعب وتغريه اللانهايةُ؛

بيتُه الذي يحده بنظرته المعدنِ

التي هي دوار نظرة.

 

يلقف ظلالنا ويشدها بالخيوط

يصنع طيارات يرخيها عاليا هناك

ويرعى ظلالها التي تكررها

سابحة ومحبوسة على الأرض؛

 

الأرضِ الأخرى التي لا اسم لها

التي هي حقلُه الغيابُ.

 

42 ـ

الداء ذاك؛

نبتة الهدال تأتي مقذوفة في بذرة

تصحو في أول الماء

وتكمن في هدنة الغريبة

خفيفة كنعاس في ضحى النخيل

كتَرْبيتٍ بَهِج على ظهر الشقي

كزينةٍ مُهلكة تعلَن بالريش وبهرج التَّرْتَر

وتَزيغ إلى الفتك ـ

ثم تتدلى مهيمنة على غد الشجرة.

 

النبتة القاتلة

تقْلب الليل والنهار في جرَّة الأرومة

تُرَوِّقهما خَلّاً مالحا

في المفاصل والجذع  والجذور.

 

تدخل الشجرة ليلها

وتتلقى بخة البركان

 

الغازية تبقى متهدلة

حتى تأكل ذاتها وتموت

وتيبس على ما تبقى من الهيكل

تاركة بذورها تسرنم في الأرض.

 

محمد !

كم كنت تحوش الصاعقة

حامدا من في السموات يعقد الزمن

لابثا في اسمك الذي أعرفه

ولك صبر الشجرة !

 

43 ـ

الحياة؛

تنفث الأبديةُ نفَسا دافئا

على سطح مرآتها المشقوقة الكدرة

من أجل أن تجلو الفضةَ ـ السرابَ

وترى ذاتها وحيدة

وعانسا ولا تضاهَى يداها في اليأس،

في غرفتها الكونِ.

 

تَرى

بعد أن تمسح النفثة بكُمِّها.

 

44 ـ

يا للصياد المحتال

يترك حقله الممتد إلى اللا مكان

ويقتحم حقل جارتِه الغافلة 

المنهمكة أبدا في الحرث!

 

هناك ينصب الفخاخ والحبائل

ويكمن:

الصيد يأتي ساهيا

وينْشق في آجاله العَجول.

 

نحن الصيدُ أبدا

نحن المطلوبون في الحقل المغزوِّ.

 

يا للموت !

 

45 ـ

كلامي هذا رمل في تروس

يربك التي تدور هادرة

ولا تكف؛

طاحونُ الحياة

طاحونُ الموت؛

 

ما الفرق؟

                      

القنيطرة 30 نونبر ـ 28 ديسمبر2011

شاعر من المغرب