ينتمي الشاعر الأردني للجيل الجديد من الشعراء الشباب، وهو أحد الشعراء الذين ينتصرون لقصائدهم وينتظرون "ربيعها" الشعري الدائم. هنا يعلن منفاه الاختياري والذي اختاره من أفق القصيدة الرحبة.

لست من هذي المدينة

طارق مكاوي

كانت الريحُ تبكي وراءَ نافذتي

تسحبُ شعرَ الشوارعِ

ورؤسَ الجبالِ البعيدةِ نحو زجاجي.

وأنا حينَ أنامُ.

أرى موعدَ الأغاني التي تَستَقلُ دمي إلى مهجعِ  أسرارها

لو تتوقفُ الذاكرةُ عن الهذيانِ قليلاً، لتذكرتُ الوعولَ التي بقرتْ بطنَ هذي السهولِ الممددةِ خلفَ سوري العتيقْ.

لرسمتُ أوجاعها على دفتري الربيعي.

وعلًّمت الريحَ العزفَ على كمانِ الشجرةِ الغافية.

لي ألفُ خريفٍ في خزانةِ البيتِ وألفُ ربيعٍ ناشفٍ في قلوبِ الدفاترْ.

الفصولُ تمرُ وتجفُ بذكرياتها المحنطةِ في أنحاءِ القلبِ المصرِ على الاستمرارِ بالخفقانْ

وأنا لستُ من هذي المدينةِ، أنكرها تماما حين تَمرُ بذاكرتي

وأمسحُ عن قلبي رائحةَ صباها.

وفوحانَ قهوتِها الطائشة.

أمسحُ الذكرياتِ التي تنهشُ بي

أنا لستُ من هذي المدينةِ، التي تنخرُ عظمي

وتحتلُّ مسامي بخضرةِ عينيها السائبتين.

سأعلِّق أقطابَ الشاعرِ على شجرةٍ في الطريقِ، وأتخيَّرُ أيَ مدينةٍ يقطفها البالُ، ويرضى ذووها عن قلقي الذي يشتعلُ بقبة رأسي

يتركني أنصافَ أحوالٍ

وأنصافَ أقمارٍ مكسرةٍ على الطريقِ إليها

أنا لستُ من هذي المدينةِ التي تتركُ الريحَ تعوي خلف نافذتي

تتركُ كمنجاتِ الأشجارِ لتُجْزِعَ وديانَ قلبي، التي حط فيها كلامُ العذارى اليفتشن عني في مفاصلِ الربيع/ الخريف؛ ويلظمنَ أحلامهنَ مع "حب العزيز" الذي يبغتُ سَهواتِهنَ في مرامي الشتاء.

أنا لستُ من هذي المدينةِ في الأصلِ

لكن كرمَتَها تركضُ في أوردتي وتتركُ الهذيانَ لطيوري التي أُنجبها، حين تمسح روحي حالةُ الألقْ،

 أُخفي كثيرَ المعالمِ بين أجفاني لأشعرَ بأنني مطمئنٌ لرائحةِ الغربةِ، أواه كم يقتلني الحنينُ

 -وأنا على هذه الشرفةِ النائيةِ- من حنيني لهذي الشوارعِ المكتظةِ بالفقراءْ.

من أين أبوحُ بحديقتي المنزليةِ التي رتبت شكلَ الهواءِ، الذي يتبختر  بين أشجارها الملكيةِ

كيف لي أن أعودَ إلى ظلالي وأتنفسني مرةً أُخرى.

وأقول لمرآة الحمّام صباح الخيرْ.

ألاطف طيفي قبل أن أذهبَ في الصباحِ إلى عملي البدائيِ، الذي يقتلُ فَراشَ ربيعي

يتركني زاويةً مهملةً في أصيصِ الحياةْ.

لو أن غلالةَ الصبحِ تغفو قليلاً على رقةِ الحلمِ.

لو أنني لا أعودُ من النومِ؛ أحملُ صولجاني وأرحلُ من غلظةِ المدنِ التي لا تحمل نرجسَ أوراقي.

لا تتحملُ ذاكرة لنساءٍ يَتثنينَ كرائحةِ الندِ في معابد قلبي المضمخِ بالنساءِ الطيعاتْ.

لو أنني أُظللني بالغمامِ وأرحلُ من بؤسِ المدينةِ التي لا فرصةَ لأجفانها أن تستعدَ للحلمِ؛ لا فرصةَ لرئتيها الكفيفتينِ أن توزعا الهواءَ على نافذةِ الصبحْ.

لا فرصةَ لها أن تصيرَ مدينةَ العشاقِ، الذين أخذوا رائحتها كغبارِ المعابدِ كُحْلاً لأجفانِهم، واستقالوا من جلوةِ الوطنِ المهددِ بالانتحارْ.

إنها إذ تنمو على أطرافِ روحي، أتركها لغباشِ الانطلاق الشفيفِ الذي يعمدني بالنوافذ والياسمين.

Tmak299@yahoo.com