"إن العمل الأدبي حين يفتقد المكانية فهو يفتقد خصوصيته وبالتالي أصالته"(1) تؤكد هذه المقولة ولاشك أهمية المكان في العمل الروائي رغم أن المكان كان في الروايات الكلاسيكية مجرد مسرح للأحداث بل إنه لم يتعدّ أن يكون وعاء للحدث والشخوص لكنه تجاوز معناه الضيق ومنزلته الدون فنيا ليصبح ذلك الفضاء المادي والدلالي الذي يشكّل الشخوص ويخلق الأبعاد وهو ما يسميه النقاد المحدثون المكان المهيمن.
في رواية "صفحات المهزلة"(2) يتجلّى المكان حيّزا لمجموعة من التفاعلات الدلالية المتداخلة فيتجاوز المفهوم المشيّأ للمكان إلى دلالات أرحب فيبرز موضع وصف يتحلّى بالوظيفيّة ويترفّع عن التزينيّة بالمعنى الذي ذهب إليه الناقد الفرنسي "جيرار جينات". إذا اعتمدنا "هرمنطيقا المكان" بمفهومه الأوّلي العام كعلم لتأويل النصوص فإن أول آلية تحكمت في المكان في الرواية هو أنه يصطبغ بسمة مميزة هي سمة التحول (transform) بل إنه "يوفر إطارا تصوريا تصبح فيه العلامات مفهومة أي أنها أدوات تفسيرية تستخدمها الجماعات أو التجمعات التأويلية".(3) هذا التحول جعل من المكان رحلة مادية في ظاهرها ولكنها رحلة في الوجود يدثّرها تجدد التجربة ومرارة الوجود ومهزلة الطريد، فالراوي يستهل السرد في الفصل الأول من الرواية بالبطل وهو متوجه نحو مكان عمله في بيروت المشتعلة إبان الحرب الأهلية بداية الثمانينات قبل الاجتياح الإسرائيلي لها، في ذلك الحيز كان الموت يحوم بشكل قميء وينتهي المقطع السردي بتفجير المطعم ومهزلة موت صديقه الجزائري "ميلود" فالمكان يبدو من البداية صانعا للحدث قاتلا للشخوص ولكن بدرجات متفاوتة لأن البطل "زهير العيادي" يجعلنا نبحث عن طوق نجاة فنبتعد معه عن القناص لنجد ذواتنا في اقبية وزارة الداخلية التونسية ولكن لا مهرب من الموت هنا إذ أن العنف حاضر بقوة والتفجيرات تتخلل الاستنطاق والحزن كبير على الأب المحتضر، فهل كانت "العودة" بحثا عن الحياة أم هروبا من الموت، أم من أجل كليهما؟!
أما في الفصل الثاني فإن مواجهة الموت تتخذ شكلا جديدا ومختلفا هو شكل الخلافات السياسية من خلال تصوير مرحلة النشاط السياسي للبطل في الجامعة بمدينة صفاقس التونسية فإقصاؤه السياسي ليس سوى قتل له غير أن الموت يعود للحضور بقوة من خلال إبراز علاقاته ونشاطاته مع ضابط الاستخبارات الفلسطيني "رائد النمر جرادات" رغم أن الراوي ربط بين المكانين (الجامعة التونسية) و(المقاومة الفلسطينية في بيروت) عبر التركيز على مظاهر الحياة والجمال، لقد جعل الراوي الحياة رابطا بين مكانين متباعدين جغرافيا ودلاليا فاستطاع بذلك أن يُحدث نوعا التواشج بين تيمتيْن مترابطتين وهما العنف والموت فالرابط بين الجامعة التونسية ومافيها من خلافات من ناحية وبيروت وما يصطرع فيها من حرب من ناحية أخرى هو جمال الحياة الذي يبدو حييًّا خجولا في المكان ورغم ذلك كانت الاستطيقا تحارب القبح والموت عبر صفحات كتاب المهزلة فالانتقال في المكان يكون محاولة للربط بين شخصيتين جسّمتا الحب والجمال في النص الروائي (نيتشه التونسية ومجد الفلسطينية): "ولكن الأروع من كل ذلك أن نيتشه لا تنظر إلى الحياة إلا بمنظار متفرد .. كانت تحاول دائما ان تقتل في الآخرين نظرة الأنثى إليها .. تلك النظرة ستجد لها صدى في عينيْ مجد الواسعتين بطلعتها العالية الشامخة مثل أشجار الخليل.."
و هكذا تكون المرأة في الرواية رغم سخط نيتشه اللامتناهي واستنفار مجد الأبدي تكون واهبة للحياة زارعة للجمال إنها الصورة المضيئة في حياة البطل وهي الجانب الحالم المسكوت عنه إنها ببساطة سطور الأمل الخفية في صفحات المهزلة ورغم هذه الصورة الرائقة التي انتهينا غليها إلا ان الحقيقة التي يمكن الجزم بها هي أن التحول في المكان في رواية صفحات المهزلة ليس سوى تحول في أشكال الموت المتناثر في المكان.
الآلية الفنية الثانية التي تحكمت في الحيز الروائي في " صفحات المهزلة " هي التقاطب Polarity وتعني مبدأ التجاذب بين الأقطاب وقد اعتمد الراوي هذه الآلية من أجل تحقيق هدفين الأول إبراز حالة البطل وانهياره إلى درجة التآكل والهدف الثاني هو الوصول بالقارئ إلى أتعس تجليات المهزلة وقد ظهر ذلك بشكل واضح في الفصل الثالث حين يكون البطل في مكان محدد وهو مدينة صفاقس التونسية ورغما عن ذلك تتجاذبه أقطاب مكانية ثلاثة (الحي الرمادي – الكلية – فندق الزيتونة )و ينتج عن هذا التقاطب السيميائي علاقات متشابكة يجد فيها البطل نفسه باحثا عن الحقيقة وكأنه باحث عن نفسه فالحي الرمادي كان لغزا تتداخل ألغازه أما الكلية فقد جعلته بصدد محاكمة من أخوة السياسة أما فندق الزيتونة فإن نيتشه قد عرّته وبينتْ له حقيقته التي يرفضها فالمكان إذن " ليس فضاء فارغا ولكنه مليء بالكائنات والأشياء والأشياء جزء لا يتجزأ من المكان وتضفي عليه أبعادا خاصة من الدلالات".(4)
وبما أن الرواية تسير في منحاها الدرامي نحو التأزم بشكل تصاعدي فإن التحول والتقاطب سيبدوان في نهاية الرواية في أوجهما فالرواية تسير نحو النهاية بشكل متسارع وكذا البطل يريد ان يفهم لينتهي في النهاية إلى نهايته ويهزل وجوده في المهزلة ففي الفصل الأخير يتوزع البطل بشكل خاطف بين الأماكن الآتية (بيروت- دمشق- سويسرا – بيروت- تونس) مما يؤكد لنا أن الرواية لم تكن في الحقيقة سوى رحلة في المكان من الافتقار إلى الانهيار...و قد تجلى ذلك في التقاطب بين أبعاد متضاربة :
بيروت الموت والافتقار- زوريخ البعث والمال الفاحش – تونس العودة والسجن والضياع، لذلك يقول البطل في نهاية الرواية : " أطرقتُ بكيتُ...بكتْ ذاكرتي...لقاء تمّ وولّى...وآخر مازال ينتظر..ما أسوأ أن تنتظر شخصا لن تراه ؟؟!
فالبطل الذي تقاذفته الأماكن من قريته الوديعة إلى مدينة صفاقس إلى العاصمة تونس ثم إلى بيروت الجريحة وفي النهاية إلى زوريخ المتخمة يبدو وكأنه هارب من الزيف والحقيقة باحث عنهما، ولكنه يكتشف في النهاية أنه عاش مهزلة بل إنه كان هو المهزلة.....و نحن كنا شهودا مع الراوي على مهزلة البطل وكانت الخديعة حلقة الوصل بين عديد الشخوص خدعنا البطل بموت صديقه الجزائري كما خدعته جيزال أيضا إن هذه الخديعة انتقلت إلى الراوي ليخدعنا كقراء، إنه منطق العصر الذي حوّل الخادع إلى مخدوع وجعل القناص طريدا بين المدن والكائنات " فالراوي الذي يبدا به السرد الروائي ويستخدم ضمير المتكلم هو جزء من ذات البطل المنقسمة على ذاتها وهو الشاهد على انقسام هذه الذات وحيرتها في وقت واحد".(5)
هوامش.
1- غاستون باشلار –جماليات المكان– ترجمة غالب هلسا بيروت المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع 1987 ص 5،6.
2 -"صفحات المهزلة" رواية للكاتب التونسي خيرالدين جمعة صادرة عن دار الأمل للنشر والتوزيع صفاقس تونس كانون الثاني ( يناير) 2012
3- معجم المصطلحات الساسية في علم العلامات دانيال تشاندلر ترجمة الدكتور شاكر عبدالحميد منشورات أكاديمية الفنون القاهرة 2002 ص30.
4- سيزا قاسم " العلامة و الدلالة " المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 2002 ص 48.
5- د صبري حافظ "البعيدون" رواية مساءلة الذات وافرث الأندلسي والعلاقة بالآخر في جريدة العرب اللندنية العدد 6275