(1)
في البداية لابد من الاتفاق علي بعض المفاهيم يأتي في بدايتها مفهوم الأزمة، والتي يمكن الوصول إليه من التعبيرات الدارجة، حين نقول أن فلاناً أصيب بأزمة قلبية – مثلاً – أي أنه يعاني من ضيق واختناق، قد يؤدي للوفاة. وعندما يقال أن فلاناً أو شركة ما تعاني أزمة مالية، أي أنه تعاني من اختناق مالي قد يؤدي إلى الإفلاس، وهو نوع من الموت فالأزمة إذن هي اختناق قد يؤدي إلى نوع من الفناء.
(2)
أن الأدب أو الإبداع بصورة عامة، ليس إلا حواراً للذات مع الأخر. سواء كان هذا الآخر بشري أو غير بشري، أو مع الذات عندما تنفصل عن نفسها وتشكل آخر مختبئ وراء الذات الظاهرة، أو مع الطبيعة والكون بصفة عامة، بحثاً عن الحياة في مواجهة قوي أكبر، وظروفاً قد تكون أعتى وأشد.
(3)
وينطلق من هذه النقطة، أن الإبداع هو السعي نحو المتعة أو اللذة، سواء متعة المرسل/ المبدع الذي يجد تواؤمه ومتعته واستقراره النفسي في عملية الإبداع، أو المرسل إليه/ المتلقي الذي يبحث عن اللذة أو المتعة في أن يجد صدي لما ما بنفسه، أو في حدوث الارتياح لما يعيشه من قلق أو اضطراب أو معاناة ـ بكافة أشكاله ـ أي أن يجد فيه بغيته الجمالية بكل ما يعنيه الإحساس بالجمال.
(4)
أن النوع الأدبي مثله مثل الكائن الحي. له عناصر يعيش بها وعليها، يأتي من بينها ـ إن لم يكن في بدايتها ـ القدرة علي التواجد والتواؤم فيما يحيط به من بيئة وظروف معيشية. فإذا اختل أحد هذه العناصر، تعرض هذا الكائن/ النوع الأدبي لأزمة قد تودي به وتدفع به إلى الانقراض أو التحول أو التحور. على أن هذا التطور أو التحور إنما يتم في الشكل الخارجي فقط بينما جوهر الإبداع ثابت لا يتغير، مثلما أن الإنسان يلبس لكل فصل من فصول السنة لباسه، بينما الإنسان هو الإنسان في كل فصول السنة.
(5)
أننا إذا كنا نعيش عصر التسليع (تحويل كل شئ إلى سلعة) فعلينا أن نسلم بأن الأنواع الأدبية ليست إلا سلع متنوعة أيضاً، يسعى كل منتج لإحداها (المبدع) إلى اجتذاب المستهلك (القارئ أو المتلقي) إلى سلعته. ووجب عليه أن أن يبحث عن الطريق الذي يوصله لشراء أو استخدام أو استهلاك هذه السلعة دون سواها، وعليه يتوقف نجاح عملية التسويق في فهم العناصر الجاذبة لسلعته دون سواها.
وبنفس المنطق يمكن تصور كل نوع أدبي كشركة منافسة لغيرها من الشركات. وما دمنا نعيش عصر الشركات الكبيرة وعابرة القارات التي تبتلع الكبيرة فيها الصغيرة، أو تقضي عليها. فنستطيع تصور الرواية الآن شركة كبيرة ابتلعت كل الأنواع الأدبية الأخرى – بلا استثناء – وتركتها تعاني الاختناق ومحاولة البحث عن قبلة الحياة.
(6)
أن التاريخ يشهد بانقراض أنواع أدبية – مثل الملحمة، وتوقف السير الشعبية عند ما عرف منها وأصبح تاريخا يُنقب عنه مثل الآثار – أو التحور مثل أشكال أشكال الأنواع الأدبية عامة، فتحورت الرواية من الخط الزمني المتصاعد إلى الخط الأفقي المستقيم، والشعر من العمودي إلى أن وصل لقصيدة النثر، والقصة القصيرة لما يسمى بالقصة القصيدة والقصة القصيرة جداً، وهي بيت القصيد في حديثنا.
(7)
فإذا ما سملنا بأن النوع الأدبي هو إحدى الشركات المتنافسة، فإنني عندما أرغب في الالتحاق بهذه الشركة، فإنني أقدم أوراق اعتمادي على هدى وبموافقة القواعد العامة التي تحكم هذه الشركة، وإذا ما أردت التغيير أو التطوير، فإن ذلك لا يتم إلا بعد قبول أوراقي وانضمامي لكتيبة العاملين بها. لذا فإنه علي الرغم من عدم الاتفاق على تعريف جامع مانع لأي من الأنواع الأدبية، خاصة القصة القصيرة، وانفتاح الحدود الفاصلة بين النوع والآخر، إلا أنه لابد من الاتفاق على (دستور) يحدد الإطار العام لهذا النوع لابد من التسليم به في البداية، وبعدها يمكن العمل علي التطوير والتجديد، أو وضع (القانون) المنظم لحركة النوع.
فإذا ما عرضنا القصة القصيرة على هذه المفاهيم، لتبين لنا العلة التي تعاني منها، وسعينا نحو البحث عن سبل الخروج منها، بل، وتبين لنا أنها ليست وحدها التي تعاني العلة، أو عدم القدرة علي المواءمة والعيش وسط غابات الإبداع، وأمام أسد الغابة الذي ابتلع مجموعة الخراف/ الأنواع وهو الرواية، حيث نجد الشعر أيضاً يعيش نفس الظروف البيئية والطبيعية التي تؤكد وجود الضائقة أو الأزمة.
ووصولاً لأسباب وظروف هذه الأزمة، دعنا نبدأ من البداية.
لم تظهر القصة القصيرة كفن معترف به قبل بدايات القرن التاسع عشر على يد كل من ادجار ألان بو الأمريكي (19 يناير 1809 ـ 7 أكتوبر 1849)، وجوجول الروسى (31 مارس 1809 ـ 21 فبراير 1852)، الذي يعدّه النقاد أبا القصة الحديثة بكل تقنياتها ومظاهرها، والذي قال عنه مكسيم جوركى: "لقد خرجنا من تحت معطف جوجول و جي دى موباسان الفرنسى (أغسطس 1850 ـ يوليو 1893). وهي الفترة التي لم تكن الحروب العالمية قد قامت بعد، ولم تكن سبل الاتصال مثلها الآن، ولا القلاقل التي اجتاحت العالم نتيجة حركات التحرر التي سادت وانتشرت فيما بعد. الأمر الذي جعل الحياة شبه مستقرة - نسبياً – والذي من شأنه أن تمر كثير من اللحظات الفارقة دون أن يلتفت إليها وإلي أهميتها كثير من الناس. فجاءت القصة القصيرة للإمساك بتلك اللحظة وكأنها إلقاء للضوء على ما يمكن أن تصنعه تلك اللحظات. ومنها استمدت القواعد الأساسية لهذا الفن الوليد الذي كثف – ربما – حياة بأكملها في اللحظة.
فإذا ما تأملنا قصة "الراهب وسيدة القصر" لـ جي دي موباسان نلحظ في البداية تعلق الراهب بالأطفال، وهو الذي اختار بنفسه ألا تكون له حياة كالآخرين، يتزوج وينجب. ثم تسأله سيدة القصر عما دفعه لذلك، فنستطلع حياة الراهب منذ الصغر، وكيف أن والديه كانا يعاملانه بعقلهما لا بقلبهما، وعندما يقابل، بعد أن كبر، كلباً خاف منه الكلب، فيستعطفه الراهب حتى وثق الكلب فيه ووضع كلتا ساقيه الأماميتين على كتفه، وصارا صديقين، غير أنه بمرور الأيام يرى الراهب حادثاً ماساوياً للكلب أودي بحياته، مما جعل الراهب يزهد الدنيا ويعف مباهجها، ويختار طريق الرهبنة. ولتكتمل حبكة القصة وإحكامها، وأن شيئاً فيها لم يأت مجانياً، تعترف سيدة القصر بأنها تطلب من الله أن يطيل عمرها لأنها تعيش لأحفادها الصغار الذين هم في حاجة لحنانها، بعد وفاة والديهما.
فهنا نتبين أن لحظة فاجعة الكلب كان لها التأثير الكبير في حياة الراهب وتغييرها كلياً. كما أننا نتعرف علي حياة الراهب كاملة في نطاق اللحظة أو اللقطة، وهي الفترة بين ذهاب الصغار للنوم وحكاية الراهب حكايته لسيدة القصر. وهذان هما العنصران اللذان لم يزالا يعتبران العمودين الرئيسيين في بناء القصة القصيرة، علي مسار وجودها القصير نسبياً.
وفي سياق قريب الشبه من قصة جي دي موباسان تأتي قصة " القط الأسود لـ " إدجار آلن بو " والتي يروي فيها الرواي قصة حياته – ربما – كاملة قبيل مثوله لحبل المشنقة. حيث كان إنساناً طبيعياً، يحب الحيوانات ويقتنيها، وخاصة القط "بلوتو" الذي كان له عنده وضع خاص. غير أن الراوي بدأ في تعاطي المخدرات حتى أدمنها وبدأ بمعاملة السوء لمن حوله بما فيهم زوجته التي صبرت عليه كثيراً، وكانت تهديه أحد الحيوانات أو الأسماك في كل مناسبة. ثم بدأ يضيق أيضاً بالقط بلوتو. وفي ليلة خمر عاد ليجد القط في انتظاره، غير أنه لم يتحمله فأتي بسكين وخلع إحدي عينيه، وفي ليلة خمر أخري أحضر حبلاً وشنق القط على إحدى الأشجار. وفي اليوم التالي احترق البيت بما فيه إلا جدار وحيد تم اكتشاف ما يشبه صورة القط المشنوق علي الجدار.
وفي إحدى الحانات التي أصبح يدمن زياراتها، تعرف عليه قط أسود وتبعه القط حتى البيت ولازمه، غير أنه – الراوي – لم يكن في لحظة يرتاح لهذا القط، وفي زيارة لقبو البيت مع زوجته رافقهم القط إلى هناك، وفي ثورة من ثوراته المخمورة رفع الفأس يريد قطع رقبة القط، غير أن زوجته تدخلت في الوقت المناسب ومنعته، فما كان منه إلا أن ارتد عليها هي وقتلها.
تحير كيف يخفي جثة الزوجة حتى هداه تفكيره إلي فتح قبو في البيت ودفنها فيه واقفة وأعاد الحائط كما كان متقناً عمله فاطمأن ونام هانئاً. غير أن القط أصل الجريمة لم يظهر بعد ذلك، مما زاد من اطمئنان الراوي. جرت بعد ذلك عدة تحقيقات من الشرطة، كان آخرها زيارة لهم قبو البيت.
انتهت التحقيقات دون الوصول إلى فاعل الجريمة أو جثة لميتة. وزيادة في إقناع الشرطة ببراءته، حاول إخبارهم بمتانة بناء هذا البيت، خابطاً علي الجدار في ذات المكان المدفون فيه الزوجة، فسمع الجميع صرخة تعلت وتزايدت، حتى أسرع الجميع إلي هدم الدار، ليفاجأ الجميع بجثة الزوجة واقفة، ومن فوقها يقف القط الأسود.
في هذه القصة القصيرة الطويلة نتبين بعض العناصر التي تعتبر من أساسيات القصة القصيرة، والتي تحافظ علي حدود النوع الأدبي والتي منها:
1 – أن المساحة الزمنية التي تغطيها القصة، والتي طالت حياة بأكملها، لا تنتقص من كونها قصة قصيرة، حيث جاء الإطار الزمني لرواية (الأحداث) هي قبيل المثول لحبل المشنقة.
2 – عنصر التشويق الذي يمنح القصة متعة القراءة والمتابعة وتمثل في بدايات القصة، حيث أخذ الراوي يعدد غرابة ما (سيحكيه) واختلاف القادمين حول إمكانية تصديقه وعدم تصديقه.
3 – استخدام المفاجأة الكاشفة فيما كان يعرف في مراحل القصة القصيرة التقليدية بـ(لحظة التنوير).
4 – الحكمة أو العبرة المستفادة، والتي تتمثل هنا فيما فعلته الخمر وإدمانها من أثر سيئ علي متعاطيها، حتى جعلته يبغض أحب الأشياء إليه (حيواناته الأليفة وطيوره) ويرتكب أبشع الجرائم، وفي أقرب الكائنات ألفة ومحبة (القط بلوتو وزوجته الحنون الرقيقة المشاعر).
تلك هي العناصر التي تميزت بها القصة القصيرة المصرية في المرحلة السابقة على يوسف إدريس. ولا يمكن بالطبع ألا نغفل "معطف" نيقولاي جوجول والذي لم يكن "مكسيم جوركي" فقط هو الذي اعترف بأنه خرج منه، وإنما يعتبر المعطف هو المنارة التي سار علي هديها، ولأجيال كثيرة جاءت من بعده، في شتي بقاع الأرض، وقد ساعد علي ذلك قيام الثورة الشيوعية بعده بفترة ليست ببعيدة، وانتشارها في كثير من بقاع الأرض، حتى أصبحت إحدى القوى العظمى التي ابتلعت كثيراً من أوطان الأرض، خاصة أنها نادت بثورة البلوريتاريا، أو الطبقة الكادحة أو المطحونة.
فأكاكي أكاكيفتش هو أحد المطحونين الذين لم يعرفوا في حياتهم غير العمل والتفاني فيه، رغم مضايقات الآخرين، ورغم ضعف دخله. يهترئ معطف "أكاكي أكاكيفتش" بعد طول إصلاح، حتى لم يعد ينفع فيه الإصلاح فيطر مرغماً، وبعد طول تدبر وتفكير وتدبير إلي حياكة معف جديد، وكان ذلك حدث يستحق حفلاً، ولكن من أين وكيف له ذلك، وهو الذي ليس لا يملك إمكانية إقامتها فقط، وإنما هو لم يعرف من قبل للحفلات أو النزهات سبيلاً. فيقوم أحد كبار الموظفين عنه بذلك، و كان من غير اللائق ألا يحضر هو هذا الحفل. وينصرف من الحفل في وقت متأخر من الليل ليخرج عليه اثنان من اللصوص وينتزعون المعطف الجديد.
ويفشل في كل محاولات الحصول علي المعطف من جديد (ويعدد جوجول السبل التي طرقها والمذلة التي تعرض لها) ثم يخبره ناصح بأن يستعين بأحد المهمين للتوسط لدي المأمور للعناية بالبحث عن معطفه المنهوب، فيعنفه ذلك المهم في بهرجة وظيفية معيبة، مما يؤدي بأكاكي إلي الهذيان والموت بعدها بأيام محدودة.
غير أن جوجول لم يتوقف عند هذا الحد كما هو أفق توقع القارئ، وإنما يعود به ميتاً للحياة ليفزع وينتقم ممن أهانوه في حياته. غير أن "أكاكي" جاء مفيداً وهو ميت مثلما كان وهو حي، حيث تسبب ظهوره ميتاً في ارتداد الموظف المهم إلي بيته وزوجته وابنتيه، بعد أن كان متجها إلى امرأة أخرى ليقضي معها الليلة.
ومن معالم التجديد والريادة لهذه القصة أنها:
1- بدأت عهداً جديداً في ربط الفرد بالمجتمع. فإذا كنا قد تبينا في كل من قصة جي دي موباسان وإدجار آلن بو، معاناة الفرد الشخصية، أو تحوله نتيجة حادث فردي، فإن "المعطف" تكشف عن انسحاق الفرد المهمش أمام سطوة كبار الموظفين وترفعهم، وعدم الإحساس بهم، وهو ماعاناه كل صغار الموظفين في المجتمع الشيوعي فيما بعد.
2 – اعتماد القصة على التصوير للشخصيات، فقد تعرفنا بالتفاصيل إلى جانب "أكاكي" علي حياة الترزي، ونائب المدير (الذي أقام الحفل) والمأمور والموظف المهم. وهو ما يعني التركيز على الفاعل أو المفعول به قبل الفعل.
3 – استخدام جوجول لتقنية استخدمت كثيراً فيما بعد، وهي تدخل الكاتب في سياق القصة، الأمر الذي يقرب القصة من القارئ وينبهه باستمرار اليقظة والتنبه، ويعطي صورة الواقع المعاش، وأن الأمر ليس خيالاً محضاً. إلي جانب حصر القصة رغم امتداداتها في إطار وحدود النوع الأدبي "القصة القصيرة".
لم تبدأ القصة القصيرة في مصر، إلا بعد بديات القرن العشرين في محاولات الأخوان محمد ومحمود تيمور، ومن بعدهما محاولات الأخوان – أيضاً –عيسى وشحاته عبيد. حيث انحسرت في إطار نقل الواقع كما هو، والمناداة بالابتعاد عن الخيال والالتزام بالواقع. فبدت قصصهما كما لو كانا يحملان كاميرا يجوبان بها في شوارع الحياة. فاختفى الخيال. كذلك الأمر في قصص طاهر لاشين، الذي جاء بعد ذلك، حيث ازدحمت قصصه بالشخوص، ففقدت التركيز وتشتت الحدث وفقدت القصة وحدة التأثير. فكانت القصة القصيرة في مصر، طوال النصف الأول من القرن العشرين، مجرد إرهاصات ومحاولات أولية إلى أن جاء – كما ذكرنا – كل من يحيى حقي ويوسف إدريس، فبدأت معالم التأثر بالقصة العالمية المتمثلة في الفرسان الثلاثة.
في نحو منتصف القرن العشرين تغير المناخ الاجتماعي والتصور للوقائع من حول المبدع. فظهرت موجة جديدة، أو تحور في شكل القصة القصيرة التي بدأ ازدهارها في مصر نحو خمسينيات القرن بداية من يحيى حقي الذي قدم أولى مجموعاته عام 1954، فبدأت – معه – القصة في التخلص من قيود الزخرفة اللفظية والألفاظ المعجمية والمواعظ التقريرية، وتميز أسلوبه بالبساطة والنعومة والسلاسة. وفي نفس العام (1954) قدم فيه يوسف إدريس مجموعته الأولى أيضاً – أرخص ليالي - متأثراً كذلك بتغير المناخ الاجتماعي الذي صاحب تجربة يوليو 1952 والتي نجحت في نشر وطغيان الشعارات الاشتراكية، والتي يؤمن ويتشيع لها كاتب جبار مثل يوسف إدريس، ليخطو بالقصة القصيرة خطواط ملموسة، متشبعة بتلك الشعارات، فيقدم – علي غرار معطف جوجول – قصة الفتاة الصغيرة التي تعمل بالبيوت (شغالة) وهي تحمل صاجات الكحك ليلة العيد، وتمر في طريقها إلي الفرن بالأولاد في سنها يلعبون (قصة نظرة من مجموعة أرخص ليالي). ليس من حيث المضمون فقط وإنما نلمح أيضا كيفية وصف تلك الشغالة بملابسها الممزقة التي تشبه ممسحة الفرن، وساقيها الشبيهتان بالمخالب، وهو ما أدى إلى تقديم تصوير كامل لتلك الصورة الإنسانية، لتصبح تجربة إنسانية في إطار اشتراكي نحت أثراً في قارئها لا يمحى.
ولعل من أهم علامات التجديد والتطوير التي أدخلها يوسف إدريس هي القصة الدائرية والتي يبدأ فيها من الذروة التي تتفتت وتتشعب، وكأنها بؤرة الضوء التي ينبعث الشعاع في كل اتجاه، ليجد القارئ نفسه في النهاية وقد أحاط بكل ملابسات الحدث الذي هو بؤرة القصة. إلى جانب بداية تلاشي لحظة التنوير، وكأنه يذيب الحدث في سياق الحياة العادية ويتماهى معها، كما لو كانت لحظة عادية تمر مر الكرام علي الكثيرين، غير أنها عند الكاتب المبدع نقطة انطلاق، وقاعدة صواريخ، فضلاً عن الاستغناء عن الكثير من التفاصيل واللجوء إلى التكثيف الذي يعتبر من أهم عناصر القصة الحديثة.
وفي ذات الفترة - في أواخر الخمسينيات – يبني ادور الخراط "حيطانه العالية" بتجربته الفكرية التجريبية، ولينطلق منها بعد غياب طال نسبياً إلي تجربة مديدة تشعبت في بقاع الأنواع الأدبية. غير أن تجربة يوليو 1952 لم تلبث أن انكسرت انكساراً مدوياً بالسقوط في بركان يونيو 1967 الذي داهمت شظاياه كل المناحي وكل البشر على أرض مصر، فانفرط عقد ما كان قد تجمع حول الشعارات وتتفتت النفوس وتشظت الرؤي وغامت الرؤية. وهو ما انعكس علي أهم جيل له من البصمات علي الإبداع الأدبي خاصة القصة القصيرة، ولم يزل، ما يجعله يشكل ظاهرة كلية، وهو ما سمي بجيل الستينيات، فالتقطت تلك الشظايا وتحولت إلي مجموعات من القصص القصيرة، المحاسبة والمؤنبة، والباحثة عن حقيقة ما حدث.
غاب الحدث الرئيس في القصة وأصبحت نتف من الحياة وكأنها الكولاج، ساعد في ازدهار الأدب عامة، والقصة القصيرة خاصة، ساهم فيه تواجد العديد من المنابر التي ركزت علي القصة القصيرة بصفة خاصة مثل مجلة القصة، و"سنابل" كملحق لمجلة الهلال، وملاحق الجرائد السيارة مثل ملحق الأهرام الأدبي، وملحق جريدة الأخبار والمساء وغيرها من الدوريات. فعاد جمال الغيطاني إلى الوراء بحثاً عن ملجأ يركن إليه استجداء لحائط قائم يستند عليه، فقدم أوراق اعتماده ككاتب يحفر له مكاناً بـ"أوراق شاب عاش منذ ألف عام"، وبدأ بهاء طاهر بـ"الخطوبة" ليزف إلى عالم القصة القصيرة مجموعة من الأبناء/ المجموعات المتميزة ببساطة الإسلوب وعمق الرؤية والرؤى، فكانت السهل الممتنع، بسيطة السطح عميقة المعنى نافذة إلى ما وراء الحياة العادية للإنسان. وتعددت الأسماء التي قدمت قصصاً متميزة، في الإطار العام ذاته مثل محمد البساطي وإبراهيم أصلان وأحمد الشيخ ومحمد مستجاب – علي قلة ما قدمه من إنتاج قصصي (مجموعة ديروط الشريف والقصص الأخرى). وما أن يلتقط الأدباء أنفاسهم من هول النكسة ودروسها وآثارها حتى تتلاحق الأحداث الجسام. فتأتي حرب أكتوبر، وقبل أن يستوعبها الإبداع يأتي الانفتاح والصلح مع العدو التقليدي إسرائيل، فتسود الحيرة حول ما هو كائن. فيهرب خيري عبد الجواد إلى قاع القرية من جديد مستنطقاً معالمها ومستكشفاً أوجاع الوطن، ويهرب محمد المخزنجي إلى البعيد مستنطقاً الكون والغابات والشجر وهموم الإنسان.
تتقلص وسائط النشر. فتتخفي مجلة القصة ويتم توزيع ما قد يظهر منها كما لو أنها نشرة سرية، وتكتفي مجلة الهلال بقصة شهرية، وتكتفي الأهرام بقصة أسبوعية، وتكتفي الأخبار بالجريدة الأدبية الوحيدة أخبار الأدب التي تجمع في طياتها – إلى جانب القصة – العديد من الأنواع الأدبية. فيتقلص الإبداع القصصي.
وبحثاً عن أنبوبة أكسجين متمثلة في بقايا وسائل النشر وضيق مساحاتها. يلجأ الإبداع القصصي إلي وسيلة يستطيعون بها التغلب علي ذلك الاختناق، ومنح تلك الوسائل الفرصة للنشر في حدود المتبقي من مساحة الإعلان، فيلجأون إلى القصة القصيرة جداً، والتي لا تتجاوز الصفحة الواحدة، ثم تقلصت فأصبحت بضع سطور إلى أن وصلت إلى بعض الجمل، ثم أصبحت مثل رسائل الموبايل. فغاب عنها حوار الذات المبدعة، وغاب عنها الحكي، وغاب عنها التشويق، وغاب عنها المتعة واللذة، فغابت عنها القصة، أو غابت القصة عنها. فوصل الاختصار والاختزال إلى الحد الذي أصبح اسمها يشار إليه أيضا بالاختزال، فباتت تعرف بـ(ق ق ج).
إلى جانب بدء انتشار ظاهرة كتابة الرواية عبر المجموعات القصصية، وكأنه هروب منها، أو أن أسد الرواية يبتلع خراف الأنواع الأخرى. ولولا أن بقية من شعاع القصة لم يزل يضئ بعض المنابر من بقايا القصة القصيرة على يد كل من بهاء طاهر وسعيد الكفراوي (من جيل الستينيات) ومحمد المخزنجي (من جيل الثمانينيات) – والذين يتطلب الأمر دراسة كل منهم علي حدة، وبعض أصوات متفرقة تظهر علي استحياء بين الحين والآخر بالمجهودات الفردية، لكانت القصة القصيرة قد لفظت أنفاسها.
وفي ذات الظروف التي تعاني فيها القصة القصيرة، كانت ظروف أخرى تساعد في ازدهار الرواية وطغيانها – والتي ليست مجالنا الآن - حتى ابتلعت – كما سبق أن قلنا – كل الأنواع الأدبية الأخرى، بما فيها القصة القصيرة. فكان لها السيادة والتسيد وكأنها الحوت في بحر الإبداع يبتلع الأسماك الصغيرة.
shyehia@yahoo.com
يقدم الناقد المصري عرضاً للخصائص العامة لفن القصة القصيرة في القرن التاسع عشر، ومن ثم ينتقل إلى ولادته في مصر مع بدية القرن العشرين. ويتناول انزياحاته الحاليّة عن المعيارية، والتحولات التي طرأت عليه، إضافة لمؤثرات الرواية فيه. ليبرر سؤال الأزمة الذي ينطلق منه في جولته النقدية.
هل القصة القصيرة في أزمة؟