(أنبئوني بالرؤيا) عمل أدبي (روائي) متميز، لا بموضوعه وحده، وإنما بما يعتمد من أسلوب في رواية المروي. فهو يأخذ نفسه في مسار القراءة النقدية للآراء، والأفكار، والعلاقات، مقدماً عديد الأطروحات، أدبية ونقدية، في السياق الذي يتخذ .. لنجد حيوية فكر "القاريء ـ الناقد" تتحرك بها شخصيات العمل، وليس الراوي وحده. ولعل من قرأ كتب عبدالفتاح كليطو التي سبقت هذا العمل، وتميزت بأسلوبها الاستغواري في القراءة النقدية ـ التحليلية (ومنها: الأدب والغرابة، والمقامات، وسواهما من كتبه التي نهج فيها نهجاً خاصاً في القراءة ـ كمفهوم نقدي) أن يجد التواصل معقوداً بين تلك القراءات، أسلوباً وطريقة (أو منهجاً)، وبين هذا العمل الذي أراد له أن يكون روائياً على طريقته في القراءة والموازنة والتحليل.. فيكون فيه أكثر حرية في قول ما يريد أن يقول ـ وإن ظلت طريقته، في الحالتين، معتمدة على الأخذ بمفهوم القراءة الذي يمكن أن نعده من أبرز المؤصلين له، مفهوماً وطريقة في الرؤية، في ما كتب من أعمال، آخرها هذا العمل، وإن اختلف من حيث التجنيس.
يتحرّك في هذا العمل عنصران هما: الواقع، والتخييل .. وكلاهما يتماهى مع الآخر. فالتخييل يتماهى مع الواقع من جانب الاسناد إليه، والواقع، بدوره، يتماهى مع التخييل من جانب الارتفاع بحقائقه ووقائعه الى مصافه .. والكاتب، من جانبه، يوظف عناصر السرد ضمن شمولية الرؤية الجامعة بين العنصرين.. ما يجعل منه عملاً يقوم على ثلاثة أبعاد، هي: الواقع ـ فسحة وجود الشخصيات وحركتها وصناعته الحدث، والمعرفة التي يعتمدها العمل موضوعاً وفضاء لبناء العلاقة بالآخر، والتركيب الفني الذي يضع هذا كله في صيغة روائية متميزة التشكيل والبناء.
فالعمل، بذاته، بقدر ما هو فنيّ التكوين من حيث بناؤه، معرفيّ الأبعاد من حيث مكوناته، ما يجعل مفهوم الكتابة الروائية متحققاً من خلال ما هو معرفي أصلاً. وهو ما يعني، في أخصّ ما يعنيه، "تثقيف" الكتابة الروائية بما هو بعد معرفي ينتجه "البطل ـ الراوي" وشخصياته من خلال عاملين: عامل يشكله التمثّل الواعي لما هو معرفي المفهوم والأبعاد ـ المتحققة موضوعياً من خلال السياق الروائي الذي يضعها فيه، وعامل اللاوعي التكويني الذي يتحرك بمكنوناته حركة استجابة، سلبية مرة وايجابية أخرى، بما يُفعّل حالة الحركة داخل العمل، ويكشف عن أهمية دور هذا البعد المعرفي فيه. إن الذات الكاتبة تكتب، هنا، ذاتها بكل ما لهذه الذات من تكوين. وتأتي اللغة التي يعتمدها الكاتب في عملية السرد والتوصيف والتحليل نتاجاً مشتركاً بين كل من الواقع (الذي يمتح العمل موضوعه منه) والمعرفة التي يستقي منها مادته.
غير أن السؤال الذي يثار هنا هو: الى أي حدّ تفاعلت هذه المفهومات المعرفية مع السياق السردي للعمل؟ والى أي مدى تفاعلت شخصياته مع هذه المفهومات بلغتها الثقافية النخبوية؟ وهل حركت الواقع من حولها، أم كانت هي التي تحركت به؟ وفي أي اتجاه كانت الحركة؟
ثم، الى أي مدى يمكن للخطاب المعرفي، الذي اعتمده العمل، أن يكون ممثلاً لطبقات من الحوار الداخلي الذي نجده يتصاعد ليتنازع الحضور مع الواقع، أو المحيط القائم؟ وما منابعه: أهي منابع النفس التي يشدها قلق معرفي للتوغل أكثر، وأبعد، وعلى نحو أكثف، في عالم الغرابة؟ أم هو انفتاح لفضاءات العقل على آفاق جديدة في النظر الى ما هو معرفي، وتخييلي في آن معاً؟ وهل ما ينقله "الراوي ـ السارد" في سرده هو "وهم العالم" أم "حقيقته"؟ وإذا كانت "المعرفة" هي مصدر أزمة البطل، كما هي طريق الخلاص الذاتي له، فهل أن "رؤية العالم"، كما نستخلصها، تقوم عند "البطل" على متابعة المعاني (المتولدة في صيغة رؤى)، والسعي للتعبير عنها بحصر دلالتها، وبحسب الحالة ـ الموقف؟
*الرؤية وأسانيدها
هذه التساؤلات تحيلنا الى العمل المؤلف من أربعة فصول، ولكل فصل منها عنوانه، وإن كانت تحيل الى بعضها بطريقة تتابعية، لتكتمل بها "الرؤيا"، بعد أن نعرف أن العنوان الشامل للعمل (أنبئوني بالرؤيا) هو عنوان البحث الجامعي الذي سيكتبه تلميذ "البطل ـ السارد" عن الليالي، والذي ينسب الى "نبوخذ نصّر"، بما عُدّ مطلباً خلاقاً منه: "أنبئوني بالرؤيا وسأعلم أنكم قادرون على اعطائي التفسير." (ص62)
تبدأ الرواية باسناد الراوي نفسه الى عالم القراءة والكتابة، والرواية ـ السماع (أو المشافهة)، وهي "رواية زائرات جدته" أيام مرضه، ثم اكتشاف "ألف ليلة وليلة" الكتاب الذي حملته المصادفة وحدها إليه، مرجحاً أن تكون إحدى الزائرات قد نسيته عند رأسه .. وغادرت! لتشده إليه "قوة الحكايات" فيه، على الرغم من كون تلك الطبعة منه كانت "مشذّبة" (وهي متابعة تشي بروح البحث، وترسم اشارات الباحث)، ليقترن شفاؤه من المرض الذي ألمّ به ببلوغ الصفحة الأخيرة من الكتاب الذي راح يقرؤه وهو على فراشه ـ "وكأن للأدب فضيلة علاجه"، كما يقول. (ص8) إلا أنه سرعان ما سيردف هذا "اليقين" بالشك فيتساءل: "أفعلاً قرأت هذا الكتاب"؟ وهل هو "الكتاب الأول" الذي قرأ؟ ثم يأتي النقض لما روى: "أما الزعم بأنني كنت مريضاً لمّا اكتشفته، فذلك استيهام محض. استحضار ما لست أدري من مرض، استثارة الشفقة على الذات، استعادة رؤيتي طفلاً راقداً على أريكة تحت سرير جدتي ... ألست منهمكاً في تزويق الأشياء، موحياً بأن الحكايات قد استرجعت لي صحتي؟ مماثلاً نفسي من دون حق بشهريار، الملك المجنون الذي شَفَتْه شهرزاد. ومن ثمّ سيناريو تلك الزائرة الغامضة، القارئة الناسية للكتاب. في الواقع، لا امرأة كانت تقرأ في ذلك الزمان فيمن حولي، ربما آيات من القرآن، لا الليالي بالتأكيد." (ص9)
ويتوالى نقض ما كان قد قال، وما قاله ليس سوى اختلاقات من جانبه. ويأتي نقض النقض، إذ يستدرك، في الصفحة ذاتها، ويقول: "بيد أنني، بفضل هذا الكتاب، دُعيتُ الى الولايات المتحدة، أو بتدقيق أكبر بفضل مقال (هو في الأصل بحث لنيل شهادة الماستر)، "النوم في ألف ليلة وليلة". كان الأستاذ ك. قد أوصى بنشره، لدهشتي العظيمة، لأنني كنت أعتقد أنه يكرهني. كان ينتقدني كل الوقت، ويُبدي شكّه إزاء مشاريعي، لكن، خلافاً لكل توقع، ودون أن ألتمس منه ذلك، قام بنشر بحثي (...) زيادة على هذا، زكّى طلبي منحة شهرين لدى مؤسسة فلبرايت. بطريقة مفاجئة، فتح لي باب النوم أبواب أميركا." (ص9ـ10)
وفي أميركا التي يذهب إليها يستقبله الأستاذ مايكل هاموست ويأخذه الى العشاء. وفي الدار حين يصف مكتبة مضيّفه فيها بالمكتبة البورخيسية تتسع عينا زوجة الأستاذ دهشة من أنه يعرف بورخس ـ وهي، كما يخبره زوجها، متأسبنة، وكانت فكرت "في دراسة تأثير الليالي على كتّاب اميركا اللاتينية." (ص12) ويقدّم "البطل ـ الراوي" نفسه بحياة ذات شقّين، هما: شق الأحلام /الأوهام، وشق الافتراضات، التي لا يكتفي فيها بـ"تفسير" سلوكيات الآخرين ومواقفهم وافعالهم، بل يشمل بذلك نفسه أيضاً. إن "الأفكار" لاتفارقه، وهو نفسه اعتاد ألا يفارقها، وكذلك ما تقترن به حياته من "عادات" قد يجد الآخرون فيها بعض الغرابة، أو ما قد يُعدّ خروجاً على مألوف الحياة حين تكون هذه الحياة في اطارها الاجتماعي الذي يحددون. فالنوم الذي يغالبه وهو جالس بين الناس، وقد غلبه في بيت أستاذه في دعوة العشاء تلك، قد يكون ـ بحسب تفسيره لذلك ـ هو الدافع المحرك له على كتابة "دراسة عن النوم!" تحدث فيها عن نفسه "بطريقة غير مباشرة" في معرض علاجه "مسألة أكاديمية"، يجد معها أن "الموضوع خصب جداً في الليالي." (ص14) وإذ يعثر في خزانة مكتبة الجامعة المستضيفة كل ما كان متيقناً من أنه سيعثر عليه، أي "كل الأعمال حول الليالي التي أرغب في الاطلاع عليها منذ زمن بعيد، والتي ظلت بالنسبة لي متعذرة المنال" (ص15)، يشعر بالاحباط: "لا مفاجأة في الأفق، لا لقاء غير منتظر، لا صعقة عشق." (ص16) ويجد في الأمر مفارقة أخرى: فهو هنا في أميركا لدراسة الأدب العربي، فإذا هو يتمثل نفسه من خلال السندباد البري، لا البحري. فإذا كان السندباد البحري في كل رحلة "يعيد خلق نفسه وخلق العالم"، فإنه هنا كالسندباد البري: "حمّال بائس ينوء تحت ثقل تراث منفصم انفصاماً واضحاً عن العالم الحديث." (ص17)
أما الأميركية (إيدا)، التي التقاها في بيت أستاذه، على دعوة العشاء فتشغله تفكيراً، ولكن من جانب سلبي يتمثل بما وجد فيه احتقاراً منها له. ومع ذلك فإن الشك في ذلك يعود به الى نفسه: "قد تكون بعثت لي منها ما لم أحسن تأويله ولذلك كانت غاضبة!" (ص18) ويضع أمام نفسه أكثر من طريقة لعقد الصلة والحوار، وخصوصاً بعد أن التقاها ثانية مع أستاذه في الجامعة فواجهته بإشاحة وجهها عنه ثانية .. ولكنه يتردد، فيعزف.
المفارقة الأخرى في رحلته هذه هي حين بدأ يُحاضر. فقد كان يفترض أن "الليالي معروفة ومحبوبة عند من ينصتون" إليه. إلا ان شيئاً من هذا لم يكن .. فأربكه الأمر بعض الشيء، كما يقول. فأن يجهلوا لا الأدب العربي ـ وهم على جهل به ـ بل "الليالي، الكتاب العربي الأكثر ترجمة الى لغتهم" (ص22) فذلك هو ما جعله يجد وضعه "على شيء من النشاز: أمتلك معرفة عن الأدب العربي، وهذه المعرفة هي بالضبط ما يفصلني عن جمهور مستمعيَّ" (ص23)، فإذا به يشعر، وهو في وضعه هذا، بأنه ينوء تحت موروث لا ينفعه في شيء.
*البحث.. والتواصل
وتأخذه "مهنة" الباحث المدقق في أصول الأشياء وهو يقرأ نصاً يعده مضافاً الى نصوص الليالي، وقد وقع الى نسخة فريدة منه، فيذهب الى أنه (النص) "ربما أراد القول إنه يشبه حكايات الليالي، وتصادف فيه أسلوبها، وهو بالتالي جدير بالوجود صحبتها." (ص29) وتجتذبه مسارات التقصي فيمضي فيها بالروحية ذاتها التي هو عليها في الكتابة لنجده يقترب، في بعض ما يكتب، من أسلوب البحث النقدي، كمثل قوله: "وبهذا الصدد فاسمه، نورالدين، موجود في الليالي، لكنه يشير الى شخصية لا تشترك معه في شيء. إنه اسم ذو دلالة من حكاية تنتهي بدخول البطل أرضاً حالكة، أشبه بليل الجاهلية." (ص31) واصفاً الحكاية، التي يدور البحث حولها، بكون "بيئتها بيئة حلم." مضيفاً ما يمكن توصيفه، أسلوباً وطريقة، بالقراءة التحليلية، إذ يقول: "على مستوى آخر، تلزم ملاحظة أن الحكاية في غاية التكثيف والتلخيص، لا لأنه لا توجد حكايات قصيرة في الليالي، بل لأن هذه الحكاية، بايجازها المحيِّر، لاتشبع نهم القاريء. ليس فيها تلك الأشكال من الإطناب، والتكرار المميّزة لـ الليالي." (ص32) وبعد أن يحاكم صيغة النص، التي يجدها قد خرجت في غير مكان وموضع عن سياقات الليالي، يأخذ على "مدوّنه" أنه "قد ارتكب خطأ فظاً لما لم يأخذ بالاعتبار العادات الأسلوبية الأولية التي تجعلنا نتعرّف فوراً على حكاية من الليالي." (ص33)
ويتوالى الموقف النقدي مصاغاً بلغة احترافية واضحة جملةً، ومحددة مصطلحاً .. حتى يواجه ما يدعوه بـ"مسألة ثقافة المؤلف" المدوِّن لهذا النص، فيعود بالاشارات الرمزية فيه الى ما ينسبها إليه من "مرجعيات" بعضها يحيل الى أعمال أدبية معروفة، أو الى شخصيات فكرية.
فإذا كانت هذه هي محاضرته الأولى، فإن محاضرته الثانية تناولت ما دعاه بـ"محظور السؤال"، و"محظور ذكر اسم الله أثناء بعض الأسفار الخارقة." (ص34) ويمتد "البعد الثقافي" وتاثيراته في سلوك "ايدا" التي سيلتقيها مرة أخرى صحبة السيدة هاموست وهو يخرج من القاعة، فباعدت عنه ... لتكاشفه السيدة هاموست بالحقيقة، وتقول له إنه يحبها .. وهي لا تحب الرجال لأنها ترى جميع "الرجال أشرار ولا ينبغي للمرأة بتاتاً أن تثق بهم".(ص35) وتكشف له عن حقيقة هذا الموقف بأنه "أصابها من قراءاتها". من "إيما بوفاري" التي لا رجل هبّ "لاغاثتها في معاناتها، أو دعمها في محنتها"، فتوطن لديها اليقين "أن امرأة لن تجني من معاشرتهم إلا الخيبة والمرارة". (ص36) وقد كرست هذه القناعة عندها أعمال روائية اخرى قرأتها.
إلا أن أستاذه الذي اسمعه بيتين من الشعر العربي يقول الشاعر فيهما:
إنْ يوماً احببتَ امرأةً لا تسْــعَ إليهــا منتابا
امكث في بيتك لا تبرحْ هي يوماً تطرقُ البابا
فامتثل لنصيحة الشاعر (أو أستاذه الأميركي)، وبقي ليلة سفره في غرفته لم يبرحها .. وقد غلبه النوم فنام. وعند المغادرة أخبرته الحارسة الليلية "أن امرأة شابة كانت قد جاءت" لتراه. "صعدتْ وطرقت بابك، لكن لما لم تفتح، ظنّت أنك قد خرجت. نزلت بعد ذلك وانتظرتك طويلاً." (ص45) وبالمغادرة عائداً من حيث جاء ينتهي الفصل.
أما الفصل الثاني الذي يعنونه بـ"الجنون الثاني لشهريار" فيبدأ بحكاية أخرى، حكاية بطلها أحد طلبته (اسماعيل كملو) وقد شرع بدراسة عن ألف ليلة وليلة التي يقول من تفحصوها "بأنها لا تخلو من أصالة. لكنهم ياخذون عليه أنه يشوّش، بدون تبصّر، الأسلوب المعتاد للبحث الجامعي." (ص47) ويزيد في وصف "اسماعيل كملو" فيخبرنا عنه بأنه كان "طالباً لامعاً، انفعالياً ورهيباً، من أولئك الذين، لاعتبارهم أنفسهم متفوقين على الأساتذة، يروق لهم ضبطهم في حال الخطأ". ويعترف بأنه قد خلق "المتاعب طوال أول سنة كان فيها من" طلبته.(ص47) ولكنه يتوصل الى "إبطال مفعوله" ـ على حد تعبيره. كان يبحث عما هو غريب ومجهول حتى في قراءاته. وفي "بحث الاجازة" قدّم لأستاذه بحثاً اعترف أمامه "أنه عالجه ببراعة". (ص48) وفي موضوع أطروحته، يوم سجلها، "قرر الاشتغال على الليالي". (ص49) وقبل الاشراف عليها، وإن كان قد ضاق ذرعاً بكل ما يُكتب أو يقال في هذا الموضوع بعد الذي كُتِبَ فيه. وقبوله هذا لم يكن عن حسن نيّة، وإنما ـ كما يؤكد ـ "كنت أريد أن أصفّي أموري معه." (ص50) وهنا يدخل ثانية، من خلال تلميذه في هذه المرة، في مجالات البحث الأدبي ـ العلمي، فيذكر من المصطلحات، ويشير الى مراجع قد يجد فيها القاريء المعنيّ المتعة والفائدة ـ مما قد لا يجده في أعمال روائية أخرى. إنه يضع الكثير من معطيات البحث العلمي في سياق روائي، ما يجعل العمل أقرب الى القاريء النخبوي واهتماماته.
إلا أن الأستاذ يرتاب من عمل تلميذه من خلال جملة استفهامية وردت في رسالة موجهة إليه. فيستبد به الهلع وهو يجد فيها "أطروحة قائمة على مخادعة!". (ص53) هكذا يأخذ المسألة: فالطالب، كما يبدو لأستاذه، "يهزأ بالمؤسسة الجامعية". أما رسالته التي ستناقش، وتنال "ميزة مشرّفة جداً"، فستكون ـ بناءً على الشك الذي أخذ يساور الأستاذ ـ "المرة الأولى في تاريخ الجامعة التي يقدَّم فيها تخييل بمثابة أطروحة، ويُعتبر أطروحة .. وبعد نشرها ستُقرأ، وستُكتب عروض عنها، وذات يوم سيذهب واحد ليتحقق، ثم سيهتف بالخديعة." (ص54) وما سيجره ذلك من تبعات بدأ الأستاذ يخشاها ـ من باب التحوّط للأمر قبل أن يقع. وهي مجرد شكوك، وتوجسات، وأوهام.. ليس إلا!.
وكما أنه لم يطّلع على الأطروحة إلا ليلة المناقشة، كذلك كان حال لجنة المناقشة المؤلفة من أربعة أساتذة كانوا يتفجرون غضباً منه .. وكانت "العلة الحقيقية لغضبهم ... أن كل واحد، في تقريره، دون أن يقرا الأطروحة، وتحت قناع تقديم عرض عنها، قد تكلم عما لم يقله كملو: نسبوا إليه أفكاراً، وتفصيلات، وتحاليل كانوا هم مؤلفيها". (ص55) ويتساءل الأستاذ المشرف وهو يسمع هذا، ويقول: "ماذا جرى؟ هل جرفهم خياله؟ أو أنه لا يمكن الحديث بتاتاً عن الليالي دون تدليس، وتحريف، وخيانة؟" (ص56) ومن ثم يلخص مقالات الأطروحة، وتداخلاتها، والنتائج التي تخرج بها .. كما يدوّن خلاصة بما سجله زملاؤه في مناقشاتهم .. وفي الحالتين نجد الكثير من الأفكار المبثوثة في الصفحات، والاحالات، التي قد لا يدرك بعدها الحقيقي إلا قاريء على جانب غير بسيط من الثقافة النقدية التي تساعده على ذلك. (ص:56ـ67،67ـ69)
*اختلال المعادلة
وفي الفصل الثالث الذي يضعه تحت عنوان "معادلة الصيني" ينطلق من حالة شخصية مدارها السكن. واول ما نلاحظه فيه هو اختلاف أسلوب السرد عما كان عليه في الفصلين السابقين، وإن لم يتخلّ الراوي عن استخدام "مصطلحاته" ذات الخصوصية المنهجية، حتى في توصيف الحالة مع جارته ـ التي "يبدو أن لا شغل لها سوى ترصدي". (ص72) ومن خلال ذلك يمضي السرد: عن المكان، وشاغليه، وعلاقته به، وبهم. ثم يعود الى تلميذه اسماعيل كملو من خلال أوراق وتعليقات كان من شغل المكان قبله، بينها مقال له مستنسخ راح يتابع تعليقاته عليه (التي هي من صلب اهتمام الأستاذ ـ الراوي)، ليستنتج من تلك التعليقات أن كاتبها (وهو طالب صيني) مهتم بالرحالة ابن بطوطة ورحلته التي سيتوجه اهتمام الراوي من الليالي إليها، فيقف عند أطراف منها، وخصوصاً تلك التي وجد لها صلة بما هو عجائبي أو غرائبي.
ونجد كل شيء عنده يخضع للأسئلة: الكتاب، والفكرة، والرأي، والهامش الذي قد يكون في ورقة من بحث أو على صفحة من كتاب. وكذلك الأمر بالنسبة للنزيل السابق فيه، والجارة وطبيعة علاقتها به (الرفض والصدود حدّ الاشمئزاز)، التي سرعان ما تتغير وجهاً وجوهراً بحكم مصادفة أضطرتها أن تطرق بابه لتسلمه مفتاح صندوق الرسائل الذي كان قد نسيه على الصندوق .. "وإذا بعهد من السعادة ينفتح أمامهما (...) يمضيان لحظات جميلة معاً، كل من نافذته. عاطفة تولدت. حب دون شك." (ص80) ليختتم الحالة / العلاقة بما هو أقرب الى التهويم الشعري ـ التخييل وهو يغادر الى المطار .. بينما غادرت هي ... الى أين؟ الى عمارة أخرى، كما يتصور .. وقد رآها ـ كما يكون قد رأى ـ "المرة الأخيرة كالأولى، في اطار نافذة." (ص86)
أما الفصل الرابع والأخير، الذي يضعه تحت عنوان "رغبة تافهة في البقاء" (الذي سنعرف من بعد أنه عنوان ديوان شعري له صدر باسم زميل قديم له!)، فستعود "عايدة" الى الظهور ثانية بعد أن خلّفها، وخلفناها معه، في الفصل الأول من الرواية. وها هو يعود ثانية الى أميركا لاكمال دراسته الجامعية العليا، ويكون موضوع أطروحته عن "مؤلفي ألف ليلة وليلة" .. سجله دون أن يتبين المصاعب التي سيواجهها ـ كما يقول. (ص89) في هذا الفصل، أكثر من سواه، هناك الى جانب الواقع التخييل والتوهم: "كان الليل، والشوارع تفرغ، ورذاذ مطر يسقط. فجأة، لمحت على يميني، رؤية عابرة، متشرِّداً. تابعت سيري، لكنّ الوجه الذي لمحته لم يكن غريباً عليّ. عُدت على عقبيّ: كان ذلك انعكاسي على مرآة واجهة من الواجهات. دهشة: هكذا يراني الناس! حال كئيبة، أنا حقاً موضع للّوم والاحتقار. عايدة لها الحق في رفض مصافحتي." (ص96)
ثم يأتي التفحص، وتكون المعاجة: "لا ينبغي لي التوقف طويلاً أمام ذاتي، لكني كنت مسحوراً بصورتي وظللتُ تحت المطر، كأنني أقيس مدى سقوطي. فجأة تلاشت الصورة ومحلّها انبثقت صورة لوبارو، باسماً ببياض أسنانه البهيمي. التفتُّ. كن هنا." (ص96) في هذا السياق تأتي حكاية الديوان المطبوع، وأعمال أخرى تنتظر النشر ... والمساومة أيضاً! ليدخلنا عالماً يبدو على شيء من الغرابة. غرابة العلاقات التي تعم فيه في ما يخص: علاقة الأديب بالأدب، والمثقف بالثقافة. وانطلاقاً من نظرته الى كل من الكاتب، والشاعر في نطاق ما يكون به/ ومن خلاله كل منهما، يبرز الموقف النقدي للكاتب مرة أخرى وهو يتكلم على القصيدة: "... القصيدة مفروض فيها التعبير عن فردية، وحساسية فريدة." (ص104)
وتأتي المفارقة الكبيرة حين يعرض عليه صاحبه (وصاحب الديوان المنتحل) أن "يُعيره" اسمه، مرة أخرى، ليضعه على ديوان جديد كان قد كتبه. ويصادف أن يحظى الديوان بمقدمة من اسم معروف يتيح له الذيوع والشهرة، و"يصاحبه" الاهتمام والفرص التي لا تتاح إلا لمن يُقرّ الوسط الثقافي بأهميته. وهذا ما كان بالنسبة لـ"لوبارو" و"الديوان المنتحل" الذي سيجعله يواجه المأزق في الأسئلة الدقيقة التي تُطرح عليه، من الصحافة أو في الندوات التي تقام له. وكان أصعب سؤال واجهه ـ ووجد فيه صاحبه الأصل العزاء لنفسه ـ هو: "متى الديوان القادم؟" الذي كان عاجزاً عن الجواب عنه. (ص105) ويقدم هو، في هذه المرة، ديوانه الى أحمد ناصر (الذي كان وراء شهرة "لوبارو"، يقرؤه، ويعلّق على ما يقرأ بروح فيها من الثناء ما يكفي للإقرار بالنجاح. ولكن تأتيه "الضربة القاضية"، كما يدعو كلمة ناصر التي يقول له فيها: "أنت تملك صوتاً، شعرك .. سرديّ، نعم، تروي في كل مرة لحظة ممتازة، شذرة من حكاية مؤثرة. تكتب نوعاً ما مثل عمر لوبارو. من الواضح أنك قرأته جيداً وتمثلت طريقته." (ص110) ليجد نفسه محكوماً عليه بان يكون محاكياً للوبارو، ومقلّداً ـ "وحتى لو تمكنت من نشر ديواني سأبقى في ظله، أكتب على طريقته". ليس فقط لأنه غصبه ديوانه رغبة تافهة، "بل هو عقبة أيضاً لكل ما سأنتجه في المستقبل." (ص110) ويكون الخيار المرّ أمامه: "مفروض عليّ أن أكتب بطريقة مختلفة، أن أغترب عن ذاتي، أتخلى عن صوتي لأتبنى صوتاً آخر. لكن سيكون ذلك كارثة، ما لي إلا صوت واحد، وحيد." (ص110)
ويواجهه الناشر بأنه لا ينشر أشعاراً، وأن نشره عمل "عمر لوبارو" كان "بسبب ذلك الفظ ناصر الذي صوّره لي شاعراً واعداً". (ص111) وهنا تكون "قمة السخرية"، كما يراها: " لكي أنشر ينبغي لي من جديد أن ألجأ الى اسم لوبارو .. شعري يوائمه أفضل مني." (ص111) إلا أن الناشر يُحبط عنده حتى "أمله" هذا حين يُخبره، بما يجد فيه مفارقة كارثية، أن "لوبارو" أودع لديه "مخطوطاً يتضمن القصائد نفسها، ولو أنها مرتبة ترتيباً مخالفاً وبعنوان مختلف". فيجد أن "لا بدّ من استيضاح هذا." (ص111ـ112) ويقع المأزق الكبير له في مشاركته في ندوة عن "ديوانه" المنسوب الى سواه، وقد خرج من هذه الندوة شبه مخذول. إلا أنه "بدل العودة الى البيت" يمكث "في الحديقة"، وهناك يتقرر تصميمه، قراره، على أن لايشارك في أية ندوة، لأنه كلما تكلم الى الجمهور يولّد عدم الرضا .. ويجد أن العالم لا يلائمه، ولا يريده. (ص118) وأمام من يكون ذلك؟ "أمام عيني عايدة" التي تخرج من القاعة، وتنعطف نحوه لتأخذ مكانها جنبه، وتخبره "أنهم تواً تحدثوا كثيراً عن مداخلته، منبهة إياه الى أنه "أخطأ في الانصراف بتلك العجلة". ويكون لناصر دوره في هذا الانعطاف. ثم تُسمعه مكالمة بصوته مسجَّلةَ على هاتفها، يصارحها فيها بحبّه الصادق لها وهو يقول: "أنا مجنون بك".. في وقت لايدري فيه كيف، ومتى حصل هذا، فهو لا يعرف رقم هاتفها .. ما يُدخله في دوامة أسئلة مع نفسه مثيرة للبلبلة والاضطراب الذاتي، مصارحاً ذاته بالقول: "هكذا توجد أفعال تُفلتُ مني، أرتكبها في حال غير طبيعية، ولا تترك أثراً في ذاكرتي." (ص121)
إلا أنه ما أن يعاود الاستماع الى الرسالة حتى يجد ما تلفّظ به لا يعدو كونه ـ بحسب قوله ـ "تبذلات"، منكراً على نفسه "سنين من التكوين الأدبي لأفضي الى هذه النتيجة." (ص122) "في تلك اللحظة غادر لوبارو، بدوره، قاعة المحاضرات، مقطّباً، كان يتردد في مقاطعة خلوتنا". وظلت عايدة تسلك سلوكاً لطيفاً معه، "وتريد بلطف أن تقول لي لا تفعل ذلك ثانية". (ص123) ويواصل الاستماع آلياً "الى الرسالة. وفجأة شعرتُ بما يُشبه رجة، صدمة بحيث أفلتَ المحمول من يدي (...) الصوت الليلي كان يستعمل الراء باللثغة، فيما أنا أردد الرّاء! كان هذا الدليل الدامغ على أنني لست صاحب المكالمة. الراء المرددة كانت علامتي الفارقة، غير القابلة للمحو (...) الصوت المألوف في الهاتف كان صوت لوبارو. صوته ولغته مصوغان بالطبع كقصيدة (...) ذلك هو الشعر الذي يَقْدَر عليه، وكان للأسف شعراً بدا أن عايدة تُقدّره. (ص123ـ124)
ويجد في الأمر "فرصة ثأر جيّد من لوبارو تسنح" له. "سلبني رغبة تافهة (في إشارة الى عنوان الديوان الذي انتحله). جاء دوري لتبني قصيدته الليلة. سنكون متخاصمين." (ص124) ويجد نفسه "أمام اختيار، اقول او لا أقول الحقيقة. لكن أية حقيقة؟ في عينيها رغبة مجنونة. حسمت: "نعم بالفعل أنا." (ص125)
*القراءة: أبعاد ومعاني
قد يبدو الأمر للوهلة الأولى وكأن الكاتب يؤدي مهمة مزدوجة: ففي الوقت الذي يكتب فيه عملاً روائياً، أراده متميزاً مادة أدبية وموضوعاً، نجده قد حمّله شكلاً من أشكال العلاقة بين "الذات القارئة" و"الأعمال المقروءة"، واضعاً فيه خبرته النقدية من خلال تناول الأعمال التي يشير إليها تناولاً داخلياً يتضمن فحص مكوناتها، وتحليل بناها الفنية والموضوعية ـ وإن جاءت بطريقة تخدم المبنى الروائي للعمل. فالنظرة النقدية التي يبثها الكاتب هنا لا تنطلق من محددات نظرية تهدف الى تعميق قراءة القاريء للعمل المطروح موضوعاً، وإنما يتخذ من هذا العمل "وسيلة" للوصول الى معانيه التي يريد تأكيدها بما يجد لها من أبعاد. وإذا كانت القراءة النقدية تتحدد عادة بسياقات ثقافية ومعرفية، فإن الكاتب في عمله هذا قد استخدم محصلات/ نتائج هذه السياقات في بناء الجانب الفني من عمله هذا (المصنّف روائياً)، بما جعل له خصوصيته. فالقراءة التي يقوم بها الكاتب هنا نتاج سيرورتين: سيرورة الطاقة الفكرية للعمل بذاته، والقائمة على أساس فكري ـ نقدي.. وسيرورة تطويع المقروء/ المستنتج منه، والمبني عليه، للصيغة الروائية.
إن الكاتب، في عمله هذا، لايُقدّم صياغة لرؤية نقدية، بل يعتمد صياغات هذه الرؤية ونتائجها في بناء رؤية روائية فكرية المنهج. وهو، أي العمل، يعتمد في هذا على ثقافة كاتبه، وهي ثقافة سبق أن تعرفنا الى أصولها المعرفية من خلال كتبه التي اعتمد فيها القراءة المرتكزة الى نظريات وأصول نقدية، وقد جعل من نتائجها منطلقاً لبناء رؤيته الروائية في هذا العمل. فهو، كما في كتبه النقدية، يعتمد في بناء رؤيته الروائية ثقافة متعددة المكونات، إذ إن الثقافة فيها تتعدد وجوهاً ومعطيات بتعدد الشخصيات، بما يجعل العمل يتحرك/ ينبني بعنصرين: ثقافي له بُعده النقدي، وفني يتحقق من خلال/ وبهذه المعطيات.
*الرؤية من أفق الابداع
غير أن السؤال الأهم هنا هو عن طبيعة الرؤية التي يقدّمها للعالم، والموقف الذي للانسان فيه إزاء العالم، وينبني عملاً أدبياً بها/ ومن خلالها؟ قد يبدو السؤال ذا طبيعة فكرية أكثر من كونها فنية ـ جمالية (كما يُفترَض أن تكون في عمل أدبي). ولكن، ألا يُفترض بالعمل الأدبي أن يتضمن منظوراً معيناً للأشياء ـ بما فيها العالم، وموقع الانسان فيه، ومنظوره له، أو موقفه فيه/ منه. وحتى دوره فيه كما قد يُحدده لنفسه، فيتشكل من هذا بُعده الفكري؟ ينبغي أن نأخذ عملاً كهذا بتميزه، واول ما يتميز به هو أنه عمل يخلق فضاءه الخاص به، وهو فضاء ثقافي ـ معرفي ذو بعد نقدي.. أو لنقل: إنه يقوم على رؤية نقدية في ما يُقدّم من قراءة لنصوص أخرى، ولما ترتبط به/ أو تُصدِرُ عنه تلك النصوص من واقع، ما قد يجعل من هذه القراءة رديفاً لما يمكن أن يُقدَّم فيها من قراءات.
وفضاء هذا العمل يتعيّن في غير بُعد: فهناك، إذا شئنا التعيين، البعد التكويني الذي يفتح أمامنا بابين، هما: باب الموجود، قارئاً ومقروءً .. وباب الوجود الذي يتشكل مما تقدمه القراءة التي يقوم عليها العمل لنصوص قائمة بذاتها، وليست افتراضية. وهناك الفضاء الجمالي الذي يقوم، هو الآخر، على بعدين: بُعد القراءة لنصّ آخر (هو ألف ليلة وليلة)، وبُعد إقامة العمل (الرواية) على هذه القراءة وما لها من نتائج. وهنا يتحرك الاحساس بالجمال، وما هو جمالي، مرتين عند القاريء: فمرة من خلال القراءة التي تتم له من قبل كاتب العمل، ومرة من خلال انبناء هذه القراءة على ما يتحقق لها من بُعدٍ جمالي ـ تكويني يؤلّف العمل ذاته. فإذا ما ذهبنا في ما هو أبعد من هذا سنقول: إن الكاتب قد بنى في عمله هذا سلّماً من القيم النقدية القائمة على/ والمستمدة مما هو "معرفة نقدية"، ليجعل قراءته تتم (من قبلنا نحن قراءه) على الأساس نفسه الذي انبنى عليه. فهو يُفرغ فيه محمولات فكره النقدي جاعلاً منها أساساً لثقافة قارئه، ومنطلقاً لقراءته على نحو ما يرى ويريد. فالكاتب هنا يكتب عملاً روائياً له مقوماته الفنية، ومن داخل ذلك يمارس مهمته ناقداً بالكشف عن تجليات النص المقروء ـ وقد وضعه أساساً للعملية الروائية، فانتظم في سياقها، ما جعل بنية عمله بنية مزدوجة: فنية المبنى ـ سردية الأسلوب .. ونقدية ـ تحليلية في انبنائها العام.
ولعل السؤال الذي يثار هنا هو: لماذا اختار الكاتب الصيغة الروائية، بل الفن الروائي لـ"تمرير" أفكاره النقدية ورؤاه الفنية؟ هل أراد الايحاء الى قارئه بأن قراءة عمله هذا ينبغي أن تنتظم في سياقات مثل هذه الرؤية النقدية ـ التحليلية ليكون لها مؤداها، كما أراده؟ أم أراد التأكيد بأن رؤيته العالم، وهي تنتظم في مثل هذه السياقات، لا تستقبل العالم، ولا تتفاعل معه من خلال نظرة تبسيطية للعلاقة بين النص المقروء والقراءة (التي أنتجت العمل)، بل إن هناك ما ينبغي اكتشافه للكشف عن علائق أخرى بالعالم ترسم حدود هذه العلاقة، أو تفتح آفاقها؟ أم أن الأمر لا هذا ولا ذاك، بل هو عملية تحديد للبعد الاجرائي لمفهوم "التناص" من خلال ما عمد إليه من "عملية تركيبية" عبر ربط النص المقروء بجذوره الأولى؟ ذلك أن "احالاته الرمزية" كانت الى "نصوص" أكثر منها الى "واقع". يؤكد هذا بحث الكاتب في "مراجع" النص المحال إليه، وفي احالاته أيضاً، مستخدماً طريقة "التنصيص" أو "التضمين" ـ الذي هو طريقة من طرائق ربط نص بآخر، ووضعهما في "سياق نصي" جديد. وهو هنا لا يكتفي بالعملية هذه في حدودها المعروفة، وإنما يتخطى الى "محاورة النص" و"الجدل" معه. فما يريد إحداثه، كما يبدو من خلال ذلك، هو تعميق النظرة النقدية للنص المقروء، ما قد يشير الى أن تركيز الكاتب، هنا، ينصب على بناء وعي نقدي، ليس في عملية بناء العمل الفني وحده، وإنما في عملية قراءته / تلقيه أيضاً... وهو ما يتعيّن به/ ومن خلاله جوهر الفعلين: الفعل الروائي، والفعل النقدي (المضمَّن داخله ـ في سياقه)
*للرؤية بعد آخر
من جانب آخر يمكن أن نقرأ في هذا العمل أزمة الثقافة العربية بين جيلين: جيل يأخذ الموروث من باب تفسيره تفسيراً جديداً يصل من خلاله حدود التطرف .. وقد تأخذ المفسِّر في تفسيره "بوهيمية القراءة" بمتعتها، معتمداً مقاربات ذات بعد تخييلي (كما في حالة كملو الذي لا يعاين العمل الذي يقرأ في "حالته كما هو"، وإنما يبحث عما هنالك من "خصائص داخلية" قد لا يشكلها "العمل بذاته"، وإنما تشكلها "القدرات الادراكية" لقارئه. فهي قراءة تفتح فضاء العمل على تفسيرات ليست سائدة في القراءات المعلومة، مؤكداً في الوقت ذاته ما يمكن أن تنتجه "قراءة مغايرة" لعمل تعددت قراءات قارئيه ـ كما هو حال "ألف ليلة وليلة" بما فيها من بنى تخييلية مساعدة يمكن للقراءات، مهما تعددت، أن تستخلص منها المعاني، وتنتج معايير القراءة ـ في بعدها النقدي).. وجيل يأخذ نفسه بتفسيرات محاذية للنص المقروء، فيحلل ولا يضيف، ويستخلص ولا يعيد بناء المعاني بما ترسم دلالاتها، بحسب القراءة الأولى، من أبعاد جديدة.
وفي المحصلة، فإن الكاتب يخلق في عمله هذا/ ومن خلاله أنساقاً جمالية وأدبية تحقق، بدورها، بنية روائية جديدة، الرؤية الروائية فيها صنو الرؤية النقدية. كما يجعل الخيال هنا مزدوج الحضور: فهو "خيال نقدي" ـ إذا جاز التعبير ـ في إطار خيال ابداعي يُدخله في نطاق العجائبي، إذ يبدو محتوى العمل، وآفاق الرؤية متلازمين فيه مع العجائبي، حالة ومفهوماً، متحققاً في ذلك المسار الذي اتخذه البطل ـ الراوي عن نفسه والآخرين ـ بين الممكن وممكنات تحققه، وبين الحقيقي وما يرتفع الى مستوى التخييل ـ وإن كان لا يخالف الحقيقة، ولا يخرج عليها، وإنما يضعها في مستوى قابل للتصديق، وإن كان غير مألوف التحقق.. فهو لا يجعل منه خيالاً صرفاً، وإنما يقدّمه كونه "حدثاً" وقع، أو "واقعاً متعيّناً"، وكأن "الفعل" هنا جاء متماهياً مع "النصوص العجائبية" التي وقع إليها الكاتب، واعتمدها العمل.
فإذا ما أخذنا العجائبي ـ بحسب "تودوروف" ـ في أنه ذو موضوعات خاصة تنحصر في شبكتين: شبكة "الأنا" التي تمثّل وعي الذات بالعالم الخارجي ( وذلك من خلال بحثها في مقولات مثل: الموضوع، والفضاء، والسببية، والزمن)، وشبكة "الأنت" التي تعي فيها الذات نفسها، وتدرك رغباتها المرتبطة باللاشعور ... وجدنا هذا العمل وثيق الصلة والارتباط بالعجائبي، مفهوماً، من أربعة وجوه:
ــــــ فوجه نحو المتلقي، بما يعمل الكاتب على تحقيقه من أثر عليه، جامعاً، في توجهه هذا، بين المألوف واللامألوف، وبين الحقيقي وما يقع موقع المتخيَّل، وذلك من خلال ما يشيع من رؤى تنطوي على مبدأ احتمالي في تقبّل الحدث.
ــــــ وهناك الوجه الجمالي لهذا العجائبي بما يستثار داخل العمل من اجتماع عالمين: عالم المألوف، والعالم المتخذ بُعداً غرائبياً.. ومن تجاور هذين العالمين ينشأ النص: يتكوّن، ويتبلور صورة ومحمولات معنى.
ـــــ والوجه الثالث هو قدرة هذا العجائبي على الارتفاع بمستوى السرد داخل العمل، فضلاً عن إشاعة عامل التوتر .. معتمداً في هذا ما يذهب إليه "تودوروف" من أن "كل محكيّ هو حركة بين توازنين متشابهين". فهو يبدأ من توازن أولي (حالة الوصول والاستقبال) ثم لا يلبث، هذا التوازن، أن ينكسر (حالة "أيدا" ونومه). وإذا كان "تودوروف" يرى ان استمرار المحكي (السرد) رهن بكسر التوازن ـ الذي لا بدّ منه في مثل هذه الحال ـ فإن هذا هو ما يتحقق في العمل ـ المؤسس أساساً على المألوف، ويمرّ بغيره، ثم ينتهي الى الجمع بين الاثنين (المألوف واللاـ مألوف) جمعاً محكوماً بالتوتر.
ــــــ والوجه الرابع، الذي يحكم الطبيعة الأدبية للعمل، هو: ما يتيحه العجائبي للمسرود من قدرة على التنويع تدرأ عنه الرتابة. ويتمثّل هذا الوجه، أكثر ما يتمثّل، في توالي الحكايات: فهو يبدأ بحكاية لينتهي بأخرى بعد أن يمرّ بسواهما. وهذه الحكايات كلها سرد أساس، وليست تفريعياً إلاّ في ما يحكم عامل التواصل بينها (حالة البطل ـ الراوي). وهو في عملية التتابع الحكائي هذه يعيدنا الى طبيعة تركيب "الليالي"، من ناحية، ويحقق تواصل التوتر داخل عملية السرد، وبين المسرود والسارد، من ناحية اخرى، معتمداً في هذا عامليْ المفاجأة والاكتشاف، فضلاً عن تحقيق التنوّع داخل العمل ذاته، وبما يُعمّق العلاقة بين القاريء والمقروء (الذي هو، هنا، بنية تركيبية ذات أبعاد متعددة). وإذا أخذنا هنا بما يذهب فيه "تودوروف" من أن أهم عناصر تحقيق العجائبي هو ضرورة اعتبار عالم شخصيات النص عالم أحياء حقيقياً، فإننا نجد هذا العنصر متحققاً تحققاً كلياً في العمل ـ الذي يتحرك ضمن نطاق الوقائع الواقعية.
ونرى ان لهذا العمل أسئلته: فمن هذه الأسئلة ما هو معرفي يقع في نطاق الوجود بما في هذا الوجود من حضور انساني ... ومنها ما يتقصى علاقة الذات بالآخر، من طرف، وبالعالم، من طرف آخر...
ـــــ واول هذه الأسئلة السؤال عن الكيفية التي بها يمكن أن نحقق "توظيف" ما يستجد في المجالات المعرفية الأخرى في عمل فني ـ كالعمل الروائي الذي هو جنس أدبي خاص بذاته تكويناً وعملية فنية ـ والتحوّل بالسرد داخله من "وظيفته" المعتادة الى وظيفة اخرى (الحقل النقدي في حال هذا العمل).
ــــــ والسؤال الآخر هو عن القدرات الكامنة في السرد، كما في لغة الحوار ـ كعنصرين أساسين في العمل الروائي، يساعدان السارد (الروائي) في اكتشاف مجاهل لم يكن من الميسور اكتشافها، في النصوص ذاتها، بلغة النقد وبأساليبه المعتادة. فهنا، على ما نرى، يتمتع الكاتب بحرية نقدية أكبر وأوسع.
ــــــ ثم يأتي السؤال عن هذا التجاذب الواقع في العمل بين الواقعي والمتخيَّل، ومن حيث الاضافة والتغيّر تحديداً. وكذلك السؤال عما يمكن أن نطلق عليه "زمن التردد" عند "البطل ـ الراوي"، وهو تردد ذو طبيعتين: تردد بمعنى النكوص وعدم الاقدام، وحتى التراجع عما يتخذ من قرار.. والتردد بمعنى المواصلة والتواصل مع الشيء، أو الشخص، بقصد محتّم.
من هنا، وبحسب هذه القراءة، حقق هذا العمل لغته الخاصة، والتي تمثّل حضورها في العالم، وموقفها في/ من هذا العالم. بما تحمله هذه اللغة، بأسئلتها، من قدرة على فتح آفاق المعرفة واطلاقها دون النظر الى حدودها.
من هنا جاء عالم الشخصيات عالماً متميزاً، وتميزه هو من تميّز الشخصيات بذاتها، والتي "صنعت" بنفسها عالمها هذا. ومع أن الكاتب أضفى على طرائق تعامل شخصياته، مع أنفسهم والآخر والواقع، طابعاً يتصف بالخيال، أو يحمل من تكوينات هذا الخيال الكثير، إلا انه أبقى وجودهم وجوداً واقعياً، وكذلك حركتهم وأفعالهم التي لم تغادر محيطها الواقعي. وإذا كانت الشخصيات هذه تعلن عن/ وتقدّم وجودها بالكتابة/ ومن خلال الكتابة، فإن هناك من الاختلافات بينها ما هو واضح في ما يتخذ كل منها من توجه، أو يعلن عنه من موقف.
فلو توقفنا عند "كملو" سنجده يبحث عن اللاـمألوف في ما هو مألوف (وإن كان هذا المألوف، أساساً، لا ينقاد دائماً للواقع بالحقائق الجارية في هذا الواقع). ومن هنا جاءت قراءته نصوص "الليالي" قراءة تجاوز للواقع ـ واقعها من حيث التفسير ـ إلا أنه وإن قصد الخروج على الواقع بما هو مسند، أساساً، الى هذا الواقع، فإنه لم يصل الى حال تجريد ما يرى من أبعاده الواقعية. ومن هنا فإنه حقق التجاور بين الواقعي والمتخيل، وعلى نحو متلازم في غير حالة وموقف. ولعل ما عزّز هذا (في قراءة كملو) هو أن الشخصيات داخل النصوص المقروءة، من قبله، تتعامل مع الحداث/ وتصنع الوقائع بطريقة ليست اعتيادية. وفي هذا السياق يتحرك الزمن حركتين متواترتين: فحركة باتجاه الماضي (المقروء، بوقائعه ومكوناته الحدثية)، وحركة باتجاه الحاضر (التي تخرج منه بالنتائج والاستنتاجات). أما المستقبل فيبدو هنا متلاشياً، أو ذا ظل خفيض.
ولكن، هل يمثّل "كملو"، في حالته التي تبدو متفردة في محيطه المعرفي، وعي الذات بما تقرأ؟.. وذلك من خلال: موضوع القراءة، والأبعاد التي تتشكل، عنده، للمقروء ـ وهي ما يشكل الفضاء الجامع للحدث والرؤية، حيث الانتقال من الواقعي (متمثلاً في النص المقروء ـ بحكم كونه مدوَّناً) الى فضاء التخييل العجائبي (متمثلاً في النص مقروءً)، بما "تفرزه" هذه القراءة من نظرة جديدة الى العالم تتجاوز السائد والمألوف.
هذا كله جائز ومتوقع. ولكن ما ينبغي الاشارة إليه هو أن الكاتب يمرر خطابه النقدي هذا (والذي فيه من خصوصية الرؤية الكثير) في عمله الذي ينطوي على غير قليل من الخصائص الموضوعية ـ بما يتيح التلاقي والتداخل، وربما التكامل، بين خطابين: الخطاب الروائي، والخطاب النقدي. وإذا كانت شخصيات العمل تعلن عن وجودها/ وتتقدم حضوراً بالكتابة ومن خلال ما/ ومن ينتمي الى عالمها، فإننا يمكن أن نلحظ اختلافاً واضحاً في طبيعتها/ طبائعها:
ـــــ فهناك من يبحث عن "حقيقة ما" داخل النص الذي يقرأ (كما في حالة كملو)...
ـــــ وهناك من "يُزوّر" حقائق وجوده / حضوره بالنص / ومن خلال النص المنحول (كما في حالة لوبارو) ...
ـــــ وهناك من "يقف" خارج النص: يتابع، ويراقب، مفصحاً، في الآخر، عن رؤية (قد تكون رؤية نقدية) ـ كما في حال الراوي.
من هنا يمكن النظر الى هذا العمل، سواء فيما يعتمد من قيم نقدية أو يتشكل به من رؤية ابداعية لها تجلياتها النقدية، كونه قراءة تكشف عن موقف في العالم، وموقف من/ تجاه العالم، كما يمثل موقفاً من القيم السائدة، سواء كانت أدبية مخصوصة بطابعها المحدد لطبيعتها الموضوعية والفنية، أم ثقافية ذات شمول عام. إلا أننا مهما اختلف الموقف وتعددت حالات الرؤية وازمنتها، ليس أمامنا إلا أن نقرأ هذا العمل ضمن جنسه الأدبي (الرواية) بما له من مقومات فنية واخرى موضوعية، آخذين بالتصنيف الذي يذهب الى أن الرواية سرد تخييلي، وصياغة للأفعال والأقوال التي ينتظم بها العمل الأدبي في اطاره الفني، بما لهذه الأفعال من فضاءات وارتدادات، وللأقوال من مدارات تنتظم فيها الأحداث والشخصيات، بأفعالها وأقوالها، بكيفية خاصة ـ هي ما يؤلف المبنى الكلي للعمل.
وفي السياق ذاته، ليس لنا إلاّ أن نصف هذه الرواية بكونها "رواية نخبوية"، لا من جانب شخصياتها ومنطوق أحداثها حسب، بل ومن جانب لغتها، وبناء المعاني والدلالات، بما يستدعي قارئاً على نصيب معرفي وافر ... وإلا أضاع طريق الوصول الى ما لها من موارد: بعضها يتعلق بالمصطلحات المتداولة، وبعضها الآخر بما تتحدث فيه شخصياتها، والبعض الثالث هو ما تُحيل إليه.