تقيم هذه الدراسة المهمة للباحث المصري المرموق توازنا مطلوبا بين التنظير والتطبيق والتحليل لتطرح علينا استقصاءاتها الشيقة في التعامل مع النصوص القديمة ببصيرة نقدية قادرة على توظيف معارفها الفكرية والنظرية والتراثية لإضاءة النص المدروس، وطرح هوامش معرفية حوله لاتقل أهمية وثراءً عن المتن التحليلي.

المناجاة نوعًا أدبيًّا

دراسة في كتاب «الإشارات الإلهية» لأبي حيَّان التوحيدي

خيري دومة


1- مقدمة
عرف الدرس النقدي في القرن العشرين لونين من النظر إلى أنواع النثر العربي القديم، وأساليبه، وكتابه.
أولهما كان نظرًا إلى ذلك النثر بعيون الأدب العربي القديم ومن داخله(1)؛ ضاق معه مجال الرؤية، بحيث لم يُرَ من الموروث النثري الواسع إلا ما سُمِّي "النثر الفني"؛ وانصب الاهتمام على أنواع من النثر تتحقق فيها "الفنّية" أو "الأدبيّة" من هذا المنظور،  أنواع مثل "الخطبة"، و"الرسالة"، و"المقامة"، وحتى حين نُظِرَ إلى هذه الأنواع لم يُرَ منها إلا تلك الخصائص الموسيقية التي تقترب بها من النوع الأدبي المهيمن، أي الشعر الغنائي، وانصب الاهتمام على ألوان من البيان والبديع وغريب اللغة، ولم يُلتفَت إلى ما يمكن أن يكون خصائص نثرية، كطبيعة الموقف الاتصالي بين المتكلمين في هذه الأنواع وبين مستمعيهم، والبنية السردية والثقافية الأوسع التي تعمل هذه الأنواع في سياقها.

أما اللون الثاني فكان نظرًا إلى ذلك النثر بعيون الأدب العربي الحديث،(2) الذي احتك احتكاكًا مركّبًا ومنتجًا مع الآداب الأوروبية، وتعددت فيه وتجددت أنواع الكتابة الأدبية؛ على نحو اتسع معه مجال الرؤية، فرأى أصحاب هذه النظرة في معظم ما كتبه المؤرخون والجغرافيون والمفسرون والمتصوفة أنواعًا من الأدب، وهو ما أفضى إلى إعادة اكتشاف ذلك الموروث وما انطوى عليه من أنواع كالقص والرحلة والخبر والنادرة وكتابة التأملات والسيرة الذاتية ..إلخ ، وحتى حين نظر هؤلاء إلى نوع "فني" كالمقامة، رأوه على نحو مختلف، واكتشفوا أبنيته الثقافية الأوسع.

ولقد راد الطريق إلى هذا النوع الثاني من النظر فرق ثلاثة: الفريق الأول هم المستشرقون،(3) الذين نظروا إلى هذا الموروث من خارجه، غير مكبلين بتصورات البلاغة العربية التي انبنت في الأساس على دراسة الشعر الغنائي، وساعين في الوقت نفسه إلى هدفهم النهائي: مزيد من التعرف وبعمق على الثقافة وعلى المجتمع الذي أنتج هذه الأنواع. والفريق الثاني هم الكتاب المبدعون من القصاصين والمسرحيين والشعراء العرب المحدثين،(4) الذين أخذوا يقرأون ذلك التراث، متأثرين بنظرات هؤلاء المستشرقين، ومستمتعين وباحثين عن صيغ تؤصِّل لإبداعهم الجديد نثرًا وشعرًا، والفريق الثالث يتشكل من بعض الدارسين العرب المحدثين والمعاصرين، ممن أخذوا يستخدمون أدواتهم الجديدة في توسيع مجال بحوثهم، واكتشاف أرض جديدة في ذلك الموروث النثري الواسع.(5)

2 - المناجاة
وفي إطار هذا اللون الثاني من النظر إلى التراث العربي، يأتي موضوع هذا البحث، وهو نوعٌ من الكتابة النثرية كثيرًا ما سمّاه مبدعوه، ودارسوه من بعدهم، ويمكن أن نسميه معهم: "المناجاة".(6) وحين يقال "نوع" فالمقصود أن له – ككل نوع أدبي آخر - تقاليده التي تشكلت على مدار زمن طويل، وعلى يد كتاب متنوعين؛ بحيث تبلورت هذه التقاليد وتطورت، وأفرزت مخزونًا من النصوص التي تجمعها سماتٌ مشتركة، وتربطها فيما بينها علاقاتٌ داخلية.

 ويمكن القول إن نوع "المناجاة" - شأن كثير من أنواع الأدب العربي القديم، كالخطبة والمثل والخبر والمقامة، وربما القصيدة أيضًا – كان في الحقيقة طقسًا أدائيًّا يمارَس، ويؤدِّي دورًا عمليًّا في حياة العربي، سواء كانت حياته الخاصّة أو حياته وسط الجماعة، وليس مجرد نوع من الكتابة الأدبية التي يتحدث فيها الكاتب إلى قارئ مجهول. غير أن المناجاة – وعلى خلاف معظم الأنواع النثرية – كانت أقرب ما تكون إلى الممارسة الشعرية الغنائية التي يُفترض أن يتحدث فيها المتكلم إلى ذاته، بينما يتسمع إليها - عرَضًا – جمهورٌ من المستمعين أو القراء، أو بعبارة أخرى كانت المناجاة (الصوفية خصوصًا) – وعلى حد تعبير أدونيس – "تجربة في الكتابة أكثر مما هي تجربة في النظر".(7)

"المناجاة" إذن نوع من الكتابة أو من القول يتحدث فيه المتكلم كثيرًا، لكنه حديث أقرب إلى الصمت أو السرية.(8) المناجاة ممارسة تقع بين الدين والأدب؛ فكما أن الدين فعلٌ وقولٌ يجسِّدان نوعًا خاصًّا من العلاقة الروحية بين العبد وربه، فكذلك المناجاة: فعلٌ وقولٌ يجسِّدان نوعًا خاصًّا من العلاقة بين شخصين، أيِّ شخصين: بين شخص وربه، بين شخص وشيخه، بين شخص وخصمه، بين شخص ونفسه، أو حتى بين شخص وشجرة.

وهذا الأمر الأخير، هو الذي حوّل "المناجاة" من مجرد "نوع" تاريخي ثابت من الممارسة الكتابية أو الأدبية ظهر في زمن محدد وله خصائص واضحة، إلى "صيغة" مرنة صالحة لتجاوز الزمان والمكان، وللعمل في أنواع أدبية متعددة؛(9) وهكذا يصبح من الطبيعي والمألوف أن نسمع عن المناجاة على المسرح، أو في الرواية، أو في القصيدة؛ كما أن هذا أيضًا ما يحول المناجاة من مجرد دعاء وابتهال في اتجاه واحد من العبد إلى ربه، إلى لون مركب من الشكوى والتردد والغضب واللوم والتقريع والخوف وإن ظل في سياق التوجه الدُّعائي الابتهالي؛ وهذا الأمر نفسه، هو الذي يدفعنا الآن، إلى البحث في تقاليد هذا النوع من الكتابة في نثرنا العربي القديم.

ويعلّمنا دارسو النوع الأدبي ومنظِّروه أن هناك خطوطًا أساسية تبقى حية ومؤثرة برغم كل تطورات النوع التالية مهما تكن عميقة، وأن النوع الأدبي برغم أنه يحيا في الحاضر، فإنه يتذكر دائمًا ماضيه، يتذكر بدايته، وهذا ما يفرض على الدارس شيئًا من الصعود إلى المنابع، لفهم كثير من التطورات التالية التي يمر بها النوع.(10)

يمكن القول إن المناجاة - نوعًا أدبيًّا - اقترنت في نشأتها بممارسات الدين الإسلامي العادية كالخطبة والموعظة والدعاء؛ بحيث يمكن أن نتلمس النصوص الأولى لهذا النوع الأدبي في بعض أدعية النبي وخطبه ومواعظه (صلى الله عليه وسلم) مثل دعائه أو استغاثته الشهيرة بعد ما تعرض له في الطائف، ومثل مواعظه وأوامره الموجزة للمسلمين بعد فتح مكة، ويورد صاحب "كنز العمال" ذلك الدعاء في باب (جوامع الأدعية):

"اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! إلى من تكلني؟ إلى عدوّ يتجهمني؟ أم إلى قريب ملّكته أمري؟ إن لم تكن ساخطًا عليّ فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءت له السموات وأشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تُحلَّ عليَّ غضبك أو تُنزلَ عليّ سخطك، ولك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك"(11)

ويمكن تلمُّس نصوص كهذه كثيرة في المأثور من أقوال كثير من الصحابة والتابعين، وفي هذه الأقوال يمكن التعرف على البذور الأولى لتقاليد المناجاة نوعًا أدبيًّا: أي هذا الموقف الاتصالي الخاص بين المتكلم والمخاطب، وذلك التلوُّن في نغمة الخطاب والتبادلية الكامنة فيه، بالإضافة إلى ما كانت تنطوي عليه بعض هذه الأدعية أحيانًا من لوم وشكوى وجزع وسخط، وكل ما يتجاوز فكرة ابتهال العبد إلى ربه وفي اتجاه واحد.

غير أن المناجاة سرعان ما شهدت تحوُّلاً نوعيًّا، وتراكمًا واضحًا للنصوص والأشكال، حين اقترنت بفصيل معين من فصائل الفكر والتعبير في الثقافة الإسلامية له سماته وفلسفته الخاصة، أعني التصوُّف والمتصوِّفة، الذين تركوا تراثًا هائلاً تشكلت منه الخصائص الأساسية لهذا النوع الأدبي، وهو تراث ممتد يستحق أن تُرسم مراحله وتطوراته المختلفة.

3- المناجاة والتصوف
اقترنت نشأةُ المناجاة إذن، وتبلوُرُها نوعًا أدبيًّا، بكتابات المتصوفة التي سجلوا فيها ما قالوه في خلواتهم إلى الله، ورسائلَهم الموجزة المكثفة إلى إخوانهم وتابعيهم ومريديهم. بل إن بعض الدارسين(12) يشير إلى أن المتصوفة دون غيرهم هم مبتكرو أدب المناجاة ومنشئوه. وقبل أن يكتب أبو حيان التوحيدي "الإشارات الإلهية" في نهاية القرن الرابع الهجري على أرجح الأقوال،(13) كان المتصوفة قد ملأوا أرض الإسلام كلامًا وكتابة، وكان القرن الرابع نفسه ومنذ بداياته قد شهد اجتماع السلطتين السياسية والدينية، أي الحكام والفقهاء، على قمع(14) حركة التصوف وما أثارته من زوابع؛ ومن ثم يصبح من العسير أن نقفز إلى أبي حيان وكتابه، دون إشارات - ولو عابرة - إلى نماذج مما قدمه بعض المتصوفة الكبار قبل أبي حيان في أدب المناجاة، أولاً لأن ما مرّوا به من تجارب روحية وسياسية مريرة كان قد ترك أثره المباشر وغير المباشر على تجربة أبي حيان الحياتية، وثانيًا لأن ما أنجزوه على المستوى الأدبي والفني ترك بالضرورة أثرًا – من الناحية الفنية - على كتاب الإشارات.

وإذا كان من الممكن أن نقفز على شذرات المناجاة التي تركها المتصوفة الأوائل كالحسن البصري (ت 110 هـ) وبشر الحافي (150 هـ) وإبراهيم بن أدهم (161 هـ) وشقيق البلخي (194 هـ) ومعروف الكرخي (200 هـ) وحتى رابعة العدوية (235 هـ) وغيرهم، فربما يكون من العسير ألا نشير على الأقل إلى أولئك المتصوفة الكبار الذين ذكرهم أبو حيان نفسه، والذين تركوا كتبًا كاملة، تقوم في معظمها على خطاب خاص إلى النفس (ككتب المحاسبي(15))، أو رسائل شفوية ومكتوبة إلى الصحاب والمريدين والتلاميذ ( كرسائل الجنيد(16)) أو خطاب خاص ملغز موجه إلى الله وربما وصل إلى ما سمي "الشطح" (ككتابات البسطامي، والحلاج(17) والنفّري(18)). وكل هذه بطبيعة الحال كانت روافد صبت في نوع المناجاة الذي يمكن القول إنه تبلور أدبًا خالصًا على يدي أبي حيان؛ إذ ستتردد في كتاب "الإشارات" أصداء بعيدة مما قاله هؤلاء جميعًا، ومن أساليبهم في القول.

يقول المحاسبي مثلاً في معاتبة نفسه:

«يا نفس .. ما لي أراك مطمئنة، والغالب عليك الفرح والسرور، وشواهد المقت بادية عليك، ودلائل الغضب بيّنة فيك في كثير من أحوالك؟ قد اطمأننتِ وسكنت، وكثيرًا ما يغلب عليك الفرح والسرور في أكثر الأحوال، وأنت ترين فيك من الله دلائل الغضب، وشواهد المقت، ثم لا تبكين، ولا لذلك تكترثين، كأنك لغضب الله تطيقين، ولعذابه تجهلين. هيهات هيهات، إنك عن دون الله لتضعفين» (معاتبة النفس ص 42)

ويقول الجنيد في رسالة لبعض إخوانه:

«فأين أنت وقد أقبل بك كلك عليه، وأقبل بما يريده منك لديه، وقد بسط لك في استماع الخطاب، وبسطك إلى رد الجواب، فأنت حينئذ يقال لك وأنت قائل، وأنت مسئول عن أنبائك وأنت مسائل» (رسائل الجنيد ص 1)

ويقول البسطامي في شذرات مما ورد عنه، موجهًا خطابه إلى الإنسان:
«يا شبيه العلم: اطلب في العلم العلم، فغير ما أنت فيه من العلم علم.
يا شبيه الزهد: اطلب في الزهد الزهد، فغير ما أنت فيه من الزهد زهد.
يا شبيه التقوى: اطلب في التقوى التقوى، فغير ما أنت فيه من التقوى تقوى.»

ثم موجهًا خطابه إلى الله:
«هذا فرحي بك وأنا أخافك، فكيف فرحي بك إذا أمنتُك.»(المجموعة الصوفية الكاملة ص 54)

أما الحلاج فيقول في بعض مناجياته:
«اللهم أنت الواحد الذي لا يتم به عدد ناقص، والأحد الذي لا تدركه فطنة غائص، وأنت (في السماء إله وفي الأرض إله)، أسألك بنور وجهك الذي أضاءت به قلوب العارفين، وأظلمت منه أرواح المتمردين، وأسألك بقدسك الذي تخصصت به عن غيرك، وتفردت به عمن سواك، أن لا تسرحني في ميادين الحيرة، وتنجيني من غمرات التفكير، وتوحشني عن الوحشة، وتؤنسني بمناجاتك يا أرحم الراحمين..، يا من استهلك المحبون فيه، واغتر الظالمون بأياديه، لا يبلغ كنه ذاتك أوهام العباد، ولا يصل إلى غاية معرفتك أهل البلاد، فلا فرق بيني وبينك إلا الإلهية والربوبية» (الأعمال الكاملة ص 247)

ويقول:

«حبيبي سترتني حيث شئت، فوعزّتك لو عذبوني بأنواع البلاء ما رأيته إلا من أحسن النعم، لأن شعاع أنواع الضمائر قد اخترقت مكاشفات أحوال الظاهر، إلهي أخشاك لأني مذنب، وأرجوك لأني مؤمن، وأعتمد على فضلك لأني معتذر، وأثق بكرمك لأني أستغفر، وأنبسط إلى مناجاتك لأني حسن الظن بك»(الأعمال الكاملة ص 249)

ومن أمثلة ذلك أيضًا ما سجله النفري في مواقفه ومخاطباته:

"وقال لي: أنت معنى الكون كله". (المواقف والمخاطبات، ص 5)

"وقال لي: أصمِتْ لي الصامتَ منك، ينطق الناطقُ ضرورةً". (ص 6)

وقال لي: إذا أشهدتُك حجتي على ما أحببت كما أشهدتُك حجتي على ما كرهت فقد أذِنتك بخلافتي، واصطفيتك لمقام الأمانة عليّ" (ص 9)

"أوقفني في الأدب وقال لي: طلبُك مني وأنت لا تراني عبادةٌ، وطلبُك مني وأنت تراني استهزاءٌ." (ص 16)

"وقال لي: سلْني وقل يا رب كيف أتمسك بك حتى إذا جاء يومي لم تعذبني بعذابك، ولم تصرف عني إقبالك بوجهك، فأقول لك: تمسّكْ بالسنة في علمك وعملك، وتمسك بتعرفي إليك في وجد قلبك، واعلم أني إذا تعرفت إليك لم أقبل منك من السنّة إلا ما جاء به تعرفي، لأنك من أهل مخاطبتي، تسمع مني وتعلم أنك تسمع مني، وترى الأشياء كلها مني". ( ص 23)

"أوقفني بين يديه وقال لي:  ما رضيتُك لشيء ولا رضيت لك شيئًا، سبحانك أنا أسبِّحك فلا تسبِّحني، وأنا أفعلك وأفعّلك فكيف تفعلني، فرأيت الأنوارَ ظلمةً والاستغفارَ مناوأةً والطريقَ كله لا ينفذ، فقال لي سبِّحك وقدِّسك وعظِّمك وغطِّك عني ولا تُبرزْك، فإنك إن برزت لي أحرقتُك وتغطيتُ عنك". (ص 72).

تكشف هذه النصوص الأولى عن بذور نوع ينهض على هذه العلاقة الخاصة بين شخص وآخر، مهما تعددت صورة هذا الآخر، كما تكشف عن خصيصة أخرى مركزية من خصائص هذا النوع كما سنراها بعد قراءة كتاب الإشارات، وهي ذلك الخطاب المتصل المتجه إلى الذات أو إلى مجهول، والذي يتعدد فيه المخاطبون كما يتعدد المتكلمون.

ربما نظر القدماء إلى هذه الكتابات النثرية الصوفية بصفتها أقوالاً جميلة، أو دعوات وابتهالات وحِكمًا موجزة تكشف عن تجارب القوم واعتقاداتهم، فضمّنوها كتبهم الموسوعية أحيانًا. وربما أشار المحدثون إلى هذه الكتابات، وعبروا عن إعجابهم بها، بل ربما رأوا  فيها لونًا من الكتابة الأدبية الخاصة، يجب الالتفات إلى خصائصه وتقاليده ودراستها والبناء عليها في إبداعهم الجديد، غير أن قليلين منهم من تجاوزوا حدود الإشارة العابرة، واعتنوا بالكشف عن هذه الخصائص والتقاليد وبلورتها على نحو علمي. وإذا كان الطابع الغالب على هذه النماذج السابقة من المناجاة، هو التركيز والتكثيف الذي يحول المناجيات إلى ألوان من الحكمة الشعرية الموجزة الملغزة أحيانًا كما في مواقف النفّرى ومخاطباته، فإن الطابع الغالب على كتاب الإشارات كما سنرى، كان على العكس لونًا من الصراخ، يتجسد في الاستفاضة والاستقصاء والتكرار الملحّ. وربما كان أبو حيان في هذا متأثرًا بتطور فنون النثر العربي الرسمي الذي يعد هو نفسه واحدًا من أعلامه، أو ربما كان متأثرًا بتجربته الخاصة الممتدة في معاناة الفقر والغربة والاضطهاد على نحو يكاد يقترب من البارانويا(19)، وهي تجربة ربما لم يكن يصلح معها التركيز والتكثيف. كتاب الإشارات لا ينهض على حكمة الشعراء الموجزة المكثفة أو المبنية على الرمز والمجاز، بقدر ما ينبني على لوثة مَنْ يبحث عن الكلام، أي كلام، ولهذا فإن السمة الأساسية في الكتاب هي التكرار والترادف والتشقيق، وليس الإيجاز أو التكثيف.

4 - أبو حيان والإشارات
في جو ديني وسياسي وثقافي معاد للمتصوفة وفكرهم وسلوكهم، لم يتردد أبو حيان التوحيدي في إعلان إعجابه بهم وبما كتبوه؛ ففي الليلة الرابعة والثلاثين من ليالي "الإمتاع والمؤانسة"، وبعد حديث طويل عن حكايات المتصوفة التي تقول بعكس ما شاع عن عزلتهم، وتكشف عن ميلهم لأحاديث الحياة الدنيوية، يعلن الوزير في حواره مع أبي حيان، أنه كان  قبل سماعه لهذه الحكايات يرى "أن الصوفية لا يرجعون إلى ركن من العلم، ونصيب من الحكمة، وأنهم إنما يهذون بما لا يعلمون، وأن بناء أمرهم على اللعب واللهو والمجون"، فيسارع أبو حيان إلى الرد، بلغة الورّاقين المتابعين، معلنًا عن إعجابه بما تركوه من تراث أدبي شفهي ومكتوب: "فقلت: لو جُمِع كلام أئمتهم وأعلامهم لزاد على عشرة آلاف ورقة عمّن نقف عليه في هذه البقاع المتقاربة، سوى ما عند قوم آخرين لا نسمع بهم، ولا يبلغنا خبرهم، قال: فاذكر لي جماعة منهم، قلت الجنيد بن محمد الصوفي البغدادي العالم، والحارث بن أسد المحاسبي، ورويم، وأبو سعيد الخراز، وعمرو بن عثمان المكي، وأبو يزيد البسطامي، والفتح الموصلي، وهو الذي سُمع وهو يقول: إلى متى ترددني في سكك الموصل، أما آن للحبيب أن يلقى حبيبه؟ فمات بعد جمعة"(20).

لم يثبُت عن أبي حيان أنه كان في سلوكه متصوفًا زاهدًا، وإن رَوى في الإشارات وفي غيرها عن صحبته للمتصوفة وانخراطه في زمرتهم. على العكس من ذلك، عُرف عن الرجل حبُّه للدنيا، وسؤالُه الدائم لأولي الأمر، وسعيُه في كل صوب وراء الجاه والمال، ونزوعُه إلى المخاصمة الذي يصل إلى حد الهجاء الانتقامي، كما في كتابه "مثالب الوزيرين"، وكما في "الرسالة البغدادية". لقد جمع أكثر ما نسخه وما أبدعه من كتب - كما يقول هو في رسالته الشهيرة التي سجلها ياقوت - "للناس، ولطلب المثالة بينهم، ولمد الجاه عندهم"،(21) لكنه حُرِم ذلك كله، فأحرقها.

ليس من همّ هذا البحث أن يُثبت (أو أن ينفي) ما إذا كان أبو حيان التوحيدي صوفيًّا أو متصوفًا أو فيلسوفًا، بل ليس من أهدافه أن يطرح السؤال أصلاً؛(22) فاهتمام هذا البحث لا ينصب على التصوف نوعًا من الفكر والفلسفة، بقدر ما ينصب على ما تركه المتصوفة (وغيرهم) من نصوص "أدبية". ما نهتم به هنا هو كتاب "الإشارات الإلهية" بصفته نصًّا أدبيًّا تتبلور فيه خصائص نوع أدبي أهمله دارسو الأدب العربي. بل ربما يمكن القول إن أهم ما يميز مناجيات التوحيدي في الإشارات، عن غيرها من مناجيات المتصوفة، أن الرجل لم يكن صوفيًّا بالمعنى المعروف للكلمة، وربما لم يكن من المتصوفة على الإطلاق، بقدر ما كان إنسانًا وفنّانًا يعيش ازدهارات الثقافةَ العربية في القرن الرابع الهجري وتناقضاتها أيضًا، ويعاني غربة متنوعة المعاني ومتراكمة الطبقات.

وكما أن بإمكان دارس نوع الرواية مثلاً، أن يتخذ من منجز جويس أو بروست أو نجيب محفوظ، مثالاً يدرس في ضوئه نوعًا أدبيًّا كاملاً، دون أن ينفي منجز من سبقهم في التأسيس، ودون أن ينفي مغامرات من جاء بعدهم؛ فكذلك يمكن لدارس نوع "المناجاة"، أن يتخذ من منجز أبي حيان التوحيدي في كتابه "الإشارات الإلهية" مثالاً للنوع، دون أن ينفي منجز من سبق في التأسيس، ودون أن ينفي التطورات التالية.

"الإشارات الإلهية"(23) كتاب فريد من نوعه. سواء بين كتب أبي حيان التوحيدي المتعددة نفسها، أو بين كتب التراث النثري العربي كله، والأهم من هذا بين كتب المتصوفة جميعًا. بين كتب التوحيدي يكاد "الإشارات الإلهية" أن يكون الكتاب الوحيد الذي لا ينهض على التجميع أو النقل، سواء كان هذا التجميع أو النقل نقلاً من كتب أخرى وأشخاص آخرين، أو تمثيلاً لأحداث وأخبار من الواقع الخارجي. إنما ينهض الكتاب – بدلاً من ذلك – على نوع من البوح المباشر لمتكلم متخيل يتوجه كلامه إلى مخاطبين متعددين ومتخيلين. وبين كتب التراث العربي يكاد يكون الكتاب أطول مناجاة عرفها ذلك التراث،(24) إذ يمتد خطاب المتكلم - كما سنرى-  لاهثًا بلا انقطاع وعلى مدار صفحات الكتاب التي تتجاوز الخمسمائة.

أما بين كتب التصوف – إذا جاز أن ندرجه ضمن هذه الكتب – فيكاد الكتاب ينفرد بنزعة دنيوية مفارقة تمامًا للنزعة الدينية المعتادة في كتب التصوف، وتنعكس هذه النزعة بوضوح في مساحة الشكوى والضجر والألم والغربة عن الذات وعن العالم وافتقاد التواصل، وهي مساحة تطغى على صفحات الكتاب، وتميز بينه وبين الكتب السابقة التي هي أقرب إلى الدعاء منها إلى المناجاة؛ فالإشارات – كما يقول عبد الرحمن بدوي – "غني بما فيه من منهج في المناجاة، لا نكاد نجد له نظيرًا قبل التوحيدي، وبهذا يمكن أن يعد رائد نوعه، والنموذج الأول لكتب المناجيات التي سنراها من بعد في الأدب الصوفي".(25)

يتألف الكتاب من أربعة وخمسين نصًّا (أو فصلاً أو رسالة )(26) تتفاوت أطوالها بين الصفحة والعشرين صفحة. وتأخذ هذه النصوص في معظمها صورة نداءات واستغاثات شفوية، وبعضها يتخذ صورة رسائل مكتوبة، يتوجه الخطاب داخل كل رسالة منها، إلى مخاطبين متعددين ومتنوعين تنوُّعَ النداءات التي تبدأ بها فقرات كل رسالة: ("اللهم!"، "إلـهنا"، "يا ذا الجلال والإكرام" "أيها الإنسان" "يا قوم"، "حبيبي" "سيدي"، "أيها السيد"، أيها الأخ"، "أيها الرفيق والصاحب"، "أيها السامع"، "أيها الجليس المؤانس والصاحب المساعد"، "أيها المغرور" "يا سادتي" "يا أحبابي"، "أيها الحيران"..إلخ، ثم ذلك النداء الأوسع والأشهر: "يا هذا!"، وهو النداء المتواتر الذي يمكن أن يصلح عنوانًا آخر لكتاب الإشارات.

لا شك أن المخاطَب الذي تتجه إليه رسائل الإشارات متعدد ومتنوع؛ فهو يبدو أحيانًا أقل من المتكلم الذي يتجه إليه بالنصيحة حينًا وبالتقريع حينًا، وهو أحيانًا أخرى يبدو أعلى من المتكلم، وكأنه شيخه الذي يطلب منه الهداية أو يتذاكر معه أيام الصفا، وهو أحيانًا مفرد وأحيانًا جماعة، وهو في أحيان أخرى يبدو أعلى وأعلى بحيث يتطابق مع المولى عز وجل، وبحيث تتحول المناجاة معه إلى ابتهال خالص، يبدأ بعبارة "اللهم" التي تبدأ بها كثير من رسائل الكتاب، وينتهي بعبارة "يا ذا الجلال والإكرام" التي تنتهي بها غالبية هذه الرسائل.

ومهما يكن من يتوجه إليه خطاب المتكلم في هذه الرسائل، ومها تكن طبيعته ومنزلته؛ فإن أغلب الظن كما يقول عبد الرحمن بدوي، "أن هذا المخاطب الذي يتجه إليه ما هو إلا نفسه، إذ كثيرًا ما يتحدث عن "بينك وبينك" و "بيني وبيني"، ومعنى هذا أنه يقول بازدواج في نفسه. ومن هذا قد نستطيع أن نستخلص أن هذا العلو الذي يتجه إليه في هذه المناجيات أو الصلوات ما هو إلا نفسه، وبذلك نظل في داخل ملكوت الإنسان، شأن كل فلسفة وجودية حقيقية. فلا يجب أن ننخدع كثيرًا بتكراره كلمة: "إلهي!" التي يستهل بها عادة فقرات هذه المناجيات، فقد تكون مجرد العادة اللغوية هي التي تحمله على استخدامها. وبهذا التفسير الذي نقدمه، في احتياط وحذر، يتحقق قول كافكا .. وهو أن "الكتابة نوع من الصلاة"، والصلاة مناجاة بين طرف متواضع خاشع وبين آخر يفترض فيه أنه عال، لا بالمعنى الديني حتمًا، وإنما مجرد ازدواج تنقسم فيه الذات على نفسها وفي داخل نفسها إلى متحاورين يتضرع أحدهما إلى الآخر ويبتهل، استمتاعًا بالحالين العاطفيتين اللتين يلبسانهما. وقد يدخل في ذلك استلهام لرواسب عاطفية دينية تصرخ في الأعماق المستورة أو تدق أجراسها الداعية إلى إقامة الفروض الدينية"،(27) وأغلب الظن أيضًا أن "الشخص الذي يشير إليه في بعض هذه الرسائل من العسير أن نتعرفه بيقين، وأنه شخص خيالي، أعني أنه "الأنت" الضروري كيما يتم الحوار النفسي أو المناجاة، فهو مجرد اختراع أدبي".(28)

وإلى شيء قريب من هذا تشير وداد القاضي في تقديمها للكتاب؛ فرغم التفاتها الواضح إلى تعدد المخاطبين وتنوع طبائعهم ودرجاتهم، ورغم أنها قد لا تتفق مع ما ذهب إليه بدوي من بُعد وجودي في فكر أبي حيان وأدبه، ورغم أنها ترى "أن المخاطب الذي يريد أبو حيان أن ينقذه من علاقات الدنيا يلتبس أحيانًا بشخص قد جعل إنجازَ الكتاب كله خدمةً له"- رغم هذا كله، فإنها تكاد تنتهي وبمعونة واضحة من نصوص الكتاب نفسه، إلى ذلك القدر الصريح المدهش من التطابق بين المتكلم والمخاطب، أو قل إنها تنتهي إلى أن المخاطَب في الكتاب هو في حقيقة الأمر الوجه الآخر للمتكلم أبي حيان.(29) 

المناجاة في إشارات التوحيدي إذن، ليست مجرد دعاء يسير في اتجاه واحد من المتكلم إلى المخاطب، بل هي أقرب إلى تجاذب عنيف لأطراف الكلام بين متكلم ومخاطب يتبادلان الأدوار، دون الوصول إلى نقطة ساكنة أو إلى حل نهائي. كانت المناجاة عند من سبقوه "مجرد متتاليات دُعائية تعبر عن معان دينية وأخلاقية، اعتمدها المتصوفة كذلك للتعبير عن حالة تبلغ فيها الحاجة إلى الله مداها، كما عند الجنيد مثلاً. غير أننا نجدها تتحول عند التوحيدي إلى حديث مونولوجي الوظيفة- حواري الشكل، بعدما كان مونولوجي الشكل والوظيفة معاً".(30)

وكما أن مناجاة التوحيدي ليست مجرد دعاء في اتجاه واحد، فإنها ليست كذلك مجرد حوار أو محاورة أو مناظرة بين طرفين واضحين متعارضين، بقدر ما هي لون من التحاور بين طرفين متداخلين متشابكين، ليسا في النهاية سوى نزوعين أو شقين في نفس واحدة، أو إنسان ونفسه "يبدوان كجارين متلاصقين، يتلاقيان ويتحدثان، ويجتمعان فيتحاضران" وهو ما يدل – كما يقول أبو حيان "على بينونة بين الإنسان ونفسه".(31)

هذا النداء المتكرر للمخاطب، وبصيغ متعددة، والإلحاح في طلب إقباله، وهذا الوعي الممض بحتمية التناجي والتخاطب والالتئام حتى لو بدا مستحيلاً، حتى لو اتخذ شكل "شدو"، و"ذرو"، و"حديث عنيف"، و"تشاكٍ" و"تباكٍ" و"تشاور"، حتى لو اقترب من الـ"هذيان"، حتى لو كان"جمجمة وهمهمة وهينمة ودندنة"، إلى آخر الأوصاف الغريبة التي يطلقها المتكلم في الإشارات على مناجياته – هذا كله يكشف عن معاناة الغربة المتعددة الطبقات، أو ما تسميه آمنة بلعلي "أزمة التواصل"، وهي الأزمة التي حاول أبو حيان أن "يجد لها بديلاً سيميائياً من خلال استراتيجية التحاور التي أقامها على التشكيل التعارضي، الذي تبادلته الأنا والأنت، وتنازعتاه ورسمتا أوضاع النزوع والجدل .. لقد كان أمام التوحيدي في مناجاته مسلكان: إمّا أن تكون هذه المناجيات عبارة عن تتالي أدعية كالتي رأيناها عند السابقين من المتصوفة، وإمّا أن تجسد ما يعكسه الدعاء من نزاع ونزوع للنفس، في شكل تحاور بينه وبين مخاطب مفترض، هو ذلك الطرف الآخر من نفسه".(32)

5- أنا / أنت
أولى الخصائص اللافتة للنظر في كتاب "الإشارات"، وفي نوع "المناجاة" عمومًا، هي هذه الهيمنة المطلقة لضمير المخاطب. غير أن ضمير المخاطب في هذا الكتاب الطويل، يقف على مسافة واسعة من كل صور ضمير المخاطب – وهي كثيرة - في مختلف أنواع النثر العربي القديم كالخطبة والرسالة،(33) ومبعث هذا الاختلاف ما يلي:

أولاً: أن ضمير المخاطب في الإشارات لا يشير إلى مجرد التفات عابر، يرد في صورة اعتراض لخطاب رئيسي يسير في اتجاه آخر، كما هو الحال في معظم نصوص النثر العربي القديم، بل على العكس يشكل هذا الالتفات للمخاطب الصورة الأساسية للخطاب، بحيث يصبح ضميرا المتكلم والغائب الصورة الاستثنائية؛ فعلى طول الكتاب وأينما قلبت الصفحات لن تجد سوى هذا الكلام المتصل الموجَّه إلى مخاطب.

ثانيًا: أن الخطاب في الإشارات يظل موجَّهًا إلى الداخل، عنيفًا وصامتًا، ويعكس لونًا من الانقسام الحاد بين المخاطِب ونفسه. وهذا الخطاب إلى الداخل، وذلك الانقسام الحاد، أو ما يسميه أبو حيان "البينونة" بين الإنسان ونفسه، أمرٌ نادر الحدوث في كل كتب التراث العربي القديم، ويكاد يرتبط برؤية إنسان العصر الحديث والأدب الحديث. ففي مقابل "اللهم" التي تبدأ بها معظم رسائل الإشارات، و"يا ذا الجلال والإكرام" التي تنتهي بها، هناك "يا هذا!" مرات ومرات؛ أي أن الخطاب الأصلي يتوجه إلى "هذا" المجهول، بل إن الدعاء والخطاب إلى الله يبدو كأنه ليس سوى استنجاد به من هذا القريب البعيد، أو من نفسه المتعددة تلك.

ثالثًا: الحالة الانفعالية التي تدفع المخاطِب إلى ما يشبه اللوثة الغاضبة بحثًا عن معنى وعن مخرج، بحيث يتنقل في خطابه فجأة – وداخل النص الواحد أو الرسالة الواحدة، والفقرة الواحدة أحيانًا - من خطاب الله، إلى خطاب الناس، إلى خطاب الإنسان، إلى خطاب المتصوفة، وأهم من هذا كله إلى خطاب نفسه التي تتخذ صورًا متعددة.

غير أن لوثة الإشارات هذه ليست لوثة مخبول أو معزول، بل هي لوثة تنطوي على رغبة عارمة في التواصل أو الالتئام ونفي الغربة، وهي رغبة تتبدى في شكل مغاضبة ومخاصمة واضحتين. لقد حاول أبو حيان - كما يقول مصطفى ناصف – "أن يتعمق المناجاة، وأن يخرج بها عن مألوفها، وأن يعطي لها طابعا ذاتيا قلقا. كان في هذا كله غاضبا على الأدب والفلسفة وبراهينها وأساليبها. لقد اجتمعت أطراف الغضب على البلاغة والفلسفة واﻟﻤجتمع والذات. حاول أبو حيان أن يروض هذا الغضب كله فكان نتاج ذلك كتاب الإشارات الذي لا يخلو بداهةً من مغاضبة التصوف نفسه".. "أليس عجيبا أن تتلون المناجاة بالمنازعة والعنف والإحساس بوطأة الانفصال وما يشبه التغني بالخارقة" .." الخصام أوضح في الإشارات من التلاؤم والانسجام ، وليس أمامنا حالة ساكنة آمنة إلا قليلا.. الخصام يؤلف كثيرا من مظاهر العلاقة بين المتكلم ونفسه، بين المتكلم واﻟﻤﺨاطب. لكن غايتنا بداهة هي الالتئام.. لا يكمل الحوار إلا إذا تبادل الداعي والمدعو المواقع. إن تحديد السامع على هذا الوجه ليس يسيرا. ومعظم الذين تحدثوا في اللغة والبلاغة افترضوا أن الرسالة ذات اتجاه واحد، وأن الذي يسمع لا يقول، وأن الذي يأخذ لا يعطي".(34)

من الواضح أن التوحيدي – في معظم كتاباته - كان وظل يسعى إلى منطقة التواصل الغامضة هذه، الجامعة بين الداعي والمجيب، بين القائل والسامع، المتكلم والمخاطب، وهو ما سمّاه في الإشارات مرةً تسميةً لا تخلو من دلالة: "الذكر الجامع":
«أما تراني يا هذا كيف أداريك بالرفق، وأداويك بالحذق، أدعوك بالنثر إلى أن تنتثر عما قد زيّفك وأفسدك، ثم أعطف عليك بالنظم إلى ما قد شرّفك ورفعك، ولا تعجب من فراغي لك  فإني موكل بك من قبل من هو أملك بي وبك، فلعلك إذا أجبت ندائي وفهمت دعائي، درجتُ معك، وسلكتُ منهجك، فإني من حيث أناديك مجاب، وأنت من حيث تجيب منادَى، فإذا التأمت الكلمة بالكلمة بالدعاء والإجابة، صار الداعي مجيباً والمجيب داعياً. وإذا صحّت هذه الإشارة كنتُ أنا القائل وأنا السّامع، وكنتَ إيّاي في هذا الذكر الجامع» (الإشارات ص 120)

ومن الواضح أيضًا أن للتوحيدي في الإشارات تصورًا مضمرًا عن الإبداع الأدبي، لا بصفته عملاً يقوم على إراحة القارئ وإمتاعه، بل بصفته تجسيدًا خاصًّا لأزمة التعبير باللغة المحدودة، وبصفته تعبيرًا مؤلمًا عن نقص ملازم لهذه اللغة الإنسانية، وهو نقص يبدو في الإشارات وكأن لا برء منه. وهكذا تبدو هذه المناجيات وكأنها لا تستطيع أن تستوعب المأمول؛ ذلك المأمول مستحيل، إنه - تمامًا كلحظات التجلي الإبداعي الغريبة – "بعيد، يتراءى ثم يختفي"، ويحتاج إلى اقتدار وشجاعة واقتحام.(35)

وبنية كتاب الإشارات تنهض في مجملها على هذا التوتر الذي لا ينتهي بين المتكلم ومخاطبه، أو بين المتكلم ونفسه،(36) بين ذلك المأمول المستحيل البعيد الغامض، وبين الرغبة الملحة التي لا تتوقف عن تجسيده؛ ولذلك فإن الكتاب ينتهي كما بدأ بالدرجة نفسها من التوتر والإلحاح والتكرار، الذي نراه على أشده من جديد في بداية كل رسالة جديدة ، إلى أن نصل إلى الرسالة الأخيرة ونحن على الدرجة نفسها من التوتر ، وربما اليأس من القول المكرر، ومن أية إمكانية للتلاؤم والانسجام بين المتكلم والمخاطب؛ إذ لا إمكانية بعد كل هذا الإلحاح والتمني، لأنْ يستجيبَ هذا المخاطب أو يرد، أو تصدر عنه بادرة مطمئنة؛  ولذلك لم يكن غريبًا مع اقتراب هذه الرسالة الأخيرة الطويلة من نهايتها، أن يقول المتكلم:

 ".. فليت الزمان إذ حرمني المُنَى، لم يُصْلِني بنار التمنّي.

"بالله يا سيدي: هل عندك شيءٌ مما عندي؟ فلعلّي بالوهم نطقتُ، وعلى الظن جريتُ، وبالبرق الخُلَّب اغتررتُ، وإلى جهد المُقِلّ اضطررتُ، وسورةَ اللغو تَلوتُ، وأثرَ الوسواس قفوتُ" (الإشارات، ص 393)

"فهل عندك من علاج يكشف ما بي، أو من مساعدة تخفف بعض أوصابي؟ هيهات: أنَّى يكون لك هذا؟ وأنَّى توقُك إليه؟ وأنت أيضًا في قميصي تتبختر، وفي ذيلي تتعثر.."(الإشارات ص 396)(37)

وهكذا بدا الكتاب وكأنه - كما قال المتكلمُ فيه لمخاطبه مرةً - "استغاثة متكررة"، و"بدايات" لا نهاية لها، و"طرق مختلفة"، لكنها في النهاية استغاثة وبدايات وطرق لا تكاد تفضي إلى شيء، اللهم إلا هذا السعي المؤلم بلا نهاية، مهما طالت هذه الإشارات الإلهية وتعددت رسائلها، فها هو الجزء الأول ينتهي دون أن تبرد درجة التوتر ودون أن تتوقف الاستغاثة، ودون أن يتوقف الأمل والتمني؛ ومن ثمّ البحث الممض عن بدايات وطرق جديدة.(38)

"لعلك تقول بغفلتك وقلة تجربتك، وقصور نظرك، فلو سكتَّ في الجملة كان أصلح من هذه الاستغاثة المكررة، ومن هذا العويل الطويل، ومن هذه البدايات ومن هذه الطرق المختلفة، فالجواب عن قولك إنك لو أحسست بالداعي إلى هذا القول، وبالمهيج على هذا التهويل، لكان عذري عندك مبسوطاً، وكان اعتراضك عني مقبوضاً، ولكنك لا تحس، ولا أظنك تُحسّ بأن تحسّ، والله ما نبست من هذه السطور الكثيرة والورقات المتصلة بحرف إلا بعد الخناق الشديد وعصر الفؤاد بالكره، وإلا بعد التلويح في المنام، وإلا بعد الإلقاء الإلمام، وإلا في المقام والمقام، وكان روحي يخرج من هذه الحال التي كانت تعرض" (الإشارات 105-106)

الكتاب يبدأ بشكوى، وينتهي بشكوى، وما بين البداية والنهاية ليس سوى شكوى، من القائل إلى السامع وبالعكس، من المناجي إلى ربه ومن ربه، من الدنيا وما فيها، من الزمان ومن اللغة ومن النفوس المضطربة التي خلقها الله. أما الوصول إلى التلاؤم والانسجام فتلك " مُنْيةٌ دونها منيَّة، وجهالةٌ قرينتُها ضلالة" كما يقول أبو حيان في آخر رسائل الإشارات وأطولها (الرسالة 54) التي تذكرنا بعض مقاطعها برسالته الشهيرة بعد إحراق كتبه. يشكو المتكلم أبو حيان، متحدثًا بضمير الغائب هذه المرة، عن الله في الأولى لا إليه، وعن الناس في الثانية لا إليهم:

"ها أنا لا أحيل على غيري: أستحلُّ الله عَقدي، وأستفكُّه رهينتي، وأستقيله عثرتي، وأستنعشه صرعتي، وأسترحمه عبرتي، وأسأله بلسان الذل والضراعة، توقيعَ الكفاية والقناعة، منذ حين وزمان، في كل وطن ومكان، فيأبى إلا ما هو أعلم بمصلحتي فيه، وسلامتي عليه، وإليه الشكوى، وهو نعم المولى" (ص 390)

والله يا رفيقي وشريك زادي، لقد صحبت الليالي ستين عامًا مذ عقلت، فما غدرني إلا من استوفيتُه، ولا كدّر عليَّ إلا من استصفيتُه، ولا أمرَّ لي إلا من استحليتُه، ولا أهمل أمري إلا من استرعيتُه، ولا قذِيَتْ عيني إلا بمن جعلتُه ناظرها، ولا انحنى ظهري إلا بمن نصبتُه عمادَه، ولا نجمتْ لي نجاةٌ إلا من حيث لم أحتسب، ولا سبقتْ إليَّ مسرّةٌ إلا ممن لم أكتسب" (ص 392)

غير أن الأمر لا يتوقف عند حدود النجوى والابتهال، أو حتى الشكوى التي يتوجه بها المتكلم إلى مخاطبيه المتعددين، وإنما يتجاوز ذلك إلى ألوان من التقريع المبطّن بالغضب، وهو التقريع الذي يمكن للقارئ أن يستشعره من النداء: يا هذا؛ لأنه ليس مجرد نداء إلى مجهول حاضر بهيئته أمام المتكلم، بل نداء ينطوي على غلظة واضحة، كما يمكن للقارئ أيضًا أن يستشعره في أسئلة التقريع المتوالية، وهي أسئلة أوسع من أن تُحصى في كتاب الإشارات.(39) وكثيرًا ما تجاوز الأمر حدود اللوم والتقريع، ليصل إلى درجة أعلى من الحدة التي تصل إلى المخاصمة والمغاضبة، ليس فقط في مخاطبة "هذا"، أو في مخاطبة الإنسان بشكل عام، وإنما أيضًا في مخاطبة المولى عز وجل.

ففي خطابه إلى "هذا"، وإلى "الإنسان"، لا يتورع الراوي المتكلم - وسط أسئلته التقريعية المتوالية - عن وصف المخاطَب بأنه "حمار" أو "بهيمة"، أو "مزبلة"، أو حين يصفه بالبذاءة والصفاقة والقبح،(40) ومن الواضح أنه في خطابه إلى المولى عز وجل يتجاوز حدود المناجاة والابتهال، ليصل إلى اتهام المولى بمحاربته، وإن اقترنت هذه المغاضبة والمخاصمة على الدوام بسؤال الغفران والصفح.(41)

6 - الأنا تتأمل قولها
ويرتبط بحضور المخاطب خاصيةٌ أخرى تميز كتاب "الإشارات" ونوع "المناجاة" على العموم، وهي حضور أنا القائل أو المتكلم أو الكاتب، الذي لا يكف عن تأمل قوله أو كلامه أو "كتابه"، وهل يمكن أن يكون هناك حضور للمخاطب من دون حضور لقرينه المتكلم.(42)
تحتل أنا القائل أو المؤلف في هذا الكتاب – على خلاف معظم كتب التوحيدي الأخرى – مكانة محورية؛ بحيث يتبدى واضحًا أن الباعثَ على تأليف الكتاب تجربةٌ ذاتية محضة، فكأن هذا الكتاب قصيدةٌ، وليس مجرد مصنَّف كمصنفات التوحيدي الأخرى، وكمصنفات معظم مؤلفي التراث العربي الموسوعية التي يجمعون فيها ما قاله الآخرون، أو يخلقون – في أحسن الأحوال - حوارًا بين هؤلاء الآخرين. هذا الكتاب حوارُ المتكلم مع نفسه، ومع أصدقائه ومع أعدائه، ومع ربه الذي خلقه وابتلاه، ونحن نستمع إلى هذا الحوار الداخلي السرّي عرّضًا، تمامًا كما نستمع إلى قصيدة غنائية.

صحيح أن الكتاب الضخم يتألف من تراكم رسائل المناجاة المتشابهة، وصحيح أن درجة التوتر تتفاوت بين بداية الرسالة الواحدة ونهايتها، ومن رسالة إلى أخرى داخل الكتاب، ومن بداية الكتاب كله إلى نهايته، ولكن المؤلف أبا حيان لا يكاد يترك فرصة إلا وينبهنا عند كل منحنى، إلى أنه إنما يكتب رسالة مناجاة واحدة ممتدة لا يحيل فيها على غيره، إنها قصيدته الخاصة التي يدرك معناها، ويتأمل بواعثها وصورها وأركان بنائها. إنه المتكلم الواعي المتأمل تمامًا لما يقوله، حتى وإن طال وبدا أقرب إلى الهذيان.

ولا غرابة أن يطلق المؤلف أوصافًا متعددة على قصيدته أو مناجاته الطويلة، أو كتابه؛ فالكتاب في وصف أبي حيان: " نُفاثةُ صدرٍ امتلأَ بالغيظ"، "حديثٌ ذو شجون"، "شجْوٌ وشدوٌ من حديث"،"وذرْوٌ من الحديث، وذرو من النجوى"، "جمجمة وهمهمة وهينمة ودندنة"، "تشاكٍ وتباكٍ"، "نجوى وتشاور وهذيان"، "مناجاة ومناداة ومناغاة"، "مدٌّ وجزر"، "وساوس وهواجس"،"طرق وعْرة"، "شكيَّةٌ وبليَّةٌ ورزيَّة"، "شجْوٌ قد أمرَّت علينا كأسُه"، "حديث والله عنيف"، "ألغاز"، "قصة"، "ديوان"،" استغاثة متكررة، وعويل طويل"، "ذِكْرٌ جامِع".. إلى آخر هذه الأوصاف التي ترد بنصها في مواضع متفرقة من الكتاب.

وغالب الظن أن هذا الإدراك الحاد لبناء الكتاب، وذلك الحضور الفادح للأنا القائلة التي تتأمل قولها في كل أركان النص الطويل، ينطويان على جانب آخر من الوعي الحديث الذي طبع بطابعه كثيرًا من كتابات أبي حيان التوحيدي.

وكان من الطبيعي أن يرتبط بحضور أنا القائل، أو "المؤلِّف"، حضورٌ آخر لا يقلّ عنه قوة، هو حضور الكتاب، أو "المؤلَّف".

هناك مواضع كثيرة على مدار الكتاب من بدايته إلى نهايته، يشير فيها أبو حيان إلى فلسفته في هذا الكتاب، وإلى طريقة تأليفه ودافعه إلى هذا التأليف. ومع كل الفيض والتدفق والهذيان واللوثة يتبدى أن هناك منطقًا يحكم بناء كل رسالة على حدة، وبناء الكتاب في مجمله، الذي يقوم على لملمة هذه البعثرة من الشذرات العنيفة ووضعها في نظام حر للمناجاة.(43)

ولا يكاد أبو حيان يتوقف في مناجاته الطويلة هذه، من بدايتها إلى نهايتها، عن تذكيرنا وتذكير مخاطبه من أول رسالة وحتى آخر رسالة في الكتاب، بما وصلت إليه شكواه من عبث وجنون، وما وصل إليه كتابه من تلوّن وطول، وهذه بعض الأقوال التي يصف فيها المتكلمُ في الإشارات كلامَه:

  "يا هذا: الحديث ذو شجون، والقلب طافح بسوء الظنون" (ص 4)

"اسمع أيها الجليس المؤانس، والصاحب المساعد، حتى أصف لك تصاريف حالي، ومتقلب أمري" (ص10)

"فهلُمّ يا سيدي إلى شجو قد أمرّت علينا كأسُه، وتقطعت بنا عليه أنفاسُنا وأنفاسُه.. فقد طالت النجوى بهذه البلوى التي تليها بلوى" ( ص 15)

                "فهذا شدوٌ من حديث إن تجوذب طرفاه لم يلتقيا إلى آخر العمر،"  (ص 55)

        "أيها السامع: هذا ديوان ما فُضّ ختمه منذ ختم" (ص 70)

"أخشى والله ما لي من هذا القول إلا عناؤه، وما لي من هذا المعنى إلا هباؤه، وما لي من هذا المد  والجزر إلا غثاؤه"  (ص 72)

"الحديث أطول من هذا ولكن في فمي ماء، على أني قد سقت العبارة هكذا وهكذا، شرقًا وغربًا، وجنوبًا وشمالاً، وأرضًا وسماء، فلم أدع للكناية قوة إلا عصرتها عند العثور عليها، ولا للتصريح علامة إلا ونصبتها حين وصلت إليها .." (ص 105)

"فوحقك ما استرسلت هذا الاسترسال، ولا خليت عنان القول على هذا المقال، إلا لأني ناجيت بك نفسي" (ص 125)

"يا هذا: إنما نتنفس بهذه الكلمات كما يتنفس المملوق، ونهذي بها كما يهذي بها المألوق" (ص 143)

"يا هذا: أما ترى كيف أديرك من باب إلى باب، وكيف أصف لك حالاً بعد حال، وكيف ألقي إليك فنًّا بعد فن، وكيف أقوي رجاءك حتى تكاد تطمئن، وكيف أغلِّب يأسك حتى تكاد ترجحن؟ وكيف أناغيك بالسلوة عن الدنيا، وكيف أسارّك بأعاجيب المولى، وكيف أجذبك إليّ تارة ثم أنجذب معك أخرى، وكيف أرددك بين حلاوة "لعل" ومرارة"عسى"؟  (ص 144).

"إنما أزلّ في كلامي لك أيها الإنسان من فن إلى فن، وأطفر من وطن إلى وطن." (ص 151)

"اسمع أيها الإنسان بدعًا من الكلام، وغريبًا من المعاني... وقد طالت الشكية، ودامت البلية، وتضاعفت الرزية" (ص 155)

"هيهات، بلغت هذا المكان بقلمي، وقد خنقتني العبرة تذكرًا لهذه الأحوال من قوم شاهدتهم مذ أربعين سنة." (ص 160)

"هذا بعض حديثي على تقطُّعِه وانبتاره، وباب من شأني على تشعبه وانتثاره، فما بقي من ديوان قصتي إن قيل يا هذا تزحزح عن هذا المكان قليلا حتى نتناجى بلغة أخرى، ونتهادى النصح بها على طريقة هي أولى بنا وأحرى." (ص 236)

"أيها السامع: هذه مناجاتي لربي مع أخوات لها عندي، فإن حركك العشق الرباني، وحفز سرَّك الشوقُ الإلهي، وهبّ في صدرك النسيم القدسي، فتبلّغ إليّ، واحمل ثقلك عليّ.." (ص 277).

"يا هذا: دع ما وقر في أذنك من جملة ما هذيتُ به عليك، وحصِّل الآن ما أقول." (ص 287)

"يا هذا: عيب هذا الحديث خافٍ، والرمز عنه متجافٍ، وإنما ندندن حول هذه المعاني."(ص 319)

"خذ حديثي جملة فتفصيله باهظ، واقنع بالعنوان فمفضوضه موحش" (ص 376)

"اسمع مني – فديتك – وارفق بي – حميتك – فهذا كله نُفاثة صدر قد امتلأ بالغيظ، وعصارة فضل قد ابتلي بالنحس" (ص 393)

"هذا كله بِساطٌ طيُّه أَولى، ونشْرُه أبلى، ولكن الغريق بكل مرثية حقيق"

"اللهم إنا قد لهجنا بهذه الوساوس والهواجس، شغفًا بذكرك، وتلذّذًا بكل ما يكون خبرًا عنك" (ص 425)

ليس هناك وصف يمكن أن ينطبق على كتاب "الإشارات"، أبلغ من هذه الأوصاف في تنوعها، وقد انتقيناها انتقاء من بين أوصاف لا نهاية لها، يطلقها المتكلم في كل صفحة تقريبًا على حديثه المتصل أو كتابه الطويل؛ بحيث يتأكد من هذه النقول المختارة ما وصف به المتكلمُ حديثَه الطويل، مع تقطّعه وانبتاره وتشعبه وانتثاره، وتنقله من فن إلى فن.

والحقيقة أن الأمر لا يتوقف عند هذا الوصف الواعي لما في الكتاب من طول وتنوع وعنف وتمزق وطلب لا يتوقف لرحمة التواصل، بل ينعكس كذلك وبصورة لا واعية، في نوعية المعجم الذي يسري في هذه النقول (شجون، طافح، سوء، غريب محزون، متقلب، عناء، هباء، غثاء، يأس، أعاجيب، زلل، شكية، بلية، رزية، عَبْرة، تقطُّع، انبتار، تشعُّب، انتثار، باهظ، موحش، متجافٍ، عيب، غيظ، نحس..إلخ). هذا معجم يبدو في الإشارات وكأن لا نهاية له.

إن نوع المناجاة في جوهره - ومثاله الأساسي هنا هو كتاب الإشارات-  ليس سوى تناجٍ وتنادٍ متبادَل، يتجاذب طرفاه الحديثَ ولا يلتقيان إلى آخر العمر كما يقول أبو حيان، وهو حديث يغلب عليه الالتباس: بين قلب وقلب، وروح وروح، وعقل وعقل، بين عبد ورب، ورب وعبد،(44) بين منادٍ ومنادَى وبالعكس.

7 - حديث الأسرار
المناجاة حديث عن الأسرار؛ ومن ثم فإنه حديث قائم على المفارقة، لأنه يعتمد الإشارة الصامتة المكبوتة المقموعة الملغزة، أكثر مما يعتمد العبارة الصريحة المريحة. ومناجيات التوحيدي كما رأينا، ليست حديثًا في اتجاه واحد، وإنما هي طلب ممضٌّ للتواصل والتحاور، رغبة في كسر صمت الغربة، وطلب لرحمة الكلام، واتحاد الذات المنقسمة.
ولعل هذا ما يجعل من صيغ النداء والاستغاثة والشكوى صيغًا أساسية متناثرة في الكتاب كله، وهي صيغ بقدر ما تعلن عن التذلل والابتهال والدعاء، تعلن أيضًا عن الغضب واللوم والعنف المكبوت المضمّن في النداء المقتضب المتكرر الذي يتوجه به الراوي إلى مجهول: "يا هذا!"
وأوضح تعبير عن المفارقة في كتاب "الإشارات"، أنه فيض من الكلام الكثير الذي يظل مع ذلك صامتًا؛(45) فمع أن هذه أطول مناجاة في تاريخ الأدب العربي والإسلامي، فإنها لا تشفي غليلاً ولا تجيب على سؤال ولا تركن إلى تلاؤم أو انسجام، بل هي على العكس تنتصر لقيم مناقضة، قيم كالنفي والاختلاف والتناقض والسلب والاندهاش والرعب.

كان عمل أبي حيان في الإشارات – كما يقول مصطفى ناصف – محاولة لإنقاذ اللغة، عن طريق إعادة النفي ليصحب الإثبات..إنقاذ للغة من براثن التوكيد..تنمية مستوى يتعرض بين وقت وآخر للنزاع.. ضرورة الإبقاء على منظور الاختلاف الذي يناوشنا في الأعماق .. تجاهل فكرة التقرير الحاد التي غلبت على أبحاث اللغة..السعي إلى الصعب والحرص على اتجاهات متنوعة، والابتعاد بوضوح عما يسمى التقرير.. تأكيد الفقد الكامن في التحقق، فكل عاطفة تنطوي على نقيضتها، وتوكيدُ الكينونة يجب ألا يخفي مفهومُ الفناء، والتمييز بين الحالات لا يجب أن يخفي التشابك بين الوجود والفقد، بين التحقق والبطلان بين الوعي والتخيل، لابد من إعادة الاعتبار لقيم السلب والنفي والرعب(46).

وهذا العنصر بالتحديد، هو الذي ينقل كتاب الإشارات من مجرد كونه مجموعة من الأدعية والابتهالات الدينية الهادئة المؤكدة المطمئنة، إلى مناجيات أدبية تنطوي على سؤال قلق وشك ونفي واختلاف وتناقض واندهاش ورعب لا يهدأ، وهو الذي يجعلها تتحول في بعض المواضع إلى صراخ وهجاء، وليس مجرد شكوى وأنين تحت وطأة السر الصامت، وبحيث يتحول أدب المناجاة عنده إلى لون من السرد الجَوَّاني، القريب إلى ما صار يُعرف في الأدب الحديث باسم "تيار الوعي"، الذي تتحول فيه نفس المتكلم إلى عالم موّار محتشد، يعكس ما في العالم الأوسع من أصوات متناقضة.

تمامًا كروايات تيار الوعي، ليس في كتاب الإشارات الإلهية حكايات مكتملة ولا أبطال، اللهم إلا حكاية ذلك الراوي المتكلم إلى مخاطب مجهول، وعبر كلامه إلى المخاطب نتعرف على بطل روائي ممزق، تحيط به محنٌ ورزايا وشخوص وأزمنة وأحلام. يبدأ الكتاب وينتهي ونحن في النقطة نفسها؛ لا يتقدم الزمن، ولا يتغير المكان، إنما هو الراوي الملتاث في مواجهة مخاطبيه، يستذكر ويتأمل ويدعو ويهجو ويستنطق هؤلاء المخاطبين دون كلل.

في الرسالة الثالثة من كتاب الإشارات - وهي رسالة توهِم بأن الكتاب كله، كان ككثير من كتب أبي حيان السابقة، استجابةً لطلب أو ردًّا على رسالة من كبير أو وزير أو صديق - يتحدث المتكلم عن تجربته المريرة التي يضيق الوقت عن تسجيلها، والتي لا يمثل هذا الكتاب – على طوله وتنوع منابعه - سوى بداية للتعبير عنها. يقول:

وصل كتابك – وصلك الله بالخير وجعلك من أهله – تسألني فيه عن حالي، وتستنطقني به عن ظاهري وباطني، وعن سري وعلانيتي، وعن سكوني وحركتي، وعن انتباهي ورقدتي، وعن قراري واضطرابي، وعن يقيني وارتيابي، وعن تقاعسي وانتصابي، وعن عللي وأوصابي، وفي الجملة عن جميع أموري وأسبابي. وفهمته بالشرح والتفصيل على ما بي من بلائي وعذابي، فمن لي الآن بوقت ينفّس حتى أهز عليك جملة تستوعب عينك، وتفصيلاً يحول بينك وبينك، وكناية تبدد وهمك، وتصريحًا يقيد فهمك، وبلاغة تملأ قلبك، وعيًّا يستأسر لبك، واختصارًا لا تحصل منه على حرف، وإسهابًا يغرفك غرفًا بعد غرف، وواضحًا يصلك باليقين، ومستعجمًا يضلك عن السراط المستقيم؟

فأما حالي فسيئة كيفما قلبتها، لأن الدنيا لم تؤاتني لأكون من الخائضين فيها، والآخرة لم تغلب عليّ فأكون من العاملين لها؛ وأما ظاهري وباطني فما أشد اشتباههما، لأني في أحدهما متلطخ تلطخًا لا يقربني من أجله أحد، وفي الآخر متبذخ تبذخًا لا أهتدي فيه إلى رشد؛ وأما سري وعلانيتي فممقوتان بعين الحق، لخلوهما من علامات الصدق، ودنوّهما من عوائق الرِّق؛ وأما سكوني وحركتي فآفتان محيطتان بي، لأني لا أجد في أحدهما حلاوة النجوى، ولا أعرى في الآخر عن مرارة الشكوى؛ وأما انتباهي ورقدتي، فما أفرِّق بينهما إلا بالاسم الجاري على العادة، ولا أجمع بينهما إلا بالوهم دون الإرادة؛ وأما قراري واضطرابي فقد ارتهنني الاضطراب حتى لم يدع فيّ فضلاً للقرار، وغالب ظني أني قد علِقتُ به، لأنه لا طمع لي في الفكاك، ولا انتظار عندي للانفكاك؛ وأما يقيني وارتيابي، فلي يقين ولكن في درك الشقاء، فمن يكون يقينه هكذا كيف يكون خبره عن الارتياب؟ وأما تقاعسي وانتصابي، فقد وضح لك في عرض شهودي وغيابي، ومنظوم إطنابي وإسهابي؛ وأما عللي وأوصابي، فقد أنبأت عنهما في تضاعيف جوابي وكتابي؛ وأما أموري وأسبابي، فمن أجلها طال خطابي وعتابي." (الإشارات ، ص 17-19).

هذا نص يكشف أن التجربة الذاتية المريرة لراوي الإشارات وبطلها، هي التي رسمت خطة الكتاب، وجعلته أقرب ما يكون إلى نوع من السرد السيكولوجي الذي يصعد ويهبط، يحنو ويحتد، يحلو ويمرر، يوجز ويسهب، يكني ويصرح، يرق ويعنف.. إلخ. باختصار: هو سرد يتلون مع أحوال المتكلم، دون أن يطمئن إلى أنه احتوى هذه التجربة وعبر عنها بشكل كامل أو مُرضٍ.

8- ضجيج الصمت
الـمُناجِي التقيُّ صامتٌ ومُلجَم. في داخله حديثٌ طويل، لكنَّ في فمه ماءً كثيرًا كما يقول أبو حيان. إنه توتر آخر في الإشارات بين الصمت والقول.(47) غير أن لصمت المناجي ضجيجًا، يتجسد في خصائص صوتية وتركيبية ودلالية معينة، هي من أهم خصائص الشكل في الإشارات وفي نوع المناجاة عمومًا، وأهمها التكرار والسجع بظواهرهما المتعددة في النثر العربي، وهيمنة مجالات دلالية معينة تنقل العدوى والحالة التي يصفها الكتاب، فضلاً عن الوصول إلى لون خاص من المجاز، ومعظمها خصائص تصل الكتاب  بالشعر الغنائي. إن ما يمكن أن يُقال بكلمة واحدة، قد تقوله المناجاةُ بمائة كلمة، وتقرع إليه مائة باب؛ فالـمُناجي مأزوم ومحتاج؛ ولهذا لن يمل أبو حيان من تكرار البيت الشهير:

        أخلِقْ بذي الصبر أن يحظى بحاجته   ومُدمنِ القرع للأبواب أن يلِجَا

لكنه يدرك تمامًا أن هذا ليس بابًا ككل الأبواب، وإنما هو باب – كما يقول – " كلما قُرعَ زاد رتاجا، وشِربٌ كلما خوِّضَ صار أُجاجا" (ص 176). في كل صفحة من صفحات الإشارات الأربعمائة، لن يجد القارئ إلا هذا القرع المتواصل بالسجع والفواصل والترادف والطباق:

سيدي: لا تنكر تلوّن خطابي وإطالتي به كتابي، فكل ذلك لتباين أحوالي، وشتات أموري، واختلاف مقاصدي، فإني:

 أريد فلا أعطى، وأعطى ولم أرد             وقصّر علمي أن ينال المغيّبا

فلا جرم صباحي مساء، ومسائي عمىّ، ودعواي باطلة، وقولي زور، وانتباهي تعلل، ورقدتي موت، ورضاي خسيس، وعلمي تخيّل، ورجائي توهم، وظني شك، وحقي مخيلة، وطريقي حسك، وعطائي خديعة ومنعي طبع، وطبعي نكد وكمالي نقص، وولايتي عزل، وظاهري حسرة وباطني حيرة، وحالي سراب، وبنياني خراب، وجرفي هائر، وصوابي خطأ، وبقائي حلم، وفنائي روح وريحان. نعم، وكل كلي بكلي قبيح، وجميع جميعي بجميعي مرذول." (ص 395)

هكذا يتحول السجع، والفواصل المتكررة المتوازية تركيبيًّا وموسيقيًّا، إلى إدمان مميت لقرع الأبواب وعلى نحو يجسد حرفيًّا ضيقَ اللغة بما يريد القائلُ أن يفصح عنه أو أن يصل إليه. يتحول السجع والتكرار من مجرد زينة وحلية إلى شيء شبيه بالسحر أو التنويم أو الذكر الصوفي، يتحول إلى تعويذة لكسر الصمت ومحاربة العدم. إن أبا حيان  - كما يقول الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي – "لا يخبرنا عن العدم، بل هو يبنيه، مستخدمًا في بناء العدم كل ما في اللغة، ما يضيف إلى السلب سلبًا، وإلى النفي نفيًا، وإلى الإبادة إبادة. ليس في هذه السطور استطراد، وليس فيها استعراض، بل هي معاناة جسدية للفكرة المجردة، تتحول بها هذه الفكرة إلى وجود لغوي مركب، نقي نقاء الخلوص لا نقاء البساطة أو التكرار".(48)

وقد كان أبو حيان في كل هذا امتدادًا لميراث كتابي طويل، وجد تجليه الأكبر في القرآن الكريم والحديث الشريف، ومعظم فنون النثر العربي الشهيرة كالرسائل والخطب والمقامات. ورغم أنه ميراث ينهض على ما بدا أنه تكرار وزينة، فإن الأمر المؤكد أن أبا حيان في الإشارات قد أخذ هذا التراث في اتجاه مختلف؛ بحيث يمكن القول إنه فهم عُمْقَ المعنى ودلالة الإيحاء الذي يمكن لموسيقى التكرار وحدها أن تنقله. لقد تعامل أبو حيان مع نص الإشارات وكأنه نص مقدس يصدع مستمعيه بالحقائق عبر أنواع التكرار ونغماته المتنوعة المنابع والأشكال، والتي تفيض وتتدفق وكأن لا نهاية لها.

وكم من مرة في الكتاب تقطعت أنفاسُ القائل يأسًا، دون أن يصل قولُه إلى نهاية، فترك سامعَه عند وهم بديمومة القول المتكرر إلى ما لا نهاية. حدث هذا مرة حين تكرر سؤال القائل أو الكاتب إلى مستمعه أو قارئه: "أهكذا؟" ، فبدت الأسئلة وكأن لا نهاية لها، إلا أن ينتهي كلُّ شيء:

"ها أنا قد غسلت يدي من فلاحك، ها أنا قد يئست من صلاحك. أهكذا يكون من عرف الله سرًّا أو جهرا؟ أهكذا يكون من اعترف به رياءً أو إخلاصا؟ أهكذا يكون من تطاعم إحسان الله حاضرًا أو غائبا؟ أهكذا يكون من ذكر الله سرًّا أو جهرا؟ أهكذا يكون من اشتاق إليه ساكنًا أو متحرِّكا؟ أهكذا يكون من أحبّه متسليًّا أو متهالكا؟ أهكذا يكون من دعا إليه صادقًا أو كاذبا؟ أهكذا يكون من تمرّغ في نعمه صباحًا أو مساءً؟ أهكذا يكون من بودي بالآية متنبهًا أو نائما؟ أهكذا يكون من تلاطف شاهدًا أو غائبا؟ أهكذا يكون من يحافظ على حظّه راضيًا أو عاتبا؟ أهكذا يكون من هو محتاج مع من هو غنيّ؟ أهكذا يكون من هو عاجز مع من هو قويّ؟ أهكذا يكون من هو عبد مع من هو سيد؟ أهكذا هكذا أبدًا، إلى أن ينكسر القلم عند الكتابة، وإلى أن يعيا اللسان عند الخطابة، وإلى أن يهيم القلب في وادي المهابة، وإلى أن تفقد الروح في فلاة الغيابة" (الإشارات ، ص 92).

وحدث هذا مرة أخرى، وفي سياق من العتاب واللوم والتقريع مشابه لما حدث في المرة الأولى، وعلى نحو يكشف عن إدراك المتكلم أبي حيان لعبثية ما يقوم به من تكرار وإلحاح، وإدراكه أيضًا لدلالة هذا الذي يبدو عبثيًّا ومغزاه:

"يا هذا: اعتاصت والله الغايةُ على الغاية، وانتهت النهايةُ إلى النهاية، وأدرجت الآية في الآية، فلهذا ما صار الدواءُ داءً، والأسْوُ جراحا، والعطاءُ سلبا، والبلاغة عِيّا، والرشاد غَيّا، والنشر طيّا، والقبول ردّا، والوصال صدّا، والتمام نقصانا، والرجحان وكْسا، والتوجّه استدبارا، والتبسُّم استعبارا، والربح خسرانا، والزيادة نقصانا، والرضا سخطا، والأمر فُرُطا، والمستقيم محالا، والثابت مزالا، والطاعة ذنبا، والإجابة قلبا. وعلى هذا إلى أن ينفد القول، ويضمحلَّ الاسم، ويبيد الفعل، وينحرف الحرف، ويُنسى التأليف، ويطوى الضمّ، وينشر النشر، وتفنى العبارة وتزول الإشارة،وإلى أن يقال للقائل: قل فلا يقول، ويقال للسامع:/ اسمع فلا يسمع، ويقال للمتحرك: اسكن فلا يترمرم، ويقال للساكن: تحرك فلا يتهمهم". (الإشارات ص 198)

لا شك  أن التعامل مع اللغة في كتاب الإشارات ينبع من خلفية فلسفية وثقافية، وهي خلفية تمزج بين موروث المتصوفة المبني على فكرة الإشارة التي لا تسعها العبارة، وموروث النثر العربي الرسمي القائم على ألوان من الترصيع والتكرار . ويبدو أن المنبعين يمتزجان حقًّا، ويؤدي امتزاجهما إلى توصيل تجربة أبي حيان الخاصة في الإشارات.

يتحدث الرجل من ناحية – شأن كثير من المتصوفة الكبار - عن ضيق اللغة الإنسانية بتجربة البشر الواسعة والمؤلمة في هذا العالم، وعن حاجة البشر إلى التدرب على تجاوز حدود هذه اللغة الضيقة، حتى لو تحول كلامهم إلى هذيان وهرف وفهاهة وجمجمة وهمهمة، إلى آخر هذه الأوصاف التي يطلقها المتكلم على كلامه:

"يا هذا: ارحم غربتي في هذه اللغة العجماء، بين هذه الدهماء الغثراء، وتعجّب من ندائي في هذه الفلاة الغبراء، بين الأرض والسماء". (الإشارات، ص 94)

"أنا والله في أمر لا ينادَى وليده، ولا يرجَى جهيده، ولا تنشَد ضالته، ولا تؤمَن غائلته، لأني مع طيٍّ مستور بيقين، وضمير محشوٍّ بفتون، وقلب مقلب على فنون، إن نبست من خبري بحرف، سقيت كأس حتف. فلا جرم كلامي كله كناية، وإشاراتي كلها مدمجة، وبياني من أوله إلى آخره فهاهة، والتهمة عليّ مشتملة، والآفة بي محيطة، والبال قلق، والجو أكلف، والسر أغلف، وأنا أهرف بما أعرف وبما لا أعرف. (الإشارات، ص 122).

" هيهات، ضاق اللفظ، واتسع المعنى، وانخرق المراد، وتاه الوهم، ، وحار العقل، وغاب الشاهد في الغائب، وحضر الغائب في الشاهد، وتنكرت العين منظورًا بها ومنظورًا إليها ومنظورًا فيها. فكيف يمكن البيان عن قصة هذا إشكالها؟" (الإشارات،ص 152).

"يا هذا: إن كنت غريبًا في هذه اللغة فاصحب أهلها، واستدم سماعها، واشغل زمانك باستقرائها واسترائها، فإنك بذلك تقف على هذه الأغراض البعيدة المرامي، السحيقة المعامي، لأنها إشارات إلهية وعبارات إنسية، إلا أن العبارات الإنسانية ليست مألوفة بالاستعمال الجاري، وأنت محتاج إلى أن تألف في الأول بطول السماع، ثم تتصعد من ذلك إلى الإشارات الإلهية ببسط الزراع." (الإشارات، ص 215)

"إن العارف وإن ترقى في سلالم المعرفة بحقائق الحال على تبين المكاشفة، وغلبات المشاهدة، ليس له أن يخبر إلا بعد الإذن له، وإذا ورد الإذن ليس له إلا الجمجمة إذا قال، والهمهمة إذا سكت، حتى يدرج فيما إليه تدرج، ويعرج إلى ما عنه تعرج، لغة والله مشكلة وعلة والله معضلة" (الإشارات، ص 241)

أما ترى انتشاري في كلامي، ووقوعي دون مقصدي ومرامي، وتلعثمي في عبارتي، وتعثري في إشارتي، حتى كأني أجنبي من حالي، أو غريب في مالي .." (ص 284)

لكن الرجل من ناحية أخرى خبير بتقاليد النثر العربي الرسمية، فهو واحد من ناسخيه في الأوراق، وواحد ممن صحبوا أعلامه الكبار كابن العميد والصاحب بن عباد، بل أصبح هو نفسه واحدًا من هؤلاء الأعلام؛ فقد كتب قبل الإشارات عددًا كبيرًا من عيون النثر الموسوعية كالإمتاع والمقابسات والذخائر والهوامل .. إلخ.

ولم يكن من الممكن أن ينقطع أبو حيان عن كل هذه التقاليد وينخرط في تجربة الكتابة الصوفية دون أن تترك هذه الخبرة العميقة أثرها، فلا كتابة النثر الرسمي ظلت كما هي، ولا الكتابة الصوفية ظلت كما هي، وإنما تشكل من امتزاجهما أسلوب خاص قادر على التعبير عن شخصية صاحبه وتناقضاتها. كان أبو حيان كما يقول آدم متز: "عالمًا بدقائق الأسلوب الرائع وقادرًا عليه؛ غير أننا نكاد لا نلاحظ في أسلوبه ذلك التكلف الذي نجده عند غيره من الأدباء. ولم يكتب في النثر العربي بعد أبي حيان ما هو أسهل وأقوى وأشد تعبيرًا عن شخصية صاحبه مما كتب أبو حيان. ولقد كان أبو حيان فنانًا غريبًا بين أهل عصره، وكان يعاني وحشة من يرتفع عن أهل زمانه، ويتقدم عليهم".(49)

وإذا كان في النثر العربي– كما يقول جمال الغيطاني –  اتجاهان رئيسيان: اتجاه مستقر واضح لا يخرج عن الأسس البلاغية المعروفة، وهو الاتجاه الرسمي المؤسسي المسيطر، واتجاه آخر يعبر عما هو أعمق، عما لا يُدرَك في الظاهر، عن تقلبات الذات وأحوالها، وهو الاتجاه الذي حاول فيه المتصوفة الكبار؛ فإن أبا حيان التوحيدي "قد وحّد بين ظاهر النثر وباطنه، بين الأساليب التي تعارف عليها القوم، والمعاني التي لم يطرقها أحد، بالطريقة التي يألفها الكافة".(50)

وإذا كان لصمت المناجي كل هذا الضجيج المتجسد في خصائص صوتية وتركيبية وموسيقية، فإن له عمقًا آخر مختلفًا يتجلى في خصيصة دلالية واضحة، هي الإقامة في المنطقة الواصلة بين الشعر والنثر، ليس فقط من خلال استخدام الشعر مرارًا وتضمينه في نسيج الكلام، فذلك هو الحال في النثر التقليدي، وليس بالتركيز على العناصر الإيقاعية وحدها، وإنما بالذهاب إلى عمق الشعر المتمثل في المجاز القائم على التكثيف لا الإسهاب.

المجاز في الإشارات يتجاوز فكرة التشبيه والاستعارة البلاغيتين التقليديتين، ويطمح إلى القفز على سطحية علاقة الشبه للوصول إلى منطقة المبهم الذي لا سبيل إلى رسمه إلا بالمجاز: "ثم ختم عليَّ بالصبر وأغلق دوني بابه، ونهنهني عن الشكوى وأغلق عليَّ أسبابه، وطوّفَني على رءوس الأعداء ساهمَ الوجه بالمخالفة، ذابلَ الشفة باليأس، كئيب البال بالحزن، مقيد الشاهد والغائب بالتحكم، متلجلج اللسان في الاعتذار، مردود الحجة عند الانتصار: إن رمقتني عينٌ رحمتني بالبكاء، وإن دنا مني إنسان وجدني كرسم الهباء."  (ص 324)

 ورغم أن الكتاب لا ينهض في مجمله على مبدأ التكثيف الشعري الذي يتوسل بالمجاز، فإن بعض رسائله(51)  ذات الموضوعات المستقلة، تكاد تتحول إلى قصائد لها - فضلاً عن موضوعها الخاص – بناؤها وصورها، ومتكلمها ومتلقيها الخياليان.

*  *  *

يمكن إذن أن نوجز خصائص المناجاة نوعًا أدبيًّا، وكما تبدت في كتاب الإشارات الإلهية، كما يلي:

-      موقف اتصالي خاص بين أنا المتكلم وأنت المخاطب، وهو موقف يكشف عن رغبة حارقة لا تتحقق في التواصل والالتئام، أو على الأقل في مجرد تبادل الحوار.

-      ليست المناجاة مجرد دعاء أو ابتهال يتجه من طرف إلى طرف، بل هي قبل ذلك إحساس ممض بالغربة، يدور بلا نهاية في فلك اليأس والشكوى والتردد.

-      المناجاة طلب لا يتخلى عن الأمل برغم اليأس المحيط والاغتراب. المناجاة قرع دائم للأبواب، ومن ثم فالتكرار روحها وجوهرها، سواء على مستوى الأصوات، أو التراكيب، أو المفردات والصور. والتكرار فيها ليس زينة بلاغية، بل تجسيد كامل لحالة انفعال خاصة.

 

كلية الآداب – جامعة القاهرة

 

الهوامش والملاحظات

(1)- معظم مؤرخي النثر العربي القديم ودارسيه ينتمون إلى هذا النوع، فقد تربوا على دروس البلاغة العربية التي هي بلاغة الشعر في الأساس، وحين نظروا في فنون النثر العربي القديم واتجاهاته لم يروا منه إلا ما يتفق مع ذوقهم وفهمهم لماهية الأدب، ويمكننا أن نضرب مثلاً هنا بما أنجزه شوقي ضيف، سواء في كتابه عن "الفن ومذاهبه في النثر العربي"، أو في سلسلته المعروفة في تاريخ الأدب العربي.
 (2)- معظم الدارسين من هذا الفريق ينطلق عملهم من اهتمام بالأدب العربي الحديث، ويقف على رأس هؤلاء دارسون مثل محمد مندور وعلي الراعي وشكري عياد (في بعض كتاباتهم عن المقامة والخبر والحكاية..)، أولئك الذين قرأوا مناهج الدرس الأدبي الغربي وتأثروا بها، وكانت مهمتهم الأساسية لفت نظر القراء إلى ضرورة توسيع نطاق ما تتضمنه كلمة "أدب"، بحيث تضم جوانب مما عرف باسم "الأدب الجغرافي العربي"، وكتابات المؤرخين المسلمين في عصور محتلفة، وربما ترك هؤلاء الدارسون مهمة الدرس المعمق الموسع إلى الأجيال التالية من الدارسين، الذين توقف بعضهم فيما بعد عند فنون كالخبر والرحلة، وتوقف بعضهم الآخر عند كتابات المؤرخين، بينما التفت البعض الثالث إلى كتابات المتصوفة..
 (3) - ما من شك أن المستشرقين أولوا كتابات المتصوفة اهتمامًا خاصًّا، فحققوا وقدموا معظم ما تركه متصوفة كالحلاج والنفري وابن عربي على سبيل المثال.
 (4) - من اللافت هنا أن يقوم شاعر كأدونيس وقاص كالغيطاني (على سبيل المثال أيضًا) بإعادة تقديم ما كتبه المتصوفة والمؤرخون، والكشف عن جوانب غناه وجماله.
 (5) - قدم دارسون من المغرب العربي خصوصًا دراسات أكاديمية عن أنواع جديدة من النثر العربي القديم، (عن "الخبر" قدم التونسي محمد القاضي دراسة مستفيضة، وعن"النادرة" قدم المغربي محمد مشبال دراسة مركزة)، هذا فضلاً عما قدمه دارسون آخرون كناصر الموافي من مصر عن الرحلة نوعًا أدبيًّا، وأماني سليمان من الأردن عن الأمثال العربية القديمة.
 (6) - من المؤكد أن تسمية "المناجاة" ليست تسمية جديدة وليست من عندياتي؛ فقد أشار إليها كثير من الكتاب والدارسين القدماء والمحدثين (بمن فيهم أبو حيان التوحيدي نفسه وكثير من المتصوفة) بصفتها لونًا من الكتابة الأدبية، كما أشار إليها الزهاد والمتصوفة بصفتها ممارسة دينية خاصة، أو لونًا من الدعاء الذي يكشف عن علاقة حميمة بين العبد وربه. أضف إلى هذا أن تسمية "المناجاة" شكلت جانبًا مهمًّا من الموروث الشيعي في الأدعية.  وعلى أية حال، فـإن "المناجاة" قديمة في الثقافة الإنسانية كلها، بما في ذلك الثقافة الإسلامية. غير أن كل ذلك لا ينفي أن النظر إلى ما ينتج عن هذه الممارسة من كلام وكتابة، بصفته نوعًا أدبيًّا Literary Genre مستقلاًّ له خصائصه وتقاليده وتطوراته، ربما يكون أمرًا جديدًا يستحق المتابعة والدراسة المستفيضة.
 (7) - يتحدث أدونيس في الحقيقة عن فرادة التجربة الصوفية كلها في اللغة العربية فيقول: ""ليست التجربة الصوفية، في إطار اللغة العربية، مجرد تجربة في النظر، وإنما هي أيضًا، وربما قبل ذلك، تجربة في الكتابة" راجع أدونيس (علي أحمد سعيد): السريالية والصوفية، لندن ، دار الساقي ط3، دون تاريخ، ص 22.
 (8) - المناجاة في لسان العرب هي "التسارّ" أو تبادل الأسرار خفية:" و"قد ناجى الرجلَ مناجاةً: سارَّهُ، وانتجى القومُ وتناجَوا : تسارُّوا"(لسان العرب، مادة "نجا"، القاهرة، دار المعارف، بتحقيق عبد الله علي الكبير ومحمد أحمد حسب الله وهاشم محمد الشاذلي ، ص 4361). و"النجو والنجوى: السر بين اثنين" (أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (معجم مقاييس اللغة/5/ 399) مادة نجو. تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، دار الفكر للطباعة والنشر، 1979) و " والنجوى: السر" (الفيروزابادي( مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي الشيرازي) (القاموس المحيط/ 4/386)، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1980)، و"النجوى: إخفاء الآفات عن اطلاع الغير" ص 965، و"المناجاة: مخاطبة الأسرار عند صفاء الأذكار للملك الجبار"  ص 943.(رفيق العجم: موسوعة مصطلحات التصوف الإسلامي،بيروت،  مكتبة لبنان، 1999)
 (9) - حول التفرقة بين "النوع" و"الصيغة" في دراسات النوع الأدبي راجع:
- Alastair Fowler, Kinds of Literature: An Introduction to the Theory of Genres and Modes, p:49

- خيري دومة: تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة، القاهرة 1998،  الهيئة المصرية العامة للكتاب، (راجع الفصل الأول على وجه الخصوص)
 (10) - هذا ما يقول به واحد من أهم دارسي النوع المعاصرين، أعني المنظر الروسي ميخائيل باختين. (راجع ميخائيل باختين: شعرية دوستويفسكي، ترجمة جميل نصيف التكريتي، المغرب، دار توبقال، 1986، ص 154-155)
 (11) - النص من كتاب "كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال" للعلامة علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي البرهان فوري ( المتوفى سنة 975 هـ)  ضبطه وفسر غريبه الشيخ بكري حياني، وصححه ووضع فهارسه ومفتاحه الشيخ صفوة السقّا، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط 5 ، 1985، (الجزء الثاني ص 175). ويورد صاحب الكنز أن الدعاء "رواه الطبراني عن عبد الله بن جعفر"، وأنه "كان دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع عشية عرفة".
(12) - يشير أحد الباحثين المهتمين بأدب التصوف إلى أن "المناجاة هو الأدب الذي افترعه الصوفية في مناجاة الله تعالى والتحدث إليه، وهو لون من ألوان النثر"( علي الخطيب: اتجاهات الأدب الصوفي، القاهرة، دار المعارف، 1404هـ ، ص 59) ويقول في سياق آخر: "أدب المناجاة هو الحديث إلى الله عز وجل والتضرع والابتهال إليه، وغالبًا ما يكون ذلك في الليل، بعيدًا عن ضوضاء الناس وعجيج الكون، وعدم وجود أحد معه، لذلك سمي مناجاة.وذلك الأدب الرفيع هو الذي أنشأه المتصوفة" (علي الخطيب: في رياض الأدب الصوفي، القاهرة، دار نهضة الشرق، 2001، ص 204). وتشير دارسة أخرى إلى أن المناجيات تقع على رأس الأشكال التي كتب فيها المتصوفة، وهي " مناجيات لله (عز وجل) والتضرع إليه في شكل تراتيل وأدعية وأوراد تقترب كثيراً، لغتها من لغة القرآن الكريم وفيها توخٍ لملامح بلاغية في التعبير".( ناهضة ستار: بنية السرد في القصص الصوفي، دمشق ،اتحاد الكتاب العرب، 2003، ص 44).
(13) - يرجح عبد الرحمن بدوي في مقدمته للكتاب "أن يكون هذا الكتاب من كتب التوحيدي الأخيرة، ومما كتبه في آخر عمره.." راجع المقدمة في طبعة الكتاب ضمن سلسلة الذخائر، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 1996، ص 34-35. وراجع كذلك ص 9 في مقدمة وداد القاضي، حيث ترجح أن أبا حيان قد كتب كثيرًا من رسائل الإشارات بعد أن تجاوز السبعين، أي في أواخر القرن الرابع. ولكنها ترى كذلك أن شكل الرسائل قد يرجح أنها مكتوبة على فترات وفي مناسبات متباعدة، وبهذا ربما لا يكون الكتاب مؤلفًا دفعة واحدة، وهذا ما ذكره أيضًا شوقي ضيف؛ إذ يقول:" نظن ظنًّا أن الإشارات الإلهية مثلها مثل كثرة كتبه لم تؤلف في عام واحد ولا في أعوام قليلة، فبعضها يرجع إلى الستينيات من حياته إن لم يكن إلى الخمسينيات، وبعضها متأخر في السبعينيات من حياته وبعد السبعينيات، يدل على ذلك ما يجري في كلامه من هجر للدنيا وترهاتها وتعلق بالله ووقوف طويل ببابه في طلب العفو والرجاء في نعيمه.." (شوقي ضيف: عصر الدول والإمارات(الجزيرة العربية – العراق – إيران)، القاهرة، دار المعارف 1980، ص 460). هل كتب هذا الكتاب حقًّا على فترات متباعدة وعلى مدى زمني طويل كما يقول شوقي ضيف؟ أم أنه جاء نتاجًا لخبرة تزايدت مرارتها مع الأيام والسنين، فكُتب في النهاية نتيجة لدفقة انفعالية واحدة طويلة لا تكاد تنقطع. طبيعة الكتاب تشير إلى الرأي الثاني؛ لأننا لا نكاد نعثر على أي تفاوت أسلوبي بين رسائل الكتاب، والأهم من هذا أن هناك تذكيرًا دائمًا من قبل المتكلم فيه بما وصل إليه "الكتاب" من طول مؤلم. إن الخبرة التي يعكسها الكتاب في مجمله لا تكاد تختلف عن الخبرة التي تعكسها رسالة أبي حيان الشهيرة في أواخر حياته حول حرقه لكتبه، وهي الرسالة التي سجلها ياقوت والتي تكاد – في أسلوبها وفي حرارتها ومرارتها- تكون جزءًا من رسائل الإشارات. ولكن مع كل ذلك، ليس من المستبعد أن يكون أصل الكتاب كله مجموعة من الرسائل التي كُتبت في أوقات متباعدة وإن ضمتها تجربة مريرة واحدة، وهذا ما يمكن أن نفهمه مما أشار إليه أبو حيان نفسه في الرسالة الثانية من الكتاب، حين يقول:" ..وإنما أبثُّ في وقت بعد وقت بعضَ عوارض النفس عند الفيض الشديد، والغيظ المديد، وحين يبلغ العجز آخره، ويستغرق اليأس ظاهره وباطنه، فإنما أحاول بذلك البثّ تخفيفا، فلا أزداد به إلا تثقيلا .." (الإشارات ص 16).
(14) - من المعروف أن ذلك القمع كان قد وصل إلى ذروته في مأساة الحلاج (الحسين بن منصور الحلاج 244-309 هـ) التي انتهت بتعذيبه وقتله وصلبه وحرقه.
(15) - المحاسبي (الحارث بن أسد) ت 243 هـ، وهو صاحب كتاب "التوهم" الشهير الذي يخاطب فيه نفسه متوهمًا رحلته بعد الموت خطوة خطوة وكيف تكون، وتشير عناوين كتبه الأخرى إلى هذه النزعة الواضحة إلى مخاطبة الذات ومعاتبتها. ومن أشهر هذه الكتب "معاتبة النفس"، تحقيق محمد عبد القادر عطا، القاهرة، دار الاعتصام، 1986. وكتاب "بدء من أناب إلى الله (ويليه معاتبة النفوس)، تحقيق مجدي فتحي السيد، القاهرة، دار السلام للطباعة والنشر والترجمة، 1991.
(16) - الجنيد (الإمام أبو القاسم الجنيد بن محمد) ت 297هـ وهو كما يقول علماء التصوف إمام هذه الطائفة. ورسائله من أشهر ما تركوا. راجع: رسائل الجنيد، تحقيق علي حسن عبد القادر، القاهرة، الناشر برعي وجداي، 1988.
(17) - أما البسطامي (سلطان العارفين أبو يزيد الأكبر طيفور بن عيسى)  ت 261 هـ، والحلاج (الحسين بن منصور الحلاج) ت 309 هـ؛ فقد عرفا بشطحهما وإيغالهما في تجربة التصوف إلى أبعد حد، ويمكن الرجوع إلى كتابات البسطامي في (أبو يزيد البسطامي: المجموعة الصوفية الكاملة، تحقيق وتقديم قاسم محمد عباس، دمشق، دار المدى، 2004)، وكتابات الحلاج في (قاسم محمد عباس: الحلاج (الأعمال الكاملة)، بيروت، دار رياض الريس للكتب والنشر، 2002).
(18) -  النفري (محمد بن عبد الجبار) ت 354 هـ، وقد ترك نصًّا آخر فريدًا من نصوص الأدب الصوفي، وهو كتابه الشهير "المواقف والمخاطبات"). راجع كتاب المواقف لمحمد بن عبد الجبار الحسن النفّري، ويليه كتاب المخاطبات، بعناية وتصحيح واهتمام أرثر يوحنا أربري، القاهرة، مكتبة المتنبي (Cambridge University Press 1935)
(19) - "البارانويا مرض عقلي يتميز بوجود نسق منظم من الأفكار الهاذية وسلسلة منطقية من النتائج المستنبطة من مقدمات خاطئة خطأً مطلقًا يؤمن بها المريض إيمانًا مطلقًا لايمكن زعزعته أو تعديله أو التشكيك فيه. ومن حيث المضمون نجد أن فكرة الاضطهاد والريبة من نوايا الغير وأفعالهم تقوم بدور رئيسي في هذا المرض. أما من حيث الشكل فإن المريض يستخدم عملية الإسقاط استخدامًا متصلاً، فينسب إلى الغير أفكاره ومشاعره، ولا يفتأ يؤول حركات الآخرين وسكناتهم بما ستفق واعتقاده المرضي، بحيث يتحول الصراع الداخلي - في النهاية – إلى صراع خارجي بين المريض والآخرين، منقطع الصلة – بالنسبة للخبرة الشعورية للمريض – بأصله الذاتي".  راجع: سيجموند فرويد: الموجز في التحليل النفسي، ترجمة سامي محمود علي، وعبد السلام القفاش، مراجعة مصطفى زيور،القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2000. ص 126.
(20) - أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، صححه وضبطه وشرح غريبه أحمد أمين وأحمد الزين، بيروت، دار مكتبة الحياة، (د.ت)، ج3، ص 97.
(21) - راجع الرسالة كاملة في كتاب ياقوت الحموي الرومي: معجم الأدباء، إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، تحقيق إحسان عباس، بيروت، دار الغرب الإسلامي، ط1 1993، ج5،ص 1929-1933
(22) -   هذا السؤال كان عنوان دراسة يوسف زيدان: هل كان التوحيدي صوفيًّا أو فيلسوفًا؟، مجلة فصول، المجلد الحادي عشر، العدد الأول، القاهرة، ربيع 1996، ص 94-114.
(23) - لكتاب "الإشارات الإلهية" نشرتان، إحداهما ظهرت في القاهرة عام 1951، بتحقيق وتقديم عبد الرحمن بدوي، والثانية ظهرت في بيروت عام 1973، بتحقيق وداد القاضي. ومع أسبقية النشرة الأولى وأهمية المقدمة العميقة المطولة التي كتبها المحقق، فإنني سأعتمد هنا النشرة الثانية بسبب أنها الأحدث والأدق، وبسبب أنها احتوت ملخصًا للجزء الثاني المفقود من الكتاب جاء من النسخة الثانية التي اعتمدت عليها المحققة، وهو ما لم يتوفر للنشرة الأولى.
(24) - يقول عبد المنعم الحفني في "الموسوعة الصوفية": " والكتاب درة من درر الآداب العالمية، نهج فيه التوحيدي على منهج المناجاة، وليس له نظير في ذلك إلا كتاب مناجاة الفرد الكامل للصدر القونوي"، راجع عبد المنعم حفني: الموسوعة الصوفية، بيروت، دار الرشد ، 1992، ص 87. وصدر الدين القونوي المتوفى 673ه هو أهم تلاميذ محي الدين بن عربي، وكان أهم من نشروا الفكر الصوفي في بلاد فارس وبلاد الروم. وقد بحثت في كتب الرجل ( ومعظمها مخطوط) فلم أعثر على كتاب بالعنوان المذكور، لكن الرجل اشتهر بشرحه لابن عربي وبمناجياته في كتب مثل " نفثة المصدور وتحفة الشكور" الذي يحتوى على عدد كبير من المناجيات الصوفية الحميمة و "النفحات الإلهية" الذي يضم بعض حالاته الصوفية ورسائله التي كتبها إلى  آخرين. حول القونوي وكتاباته راجع مقالة وليم شيتيك المنشورة على الرابط التالي في شبكة الإنترنت:
- William C. Chittick, "The Last Will and Testament of Ibn 'Arabi's Foremost Disciple Sadr al-Din Qunawi", http://www.ibnarabisociety.org/articles/sadraldinwill.html
(25) - عبد الرحمن بدوي : أديب وجودي في القرن الرابع الهجري: مرجع سابق، ص 38. ولا يتردد بدوي في أن ينسب أبا حيان إلى الفكر الوجودي، فيجعل عنوان مقدمته "أديب وجودي في القرن الرابع الهجري" وتنهض المقدمة كلها على المقارنة بين أبي حيان والأديب الألماني فرانز كافكا ، وأدباء  ومفكرين وجوديين آخرين كجابرييل مارسيل. ويرصد بدوي هذا الطابع الوجودي في تصور أبي حيان لطبيعة وجود الإنسان في الكون، وفي تصوره للكتابة ماهيتها ووظيفتها، بل في تجربته الحياتية المريرة كلها.
(26) - "رسالة" هو المصطلح الذي أثبته في نشرته عبد الرحمن بدوي عنوانًا لكل فصل، معتمدًا على ما ورد في المخطوطة المتاحة من الكتاب عندما نشره، بينما تخلت وداد القاضي في نشرتها للكتاب عن مصطلح رسالة وعن كل العناوين الداخلية في الجزء الأول، واستبدلت بها أرقامًا للنصوص، وهو ما أعطى للكتاب قدرًا أعلى من الاتصال فيما يشبه الرواية الواحدة المتوالية الفصول. ولمصطلح "الرسالة" في موروثنا العربي والإسلامي معنيان، ارتبط أحدهما بالكتابة وكتاب الدواوين، حيث ذلك النوع من الكتابة الفنية المصطنعة للرسائل الديوانية والإخوانية التي تعتمد على تكديس ألوان من البديع وعلى التأنق في الصياغة، وحيث تلك الرسائل الشهيرة في تراثنا العربي، وهي نصوص أقرب ما تكون إلى الدراسة أو المقالة المطولة حول موضوع معين (مثل رسائل الجاحظ) أو إلى القصص والرحلات (مثل رسالة الغفران للمعري ورسالة التوابع والزوابع لابن شهيد ورسالة ابن فضلان..)، أما المعنى الآخر للرسالة فهو لا ينفصل انفصالاً كاملاً عن المعنى السابق، غير أنه ربما يرتبط ارتباطًا ضمنيًّا بفكرة الرسالة المقترنة بالنبوة والتبليغ، "فالنبوّة قبول النفس القدسية حقائق المعلومات والمعقولات عن جوهر العقل الأول، والرسالة تبليغ تلك المعلومات والمعقولات إلى المستفيدين والقابلين.. وحقيقة الرسالة إبلاغ كلام من متكلم إلى سامع، فهي حال لا مقام ولا بقاء لها بعد انقضاء التبليغ، وهي تتجدد"( رفيق العجم: موسوعة مصطلحات التصوف الإسلامي، مرجع سابق، ص 397) ولعل هذا هو المعنى المقصود لاستخدام المصطلح في سياق النثر الصوفي، حيث يكثر استخدام "رسالة" بهذا المعنى في عناوين كتبهم، كرسائل الجنيد ورسالة القشيري، ورسائل أبي حيان هذه، وأبو حيان يستخدم مصطلح "الرسالة" بالمعنيين في كثير من عناوين كتبه التي وصلنا بعضها (مثل الرسالة البغدادية، ورسالة الصداقة والصديق) ولم يصلنا بعضها الآخر ولكننا عرفنا به مما ذكره ياقوت الرومي في معجم الأدباء (رسالة في أخبار الصوفية، ورسالة في الحنين إلى الأوطان، الرسالة الصوفية، ورسالة في ثمرات العلوم).  ومهما يكن من أمر، فإن مصطلح "رسالة" يعني لونًا من الخطاب المباشر إلى مستمع أو قارئ، سواء كان خطابًا يبلور موضوعًا كاملاً، أو خطابًا للبوح بالأسرار والإشارات. وقد ظلت فكرة "الرسالة" على طول التاريخ الأدبي تستخدم بصفتها حيلة لنقل المعلومات ولنقل الحكايات، إلى أن وصلنا إلى استخدامها المعروف في سياق القص الحديث والمعاصر.
(27) - عبد الرحمن بدوي: أديب وجودي في القرن الرابع الهجري، تصدير نشرة عبد الرحمن بدوي لكتاب الإشارات الإلهية، سلسلة الذخائر، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 1996، ص 21-22.
(28) - المرجع نفسه، ص  33.
(29) - راجع تقديمها للكتاب  ص 17-18.
(30) - آمنة بلّعلى :الحركيّة التواصليّة في الخطاب الصّوفي (من القرن الثالث إلى القرن السابع الهجريّين)، دمشق، منشورات اتحاد الكتّاب العرب 2001، ص 95. ويبدو أن هذا هو ما يميز ما كتبه التوحيدي عما كتبه المتصوفة السابقون وربما التالون كذلك؛ إذ على الرغم من الطابع المونولوجي لكتاب الإشارات في مجمله، فإن شخصية التوحيدي التي تبدت تمامًا في كتبه الأخرى كالإمتاع والمقابسات والهوامل - وهي شخصية لا تعرف انسجام الصوت الواحد، بقدر ما تعرف تعددية الصوت، أو الصوت المنقسم على نفسه – قد فرضت نفسها هنا أيضًا، وإن بدا الحوار في الإشارات حوارًا هذيانيًّا مجنونًا بين طبقات وأصوات متعددة تتألف منها نفس واحدة. ومن الغريب أن من درسوا فكرة السؤال والحوار والتعددية في فكر التوحيدي وأدبه لم يلفتوا كثيرًا إلى كتاب الإشارات. راجع مثلاً:
- محمود أمين العالم: تساؤلات حول تساؤلات الهوامل والشوامل.
- حامد طاهر: فلسفة السؤال والتساؤل عند التوحيدي
- ألفت كمال الروبي: محاورات التوحيدي وتعدد الأصوات.
 (وهذه الدراسات الثلاث، منشورة في مجلة فصول، المجلد 14،العدد الرابع، القاهرة، شتاء 1996)
(31) - راجع هنا محاورة أبي حيان للصيمري في المقابسة الثامنة عشرة من كتاب "المقابسات"، ص  161-162، بتحقيق حسن السندوبي، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، 1929. وإلى شيء قريب من هذا يشير أبو حيان في الإشارات إلى ما يسميه "العويصة"، يقول:"..فافطن لهذه العويصة التي هي إقبالك على نفسك وإدبارك عن نفسك .." (الإشارات ص 39)
(32) - آمنة بلعلي: المرجع السابق، ص 121-126.
(33) - لعل من المفيد هنا الإشارة إلى أنني اكتشفت كتاب "الإشارات" منذ عشر سنوات، حين كنت أعمل على بحث حول فكرة "الحديث إلى المخاطب" في الموروث النثري العربي، وذلك ضمن بحث أوسع عن السرد بضمير المخاطب.
(34) - مصطفى ناصف : محاورات مع النثر العربي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، فبراير 1997. (مقتطفات من تحليله لكتاب الإشارات ص 104-125)
(35) - مصطفى ناصف: المرجع نفسه، ص 110.
(36) - هذا عنصر جوهري لا يمكن استيعاب الكتاب من دونه، وهو العنصر الذي يبقى بعد كل قراءة: ذلك التحاور المتوتر الممتد إلى ما لا نهاية، بين المتكلم والمخاطب، أو بين المتكلم ونفسه؛ إذ ما أكثر المواضع التي يوحِّد فيها المتكلم بينه وبين مخاطبه: ("يا هذا: قد وصفتك ووصفت غيرك معك وأنا غيرك، ففي وصفك وصفي، وفي وصفي وصفك" ص 92، "فوحقك ما استرسلت هذا الاسترسال، ولا خليت عنان القول على هذا المقال، إلا لأني ناجيت بك نفسي، وجبرت بما وهب الله لك نقصي" ص 125، "بالله عليك أيها السامع لا يروعنّك ما أصفك به، مهجناً لك، وخافضاً من قدرك وقادحاً في عرضك، وغامزاً في قناتك، فوحقّ الحق الذي به كل حق، وبه استحق ما استحق كل محقّ، إن مكلمك لشرّ منك كثيراً، وأقدم منك في الضلال بعيداً، وما ينطق بما تسمع إلا ليكون حجّة عليه ووبالاً بين يديه" (الإشارات ، ص 200)، يا هذا: لا تُرَع، فما أقربني منك، وما أشبهني بك، وما أشد انخراطي في سلكك، وما أسفرني عن نقابك، وما أسكنني في كهفك، وما أطيرني بجناحك، وما أفوهني بلسانك .." ص 236 " لو كنت غريرًا لعزرتك، ولو لم يخطك الشيب لأطلت رسَنك، ولولم يجمعنا دين الحق لأهملتك، ولو لم يعقد بيننا الملح لازوررت عنك، ولولا علائق بيني وبينك لأرخيت أناملي من ذيلك. فلا تغفل.." ص 360.، وما أكثر المواضع الأخرى التي يستنطق فيها هذا المخاطب، ويحفزه على مبادلته الكلام (يا هذا: حدثني الآن عني، وأسمعني مني، وأقل حواشي حدسي وظني" ص54،"سيدي انظر إليّ، سيدي أقبل عليّ، حبيبي ادنُ مني، صاحبي احفظ عني" ص 74، "فأمِّن الآن – حاطك الله – على دعائي، وقرب إذنك من ندائي: خذ بيدي من بلائي .." ص 74).

 (37) - لابد من الإشارة هنا إلى أنني أختلف مع الفكرة الأساسية التي طرحتها آمنة بلعلي، وبنت عليها تحليلها للكتاب؛ حيث رأت أن كتاب الإشارات ينهض على ما أسمته "بنية الاستدراج"، إذ تبدأ كل رسالة بدعاء يشكل استدراجًا للمخاطب إلى داخل لعبة الكلام المليئة بالتنازع والتحاور والتخاصم، وتنتهي الرسالة بدعاء ختامي "يجسّد الوفاق الحاصل بين المتكلم والمخاطب، وهو بمثابة إعلان عن نجاح فعل التحاور الذي حققّه التوحيدي بالمعرفة والقدرة على إحداثه المتجلي بوساطة الاستدراج/البنية التي اشتغل من خلالها على أفعال كلام تقلّب بها في الخطاب.." (المرجع السابق،ص 104) ولو كان الأمر على هذا النحو، لما احتجنا إلى أكثر من خمسين رسالة تبدأ من جديد ومن نقطة التوتر نفسها، دون أن ننتهي إلى أي درجة من درجات "الوفاق" بين المتكلم والمخاطب.
(38) - في الملحق الأول لكتاب الإشارات الذي حققته وداد القاضي، ملخص للجزء الثاني ورد في مخطوطة برلين يضم عشر رسائل إضافية، وفي الرسالة التاسعة يقول أبو حيان متحدثُا مرة أخرى عن حديثه أو عن كتابه: " ما أعزّ هذه الحال، وما أبعدنا عن حقيقة هذا المقال! والعجب أنا من عزّته نرومه، والعجب أنا مع قصورنا عنه لا ننتهي منه، والعجب أننا كلما قلنا أكثر، كان ما يبقى أكثر، حتى كأن ما نريد أن نشتفي به نسقم منه، وما نحب أن نسعد فيه نشقى عليه" (الإشارات، ص 455)
(39) - في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة بغداد، نوقشت رسالة ماجستير للباحثة نسرين ممتاز بعنوان "الإشارات الإلهية، دراسة أسلوبية"، عثرت على نسخة ألكترونية منها على شبكة المعلومات الدولية. وقد قسمت الباحثة دراستها إلى ثلاثة فصول، وزعتها على مستويات الدرس اللغوي الثلاثة: المستوى الصوتي، والمستوى التركيبي، والمستوى الدلالي. ورغم الجهد الذي بذلته الباحثة، فقد ظلت دراستها في الإطار التقليدي الذي يكشف عن معرفة مدرسية بالبلاغة القديمة، لكنه لا يكشف عن جوهر كتاب الإشارات الذي يستخدم البلاغة العربية لكنه يتجاوزها. ورغم أن الباحثة خصصت جزءًا من الفصل الثاني("المستوى التركيبي") لدراسة تركيب الاستفهام ، فإنها لم تفطن إلى استخدام أداة الإحصاء التي كان يمكن لها مثلاً، أن تكشف عن مدى تكرارية تركيبي النداء والاستفهام في مقابل الأنواع الأخرى من التركيب، وعلاقة هذا بنوع المناجاة. راجع : نسرين ممتاز: الإشارات الإلهية، دراسة أسلوبية"، رسالة ماجستير، كلية الآداب، جامعة بغداد، منشورة على شبكة الانترنت، على الرابط التالي
http://www.pdfshere.com/up/index.php?action=viewfile&id=577
(40) - تأمل قوله: "ويلك! إلى متى تنخدع، وعندك أنك خادع؟ وإلى متى تظنّ أنك رابح، وأنت خاسر؟ وإلى متى تدّعي، وأنت منفّي؟ وإلى متى تحتاج، وأنت مكفّي؟ وإلى متى تُبدي القلق، وأنت غنيّ؟ وإلى متى تهبط وأنت عَلِيّ؟ ما أعجبَ أمراً تراه بعينِكَ، ألهاكَ عن أمرْ لا تراه بعقلك. الحمار أيضاً يرى بعينيه ولا يرى بغيرها. أفأنت كالحمار فَتُعْذَر؟ فإن لم تكن حماراً، فلم تتشبّه به؟ وإن كنت، فلم تدّعي فضلاً عليه؟ وإذا لم تكن حماراً بظاهر خَلِقْك وصِبْغَتِك، فلا تَكُنْهُ أيضاً بباطن نيّتك وجَليَّتك". (ص 85)، وتأمل كذلك قوله: "بالله، أما تأنف من مشابهة البهائم في السّرط بع السرط، والثلط بعد الثلط، والبلع بعد البلع، والجرع بعد الجرع، والحسا بعد الحسا، والامتلاء بعد الامتلاء، والسكر بعد السكر، والخُمار بعد الخمار؟ أما تعاف هذه المزبلة التي فغمت أنفك بهذه الأنتان المنكرة؟"(ص 333).
(41) - تأمل خطابه إلى المولى الذي يجمع المغاضبة والاعتذار حين يقول: "اللهم إليك أشكو ما نزل بي منك وإياك أسأل أن تعطف عليَّ برحمتك فقد-  وحقك - شددت الوثاق وضيقت الخناق وأقمت الحرب بيني وبينك، فبحقك وبعزتك إلا أرضيت وتغمدت وأحسنت وتفضلت فقد كدنا نحكي عنك ما يبعدنا منك، ".(ص 122)، أو حين يقول: " إلهي: استزرتني فلما جئتك حجبتني، دعوتني فلما أجبت جفوتني، خاطبتني فلما استفهمتك أبهمت عليّ، عثّرتني فلما استنعشتك تركتني، أظمأتني فلما استسقيتك ذُدتني، أبنتني فلما بدوت أبدتني، أحييتني فلما حييت أمتّني، آمنتني فلما أمنت أخفتني، كونتني فلما كنت كنيتني .." ص 382، أ وحين يقول: " إلهنا إن ذكرناك أنسيتنا، وإن أشرنا إليك أبعدتنا، وإن اعترفنا بك حيرتنا، وإن جحدناك أحرقتنا، وإن توجهنا إليك أتعبتنا، وإن ولينا عنك دعوتنا، وإن تركناك أزعجتنا، وإن توكلنا عليك أكلفتنا، وإن فكرنا فيك أضللتنا، وإن انتسبنا إليك نفيتنا، وإن أطعناك ابتليتنا، وإن عصيناك عذبتنا.. فالسوانح فيك لا تملك، والغايات منك لا تدرك، والحنين إليك لا يسكن، والسلو عنك لا يمكن". ( ص 193 ).
(42) - حول اقتران حضور المتكلم بحضور المخاطب في اللغة على وجه العموم، وفي الكلام السردي خصوصًا، راجع:
Emile Benveniste. Problems in General Linguistics, PP:195-204, 217-222
- خيري دومة: صعود ضمير المخاطب في السرد المعاصر، مجلة "بلاغات"، المملكة المغربية، مارس 2009.
(43) - في الكتاب خمس رسائل على الأقل (3-11-12-35-54) تتخذ صورة رسالة مكتوبة في الرد على شخص لا نكاد نعرفه، وتشي بأن هذا الشخص طلب من أبي حيان أن يباثّه وأن يبوح له بمعاناته وبغربته وبما لقيه من عنت، ومع أن فكرة الرسائل المكتوبة هذه ربما تكون من ابتكارات أبي حيان في بناء كتبه، تمامًا كما كانت فكرة الليالي والمقابسات والهوامل إلخ، فإن هذه الرسائل تلعب دورًا في تهدئة إيقاع الكتاب الذي يصل إلى درجة اللوثة؛ فبعد كل عشر فصول أو رسائل تقريبًا من مناجيات الكتاب تأتي هذه الرسالة لتضفي بعض المعقولية على الإيقاع العام للكتاب.
(44) - الغالب على المناجاة بطبيعة الحال أن تكون من العبد إلى ربه، لكن المناجاة المقابلة موجودة ومتصوَّرة في التراث الإسلامي والديني بشكل عام، ونموذجها الأقدم هو "الأحاديث القدسية" التي يتحدث فيها الله إلى عباده عبر النبي صلى الله عليه وسلم، يتحدث إليهم بصيغة الجمع أحيانًا وبصيغة المفرد أحيانًا أخرى. ونظريات المتصوفة بتنويعاتها المختلفة، تنطوي على إيمان بهذا التماذج الذي يزيل الحواجز بين الخلق والخالق. ويمكن للمرء هنا أن يشير إلى مناجاة بن عربي الشهيرة التي يسميها "مناجاة التشريف والتنزيه والتعريف والتنبيه"، والتي يناجي فيها الله الإنسان قائلاً: " عَبْدي أنت حمدي، وحاملُ أمانتي وعهدي. أنت طولي وعرضي، وخليفتي في أرضي، والقائمُ بِقِسْطَاسِ حَقّي، والمبعوث إلى جميع خلقي. عالَمُك الأدنى بالعُدْوَةِ الدنيا. والعدوة القصوى.
أنتَ مِرآتي، ومَجْلَى صفاتي، ومُفِّصُل أسمائي، وفاطرُ سَمَائي.
أنت موضع نظري من خلقي، ومجتمع جمعي وفرقي.
أنت ردائي، وأنت أرضي وسمائي، وأنت عرشي وكبريائي.
أنت الدُرَّة البيضاء، والزَّبَرْجَدَةُ الخضراء، بك تَرَدَّيت، وعليك استويت، وإليك أتيت، وبك إلى خلقي تَجَلَّيت. فسبحانك ما أعظم سلطانك، سلطاني سلطانك فكيف لا يكون عظيماً ويدك يدي فكيف لا يكون عطاؤك جسيماً..
أنتَ الذي أردت، وأنتَ الذي اعتَقَدْت: ربُّك مِنْكَ إلَيْك ومعبودُك بينَ عَيْنَيْك، ومَعَارِفُكَ مردودةٌ عليك، ما عرفت سواك، ولا ناجَيْتَ إلا إيّاك ".
راجع المناجاة كاملة وغيرها من المناجيات، في  محي الدين بن عربي: الإسرا إلى المقام الأسرى، أو كتاب المعراج، تحقيق وشرح سعاد الحكيم، بيروت، دندرة للطباعة والنشر، 1988، ص  162-166. وقد أنشد ابن عربي هذه المناجاة الغريبة بعد أن وصل في رحلة معراجه إلى حضرة (أوحى)، حيث اختُطِفَ عن نفسه، وأُفنِي عن ذاته، ونال مقام التابع المحمّدي، فكل خطاب بعد نيله هذا المقام ليس المقصود منه السالك (ابن عربي)، بل النبي، فالخطاب إذن مُوجّه للنبي ، ومن بعده لابن عربي مُمِّثلاً للإنسان الذي حقق الكمال.
(45) - من المفيد أن يراجع القارئ هنا دراسة جابر عصفور "بلاغة المقموعين"، مجلة ألف، الجامعة الأمريكية بالقاهرة، العدد 12، 1992. والدراسة تجعل "إبانة الصمت" أول أدوات هذه البلاغة؛ لأنه صمت مبني على الاحتجاج. بيد أن بلاغة أبي حيان في الإشارات لا تعتمد الصمت أو حتى الرمز أداةً، بقدر ما تعتمد نقيضهما الذي يفضي إلى النتيجة نفسها، أي التكرار والإسهاب والهذيان الذي هو لون آخر عنيف من ألوان الاحتجاج؛ فإذا كانت بلاغة الصمت تنهض على شطر البيت الذي يقول: "رُبّ نطق في السكوت"، فإن بلاغة أبي حيان تقوم على مقولة " رب مسكوت عنه وراء كثرة الكلام".
وقارن كذلك مع ما ذكرته رجاء بن سلامة في كتابها "صمت البيان" عمن قلبوا القيم البيانية، وقلبوا الأولويات، "بل إنهم نهضوا بعبء ما أُقصي من دائرة البيان المنتصرة للعقل، واعتبروا الصمت فرط وجود للمعنى ينتج عنه الخرس والعي، ولكنه خرسُ العارف، وعِيُّ من اصطدم بفقر كلماته، لا بفقره إلى الكلمات". رجاء بن سلامة: صمت البيان، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 1998، ص 13.
(46) - راجع قراءة مصطفى ناصف لكتاب الإشارات ضمن كتابه محاورات مع النثر العربي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، فبراير 1997، ص 104-125.
(47) -  يقول أبو حيان مستخدمًا عبارة عمر بن عبد العزيز : "ولكن التقي ملجم، ولابد من بعض السكوت، كما أنه لابد من بعض القول، من قال كل ما عنده فقد باء بغضب من الله، ومن سكت عن كل ما عنده فقد تعرض لطرد الله. إن لكل شيء حدّا، ولكل أمر قدرا". الإشارات، ص 175. كما أنه يستعيد بيتي أبي نواس الشهيرين في تحبيذ الصمت على الكلام، ويجعلهما جزءًا من كلام الراوي حين يوردهما مباشرة بعد ندائه المتكرر "يا هذا"، يقول:
"ياهذا:       خلِّ جـــنـــبيك لــــــــرامِ                        وامضِ عنه بسلامِ
               مُتْ بداء الصـمت خيرٌ                        لك من داء الكلامِ"     (الإشارات ص 62)
(48) - أحمد عبد المعطي حجازي: التوحيدي: مغامرة اللغة الطقسية (شهادة)، مجلة فصول، المجلد 15، العدد الأول، القاهرة، ربيع 1996، ص 295.
(49) - آدم متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2008، جـ 1، ص 416.
(50) - جمال الغيطاني: "أخي الذي لم أره"، مقدمة كتاب خلاصة التوحيدي، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 1995، ص 13. في موازاة هذين الاتجاهين في كتابة النثر اللذين يتحدث عنهما الغيطاني، يتحدث جابر عصفور في "بلاغة المقموعين" عن بلاغتين في التراث العربي : البلاغة الرسمية المسيطرة في مقابل ما أسماه "بلاغة المقموعين" التي أنتجتها جماعات المعارضة المقموعة كالشيعة والفلاسفة والمتصوفة. راجع بلاغة المقموعين، مرجع سابق، ص 6. 
(51) - أشهر هذه الرسائل التي تتمتع بقدر كبير من الاستقلال في موضوعها وبنائها، الرسالة رقم 12 من كتاب الإشارات، وهي الرسالة الشهيرة التي صارت تعرف باسم رسالة الغريب، وكذلك الرسالة رقم 46 التي هي رسالة مكتوبة إلى صديق، يبدؤها قائلاً:" كتبت إليك والربيعُ مطلٌّ .."، ومنها اقتبسنا الشاهد السابق على نوعية المجاز الذي يستخدمه أبو حيان.

 

قائمة بأهم المصادر والمراجع

باللغة العربية:

- أبو حيان التوحيدي(علي بن محمد  بن العباس): الإشارات الإلهية والأنفاس الروحانية ، بتحقيق وتقديم عبد الرحمن بدوي، سلسلة الذخائر، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 1996

                         : الإشارات الإلهية، تحقيق وداد القاضي، بيروت، دار الثقافة، 1973

                         : الإمتاع والمؤانسة، صححه وضبطه وشرح غريبه أحمد أمين وأحمد الزين، بيروت، دار مكتبة الحياة، (د.ت)

                         :  المقابسات، بتحقيق حسن السندوبي، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، 1929

- آدم متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2008

- آمنة بلّعلى :الحركيّة التواصليّة في الخطاب الصّوفي (من القرن الثالث إلى القرن السابع الهجريّين)، دمشق، منشورات اتحاد الكتّاب العرب 2001

- ابن عربي (محي الدين): الإسرا إلى المقام الأسرى، أو كتاب المعراج، تحقيق وشرح سعاد الحكيم، بيروت، دندرة للطباعة والنشر، 1988

- ابن فارس (أبو الحسين أحمد بن زكريا): معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون،القاهرة، دار الفكر للطباعة والنشر، 1979

- ابن منظور(جمال الدين أبو الفضل) : لسان العرب، بتحقيق عبد الله علي الكبير ومحمد أحمد حسب الله وهاشم محمد الشاذلي، القاهرة، دار المعارف (د. ت)

- أحمد الحوفي  أبو حيان التوحيدي، القاهرة ، مكتبة نهضة مصر، 1957

- أحمد عبد المعطي حجازي: "التوحيدي: مغامرة اللغة الطقسية" (شهادة)، مجلة فصول، المجلد 15، العدد الأول، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ربيع 1996

- إدوار الخراط: "كتابة الغربة وأبو حيان التوحيدي"، مجلة فصول ، القاهرة،  ربيع 1996

- أدونيس (علي أحمد سعيد): السريالية والصوفية، لندن، دار الساقي، ط3، (د.ت)

- ألفت كمال الروبي: "محاورات التوحيدي وتعدد الأصوات"، مجلة فصول، المجلد 14،العدد الرابع، القاهرة، شتاء 1996

- البسطامي(أبو يزيد): المجموعة الصوفية الكاملة، تحقيق وتقديم قاسم محمد عباس، دمشق، دار المدى، 2004

- الجنيد (الإمام أبو القاسم الجنيد بن محمد): رسائل الجنيد، تحقيق علي حسن عبد القادر، القاهرة، الناشر برعي وجداي، 1988

- حامد طاهر: "فلسفة السؤال والتساؤل عند التوحيدي"، مجلة فصول، المجلد 14،العدد الرابع، القاهرة، شتاء 1996

- حسين مروة: تراثنا كيف نعرفه، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية، ط 2، 1986

- الحلاج (الحسين بن منصور): الأعمال الكاملة، تحقيق قاسم محمد عباس، بيروت، دار رياض الريس للكتب والنشر، 2002

- جابر عصفور   : "بلاغة المقموعين"، مجلة ألف، القاهرة، الجامعة الأمريكية، العدد 12، 1992

                    : "مفتتح" العدد الثاني عن أبي حيان التوحيدي، مجلة فصول، مجلد 14، العدد 4

- جمال الغيطاني: "أخي الذي لم أره"، مقدمة كتاب خلاصة التوحيدي، القاهرة ، القاهرة  المجلس الأعلى للثقافة، 1995

- خيري دومة    : تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998

            : "صعود ضمير المخاطب في السرد المعاصر"،  مجلة "بلاغات"، المملكة المغربية، مارس 2009

- رجاء بن سلامة: صمت البيان، القاهرة ،المجلس الأعلى للثقافة، 1998

- رفيق العجم: موسوعة مصطلحات التصوف الإسلامي، بيروت، مكتبة لبنان، 1999

- زكريا إبراهيم: أبو حيان التوحيدي أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، القاهرة ، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، سلسلةأعلام العرب(35)  1964

- زكي مبارك: النثر الفني في القرن الرابع، القاهرة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر(دار الكاتب العربي)، د.ت

- سعاد الحكيم: المعجم الصوفي، بيروت، دندرة للطباعة والنشر، 1981

- السلمي (أبو عبد الرحمن): الطبقات الصوفية، تحقيق أحمد الشرباصي، القاهرة، كتاب الشعب، 1998

- سيجموند فرويد: الموجز في التحليل النفسي، ترجمة سامي محمود علي، وعبد السلام القفاش، مراجعة مصطفى زيور،القاهرة ،الهيئة المصرية العامة للكتاب 2000

- شوقي ضيف: عصر الدول والإمارات(الجزيرة العربية – العراق – إيران)، القاهرة، دار المعارف، 1980

- عبد المنعم حفني: الموسوعة الصوفية، بيروت، دار الرشد ، 1992

- علي الخطيب    :اتجاهات الأدب الصوفي، القاهرة، دار المعارف، 1404هـ

                     : في رياض الأدب الصوفي، القاهرة ، دار نهضة الشرق، 2001

- الفيروزابادي  (مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي الشيراي)، القاموس المحيط، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1980

- القشيري (الإمام أبو القاسم عبد الكريم): الرسالة القشيرية، تحقيق عبد الحليم محمود ومحمود بن الشريف، القاهرة، دار المعارف، 1995

- كامل مصطفى الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع، بيروت، دار الأندلس للطباعة والنشر، 1982

- ماسينيون ومصطفى عبد الرازق: التصوف، بيروت، دار الكتاب اللبناني 1984

- المتقي الهندي (علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي البرهان فوري ):كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، ضبطه وفسر غريبه الشيخ بكري حياني، وصححه ووضع فهارسه ومفتاحه الشيخ صفوة السقّا، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط 5 ، 1985

- المحاسبي (الحارث بن أسد) :  معاتبة النفس، تحقيق محمد عبد القادر عطا، القاهرة، دار الاعتصام،1986

                                 :   بدء من أناب إلى الله (ويليه معاتبة النفوس)، تحقيق مجدي فتحي السيد، القاهرة، دار السلام للطباعة والنشر  والترجمة، 1991

- محمد جلال شرف: دراسات في التصوف الإسلامي، اسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1991

- محمود أمين العالم: "تساؤلات حول تساؤلات الهوامل والشوامل"، مجلة فصول، المجلد 14،العدد الرابع، القاهرة، شتاء 1996

- مصطفى ناصف : محاورات مع النثر العربي، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، فبراير 1997

- ميخائيل باختين: شعرية دوستويفسكي، ترجمة جميل نصيف التكريتي، المغرب، دار توبقال، 1986

- ناهضة ستار: بنية السرد في القصص الصوفي، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 2003

- نسرين ممتاز : الإشارات الإلهية، دراسة أسلوبية، بغداد، رسالة ماجستير، قسم اللغة العربية، كلية الآداب، جامعة. (منشورة على شبكة الانترنت)

- النفري (محمد بن عبد الجبار): كتاب المواقف لمحمد بن عبد الجبار الحسن النفّري، ويليه كتاب المخاطبات، بعناية وتصحيح واهتمام أرثر يوحنا أربري، القاهرة، مكتبة المتنبي (Cambridge University Press 1935)

- هالة فؤاد: "تحولات حديث الوعي، قراءة في التوحيدي"، مجلة فصول، المجلد 14-العدد4 شتاء 1996

- وداد القاضي: "اللغة والعجز عن التعبير في أدب أبي حيان التوحيدي"، مجلة فصول، المجلد 14-العدد4 شتاء 1996

- ياقوت الحموي الرومي: معجم الأدباء، إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، تحقيق إحسان عباس، بيروت، دار الغرب الإسلامي، ط1 1993

- يوسف زيدان: "هل كان التوحيدي صوفيًّا أو فيلسوفًا؟" مجلة فصول، المجلد الحادي عشر، العدد الأول، ربيع 1996

بالإنجليزية:

- Benveniste, Emile. Problems in General Linguistics, translated by Mary Elizabeth Meek, University of Miami Press, Coral Gables, Florida 1971

- Chittick, William, "The Last Will and Testament of Ibn 'Arabi's Foremost Disciple Sadr al-Din Qunawi", http://www.ibnarabisociety.org/articles/sadraldinwill.htmlزيارة الموقع يوم 2/7/ 2010   

- Fowler, Alastair, Kinds of Literature: An Introduction to the Theory of Genres and Modes, Oxford University press, 1982