يكشف الباحث التونسي عن مآلات الثورة في تونس ومصر، ويكشف لنا عن آليات الإمبريالية العالمية ورأسمالها الجشع واستراتيجياتهم في احتواء الربيع العربي والهيمنة عليه. داعيا إلى العمل على إنجاح الثورات دون الوقوع تحت سطوة القوى الامبريالية من جديد، والحيلولة دون وقوع هذا المد الثوري العظيم في براثن الهيمنة.

تطلّعات الشعوب واستراتيجيات الاحتواء والهيمنة

«الربيع العربي» بين تطلّعات الشعوب واستراتيجيات الامبريالية العالمية في الاحتواء والهيمنة

حسين الحامدي

مضت سنة على اندلاع ثورات ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي، وبقدر ما كانت هذه السلسلة من الثورات حاملة في بداياتها لآمال عريضة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، فإنها أصبحت اليوم مصدر انشغال عميق لدى القوى القائمة عليها وطلائعها بالنظر إلى ما أفضت إليه من مشهد سياسي لا يشبه في شيء ما كان يحلم به الثائرون وما حملته شعاراتهم من تطلعات وطموحات. ولئن اتسمت هذه الثورات عند انطلاقها بطابعها الجماهيري، العفوي والسلمي، فإن بعضها تحوّل مع الزمن إلى صراع دموي صحبه دمار غير مسبوق للبنى التحتية واستثارة غير مسبوقة لتناقضات ظلت لزمن طويل ثانوية خاصة ما يتعلق منها بالبني الطائفية سواء كانت عرقية أم مذهبية دينية في أقطار مثل مصر وسوريا وبدرجة أقل في ليبيا، كما فتحت في بلد مثل تونس على قضايا لم يخطر على بال التونسيين يوما أن ترقى إلى درجة القضايا الجوهرية فصارت "اللحية والقميص وختان الإناث والنقاب" من المسائل التي فرضت فرضا على المواطن بدل قضايا المنظومة السياسية والمنوال التنموي ومحاسبة قتلة الشهداء ومجابهة البطالة ومقاومة الفساد وصون الحريات الفردية والعامة.

لقد أفضى تآمر أطراف دولية وقوى داخلية إلى الانزياح بالثورات العربية عن أهدافها الأصيلة. لقد التقت – في غفلة من الثائرين- مصالح قوى داخلية وأخرى خارجية في وضع سقف محدد لهذه الثورات يقضي بمنع اكتمالها بما يؤسس لسلطة شعبية تتبنى مطالب الثائرين وتترجمها إلى برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي قوامه الشراكة العادلة في الوطن من خلال الحق في السلطة والثروة كشرط رئيسي لتحقق السيادة الوطنية والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. لقد لعبت القوى الامبريالية العالمية دورا خفيا حينا ومعلنا أحيانا أخرى في تحويل وجهة هذه الثورات والسطو عليها ... وأسهمت بأساليب شتى في مصادرة الحلم العربي في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية مفتتحة بذلك دورة جديدة في تاريخ العرب بالشراكة مع وكلاء جدد، القوى الرجعية المعادية للحداثة وقيم العصر: هل من الصدفة أن يستلم "الإسلاميون" السلطة في كل الأقطار العربية التي شهدت هذه الثورات وحتى في تلك التي بادرت بإدخال إصلاحات على منظوماتها السياسية لتجنب العاصفة مثل المغرب؟(1) إن هذا الواقع المستجد يثير تساؤلات حقيقية حول ما آلت إليه هذه الثورات وحول الأطراف التي أسهمت في نحت ملامح هذا الواقع السياسي الجديد.

لقد ظل دور الامبريالية العالمية في ما جرى في بلدان الربيع العربي بعيدا عن التداول لفترة طويلة، فما هي العوامل التي تحكمت في هذا الدور لتفضي إلى ما أفضت إليه من مشهد سياسي بائس لا يشبه في شيء ما حلم به الثائرون؟

1- نهاية دور نخبة الاستقلال وبروز الوكلاء الجدد
كان واضحا منذ الربع الأخير من القرن العشرين أن دولة الاستقلال – في الأقطار العربية وفي العالم النامي عامة- قد ولّى زمنها واستنفذت الدور الموكول إليها من قبل القوى الامبريالية العالمية التي أسهمت في تركيز أسسها وإقامة بنيانها. لقد تحوّلت هذه الدولة ونخبها مع مرّ الزمن إلى عبء على مسانديها لا يمكن تحمّله إذ أصبحت في عشريات وجيزة عنوانا للاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والحيف الاقتصادي وأصبحت محلّ معارضة داخلية ما انفكت تتسع وتتجذّر جامعة طيفا واسعا من المعارضين. لقد أفقدتها هذه السمات أسباب ديمومتها وأسباب ديمومة نخبها الحاكمة والمفكّرة إذ لم تعد قادرة على إسداء الخدمات المطلوبة من قبل الدوائر الامبريالية على الوجه الذي يحفظ مصالح هذه الدوائر دون صدام مع الشعوب، بل إن نقمة الشعوب جمعت إلى النقمة على نخبها المستبدة، النقمة على من يقف وراءها ويوفر لها المدد المادي والمبررات الأيديولوجية لاستمرار التسلط والاضطهاد.

وكان لا بد من دورة تاريخية جديدة بقيادة وكلاء جدد يحضون ببعض المصداقية.

2- فشل «النموذج الصيني»: الانفتاح الاقتصادي والانغلاق السياسي
لم يعد هذا النموذج القائم على مقايضة الحريات الفردية والعامة بالنمو الاقتصادي قابلا للاستمرار. ولئن نجح هذا النموذج بالصمود في الصين الشعبية لاعتبارات تتصل بنمو اقتصادي غير مسبوق وتحسن جلي في مؤشرات التنمية البشرية ولاعتبارات استراتيجية في علاقة بالصراع الدولي الدائر حول الثروات المنجمية والطاقية والأسواق، فإن حظوظ استمراره في البلدان الأخرى أصبحت منعدمة في ظل بروز نخب جديدة مدنية ونقابية وفكرية ترفض أساسا هذه المقايضة الظالمة. لقد تأكّد مع مرّ الزمن أن تحرير الحياة الاقتصادية والانخراط في العولمة بما يعنيه من انفتاح على الاستثمار المباشر الأجنبي وفتح السوق الداخلية أمام أدفاق السلع والخدمات لا يمكن أن يستمرّ في ظل الانغلاق السياسي ومصادرة الحريات.

لقد أفضت الاختيارات الاقتصادية القائمة على الانفتاح الاقتصادي والانخراط في العولمة إلى تعمق التباينات الاجتماعية والمجالية وزادت العولمة الفقراء فقرا والأثرياء ثراء كما زادت المجالات المهمّشة تهميشا وخلقت شريحة اجتماعية جديدة ما انفكت قاعدتها تتسع هي شريحة المهمّشين الذين عجز المنوال التنموي المتخارج على استيعابهم في الدورة الاقتصادية رغم ما يمتلكون من مؤهلات علمية ذلك أن قسما مهما منهم من حملة الشهائد العليا.

ولقد أفضى هذا التهميش المزدوج: تهميش اجتماعي/طبقي وتهميش اجتماعي / مجالي إلى ازدياد الحاجة إلى التعبير السياسي والفكري الحر كسبيل لمواجهة واقع البطالة والإقصاء والتهميش. وهكذا تعمقت المفارقة بين مجتمع يتسم بالدينامية من جهة وبين حياة سياسية وفكرية تتسم بالجمود والأحادية من جهة ثانية. واعتبارا لكون اقتصاد السوق والتبادل الحرّ هما عنوان المرحلة التاريخية في المستوى الاقتصادي وفقا للمنظور الامبريالي ، أدركت الدوائر الامبريالية أن ضمان مصالحها الحيوية في الأسواق وفي اليد العاملة الزهيدة وفي التزود بالمواد المنجمية والطاقية أصبح مهددا في ظل جمود النخب التقليدية، وأن هذه المصالح لا يمكن أن تظل رهينة هذه النخب، وأنه من الضروري تحقيق انفتاح سياسي بدرجة معقولة بصفة موازية للانفتاح الاقتصادي في هذه الأقطار. وهكذا يضمن هذا التمشي لفقراء العالم ومهمّشيه الحق في "الصراخ" والاحتجاج .. بدل الاستمرار في الكبت الذي قد ينتهي إلى نسف هذه المصالح بالكامل.

3- نظرية «الانصهار والانشطار» في خدمة المنوال «النيوليبرالي»
برزت هذه النظرية في الربع الأخير من القرن العشرين(2) ولم تحظ بالكثير من الاهتمام رغم وجاهتها في فهم استراتيجيات القوى الامبريالية العالمية: انصهار يزيد الأقوياء قوة عبر توسيع الأسس المجالية والبشرية لقوتهم وانشطار يضعف الكيانات التي بدأ يتآكلها الضعف لأسباب مختلفة...لقد شكل الاتحاد السوفييتي السابق أبرز ضحايا هذه الاستراتيجية الخبيثة فلقد جرى تفكيكه إلى دويلات عديدة سرعان ما التحق بعضها بمنظمة حلف شمال الأطلسي وبالاتحاد الأوروبي وهكذا تراجع عن منزلة القوة العالمية العظمى ما أفضى إلى اختلال التوازن في العلاقات الدولية وعزّز هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية كقطب أوحد  ....كما شكلت يوغسلافيا السابقة مثالا آخر على تطبيق هذه النظرية، فلقد انشطر هذا البلد الذي تشكل في خضم نضال تاريخي وبطولي ضد النازية إلى دويلات عديدة - لاعتبارات قومية وإيديولوجية في الظاهر- سرعان ما انصهرت وفي زمن قياسي ضمن الاتحاد الأوروبي في إطار التوسيع الخامس(3) بمباركة الولايات المتحدة الأمريكية.

وهكذا تعزز صفّ العالم "الحر" بعدد من الدويلات دون كلفة تذكر: بعض عشرات ملايين الدولارات من النفقات وآلاف من القتلى في حروب "خاطفة". وبالمقابل انفتحت آفاق جديدة للسلب والنهب أمام الشركات عبر القطرية والمركب الصناعي- العسكري والمؤسسات المالية الرأسمالية عبر العالم: أسواق استهلاكية، مصادر للموارد المنجمية والطاقية، مجالات بكر للاستثمار المباشر الأجنبي ويد عاملة زهيدة الكلفة وهي عوامل تفسر مجتمعة النزعة العامة لإعادة توطن وانتشار الأنشطة الصناعية وتسارع نسق تنامي الأدفاق التجارية والأدفاق المالية عبر العالم...هذا فضلا عما شكلته هذه التطورات من نصر تاريخي للمنظومة الفكرية الليبرالية بشكل عام. لقد وفّر تنفيذ هذه الاستراتيجية الامبريالية فرصة تاريخية لإعادة إنتاج المنظومة الرأسمالية التي دبّ إليها الوهن وتتابعت أزماتها الظرفية في العشريات الأخيرة ما شكّل بديلا جديا لمعالجة الاختناقات التي شهدتها هذه المنظومة.

4- أزمة الاقتصاد الرأسمالي
لقد أسهمت الأزمة المالية العالمية التي انطلقت منذ سنة 2008 بالولايات المتحدة الأمريكية وامتدت إلى "النمور" و"التنينات" بشرق وجنوب شرق آسيا وإلى الاتحاد الأوروبي في تسريع تنفيذ الاستراتيجية الامبريالية التي تم الشروع في تنفيذها في أفغانستان والعراق خاصة منذ مطلع الألفية الثالثة. لقد أفضت هذه الأزمة المالية إلى انعكاسات سلبية على المالية العالمية والاقتصاد الحقيقي يشهد على ذلك إفلاس اليونان والإفلاس الذي يهدد عددا من الأقطار الأوروبية مثل إيطاليا وإسبانيا والبرتغال... والصعوبات المالية والاقتصادية في اليابان(4) والتراجع الملحوظ في نسب النمو الاقتصادي في البلدان الرأسمالية وارتفاع نسب البطالة بها...والعجز المتفاقم في ميزانية الولايات المتحدة الأمريكية وديونها العامة التي بلغت رقما خياليا غير مسبوق(5). لقد شكلت القوة الغاشمة في أفغانستان والعراق ومن قبلهما يوغسلافيا الخيار الاستراتيجي الرئيسي للقوى الامبريالية العالمية في معالجة هذه الاختلالات وبدا للامبريالية الأمريكية أن السيطرة على الثروات الطاقية بالخليج العربي وآسيا الوسطى من جهة والتحكم في النمو الاقتصادي للمنافسين المباشرين الاتحاد الأوروبي والصين الشعبية هي أهداف مصيرية تستحق المغامرة... وحمل هذا المشروع الامبريالي اسم " الشرق الأوسط الجديد أو الكبير" - العزيز على قلوب "المحافظين الجدد"(6) - والممتد من الرباط إلى جاكرتا  غير أن حسابات الحقل لم توافق حسابات البيدر.. لقد أسقطت القوى الامبريالية من حساباتها قدرة الشعوب على الصمود والمقاومة وكان للمقاومة الوطنية العراقية الفضل التاريخي في إسقاط المخطط الامبريالي الأمريكي الهادف إلى تجديد المنظومة الاقتصادية الرأسمالية المتآكلة عبر القوة الغاشمة والاستعمار المباشر وبدا لوهلة من الزمن أن المشروع الإمبريالي قد انتهى إلى الفشل الذريع والمهين: فشل القوى الامبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في تجديد المنظومة الرأسمالية بواسطة القوة الغاشمة...وهكذا باء المخطط الأصلي بالفشل وأصبح "الشرق الأوسط الجديد" من الماضي ، في ذمة التاريخ.

5- الربيع العربي:  تاريخ يكتب بدماء الشهداء وفرصة تاريخية لتجديد المشروع الإمبريالي بالمنطقة
سيدي بوزيد، 17 ديسمبر 2010، يضرم الشاب محمد البوعزيزي النار في جسده مختزلا بهذه الحركة مأساة المهمّشين، ضحايا العولمة المتوحشة في تونس وينطلق مسار احتجاجي شعبي توج يوم 14 جانفي بفرار الرئيس السابق بن علي... لقد أثارت واقعة البوعزيزي حيث جرت غضبا عارما طالما ظل مكبوتا في نفوس سكان تونس العميقة القصيّة المنسية والمهمشة.(7) وتلقف مناضلون شبان مجهولون ونقابيون...هذا الحدث وأسهموا في تحويله تدريجيا إلى حركة احتجاجية امتدت في الزمان وانتشرت في " أرخبيل الفقر والتهميش" الممتد من الشمال الغربي إلى الجنوب بطريقة فاجأت الجميع سلطة ومعارضة...ويكفي أن نذكّر هنا بأن بعض أطياف المعارضة الأشد عداء لنظام بن علي كانت تخطط لتسوية معه منذ مدة حتى ندرك حجم المفاجأة.

لقد شكل هذا الحدث وما اتخذه من أبعاد فرصة تاريخية أمام القوى الامبريالية لإحياء مخططها في إعادة الانتشار عبر العالم ...أصبح من الممكن تحقيق " الشرق الأوسط الجديد" ولكن دون قوة غاشمة هذه المرة بل باستثمار الحركة الاحتجاجية التي تعدت تونس إلى مصر وليبيا و اليمن وسوريا والمغرب. لقد تمت إعادة الروح لهذا المخطط يوم 14 جانفي 2011 بالذات. لقد شكل هذا التاريخ ضربة البداية في مسار طويل يهدف إلى احتواء الثورات العربية وإفراغها من مضامينها الجوهرية وحصرها ضمن سقف محدد يضمن المحافظة على المصالح الامبريالية بالمنطقة. لقد شهد هذا اليوم انقلابا متعدد الأوجه: انقلاب عسكري، أمني وسياسي قامت عليه نخبة محلية هي مزيج من الوكلاء القدامى والوكلاء الجدد بالاتفاق مع قوى أجنبية وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، يشهد على ذلك تعدد زيارات ممثلي هذين البلدين إلى تونس بصورة مكثفة وفي زمن وجيز(8)، وكان الكل يعرض خدماته ومساعداته للتونسيين وتم في هذا السياق إرساء مفهوم "المرحلة الانتقالية" والترويج الإعلامي لمفاهيم متعلقة بهذه المرحلة كاعتبار ما جرى في تونس ثورة "ملونة" شبيهة بمثيلاتها في أوروبا الوسطى والشرقية وتسمية ما جرى "بثورة الياسمين"(9)، وكان من الجلي وجود رغبة حقيقية في النأي بهذه الثورة عن التجذّر والوقوف بها عند الحدّ المقبول من طرف القوى الامبريالية العالمية. ولقد شكلت دعوة السلطة التونسية الجديدة إلى حضور قمة الثمانية الكبار في دوفيل بفرنسا أوج هذا التمشي الخبيث. وهكذا جرى تعويم المطلب الجوهري للمنتفضين - "الشراكة العادلة في الوطن" من خلال ضمان الحق في السلطة كسبيل وحيد لضمان الحق في الثروة والتنمية- وتغييبه في تواطؤ جلي بين قوى الداخل والخارج.

لننظر في ما آلت إليه الثورة التونسية:

-      ديمقراطية تمثيلية ليبرالية فوقية على الشاكلة الغربية جسدتها انتخابات 23 أكتوبر 2011 تنبني على منطق الغنيمة والمحاصصة الحزبية وتؤسّس له.

-      المحافظة على منوال التنمية الهش والتابع الذي وفّر العوامل الاقتصادية والاجتماعية للانتفاضة وهو منوال اتفقت عليه أغلب التشكيلات الحزبية الفاعلة في المشهد السياسي التونسي الجديد ( حركة النهضة، حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، حزب التكتل من أجل العمل والحريات وكل تلك الأحزاب الليبرالية المجهرية التي فرخت بعد 14 جانفي 2011).

-      تعزيز ارتباط البلاد التونسية بالدوائر الامبريالية الغربية عبر القروض والمساعدات التي تهاطلت على البلاد منذ ذلك التاريخ.

6- الخطة الإمبريالية “الناعمة"
لقد أعطى نجاح الخطة الامبريالية "الناعمة" في تونس وتجيير المطامح المشروعة في الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية لصالح المخطط الامبريالي في الهيمنة وتثبيت الحلم الامبريالي في " شرق أوسط جديد" دفعا كبيرا للاستراتيجية الامبريالية في المنطقة. فمع فشل المخطط الأصلي القائم على القوة الغاشمة في العراق وأفغانستان، وجدت القوى الامبريالية الفرصة ملائمة لتحقيق استراتيجية الهيمنة مستفيدة في ذلك من موجة الثورات التي هزت البلدان العربية. لقد ظهرت الخطة البديلة المتمثلة في شقها الأوّل في تسخير التيار " الإسلامي" المعتدل لمجابهة التيارات الإسلامية المتطرفة منذ نهايات القرن الماضي وتمت إعادة صياغتها وتصويبها في النصف الأول من العشرية الحالية على ضوء الفشل الذريع في العراق وفي أفغانستان. وفي هذا الإطار كانت مصر المرشح الأول لتطبيق هذه الاستراتيجية القديمة في جوهرها والمتجددة في أساليبها وأدواتها(10). أما الشق الثاني لهذه الاستراتيجية فهو إعادة الانتشار الامبريالي بالمنطقة والعالم بما يضمن معالجة الأزمة التي تمر بها المنظومة الرأسمالية وفقا لما بينّاه سابقا والاستعداد لصراعات دولية مستقبلية آتية لا محالة.

لقد مثل التردد الذي طبع الموقفين الفرنسي والأمريكي تجاه الثورة التونسية بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 مرحلة مهمة في إحياء هذه الاستراتيجية وضبط ملامحها العامة لا غير. وهكذا فإن تاريخ 14 جانفي 2011 مثل محطة مهمة في تحويل وجهة الحركات الاحتجاجية سواء في تونس أو في المنطقة العربية: الحيلولة دون تجذّر هذه الحركات من خلال المساعدة على طرد رأس النظام والإبقاء على المنظومة الاقتصادية التابعة بما يضمن مصالح القوى الامبريالية. وكان نجاح الخطة في تونس بوابة أساسية لنجاحها في مصر والمغرب واليمن وليبيا وسوريا.

7- إن انخراط القوى الامبريالية – تحت غطاء القرارات الأممية- في المسار الاحتجاجي في كل من ليبيا وسوريا يعزز هذا التحليل ويعري استراتيجية الهيمنة الامبريالية.
لقد سخّرت القوى الامبريالية في التعاطي مع الاحتجاجات في هذين البلدين بالذات إمكانيات سياسية وإعلامية ومالية وعسكرية ضخمة للتسريع بمسار إنهاء النظامين الحاكمين في البلدين: قرارات أممية ذات اتجاه واحد، إعلام مسعور تخلى بوقاحة عن الضوابط المهنية واعتمد المغالطة والدس والتحريض، توظيف الشبكات الاجتماعية وتيسير النفاذ إليها في هذه الأقطار...وخاصة استعمال القوة العسكرية لتسريع الأحداث وقطع خط الرجعة أمام المنتفضين والأنظمة السياسية. وللمرة الخامسة في ظرف عشريتين، تتدخل القوى الامبريالية بالقوة العسكرية ضد أنظمة ديكتاتورية بلا جدال ولكنها تقدم نفسها على أنها وطنية ومعادية للامبريالية، فبعد يوغسلافيا، جاء الدور على أفغانستان والعراق وساحل العاج وليبا وربما سوريا وإيران لاحقا. ومما يعزز هذا التحليل، موقف نفس هذه القوى الامبريالية المختلف تجاه الانتفاضة الشعبية في البحرين. إن هذا الموقف يعزز فرضية التدخل الإرادي المدروس وفقا لمصالح محددة وتحضر مرة أخرى سياسة المكيالين...ويبدو أن الرهان الذي يمثله هذا البلد الصغير مهم جدا للقوى الامبريالية في مواجهة محتملة مع الجار الإيراني "المشاغب".

8-  حصيلة أولية تخدم استراتيجية الهيمنة الإمبريالية ووكلاءها الجدد ولا تخدم الشعوب الثائرة
يشهد تطور أحداث " الربيع العربي" بنجاح نسبي للاستراتيجية الامبريالية في الهيمنة على المنطقة وافتتاح دورة تاريخية جديدة لا مصلحة فيها للشعوب الثائرة:
-      أفضت هذه الثورات في المستوى السياسي إلى استلام "الإسلاميين " للحكم في كل من تونس ومصر وليبيا والمغرب وربما عن قريب في سوريا واليمن(11) في ظلّ تآلف تام مع القوى الامبريالية العالمية.
وهكذا يأخذ التاريخ منحى هزلي ومروّع في آن: لقد تحولت قوى "الاستكبار" العالمي إلى حليف موثوق "للمستضعفين"، وتحول القاتل الذي يشهد تاريخه البعيد والقريب بالولوغ في الدم العربي في الجزائر وتونس والمغرب وليبيا ومصر وسوريا ولبنان العراق وفلسطين...إلى صديق حميم ونصير لحرية الشعوب ... وتحوّل أعداء الماضي بقدرة قادر إلى أصدقاء اليوم.
-      تمكنت القوى الامبريالية –عبر وكلائها القدامى والجدد- من ضمان السيطرة على الثروات الطاقية في العراق وفي بلدان الخليج العربي وفي ليبيا... واستأثرت فرنسا لوحدها بقرابة ثلث الموارد النفطية الليبية مقابل الخدمات التي قدمتها للثائرين في ليبيا بموافقة المجلس الوطني الانتقالي(12).
-      أمعن الكيان الصهيوني في سياسة الاستيطان في ظل مباركة ضمنية أو معلنة من قبل القوى الامبريالية  و وكلائها القدامى والجدد... واستمرّ الحصار على الفلسطينيين في غزّة كما كان على مرأى ومسمع من كل أدعياء الحرية وحقوق الإنسان في العالم "المتحضّر"..
-      وفّر التدمير المنهجي للبنى التحتية في ليبيا والخراب الذي شهدته اقتصادات بلدان الربيع العربي فرصة ذهبية للقوى الامبريالية ولشركاتها عبر القطرية للاستفادة من عمليات إعادة البناء التي ستوفر لها مئات المليارات من الدولارات بما يمنحها فرصة الخروج من الأزمة المالية والاقتصادية التي تتخبط فيها حاليا.
-      ومن اللافت للانتباه أن الدور الامبريالي الخبيث في التآمر على الثورات العربية وتجييرها لخدمة مصالح القوى الامبريالية يكاد يكون غائبا تماما عن الأدبيات الثورية...ولقد تباهى بعض القياديين الغربيين بأنه لأول مرة في تاريخ الاحتجاجات العربية غاب العداء "لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية"... عن شعارات الثائرين وعن أدبيات الثورة(13).
-      تعثّر القوى الثورية التقدمية في تونس ومصر والمغرب وليبيا واليمن ... وعجزها عن مواجهة المخطط الامبريالي في الزيغ بالثورات عن أهدافها الحقيقية... وانسياقها في تجاذبات إيديولوجية وسياسية لا تخدم مصالح الشعوب الثائرة...بل إن هذه الأطراف التي تتبجح بالتقدمية تنوء في واقع الأمر تحت عبء الايديولوجيا واشتراطاتها ولم ترق في مجملها سواء تعلق الأمر بقراءة الثورات وقواها المحركة أو آفاقها إلى مستوى المهام التاريخية الملقاة على عاتقها. ولقد قبل أغلب هذه القوى بما يسمّى "قواعد اللعبة السياسية" ووجدوا أنفسهم خارجها يعانون الأمرين للنهوض من جديد، وذلك هو مآل كل "تفكير سلفي"(14) مرتاح في الدوغما والنماذج الجاهزة وفي اللغة الخشبية الموغلة في القدم.

كيف السبيل إلى إنجاح الثورات دون الوقوع تحت سطوة القوى الامبريالية من جديد؟ كيف السبيل إلى الحيلولة دون تحوّل هذا المد الثوري العظيم إلى فرصة لإعادة الانتشار الامبريالي في المنطقة؟ كيف السبيل إلى النجاة بالحلم وتحقيقه؟
الشعوب وحدها والمهمشون منها تحديدا، أولائك الذين ثاروا من أجل الشراكة العادلة في الوطن ومن أجل الحق في السلطة والثروة، يملكون الإجابة على هذه الأسئلة.

   

جانفي 2012

 

الهوامش

(1) أنظر المقال الممتاز للأستاذ جيلبير أشقر، الانتهازيون والثورة، مجلة الكلمة ، العدد 58، فيفري 2012، يحدّد فيه الأطراف الانتهازية في الحالة التونسية مستشهدا بكتابات الرئيس التونسي المؤقت محمد المنصف المرزوقي وتصريحات رئيس الحكومة التونسية المؤقتة حمادي الجبالي.
(2) أنظر مقال: "حدود"، راموني  إغناسيو، العالم الديبلوماسي جوان 1991 ( باللغة الفرنسية)
(3)  شهد الاتحاد الأوروبي التوسيع الخامس على مرحلتين، ففي المرحلة الأولى انضمت إليه عشرة أقطار من أوروبا الوسطى والشرقية سنة 2004 وفي مرحلة ثانية انضمت إليه كل من رومانيا وبلغاريا سنة 2007.
(4) يمثل الدين العمومي الياباني 229 % من القيمة الجملية للناتج الداخلي الخام سنة 2011، كما سجل حاصل الميزان التجاري الياباني تراجعا حادّا في سبتمبر 2011  بلغت قيمته 94 % مقارنة بما كان عليه الوضع في سبتمبر 2007.
(5) تجاوزت  ديون الولايات المتحدة الأمريكية حاجز 14000 مليار دولار منذ أوت 2011 متفوقة للمرة الثانية في تاريخ البلاد على القيمة الجملية للناتج الداخلي الخام، وقد سجلت المرّة الأولى سنة 1947 إثر الحرب الكونية الثانية.
للمزيد ، أنظر:
http://www.lefigaro.fr/flash-eco/2011/08/04/...
(6) للمزيد حول المحافظين الجدد وفكرهم السياسي أنظر مقال جيم لوب وميخائيل فلين: صعود وتراجع المحافظين الجدد ( باللغة الفرنسية)
  http://www.geopolintel.fr/article108.html
(7) للمزيد حول الثورة التونسية، أنظر التقرير الممتاز "المجموعة العالمية للأزمات": الانتفاضات الشعبية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط- النموذج التونسي، أفريل 2011. ( باللغة الفرنسية)
 http://www.crisisgroup.org/fr/regions/moyen-orient-afrique-du-nord/afrique-du-nord/Tunisia/106-popular-protests-in-north-africa-and-the-middle-east-iv-tunisias-way.aspx
(8) تم على سبيل المثال تسجيل زيارة 13 وزيرا فرنسيا إضافة إلى زيارة كاتب الدولة للخارجية الأمريكية "فيلتمان" ووزيرة الخارجية كلنتون...وعدد كبير من المسؤولين من إيطاليا وإسبانيا وألمانيا والبرتغال و...بولونيا علاوة عن وفود المنظمات الحقوقية والصحفية..
(9) لا تزال هذه التسمية تلاقي رفضا شديدا من قبل التونسيين، وهذا الرفض يشي بوعي حقيقي بمخاطر الانحراف بهذه الثورة عن أهدافها بدءا بالتسمية...وهم يفضلون تسميتها بثورة "الحرية والكرامة".
(10) أنظر مقال كسان سمايلي، " دمقرطة ولكن بخطى وئيدة"، مجلة "البريد العالمي" فيفري 2006،
Xan Smiley, Démocratisation, mais à petits pas, Courrier International, Décembre 2005-Février 2006, Hors-série N° 14, p.47.
(11) أنظر مقال باتريك حاييم زاده، من ربح الحرب في ليبيا؟ العالم الدبلوماسي، ديسمبر 2011 (باللغة الفرنسية).
http://www.monde-diplomatique.fr/2011/12/HAIMZADEH/47065
(12) تحصلت فرنسا بمقتضى وثيقة صادرة عن المجلس الوطني الانتقالي الليبي على 35 % من الثروة النفطية الليبية مقابل الدور الذي اضطلعت به في مناصرة "الثورة الليبية".
(13) راجع في هذا الإطار الخطاب الافتتاحي للحملة الانتخابية للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي المنتهية ولايته في مرسيليا بتاريخ 19 فيفري 2012 (الفقرة الأخيرة من الخطاب).
(14) تشير هذه العبارة المستحدثة إلى كل تفكير يتسم بالدوغمائية ويستند إلى قوالب نظرية جاهزة ومسلمات يوظفها في كل زمان ومكان. ومن هذه الزاوية يمكن الحديث عن "يسار سلفي" وفكر عروبي قومي "سلفي" تماما مثلما يتم الحديث عن الفكر الإسلامي "السلفي".... وهو على الضد من الإبداع والتجديد.