بدعوةٍ مِن قسم الثقافة والفنون في بلديّة شفاعمرو، ومسرح الفرينج في الناصرة، ومؤسّسة زيدان سلامة للثقافة والفنون، ومؤسّسة الأفق، شهدت مدينة شفاعمرو الفلسطينيّة في الجليل حفلاً تأبينيًّا خاصًّا بذكرى أربعين ابنها البار الفنان مروان عوكل، في قاعة مركز العلوم والفنون، بعد قداس الأربعين في كنيسة القديسيْن بولس وبطرس، وذلك بتاريخ 27-1-2012، وقد غصت القاعة بلفيفٍ مِن الفنانين والمُبدعين الذين رافقوا مروان عوكل في مسيرته الفنيّة، وعدد كبير من الأدباء والمثقفين وأسرة وأقرباء وأصدقاء ومُحبّي الفقيد!
تخلّل الحفل كلمات تأبين ورثاء، عرض صور ومقاطع فيديو من مسرحيّاتِه، ولقاءات فيديو مع زملائِه وما قالوه عنه، وتوزيع كتيّبٍ أنيق بالألوان يتضمّن مجموعةً مِن كلماتِ رثاءٍ كتبها رفاقه، ومجموعةً مِن صور تُخلّدُ مسيرته الفنية والأسريّة.
تولّت عرافة الحفل الفنانة والإعلاميّة المُبدعة سناء لهب زميلة الفقيد قائلة: انتمى الفنان مروان عوكل المولود عام 1951، إلى رعيل الفنانين الفلسطينيّين المحترفين في الدّاخل، وكان قد بدأ رحلته مع عالم المسرح ضمن فرقة المسرح "الناهض" في حيفا، وانضم عام 1970 إلى مسرح "الكرمة" وعمل فيه حتى عام 1999، وكان على مدار خمس سنوات مديرًا لمسرح الدّمى هناك. عام 1988 أسّس مسرح "العندليب" للأطفال تحت اسم مؤسسة "المرايا- للإبداع المسرحيّ" في مدينة شفاعمرو، وقدّم أعمالَ مسرحيّة لطلاب المدارس الابتدائيّة ورياض الأطفال عام 1999، دمجَ في بعضها مسرح الدّمى، واعتمدَ على الأساطير والحكاياتِ الشعبيّة كعلي بابا وسندريلا. شارك في الكثير من المسرحيّات للكبار والصّغار أهمها: "السّلطان الحائر"، "خادم السّيّدين"، "اللّصوص"، "ليالي الحصاد"، "الباص"، "علي بابا"، "سندريلا"، "جرة الزيتون"، "شمس النهار"، "جسر أرتا" ومسرحيات أخرى في عدّة مسارح، وكتب وأخرجَ العديدَ من المسرحيات.
عام 1974 كان مِن مؤسّسي المسرح "الثائر" في شفاعمرو، والذي قدّم ثلاثة أعمال مسرحيّة، هي "مجرم يحميه القانون" من تأليفه وإخراجه، و"مكتب محامي" من تأليفه وإخراجه، ومسرحية "أريد أن أقتل"، وهي من تأليف توفيق الحكيم وإخراج مروان عوكل. عام 1981 تأسّس "المسرح البلديّ" في شفاعمرو، وكانت باكورة أعماله مسرحية "لعبة الحبّ والثورة" للكاتب السّوريّ رياض عصمت، والتي أخرجها مروان عوكل ولعبَ أحدَ أدوارها. عام 1994 تأسّس "المسرح الحديث" في شفاعمرو، وقدّم مسرحية "زغرودة الموت"، التي كتبها وأخرجها الفنان الرّاحل مروان عوكل. وعام 1996 شارك مع مسرح "الأفق" في مسرحيّة "بموت إذا بموت"، من تأليف الفنان عفيف شليوط وإخراج رياض خطيب.
حصل الفنان مروان عوكل على جائزة أحسن ممثل في مهرجان عكّا للمسرح الآخر، وشارك في عدّة أفلام سينمائيّة منها: "الشارع الأصفر"، "عودة صلاح الدين". وشارك في المسلسلات التلفزيونية: "عندما تضيع بنا الطريق"، "عائلة برنجي"، "العندليب" وغيرها. وأدار مسرح الأطفال "المرايا" بشكل تطوّعيّ منذ عام 2006، وحين عايشه السّرطان لم يُحبَط ولم تنهدّ عزيمته، بل ظلّ مرتبطًا بعمليْن مسرحيّيْن من إنتاج مسرح الإفرينج في الناصرة وهما: "قواريط أمين" و "يا شمس يا لا تغيبي"، وظلّ يمارسُ عمله كمديرٍ فني في مؤسّسة المرايا حتى لحظاته الأخيرة! قالوا لي اكتبي عن مروان، فوافقت مرغمة وماطلت ومارست كلّ فنون التحايل حتى لا أفعل، ولكن عرفت أنّني أقفُ أمامَ استحقاق لا بدّ منه، فهو واجبٌ يُؤدّى عادة تجاهَ أولائك الذين نودعهم في رحلة اللاعودة، وقد أبيت على نفسي أن أمارسَ طقوسَ الوداع، وكأنّي طفلٌ عنيدٌ يأبى أن يُشاركَ مَن حولَهُ قصصَ أبطال، يُعايشُهم في ثناياه خوفٌ مِن رحيلهم. أن أكتبَ عنك مروان يعني؛ أن أستحضرَ كلّ ساعاتِ الفرح المجنون التي عرفتها في عينيك، وهناك على خشبة المسرح حيث كنتَ المُشاكسَ الأعظمَ والعملاقَ في حضورِهِ المُنافِس المُتميّز، والذي كان يُحلّقُ بي في سماءِ التحدّي، علّني أصلُ يومًا إلى تلقائيتِكَ المبدعة. معكَ يا مروان تعلّمتُ كيف تنتشي الرّوحُ على تلك الخشبةِ اللعينة.. معكَ فقدتُ القدرة على الكلام، كيف لا، وأنا أقفُ أمامَ مَن يُعجزُ ذاتَ اللسان عن الصّمت، وكلاهما يحملان ذات القوّة بقدرتها على مقارعةِ أهوال الحياةِ بالحكمةِ والصّدق وكلمةِ الحقّ وتعريةِ الواقع!
أنت مَن علّمني أنّ في الحالتيْن يكون الحاضرَ الأقوى هو المشهد، ذاك الذي يُحرّكُ فينا مشاعرَ جيّاشة، ويدفعُنا للجموحِ على صهوةِ خشبةِ مسرحٍ، أو روح فنان منتشية تقفزُ فوقَ حواجزِ الحاسّة السّابعة، ليكون عملاً إبداعيّا.
سألتني يومًا- ما هو الإبداع؟
سؤالٌ يُحيّرُني قبلَ كلّ رحلةٍ في رحاب إبداع هذه الخشبة، وهي كالوطن الغائرِ فينا عشقًا حدّ الحياة، يُحيّرُني ليس مِن باب العجز، فالجوابُ بين ثنايا هذا العشق أبلغُ مِن الكلماتِ المُنمّقةِ والمُنقحة، هو سؤالُ العشق الحقيقيّ، الانتماء، الالتزام، الوفاء. كيف لا، وأنتَ تصهلُ نزفًا فوقَ خشبتِها واحتلالهم؟ أتذكّرُ يومَ ترجّلت عن صهوة المسرح في "يا شمس لا تغيبي"، يومَها لم تتوقفْ أحداقي عن النزفِ بكاءً، احتضنتَني وبكيتَ معي متسائلاً:
- "يا هبلة ليش عم تبكي"؟
قلتُ لك:- مرعوبة وخائفة أن اقضي بقيّة ما تبقّى لي مِن العمر في هذا المكان؛ بيت العجزة، كم مؤلم أن ترى نفسَكَ عبدًا للانتظار!
قلتَ لي:- المسرحُ أقوى مِن الزّمن.
فسألتُك:- وانت ليش عم تبكي يا مجنون؟
قلت لي:- لأني نجحتُ بسلب دمعةٍ مِن امرأةٍ جبّارة.
لستُ جبّارة يا مروان، فبوجودكَ أذهلتني وبرحيلِكَ قزّمتني، ولم أكن أدركُ أنّ فضاءَ المسرح سيخلو من قلبٍ واسعٍ شاسع كالكون يحتضنُ جنوني، ومن عيون طفلٍ يتخفى بجسدِ ابن الستين، ويُثبتُ بعنادِهِ أنّنا كهلة بجسدِ الشباب! ماذا أقول؟ هل علي أن أعترفَ اليومَ برحيلِكَ وأعلنُه؟
ها أنا أفعل .. أعترفُ لك ولهم أن وطنَ الأنبياء خسرَ رائحة نعناعٍ لمبدعٍ فلسطيني، علّمَ أبناءَنا عشق فلسطين، وعلّمنا أنّ الإبداعَ في حالتِنا يعني الالتزامَ والانتماءَ، وهذا بدوره يعني أنّ المبدعَ الملتزمَ من المفروض أن يحملَ همومَ مجتمعِهِ ووطنِه، وينطلقَ بهذا الحمل ولعبءِ ليُناضلَ ويكافح، ويكونَ مِن موقعِهِ جزءًا من الحَراكِ المقاوِم لكلّ محاولاتِ تفتيتِ هذا المجتمع وسلخِهِ عن فضائِه، وهذا كله أنت! هل أعترفُ أن بكاءَكَ وبكائي كانا شعورًا راودنا بأن شمسَنا ستغيب؟
وجاء في كلمة ناهض خازم رئيس بلدية شفاعمرو:
الموتُ هو جسرُ العبور من الحياة إلى الفناء، وضريبة تدفعُها نهاية الحياة لبدايتِها، وللموتِ أنواع وأشكالٌ متعدّدة، فهناك مَن يموتون لتقدّم في السّن، وآخرون نتيجة أمراض فتاكة، وأشكال أخرى، أمّا أنت يا مروان فموتك مختلف عن الأنواع المعروفة، موتٌ غدرَ بنا جميعًا لأننا لم نتوقعه، موتٌ فاجأ الجميعَ، موتٌ وحّدَ أبناءَ مدينة شفاعمرو، موتٌ فتح جرحًا نازفا ومضى، موتٌ زحفَ على قامةٍ شفاعمريّةٍ فنيّةٍ في أوج عطائِها، أسّستْ لونًا خاصًّا للفنّ المسرحيّ الشّفاعمريّ. أصبحَ غيابك حضورًا وحضورُك غيابًا .. لقد دأبنا في بلدية شفاعمرو التي أقف على رأسها على تكريم الفنانين والمبدعين من أبناء هذه المدينة الوادعة، وآثرنا التكريم وهم أحياء في أوج عطائهم، وكان لي الشرف أن أقدّم لمروان درعًا وشهادة على عطائِه وجهودِه في رسم وجه شفاعمرو الحضاريّ. طوبى لمدينة أنجبت هذا الكمّ من المبدعين في شتى االمجالات! طوبى لمدينةٍ تكرّمُ مُبدعيها وفنانيها أحياءَ وأموات! شفاعمرو منبع الإبداع والتألق.. شفاعمرو رمز الكرامة والعرفان.. رحم الله مروان وأدام إرثه الثقافيّ والفنيّ!
وفي مداخلة عفيف شليوط مروان/ سيرة عطاء وكفاح:
قال الممثلُ لزميلِهِ الممثل الذي يحتضر: "يعزّ عليّ فراقك يا صديقي". قال له صديقه بتفاؤل: "ولكنّي سأبقى معك كلّ الوقت". أجابه: ولكن كيف لي أن أعرف، فأنت ستنتقل إلى عالمٍ آخر، لن أراك بعدها. قال له: "لا بأس، كلّما طارت القبّعة عن رأسك أعلم أنني إلى جانبك وأراقبك". وهكذا حدث مع مروان عوكل، فإذا هبت نسمة ريح وطارت القبعة، أخذ مروان يُحدّث صديقه الذي يعلم هو فقط بوجوده، وهكذا أصبح تقليدًا أن يلبس الممثل القبّعة لكي تطير، وصارَ تقليدًا أن يقومَ الممثلّ بالحديث الجانبيّ لصديقهِ الذي يعلمُ هو فقط بوجوده. لا أدري لماذا اخترت هذه القصّة لأتحدث بها عن الصّديق والزميل والفنان مروان عوكل، ولكنّي على ثقة تامة بأنّ هاجسَ مروان كان كبقيّة الممثلين المسرحيّين المَحليّين، بأن لا نكون نحن فقط نعلم بوجودهم، فعندما أصدرت كتاب "جذور الحركة المسرحيّة الفلسطينيّة في الجليل"، شعرت أنّي وفّيت مروان ولو جزءًا مِن حقه، حيث كتبت في حينهِ عن مساهمتهِ في مسيرة مسرحنا المَحلّيّ عامّة، والحركة المسرحيّة في شفاعمرو خاصّة.
مروان عوكل لم يكن مجرّد ممثل مسرحيّ عابر في حركتنا المسرحيّة المحليّة، بل كان رائدًا ومبادرًا ومُحرّكًا لمشاريع مسرحيّة عدّة، فإضافة لدورهِ البارز في مسارح قطرية عدّة كالمسرح الناهض في حيفا، ومسرح بيت الكرمة في حيفا، أسّس عام 1974 المسرح الثائر في شفاعمرو، وكانت باكورة أعمال هذا المسرح مسرحية "مجرم يحميه القانون"، وهي من تأليف وإخراج طيب الذكر مروان عوكل. وعام 1981 تأسّس المسرح البلديّ في شفاعمرو، وكانت باكورة أعمال هذا المسرح مسرحيّة "لعبة الحبّ والثورة" للكاتب السّوري رياض عصمت، وإخراج وتمثيل مروان عوكل، وكان لي شرف مشاركة مروان في هذه التجربة المسرحيّة. ومن التجارب المسرحيّة التي أعتز بها جدًّا والتي شاركني بها مروان، هي الاشتراك في تمثيل مسرحيّة "بموت إذا بموت" عام 1995 في مسرح مؤسّسة الأفق، وهنا سأتحدث عن أمور لم أكن أعرفها عن مروان قبل العمل في هذه المسرحيّة في حينه، فلقد صادَقتْ إدارة مهرجان الناصرة للفنون على اشتراك هذه المسرحيّة في المهرجان المذكور، فقط قبل شهر واحدٍ من تاريخ عقد المهرجان، وتمّ إعدادُ نصّ المسرحيّة لشخصيّتين فقط، النصّ الذي كان من المفروض أن يتقنه مروان كان أقلّ من شهر، والشخصيّة كانت مُركّبة وتحتاج إلى مجهود كبير، وللحقيقة تردد أكثر من ممثل خوض هذه التجربة نظرًا لضيق الوقت أما مروان ففاجأني في حينه بعد أن قرأ النص بموافقته خوض التجربة دون أن يتردّد ولو للحظة، والأمر الثاني الذي فاجأني، أن مروان خلال المراجعات ومنذ اليوم الرابع لم يعد يستعين بالنصّ، بل اعتمدَ كليًّا على ذاكرته، وعندما تحدّثت مع زملائي عن الأمر مُبديًا دهشتي، ضحكوا وقالوا إنّ مروان يتمتع بقدرة غير عاديّة في سرعة حفظ النص. والأمر الثالث الذي جعلني أعرف مروان أكثر من خلال العمل على مسرحية "بموت اذا بموت"، هو مدى عُمق تحليله لشخصيّتي المسرحيّة ومدى إلمامه بالفنّ المسرحيّ.
بعد أن أسّس مروان مسرح العندليب لم يتوقف تعاوننا، بل ارتفعَ هذا التعاون إلى مرحلة أسمى، حيث أنتجنا سويّة مسرح مؤسسة الأفق ومسرح العندليب مسرحيّة "العرندس"، إنتاج مسرحي مشترك للأطفال من تأليف وإخراج وتمثيل مروان. مروان طوال حياته لم يتوقف عن المبادرات والمحاولات، ففي عام 1994 أسّس المسرح الحديث في شفاعمرو، مُنتجًا مسرحيّة "زغرودة الموت" من تأليفه وإخراجه، وفي عام 1999 أسّس مسرح العندليب، ليتحوّل عام 2002 إلى مؤسّسة مسجّلة رسميًّا باسم "مرايا" والتي لا تزال قائمة، ونأملُ أن يستمرّ نشاطها حتى بعد وفاته لتخليد ذكراه، وللاستمرار في المشروع الثقافيّ الفنيّ الذي بدأه.
وفي كلمةِ صالح مصلح حمادة: كانت جنازة عبد الناصر في شفاعمرو!
تُوفّي المرحوم جمال عبد الناصر يوم الاثنين 28-9-1970، وفي اليوم التالي ذهبنا مع الفنان مروان إلى المدارس، لإخراج الطلاب للمشاركة في مسيرة تظاهرية ضدّ القدَر الذي "أخذ لنا" جمال. وعندما علمنا أنّ الشرطة تبحث عنّا، اختبأنا في عمارة غير مسكونة في حيّ الميدان ليلتي الأربعاء والخميس، وفي يوم الخميس 1-10-1970 تمّ تشييع جثمان الشهيد ناصر في القاهرة، وكان مروان وكاتب هذه الكلمات والأخ إلياس عوكل وغيرنا من الفتيان، قد جهّزنا الشّعارات والصّور لجنازة متزامنةٍ مع جنازة القاهرة، وطافت الجماهيرُ في شوارع شفاعمرو، ووضعنا الأكاليل في المقبرة الفوقا وفي المقبرة التحتا، وكانت هناك كلماتٌ تأبينيّة، حيث توقفت المسيرة في ساحة " الْمُخّيّة ". وكان المؤبّنون على ما أذكر، ستة: مروان عوكل، وأنا كاتب هذا الكلام، إلياس عوكل حفظه الله، المرحوم أحمد محسن حمدي، الأخ شفيق خورية أطال الله عمره، وفخريّة نمر عقيلة الأستاذ أمين عنبتاوي، أدامهما الله ذخرًا لشفاعمرو وأهلها، ويبدو مروان في الصّورتين وهو ينظّم المسيرة، لافًّا الكوفية البيضاء - شارة الحداد- حول خاصرتيه. لقد أحبّ المرحوم التظاهرَ، أعني الاشتراك في المظاهرات ضدّ التمييز والظلم والغبن والاحتلال، لذلك كتبت القصيدة التالية، مشحونَةً بروح التظاهرِ ضدّ الحُكّام وضدّ المرض.
إلى مَرْوان
صُنْعُ قنابلَ ما يشغلهمْ/ ليس يُهمهمُ الإنسانْ/ تقتيلًا تخريبًا عاث/ هجروا الصّحّةَ والعُمرانْ
أبحاثًا وتجاربَ خاضوا/ وذكاءَ سِلاحٍ يَقْظانْ/ أورامَ خبيثَةَ ما بحثوا/ لعلاجِ عليلٍ بِتَفانْ
ما أقلقهُمْ موتُ أُناسٍ/ أوباما وبيبي سِيّانْ/ سرطانٌ! ما هَزَّ ضميرًا/ قادةُ عالمِنَا زُعْرانْ
قد أمسى التمثيلُ يتيمًا/ بعدَ رحيلِكَ يا فنّانْ
أشرفَ كُنتَ تُحِبُّ كثيرًا/ لِدَرَجَةٍ مِثْلُهَا ما كانْ/ عامًا كنتَ طلبتَ المهلةَ/ لكنْ لم يُصْغِ السّرطانْ
كي تَحْضُرَ عُرْسًا لِلغالي/ وَلِتَرْقُصَ بينَ الغِلمانْ/ سَوْفَ نُؤَجّلُ عُرْسَ وَليدِكَ/ حتّى نُعيدَكَ يا مَرْوانْ
أمَا علا عوكل خوريّة كريمة مروان فقالت في ذكرى أبيها:
لماذا غبتِ يا شمس؟ لماذا زغردتَ يا موت؟ لماذا حصدتَهُ يا ليل؟ أبي .. لقد انتهت علاماتُ الاستفهام وخلصت علاماتُ السّؤالُ والتعجّب، وعجزت اللغة العربيّة بحروفِ الجر والنصب عن تفسير ما حصل لنا وما حصل معك، فمنذ أن علمنا بمرضِك ذاك اليوم المشؤوم، كنّا جميعًا كعلامات التعجّب مصدومين نتساءلُ كيف؟ لماذا؟متى؟ ومن؟ أبي أنا؟ هل يعقل؟ لقد كذّبنا أنفسَنا وقلنا لا يُعقل، حتمًا هناك خطأ، وقلبنا المنطق وعملنا من أنفسِنا أطبّاء وحكماء لربّما، وعلى أمل أن تساعد تحليلاتنا بتغييرِ نتائج تحليلاتهم هم، ولكن عبثًا، فمهما أردنا وتمنينا وأنكرنا، فالقدَرُ لا مفرّ منه.
أبي.. كم حلمتُ وتمنّيتُ أن أقفَ اليوم هنا في تكريمِكَ وليس في تأبينك! كم تمنّيتُ أن تكونَ معنا لنفرحَ بكَ وبأعمالِكَ وجهودِك، لكنّ الموتَ استعجلَكَ وأخذكَ مِن بيننا خطفًا، كمُجرمٍ يسرق شيئًا ثمينًا ويفرُّ هاربًا وبعيدًا، ليتركَ مِن ورائِهِ عائلة مفجوعة مصدومة منهارة لا تُصدّق، ولو أرادت فهي لن تصدّق ما حدث، وهكذا موتك أبي. أنا أقولُ أننا ما زلنا في وهلةٍ وصدمةٍ وعزة نفسٍ لا تدعُنا نسمحُ للقدر أن يحكم رغم أنه لم يستأذن. نحن لم نشبعْ منك بعد، وما زلنا بأمَسِّ الحاجة لك. ماذا تريدُنا أن نفعلَ دونك؟ كيف ستكون أيّامُنا مِن بَعدِك؟ لقد أخذت معكَ كل شيء؛ الضحكة، الحنّيّة، روح الدّعابة، الجلسات التي لا تحلو إلا معك، والنزهات التي لا أتخيّلها بدونك، والأفراح والأعياد وليالي الصيف والشتاء، فهناك لك ذكرى بكلّ ركن وبكلّ زاويةٍ من زوايا البيت والنفس! مَن سيجلسُ على كرسيك المميّز على شرفة المنزل بالصّيف المقبل، يأكلُ الرّمّان ويستقبلُ الزوّار؟ لمَن تركتَ ابنكَ أشرف ونسائبك نصير ورائد وعايد وعلاء؛ الذين لا يحلو لهم السّهرُ إلاّ معك؟لقد ذكرتَ بوصيّتِكَ لنا "لو تدرون كم أحبّكُم"، فأنا أردّ عليكَ وأقول:-
ندري وألفُ ندري، فلولا معرفتنا لَما عزّ وصعُبَ الفراقُ يا أبي. لقد كنت بالنسبة لنا ولم تزلْ دائمًا قدوة للمحبّة والتسامح والحنان أعظم صفاتك!
وقلتَ أيضًا لنا: أنّه رغمَ المرض فأنت ترى بعيوننا وتسمع بآذاننا وتتنفّس مِن رئاتنا، وهكذا هو، سنكون جميعًا مروان، نحملُ بشرفٍ وبعزة وافتخارٍ كلّ ما أورثته لنا من طباعٍ وخصالٍ ومبادئ، وسنمشي على دربك شرفاء مُحبّين طموحين، وسنُحيي ذكراكَ إلى الأبد، فأنتَ وقبلَ كلّ شيءٍ تستحق التكريم ليس فقط كفنان، إنّما كإنسان كرامته قبلَ كلّ شيءٍ وكأبٍ حنون وكزوج وفيّ وكأخ سخيّ وكجدٍّ طفوليّ، لأطفال لم يعرفوك بعد، تركتهم يتحسّرون ويتساءلون لماذا لن يرَوْنك بعد! لكن؛ أطالَ الله بعمرِكِ يا أمّي، لتُبقينا عائلة مُحبة مُلتئِمة، فأنتِ دالية، وأنا أعتقد أنّها ليست بصدفةٍ، فأنتِ بقيتِ الدّالية التي ستحمل ستة قطوفٍ يانعة خضراء، لهم ولعائلاتهم طولُ البقاء.
وأمّا أنت أخي أشرف، فأنا أطمْئِنُ أبي وأقول لك، نحن سنرى عيون أبي بعيونك، سنسمعُ صوته بصوتِك، وسنلمسُ حنانه بوجودِك، فأمدّك الله بالصّحّةِ والعافية، طول العمر والقوّة لتخطّي الحاضر الآسي. أمّا أنت أبي، رغم أنّك لم تعُدْ سوى ذكرى وصورة نبحث عنها لنراكَ ولنُحِسّكَ ولنغمضَ أعيننا ونتذكّرك، أين عيناك لترى ما نراهُ اليوم وما رأيناه يوم وفاتِك؟ مواساتنا تكمنُ بما رأيناه من حبٍّ وتقديرٍ لك. كم أحبّوا مروان! كم أحبّوا أبو أشرف! إنّ موتَكَ هزّ الوسط العربي بأسرِهِ والبلد بشكلٍ خاصّ، فأنتَ غالٍ غالٍ على قلوب الجميع، ولهذا نحن كعائلة؛ أبناء وأخوة وأخوات وأنسباء، نشكرُ العائلة الشفاعمريّة أجمع على وقوفِها جنبنا، فلكُم جميعًا فردًا فردًا ألف شكر على محبّتكم ومؤاجرتِكم، أبقاكم الله عزة وعزوة لنا ولأهلكم.
وختامًا .. رغمَ أنّه بوسعي التحدّث عنك ومعك ساعاتٍ وساعاتٍ، فأنا أقولُ لكَ باسمي واسم كلّ مَن هو مِن صُلبِكَ، وأمّي على رأسِنا، أحببناك وأحببناك، ولو كان الأمرُ بيدِنا لَما سمحنا لك بالرحيل، فنحن لكَ ومِن أجلِكَ ولإحياءِ ذكرك، فأنا شخصيًّا وكما تعوّدت مِن قبل، أن أُعرّفَ عن نفسي وقبلَ أن أذكر اسمي، حتى أن أقول: أنا ابنة مروان عوكل الممثل، وسأبقى كذلك ملتزمة بذاك التعريف الذي هو فخرٌ وتاجٌ لطالما وضعتُهُ على رأسي، وسيبقى الأمر كذلك بلا تغيير، فأنا عُلا ابنتك التي أحببتها وأحبتك والتي ربّيتها أربعة وثلاثون سنة بالتّمام والكمال، فأنا وُلدت بتاريخ 26/12 وأنت ودّعتنا بتاريخ 27/12، وأنا أعلمُ أنك قاومت لتخطّي يومَ ميلادي، فأنت عظيمٌ وقويّ حتى آخِر ساعاتك. وداعًا لك يا أبي وشكرًا لك على كلّ شيء.. أحبّك ومشتاقة وسأشتاق لمناداتك، ولكنّني سأكتفي بفرشتي ووسادتي ليلاً علّهما يساعدانني على رؤيتك ومحادثتك، ومِن الله أطلبُ أن يُسكنك فسيحَ جنّاته، ولكم جميعًا طولَ العمر والبقاء.
وجاء في كلمة ناجي ظاهر: لوين يا مروان؟
مروان عوكل ابن شفاعمرو المتألق، في العديد من الأعمال الفنيّة المسرحيّة، في مدن وبلدات مختلفة منها الناصرة وحيفا وبلدته شفاعمرو ذاتها، عبْرَ العشرات من السّنين، رحل يوم 29-12-2011، قبل انتهاء السنة 2011 بأيام، تاركا وراءه ستين عامًا من العطاء والحلم والعديد من الأعمال المسرحيّة، كان لي شرف المساهمة بكتابة واحد منها هو مسرحيّة" ابن خلدون"، من إنتاج مسرح فرينج انسامبل وإخراج الصّديق العزيز هشام سليمان. تعود علاقتي بمروان عوكل إلى أواسط السبعينيات، يوم شاهدته يقدّم مسرحيّة محليّة في بيت الكرمة، إلى جانب عدد من الممثلين المسرحيّين منهم الفنان سمير إبراهيم البيم أطال الله عمره، يومها دهشت بالقدرة الأدائيّة الكبيرة التي تمتع بها، وأذكر أنّني توجّهت إليه بعد العرض مباشرة لأشدّ على يديه ويدي زميله وابن بلدته سمير البيم، محبّذا ومشجّعًا، وعلى فمي كلام مفاده: إنّ مسرحنا يتطوّر من يوم لآخر، ما دام يحتضن مثل هذه المواهب الخلاقة. بعدها مرّت سنواتٌ لأجد من يدعوني لحضور مسرحيّة أخرى من إنتاج مسرح "المرايا"، الذي حاول مروان عوكل أن يؤسّسه لإدخال البهجة إلى قلوب الأطفال في بلدته شفاعمرو وفي بلادنا عامّة، وأذكر يومها أنني توجّهت إليه بعد العرض مباشرة وشددت على يده مثلما فعلت قبل سنوات بعيدة من تلك السّنة. في السّنوات الأخيرة أتيح لي أن أعمل ضمن طاقم مسرح فرينج انسامبل الناشط في مدينة الناصرة، في إعداد وكتابة مسرحيّة عن المؤرخ وعالم الاجتماع العربيّ عبد الرحمن ابن خلدون، وكانت هذه المسرحيّة تستعرض عروضًا ومشاهد مسرحيّة تمّ استقاؤها من أدبيّات المسرح في العالم وفي بلادنا أيضًا، في حين كان ابن خلدون يحضرُ في اللحظاتِ المناسبة، ليُدلي بآرائِهِ النيّرة السّديدة، فيما يُعرَضُ من مشاهدَ مسرحيّةٍ أمامَ الجمهور.
مروان كان واحدًا من أركان هذا العمل المسرحي، وكانت هذه مناسبة لأن أتعرفَ إليه أكثرَ عن قرب، ولأن أتأكّدَ من أنّني كنتُ مُصيبًا في الماضي، حينما رأيت أنّني إنّما أقفُ أمامَ فنان مُبدع يمتلكُ قدراتٍ إبداعيّةً غيرَ عاديّة، أكّد هذا الإحساس تلكم الحياة التي بثها مروان، بالتعاون مع رفيقه في الأداء المسرحيّ الفنان الصديق طارق قبطي ابن مدينتي الناصرة، في مسرحيّة "يا شمس لا تغيبي"، فقد بدا مروان في هذه المسرحيّة، التي كانت من أواخر ما قدّمَهُ من فنّ مسرحيّ، فنّانًا متألّقا أكسبتهُ الأيّامُ والسّنواتُ المزيدَ مِن التجربة والخبرة والنضج. مكّنتني معرفتي بمروان خلال عملي إلى جانبه من معرفته أكثر، وكنت وما زلت أرى فيه الفنان المخضرمَ العريقَ الذي يستلهمُ قدراتِهِ من فنّاني الفترة السّابقة، لا سيّما فيما يتعلق بما تميّز به من حسّ فكاهيّ ساخر، رافدًا هذه القدرات بأخرى شقيقة لها كان لا بدّ له من استلهامها من فناني الفترة الحالية الرّاهنة. هذه الخلّة لم تميّز مروان وحدَهُ وإنّما هي ميّزت رهطًا مِن الفنانين الممثلين، ممّن عاشوا فترتيْن مختلفتيْن في حياة مسرحنا العربيّ في هذه البلاد، أذكرُ منهم بكثير من المحبة والعرفان الفنانيْن الصّديقيْن لطف نويصر وطارق قبطي، وأتساءلُ أين منصور أشقر وهو الأستاذ المتألق في خضرمتِهِ وجمْعِهِ بين فترتيْن غاليتيْن؟
هذه القدرات التي استفادت من فترتيْن مختلفتيْن وجمعت بينهما، في إطار هو أشبه ما يكون بالعِقد الفريد، منحت مروان مكانةً مميّزة بين أقرانِهِ من الفنانين الممثلين، وكان بإمكانِكَ ملاحظة هذه المكانة ولمسها لدى مرتادي المسرح، حينما كان يتبيّن لهم أنّ مروان هو أحدُ المشاركين في تقديم هذا العمل المسرحيّ أو ذاك.
إنّني أستعيدُ الآن وأنا أكتبُ هذه الكلمات تلكم اللحظات التي جمعتنا معًا، فأراها لحظاتٍ متفرّدةً حفلت بالغنى الفنيّ والإنسانيّ. قالَ مروان في مقابلةٍ صحفيّةٍ تمّ إجراؤُها معه، بعد إصابته بالمرض العضال ابتداء من تموز الماضي، إنّني أريدُ أن أتصادقَ مع هذا الزائر الغريب. غيرَ أنّ هذا الزائر قاسي القلب، لم يُمهلْ مروان سوى بضعة أشهر، ليأخذهُ مِن بيننا وهو في عزّ عطائِهِ وتألّقِهِ، وليختطفهُ ماضيًا بهِ بعيدًا بعيدًا.. تاركًا وراءَهُ أثرًا عميقا على رمال المسرح في بلادنا.
وقام الفنان سعيد سلامة بأداء رقصة صامتة لروح (مروان عوكل) العصفور المحلّق العائد ثمّ كلمة حق:
أخي العزيز مروان.. اسمح لي أن أخاطبك وأن أحادثك، فليس من عادتي مخاطبة الغياب. العزيز مروان المنتقل مِن مسرح الحياة إلى مسرح السّماء.. لا أبالغ أنّني لا أعرفُ مِن أين أبدأ، ولا أدري كيف أنهي، فكلينا لا نهوى النهايات. عذرًا إن أخفقت في اختيار التعبير، فأنا لا أجيدُ لغة الرّثاء وصنعتها، وكيف لي أن أتقنها، في حين علّمَتني الحياة لغة العطاء وقوّة الاستمرار رغم الألم. عذرًا رفيقي .. إن نتحدّث وتبقى أنت صامتا.. فكم أحببتَ الحوارَ وتألقتَ فيه على المسرحيْن؛ مسرح الفرجة ومسرح الحياة.
العزيز مروان..
كان الرّحيلُ مُبكّرًا وقبلَ أوانِه، فالمسيرة لم تكتملْ بعد. فأنت مَن حلمتَ بمسرحٍ وطنيّ مميّز يحملُ همّ بلدِكَ وشعبك.. نعم بكّرت في السّفر، وأنت مَن أحب الحياة وعشقها، وكلنا يدري أنّك أحببتها بلا حدود وعشتها مرّتيْن؛ مرة على الخشبة وعلى مسرح الحياة.. عشتها مرّتيْن لأنك عشقتها. "كم كنتُ أتمنى أن أكتبَ عنك وأنت بيننا"! نعم؛ هذا ما قلتَه لأخي الرّاحل زيدان، وأنا كذلك كم كنت أتمنى أن أكتبَ عن فنّكَ وأدوارِك المسرحيّة التي لعبتها وأغنيت بها مسرحَنا، لكنتُ أبدعتُ وتفننتُ في وصفِكَ كفنان مُبدعٍ وخلاّق. عرفتكَ إنسانًا مُلتزمًا وعرفتك مسرحيًّا معطاءً عندما كنتَ بجانبي على الخشبة، وتمتّعت بكلّ لحظةٍ رافقتك بها فنيًّا وحياتيًّا.. ماذا أقولُ وأنتَ مَن وهبتَ الحياة لمسرحِنا، وكنتَ مِن الرّعيلِ الأوّلِ، من الذين بنَوْا حركة مسرحيّة فلسطينيّة مميّزة رغم قساوة الظروف.. عانيتَ.. صمدتَ.. تألقتَ وأمتعت. واليومَ وبعدَ الرّحيل أُقرُّ وأعترفُ أنّنا فقدنا علَمًا مِن أعلام المسرح المبدعين، أخا عزيزًا، صديقا صدوق، خسرنا فنّانًا مميّزًا تركَ أثرًا وإرثًا مسرحيًّا مجيدًا، يتمنى كلُّ فنّانٍ أن تكون له بصماتٌ كما تركتها يا مروان.. نعم؛ نعرفُ أنّ مروان عوكل هو حالةٌ فنيّةٌ نادرة، وهو الإنسانُ الوطنيّ الذي أعطى شعبَهُ بلا حدود، ومروان عوكل هو الإنسان الفنّان، نعاهدُكَ أن نسيرَ على دربكَ ونصونَ ونحفظ إرثِكَ الفنّيّ الزّخم.
وجاء في كلمة المخرج فؤاد عوض من الناصرة/ هناك في دارة القمر:
حينها، لم أكن قد عرفتك، وإنّما بحُكم عملي المسرحيّ عرفتك من القريب البعيد، فنّان مسرحيّ أحبّ عمله وسارَ في درب مهنةِ التمثيل، ممثلٌ مخضرم، عملَ ورافق الجميعَ، ومِن ثم سارَ في مشروعِهِ الخاص على هذه الأرض البور. كأنّكَ انتظرت بترَوٍّ وطمأنينة، لم تتسرّع الخطوات، ولا افتعلتَ الضجّة الإعلاميّة "المصطنعة"، طيّبٌ كما كنت أنت.
صعدنا جميعُنا مِن محطة مسرح الجوّال البلدي في سخنين، إدارةً وتأليفًا وتمثيلاً وإخراجًا وكلّ ألوان الطيف الفنيّ، إلى *(الباص) الذي سارَ بنا جميعًا، كي يوصلنا إلى مهرجان المسرح الآخر في عكّا، شخصيّاتها حملت رغبة الحياة، والعملَ والبحث عن مكان أفضل، في ظلّ الموت والاحتلال! تذكرُ تلك الحقيبة السّوداءَ سوادَ الليل وسوادَ الفحم الأسود، التي لم يكن لها صاحب، وما مِن أحدٍ أرادها لنفسِه؟ لا أحد علمَ بما في داخلها، لكنها سبّبت الرّعب للجميع، تلك الحقيبة هي الموت، هي المرض الأسود الذي يجشمُ على أكتاف البشر، وكنتَ أنت ضحيّتها، وحمّلتكَ سرّها الأسود، فحملته متألّمًا لا ذليلا، وبقيت متفائلاً كلّ الوقت، كم تحمّلت مِن عبءِ المرض الأسود وأخفيته عن الجميع، حتى سقطتَ على أرض المنصّة في مركز محمود درويش الثقافيّ!
لقد نزلت يا صديقي من الباص قبلَ موعد وصوله إلى محطته الموعودة، وما كنت لتنزل لو كان الأمرُ متعلقًا بك وحدك، وما كنت على استعدادٍ للتخلي عن دورٍ آخر، أو شخصيّة أخرى تمثلها على المنصّة التي أحببتها فأحبتك، صعودًا نزولا، صامتًا متكلمًا، وقوفًا جلوسًا، هادئًا صاخبًا، وما الحياة إلاّ مسرحًا، كلٌّ يؤدّي دورّه. لقد فعلت ذلك بطريقتك الخاصّة وبتواضعِك المعروف وتفانيكَ المعهود، ترسمُ شخصيّاتك لحظة بلحظة، مسافرًا بين شخصيّة وأخرى، بين موقفٍ وآخر، وبين الجدّ والهزل.
رغبت لو تكون فراشة ؟
فكانت لك الفراشة، لكن فاتك يا صديقي أن لا أرض للفراشة، فقد كان لها السّفر وعدًا، ولذا آثرت السّفر والسّفر والسّفر ...
بهذا المقام يحضرُني قولُ شاعرنا الفلسطيني الكبير معين بسيسو:
"سفرٌ يطولُ.. سفرُ الفراشاتِ إلى القمر"/ هناك أنت/هناك أنت.. فيه.. نرى ملامحك.. ملامحهم.. ملامحنا/
هناك جزءٌ منا/ هناك يسكن الفنانون في دارة القمر/ هناكَ مصدر الإلهام والإيحاء والملكة ماب/
هناك في انتظارك شلة من الأصدقاء المسرحيين، هناك أصدقاء لنا ولك، بسام زعمط، أنطوان صالح، جوزيف أشقر، وديع منصور، وفيق حسيان، زيدان سلامة، بشرى قرمان، مازن غطاس، يعقوب إسماعيل، جوليانو مير خميس وفرنسوا أبو سالم!
لقد نزلت يا صديقي من باص مسرح الحياة في قمّة العطاء وسافرت، لم يمضِ على سفرك المفاجئ أربعين يومًا، في طريقك الطويل إلى هناك؛ إلى دارة القمر. ينظرُ الإنسان إلى هناك كما لو كان أمرًا عاديًّا، لكنه بالنسبة لنا نحن المسرحيين ليسَ أمرًا عاديّا، بل يُسحرُنا القمر ويلهمنا، هناك في دارة القمر أنتم، يؤنسنا القمر ويُبدّدُ وحدتنا، ففيه نرى ملامحَك، ملامحَهم، وملامحَ أحبّتنا أجمعين.
وفي كلمة زياد شليوط: فارس الكوميديا مروان عوكل يترجّلُ عن حصانه!
أبى فارسُ الكوميديا الفنان الشّفاعمري مروان حنا عوكل إلاّ أن يغيبَ مع غياب عام 2011، الذي شهدَ تقلّباتٍ وتحوّلاتٍ وتغييراتٍ عديدة وغير متوقعة، حيث شهدت حياة مروان عوكل التي امتدت على ستين عامًا تقلّبات وتحوّلات وتغييرات عديدة، لكنّه لم يفقد البوصلة وإن حادت به أحيانًا في محاولة لخداعه، لكنه عرف كيف يعودُ إلى المسارِ الذي اختطّهُ في حياته. منذ حداثتِه وفي مرحلة فتوّتِهِ بدأ مروان يمارسُ هواية التمثيل التي وُلدت به مع ولادته، وكان في حارة المكتب يمارس التمثيل في الشارع أمامَ أصدقائه وأترابه من أولاد الحارة، حيث كان يتنكّرُ مرّة في ثياب امرأة، ومرّة في ثياب رجل مسن، وأحيانًا في ثياب عفريت أو شحاذ، ويطوفُ بين البيوت متقمّصًا الشخصيّة التي اختارها، دون أن يكتشفَ أمرَهُ أحدٌ مِن الجيران الذين كانوا يعرفون مروان ابن الحارة، لكنه بتقمّصِهِ أيّة شخصيّة، يُقنعُكَ أنه هو الشخصيّة التي اختارها، واشتهر مروان والكلّ يُشيرُ إلى هوايته وبراعته التي رافقتها خفة دم خاصّة به، فلم يغضبْ منه أحدٌ من الجيران للمقالب التي أحسن صنعَها وتنفيذها.
ولمّا شبّ وكبُرَ مروان اختارَ التمثيل والفنّ المسرحيّ قدرًا له، ولم يكن هذا القرار غريبًا عليه، وأثبت بسرعةٍ نجاحَهُ نظرًا لقدرته وموهبته الحقيقيّة في التمثيل، وبدأنا نشاهدُهُ على المسرح يُضحكُنا بحركاتِهِ وقفشاته المميّزة، وكان من الطبيعي أن يتطوّر مروان بموهبته وطاقته مع الأيّام والسّنوات، ولعبَ أدوارًا صعبة ومميّزة في مسرحنا المحلّيّ، ثم ازداد طموحُهُ كالعديد من الفنانين، وانتبه إلى عالم الأطفال وضرورة تشكيل مسرح خاصّ به، وعمل في السنوات الأخيرة على هذا الجانب من خلال مسرح أسّسه وأداره. لم يكن مروان مجرّد ممثّل أو فنان، إنّما كان قبل كل ذلك إنسانًا مُلتزمًا، وقد نشط من أيّام حداثته أيضًا في الفعاليّات والنشاطات الوطنيّة. وما أذكره ومن شهادات أصدقاء له أنه لعب دورا هاما يوم وفاة القائد العربي الخالد جمال عبد الناصر عام 1970، حيث نظمت في كل القرى والمدن والمواقع العربية على امتداد الوطن العربي، جنازات شعبية يوم وداعه الرسمي في القاهرة. فكان مروان في مقدمة المظاهرات التي انطلقت يوم اعلان وفاة الزعيم العربي، بعدها اختبأ في المغر والأماكن البعيدة عن مركز البلد مع أصدقاء ورفاق له لمدة يومين بعيدين عن عيون الشرطة وآذانها، يعدون ويحضرون لجنازة عبد الناصر التي لم تشهد لها شفاعمرو مثيلا وقد شارك فيها أبناء المدينة من كل الأعمار رجالا ونساء، وطافت في شوارعها وتوقفت عند الكنيسة حيث دقت أجراسها حزنا، وعند الجامع حيث رفع الآذان والجميع في حزن شديد. كذلك كان لمروان دورا في التحضيرات لاضراب يوم الأرض الخالد عام 1976 مع الكوادر الشبابية، وكانت له مواقف في مناسبات أخرى وانضم لصفوف الجبهة الديمقراطية لفترة من الزمن.
لكن مروان يبقى مروان الساخر الكوميدي صاحب القفشات والنكات الظريفة، ولم يتخل عن تلك المزايا حتى بعدما هاجمه المرض الخبيث ولم يمهله طويلا، فقال في أحد اللقاءات الصحفية الذي أجري معه خلال مرضه بأسلوبه الساخر "لقد كان رد الفعل الأولي لي عندما علمت بأمر مرضي أن تحدثت مع "السرطان" وقلت له: أنا لم أدعوك لتدخل جسدي لكن بما أنك أتيت بمحض إرادتك فدعني أعتبرك صديقي المقرب الجديد ونتّفق على ألاّ تؤذيني ولا أؤذيك..." وللأسف لم يحسن مروان هذه المرة اختيار صديقه، فالمرض الخبيث لا يتخذ صديقا ولا يعرف للصداقة معنى.. لكن أرى أن مروان أراد أن يحتال على المرض بسخريته عله يمنحه فرصة أطول، إلا أن القدر كان له بالمرصاد فاضطر أن يترجل عن حصانه وهو يستعد ويخطط لأعمال جديدة.
وفي كلمة وليد ياسين/ بين روحي وروحك فراشة!
لا أنكر يا صديقي أني لم أسارعْ إلى زيارتك، حين حملَ إلي أحدُ الأصدقاء ذلك الخبرَ المشؤوم، منذ عدّة أشهرٍ سبقت ذلك اليوم الذي وجدتُ نفسي أركضُ فيهِ إلى حيث كنتَ المسّجى، وأنا الواقفُ غيرُ مُصدّق بأنّني فوّتُّ فرصة اللقاء. ربّما يا مروان لم أحضرْ لزيارتك، عندما علمتُ أن ذلك اللئيم سبقني إليك وقرّر الاستيطان في جسدِك.. الحقيقة أنّني كنت أخشى رؤية الألم في عينيك، وأنت ما عوّدتني إلاّ على ابتسامتِكَ التي كانت تطوّقُ مُحيطًا مِن الكلمات، أو ربّما لم أحضرْ يا صديقي لخوفي مِن يومٍ أضطرُ فيه إلى كتابةِ هذه الكلمات، فتجتاحُني نظراتُ عينيْك، تريد أن تستطلعَ ما أكتبُ، فأخجلُ إن لم أستطعْ كتابة ما يوفيك، ولو بعضَ ما لكَ عليّ من حروف. لقد مزّقني ألمُ الكتابة يا مروان، يوم َوجدتُ نفسي أصارعُ روحي احتراقًا، حين سقطَ ذلك النجم مِن السّماء في عزّ الظّهيرة، واختطفَ صديقنا المشترك زيدان. وها أنا مِن حيث لا أدري، أكتشفُ أن ذلك النجم سقطَ ثانية واختطفك، وأوقعَني في دوّامة الاحتراق المتجدّدة، وأنا أنظرُ في عينيْكَ غيرَ مُصدّقٍ أنّني أرثيك!
أعترفُ الآن يا مروان، بأنّي تهرّبت مِن مواجهتِك، وأنّي حين قرأتك قبلَ أسابيعَ قليلةٍ مِن رحيلك، وأنت تخاطبُ ذلك اللئيمَ وتقولُ له "كن صديقي"، لم أتحمّلْ كلماتِكَ ولا شبهَ ابتسامتِكَ المُغتصبة التي التقطتها عدسة الكاميرا، لأنّي يا مروان كنتُ أعرفُ أيّ ألمٍ وأيّ عذابٍ يعيشه الإنسان حين يستوطنه ذلك اللعين .. ألا يكفي يا صديقي، أنه قرر الاستيلاء على جسدك واستيطانك عنوة؟ كيف يكون صديقك؟ وكيف نسمحُ له نحن الذين كنت لنا الصديق والرّفيق والحبيب، بأن يستولي على روحِك ويُخطّط ويتآمر لانتزاعها من جسدِك ويختطفك من بين أيدينا، فتغيب في لحظةٍ كما لو أنّكَ ما كنت تُجالسُنا في الأمس، وترسمُ تلك الضّحكة، وأنت تتذكّرُ كيف خدعتَ رجالَ المخابرات كلّهم ذات مرّة حين كانوا يبحثون عنك إثر قيادتك لمظاهرة الحزن على رحيل ناصر؟! كيف يمكن لمَن خدعَ أقوى جهاز استخبارات، أن ينحني أمامَ طفيليّ لعينٍ ويُسلّم؟
كيف يمكن لنا نحن الذين رافقنا نظراتِكَ أن نعايشَ أمسَنا ويومَنا وغدَنا مِن دونِها ومن دونك، ونحن نعرفُ أنّنا فشلنا في الحفاظ عليك؟ يا مروان اعذرْني .. لأنّي لم أبكِ دموعًا يومَ ارتحلت، فلقد طلبتُ لكَ الرّحمة على أن أراك تواجهُ ذلك العذابَ الذي شاهدته في عيني والدي يومَ استوطنَهُ ذلكَ اللعين. لم أبكِ دمعًا يا صديقي.. لكنّي كنت نازفَ الشّرايين.
لقد مضيتَ ولا أعرفُ أين أنت الآن.. فقد اعتبرتُكَ سافرت ويومًا ستأتي.. وسأبقى بانتظارِ عودتِك، في قلب مروان يتقمّصُ روحَكَ ويحملُ اسمَك، ولذلك، اِسمح لي فأنا لن أقول وداعًا بل إلى اللقاء.. سواء كان هنا، أو هناك.. فبين "هنا"، روحي، و"هناك"، روحك، ستبقى فراشة مُحلّقة، أنظرُ إليها كل صباحٍ وأنتظر.. أن تحملني على جناحيها إلى حيث يكون اللقاء.
وكلمة هشام سليمان؛ المدير الفنيّ لمسرح انسمبل فرينج الناصرة/ شمسك لن تغيب يا أبو أشرف!
أعزي نفسي وأعزي مسرحَنا وجمهورَنا الفلسطينيّ بفقدان الفنان الرّائع والكبير بأخلاقه، إذ لا يمكن التصديق بأننا غادرنا السّنة وبدأنا سنة جديدة دون روحِكَ الطيبة يا طيّب الذكر.. كانت اللحظات الأولى التي وصلني فيها خبرُ وفاتِك شبيهة بمشهدٍ مسرحيٍّ عبثيٍّ سرياليّ، فقد مرّ عليّ الموتُ بالسابق، ولكني لم أشهده بهذه القوّة بالرّغم من حتميّته التي لا يمكن لأحد أن يتخطاها، وما علينا سوى الاكتفاء بمواجهةِ الشعور المرير بقسوة الحياة والقبول بإرادة الله. صدقتَ عندما صرّحتَ بأنّ مسرح انسمبل فرينج الناصرة كان بيتك في السّنوات الأخيرة، وقام بإعطائك منصّة خلافًا لمسارحَ أخرى، ولكن في الحقيقة أنتَ مَن أعطانا فرصة لم يتجرّأ أحدٌ مِن كبار الفنانين بالمغامرة والمراهنة على مسرح حديث العهد، ودعم مدير شاب بالكاد أنهى عقده العشرين.. إضافة إلى أنّكَ تملك موهبتين، فأنت فنان وإنسان، والثانية أهمّ من الأولى في زمن تحكمُه الغوغائيّة وفقدان الفطرة الإنسانيّة التي تنادي بسكينةِ الرّوح والمحبّة، هذا ما كنت تنادي به "المحبّة".. وهذا ما شهدناه بمسيرتك معنا، فاسمُكَ سيُرافق فرينج الناصرة ما دام هناك مَن يؤرّخ مسرحَنا الفلسطينيّ، ليسَ فقط كممثل إنّما كمؤسّس، كأب وأخ وصديق.
المسرحيّة الأخيرة التي شاركت بها كانت "يا شمس لا تغيبي".. وكأنّكَ قرّرتَ الرّحيلَ عن الدّنيا بمقولة، بأنّ شمسَك لن تغيب، وأقصدُ عطاءَكَ للحركةِ الفنيّة، فمَن يستطيعُ إنكارَ رحلتك الفنيّة المليئة بالعطاء والمسؤوليّة تجاه الجمهور؟ لم تشتكِ يومًا مِن مهنتك، لكن اشتكيتَ مِن حال المسرح المحلّيّ وعدم المهنيّة المتفشي كالسّرطان في وسطنا الفنيّ، لكن سنبقى على عهدِكَ بالمثابرة والعمل الجدّيّ على العطاء، حتى لا تغيبَ شمسُنا.. فمحبّتي.. وهنيئًا للمسرح الفلسطينيّ بمروان عوكل!
وفي كلمة أمين عنبتاوي؛ رئيس المجلس الشعبيّ للثقافة العربيّة:
الأسرة الطيّبة، ألأقرباء والأنسباء والزملاء والأصدقاء والجمعُ الكريم.. في فقدان عزيز كمروان، غالبًا ما تنضبُ ينابيعُ المعاني وتغيبُ الكلمات، فيُمسي القلمُ عاجزًا واللسان، لكن لا بدّ مِن كلمةِ صدق وَجبت، عسانا نفي أبا أشرف نزرًا يسيرًا مِن حقّ له علينا، والشّكُّ هنا يقين، بأنّي مهما قلت وكتبت، سيبقى ليسَ أكثر مِن نقطة في بحرٍ ممّا يستحق . كلمات، أنشُدُ مِن خلالِها تمريرَ رسالة، أرى في تأديتها واجبا.
الأخوات والإخوة.. قالوا: المرءُ بأصغريْهِ؛ قلبه ولسانه!
فقيدُنا ربطت أصغريْه صداقة حميمة، ولسانُهُ كان ناطقا صادقا باسم قلبِهِ النقيّ، وقد قيل أيضًا: إنّكَ تعملُ ضدّ نفسِك إذا عملتَ فقط لنفسِك! فقيدُنا الغالي ذوّتَ هذا وتبنّاه، وطبّقَهُ فعلاً مع القول، لذا مِن حقّهِ أن أخاطبَهُ قائلا: فقيدَ جمهورِكَ وبلدِك، وفقيدَ المسرح ومجتمعِك، كيف لا وأحدُ الأعمدةِ أنتَ كنت!؟ سرتَ الدّربَ كلّهُ على طولِهِ ومشاقّه، غيرَ آبهٍ بعقباتِهِ وأشواكِه، دونَ كللٍ أو ارتخاء، ودون مللٍ أو انحناء، بقيتَ شامخًا مرفوعَ الهامة، واثقَ الخطوة تمشي، مِن عظيم الثقة بالنفس تستمدُّ القوّة، ومِن عنفوان العزم والعزيمة تنهلُ الإرادة. أجل وقتك قضيت، وقصوى طاقتك استنفذت، بل عمرك كله أفنيت، في سبيل ما به آمنت، وكالصّخر صلبًا بالحقّ تمسّكت، كنت إذا عملت أخلصت، وإذا تحدّثت صدقت، صمّمتَ في لينِكَ ولُنتَ في تصميمِك، وطيلة مشوارِك الزاخر بالعطاءِ تألقت، وفي كلّ محطةٍ مُفعَمًا بالحماس تجلّيت، لكن قبل الأوان مُرغمًا توقفت، عندما القدَرُ أصدرَ حُكمَهُ عليك، وهيهات أن يُردّ إذا وقعَ القدر، أو يُؤجّلَ إذا جاء الأجل! لا شكّ يُساورُنا، بل نحن على يقين، أنّه ما كان لشيءٍ أن يُعطّلك، حتى المرض اللعين مع جبروته وقسوته، لم يُفلحْ في أن يلغيَ عزيمتَك، ورغمًا عنه، بقيتَ واقفًا وعلى الدّرب سائرًا، حتى جاءَ الموتُ فأقعدَك.
فقدناك جسدًا، نعم؛ لكنّكَ بسيرتِكَ الحميدة وبالنموذج الرّائع الذي كنتَهُ، ستبقى مثالاً ونبراسًا، منارة وقدوة، وسيسألُ عنك الكلّ ويفتقدُك، الآن وغدًا وبعدَ غد. أخي أبا أشرف، ثِق أنّنا دومًا سنذكرُك، لأنّكَ معَنا باقٍ وإن رحلت، قريبٌ وإن ابتعدت، حاضرٌ وإن غبت، فنَمْ إذن قريرَ العين بعدَ كلّ ما قدّمتَ وأعطيت. وختامًا، واسع الرّحمة في جنّات الخلد لكَ نسأل، ولأبناءِ الأسرة الطيّبةِ والعائلة الكريمة طولَ العمرِ مُزيّنًا بوافرِ الصّحةِ والسّعادة نأمل، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
وجاءَ في كلمةِ كامل الباشا/ هو فراغٌ تملؤُهُ ذكراك!
مُشاكِسًا كنتَ لكلّ ما حولك، لم يَسلمْ مِن تهكّمِكَ ودعاباتِك واستفزازاتِك قريبٌ ولا بعيد، أنت العابثُ الباسمُ حتى في أقسى المواقفِ وأشدّها ألمًا، لم أستطعْ مقاومة الابتسامِ حتى في جنازتِك، فقد كانت تداعبُ مخيّلتي صورٌ متعدّدةٌ وفيها كلّها أراكَ مبتسِمًا، حتى عندما كنتَ تتصنّعُ الجدّيّة في بعض المواقف، ما تلبث أن تبدأ بالظهورِ على أطرافِ مُحيّاك نفسُ الابتسامة العابثة، والتي تنتهي بضحكاتٍ مجلجلةٍ أسمعُ صداها الآن، وأنا أسطرُ هذه الكلمات.
لقاؤنا الأوّل كانَ في مسرحيّةِ ظاهر العمر الزيداني عام 1995، شهران من التدريبات الشاقة كانَ وجودُكَ يُخفّفُ حدّتها. أذكرُ غضبَ لطف نويصر مِن ملاحظاتِك العابثة، وادّعائك للجدّيّة وأنت تسمعُ ملاحظات المخرج، ثمّ تفعلُ ما تعتقدُ وتؤمن أنّه الصّواب. كرّست نفسَكَ لخدمةِ المسرح، وكنت مُخلصًا في عشقِكَ لخشبته، لم تكن تبحث عن مجدٍ أو شهرة أو مال، كنتَ دومًا على استعدادٍ للتضحية، عشقت الخشبة فعشقتكَ، وإذا بك تتنقلُ مِن مسرح إلى آخر، ومِن تجربة إلى أخرى بثقةٍ وتواضع ومَحبّةٍ نادرة، وكان أكبرُ مَكاسبك حُبُّنا جميعًا لكَ إنسانًا ومُبدعًا ورمزًا للبساطة والأريحيّة. الآن برحيلك غير المتوقع ندركُ أنّك تركتَ في الحركة الفنيّةِ والثقافيّةِ الفلسطينيّةِ فراغًا، لن يُشغلَهُ أحدٌ سواك، وسيبقى ذلك الفراغ فراغَك أنت، إنّه مساحةُ إبداعِكَ وجهدك وتضحياتك التي ملأتها بعديد أعمالِك، فسجّلها لكَ تاريخ المسرح الفلسطينيّ بمدادٍ مِن عرقٍ مالح، تصبّبَ به جبينك على مدى ما يزيد عن أربعين عامًا من المسرح والمسرح والمسرح، حتى في أدوارِك السّينمائيّة والتلفزيونيّة لم تستطعْ أن تغادرَ الخشبة، فكنت ابنًا بارًّا للخشبة التي لن تنساك. أمّا نحن فستُشغلُنا الحياة وسنبتسمُ كلّما تذكّرناك، وعندما نلتقي مرّة أخرى إن التقينا، عندها سيكون للابتسام طعمٌ آخر.