من الملاحظ أن أصالة الابداع وقوته لا ترتبط بعمر معين للإنسان، فربما يقدم إبداعا أصيلا وهو لا يزال في مقتبل العمر، كما حدث ذلك مع أعظم الكتب الشعرية التي شهدها النصف الاول من القرن الماضي، وهي مجموعة عالم الملائكة للشاعر الاسباني الشهير روفائيل البرتي وهو بعمر 23 سنة، فيما كتبت فرنسواز ساغان أجمل رواياتها (صباح الخير أيها الحزن) وهي بعمر 18 عاما، أما همنغوي فقد كتب رائعته (الشيخ والبحر) في عمر متأخر قبل أن يقتل نفسه، في حين صرّح ماركيز بأنه كتب أنضج أعماله بعد الخمسين.
هذا الكلام يقودني الى لطفية الدليمي التي قدمت لقرائها مؤخرا أهم وأقوى أعمالها ورواياتها، وهي رواية (سيدات زحل) التي صدرت هذه الايام عن دار فضاءات في عمّان بعد أن خلّفت وراءها عقودا من العذاب والفرح والألم والمعاناة التي تتوزع على خارطة عمر شرس ومتمرد. ينطوي على سلسلة من الغرائب والتصادمات العجيبة الشاخصة بين المكابدات والثراء الروحي والمادي في آن، وفي هذا الحوار، المجتزأ من حوار طويل ثمة إطلالة على سيدات زحل وكاتبتها والأفكار والمنعطفات الهامة التي أثثت تدوينها، حيث ترى لطفية الدليمي أن كتابة الرواية تسمو بالانسان وروحه إلى مدارات معرفية ثرية وتُحدث فارقا بين ماقبل الكتابة ومابعدها، فكان سؤالي الأول:
** تقول لطفية الدليمي في كلمة لها بمناسبة صدور (سيدات زحل) إن الرواية لا تعلي إلا من شأن الروح الانسانية وحلم الانسان، فهل جاءت هذه الرواية بديلا عن انتكاسات لمشاريع فردية ووطنية وانسانية؟
ــ لاشيء بوسعه أن يكون بديلا عن شيء تهاوى، إنما هناك حراك معين ينتجه فعل الكتابة لدى كاتبه في المقام الاول، و تمثل الكتابة لنا ـ نحن الذين اختلطت دماؤنا بالحبر وومضات الحواسيب ومسحوق الحلم ـ فوزا بأعمار افتراضية مضافة، واختبار حيوات وأهواء وتجارب، وهذه الاضافة الاستثنائية تزودنا باجنحة ومفاتيح سحرية لعوالم موازية، حين نفيق من نوبة الكتابة التي تماثل غيبوبة شهية، ونسترد انفاسنا، وننظر إلى ماحولنا، نجد العالم قد تغير بقدر ما في مجال رؤيتنا، وكسبنا معارف جديدة أضيفت إلى خزيننا، وإذا بشخوص روايتنا يحفون بنا ويوقظوننا وتتخالط احلامهم مع احلامنا، إنها متعة الكتابة الأبقى من البدائل. الحقيقة أقول لك إن كتابة الرواية تفتح لي مسارا مضيئا في الزمن وتشحنني بقوى خفية، وتضاعف تذوقي للحياة، وتعزز روحي وأحلامي. فكأنني أخوض تجارب ابطالي، وأشاركهم جني نتائجها وخبراتها، ويخيل إلي أن هذا هو الفوز الفاتن، او مانسميه البديل: ان يتسع زمنك، وتتعزز خبرتك، وتجد فارقا بين الماقبل والمابعد.
** وقالت لطفية الدليمي ايضا وهي تخاطب نفسها: «أيتها الناجية من نعمة الموت» فهل وصلت الامور من السوء بحيث يصبح الموت نعمة، وكيف تمكنت الدليمي من قلب المعادلة، أي كيف أعادت المعادلة الى حقيقتها فيما يتعلق بخراب الموت وعظمة الحياة ؟
ــ في لحظات القنوط القليلة التي تداهمنا ـ نرى ان الضحايا الراحلين أسعد حالا منّا بخلاصهم من احتمال الموت كل برهة. ويخيل إلينا في تلك اللحظات المشوشة أننا الضحايا الحقيقية الباقية على قيد الهلع واحتمالات الهلاك البشعة. ويبدو لنا الموت ملاذا من كل هذا الألم الفاتك، لكنما بعد برهة تجدنا نتمرد على الفكرة القاتمة ونطرد ظلال الموت ونجري تعديلا على الكلمات ونقلب المعادلة، فالحياة هي التي تستحق، ولابد ان نكافح من اجلها بعيدا عن الأدلجة وفخاخ السياسة التي شوهت وتشوه حياتنا بعنفها واستبدادها وجشعها ودمويتها. ومع ذلك لست متفائلة ولست متشائمة بل إنني أرى الامور من جوانبها المتعددة وأؤمن بضرورات التغيير في حياتنا على المستويات كلها، أحاول في الرواية ان اكتشف بذرة الامل في ارواح شخوصي وهي تكمن غالبا في شرعة الحب، وفي ملاحقة الحلم. ويبدو لي أن نهاية الرواية المفتوحة عززت فكرة الآمل وحرضت توقعات القارئ وأظنها نهاية متفائلة إلى حد ما ومنطوية على إمكانات التأويل المختلفة فعندما لانثق بالأحداث ثقة كافية لايبقى لدينا سوى توقع الاحتمالات المختلفة، ومن دون البحث الدؤوب عن بذور الامل في حياتنا تجرفنا عاصفة اليأس وننتهي مثل هباءة في الاعصار.
** أنت كاتبة لا تثق بالسياسة ـ كما عرفتك ـ ولا بالطروحات الزاعقة، وليس لك اعتداد بغير قدرتك على اجتراح الحب وسط الجحيم، واستدعاء الحلم في قلب عاصفة الكوابيس، فهل كانت (سيدات زحل) نتاج هذه الرؤية المتفائلة؟
ــ السياسة شأن زئبقي ورجراج يشبه الرمال المتحركة ومن الصعب الوثوق به. ومعظم الأعمال الابداعية تبحث عن قيم جوهرية في حياة الناس، دون مبالاة بترسيمات السياسة والاعيبها، إلى جانب تعامل روايتي مع المتغيرات ونقدها لتلفيقات التاريخ التي كرسها المستبدون، يرد ابطالها على الايديولوجيات التي احرقت الناس في أتون صراعاتها، والمطامع السياسية التي حولتنا إلى أرقام موتى ومفقودين ومشردين، ما الذي نملكه غير تفعيل قوة الحلم والتبشير بالمحبة؟ ما الذي تفعله النساء الملاحقات بتدابير فقهاء الكهوف، والذكورية العنيفة التي اغتصبت الاجساد والأحلام؟ حتما ستجرب النساء التشبث بالحلم والحب للامساك بالمصير، وقد يخفق بعضهن في خياراتهن والبعض الاخر لا يستسلم للهلاك فيهرب من الجحيم، ويجرب جحيمات قد تكون افظع مما سبق، الأهم ان يمضي المرء دون الالتفات الى الوراء. ويخترع سبلا للنجاة بقدر ما تسعفه الوسائل، قد لا يكون تفاؤلا بقدر ماهو إعادة الاعتبار لإرادة الأنوثة، والحكي النسوي المنعتق من هيمنة الصوت الذكوري، الذي ظل يتحكم بخطاب الحكاءات النسويات زمنا طويلا بعيدا عن النزعات النسوية الشائعة. وبقدر ماكان صوت المرأة فاعلا ومهيمنا، كان حضور صوت حامد الاخرس ابو الطيور ـ رغم خرسه ـ أشد مضاءً من أصوات بعض النساء والرجال، كحازم الذي حطمه الخصاء، ولمى التي أختارت نهايتها انتحارا حين خذلتها شروق، وراوية التي تنشد متع الجسد في الطعام والجنس، على انك ستجد مسارات مفاجئة في الجزء الثاني من الرواية الذي شرعت بكتابته.
** بعد قراءتي لـ (سيدات زحل) شعرت أن لطفية الدليمي أنقذت نفسها وغيرها من موت شبه محقق بهذه الرواية، لاسيما أنك تعرضت للموت فعلا في بلدك وفي (باريس) الملاذ الآمن كما يراه بعضهم، مع أنها لم تؤمّن لك لا حياتك ولا أحلامك معا؟
ــ تجربة التنقل خلال اعوام ثلاثة بين بلدان وثقافات متعددة وعادات وأناس مختلفين عززت رؤيتي لمكاني ومعرفتي بنفسي وعالمنا المعاصر، ومعرفتي بأنني آتية من هناك من هذا البلد الذي كتبني وكتبته، وتشربني وتشربته ألما وعشقا وتاريخا وأملا. وبقدر ماكان الإنقاذ وجها من وجوه العذاب وتنويعا على نغمة الوجع، لكنه كان الاختيار بين كأسين احلاهما سم. وأتت الرواية لتكون ترياق السموم كلها. اعتبرت بطلتي (حياة البابلي) موضوعة (الحكي) وسيلة لتسكين الخوف وتخدير الألم وكانت كتابتها الكراسات محاولة لإنقاذ الحكايات والذاكرة من الفناء. وركزت في كراسات عدة على اهمية الحكي كعلاج مهدّئ وليس كوصفة للخلاص، وجاءت هذه الرواية كترياق لمكابدات وسموم ليس أولها الخسائر، وخذلانات البشر، ولا آخرها الموت الذي واجهني في باريس بصورة أبشع مما كان يتهددني في بغداد. كتابتها عنصر شفاء أكيد مدّ حياتي بفيض من البهاء والعزم. وما اكتناز لغة السرد الروائي بالجمال الذي اشرت انت اليه في كتابتك عن الرواية، إلا العشبة السحرية التي مست زمني وغيرته على نحو باهر، ورسخت طريقتي في الحياة: أن امضي قدما كل صباح، ولا التفت ورائي، بل اصنع لحظتي في أوانها، وبنعمة النجاة والأمل الشهي.
** لـ(سيدات زحل) مسار سردي ملحمي يخوض في مساحات مكانية وحقب زمانية شاسعة، هل يمكن أن نقول بأن هذه الرواية نقطة فاصلة بين مرحلة سرد ماضية، وأخرى قادمة للطفية الدليمي؟
ــ من أحد الجوانب، نعم أنها انعطافة جديدة في سردي الروائي، ومن جانب آخر ستجد انها امتداد لإشتغالي في رواياتي المختلفة، ورغم اختلاف هذه الرواية ببنائها ولغتها وموضوعها إلا أنني أجد لها جذورا خفية تمد شعيراتها إلى تربة روايتي (من يرث الفردوس) التي كانت احداثها ممتدة على امكنة متعددة وازمنة متراكبة، وفيها بعض مناخات (حديقة حياة) رغم الاختلاف الكلي بينهما، نعم هذه الرواية تشكل مفصلا مهما، ومنعطفا في منجزي ونظرتي للحياة والكتابة.