تقرير من غزة

كأني غريب عنها!

محمد نصار

هذه الشهادة كانت محورا من محاور أيام القصة القصيرة التي أقيمت في غزة بإشراف يوتيبيا المعرفة كأني غريب عنها.. كأني لا أعرفها.. كأنها المرة الأولى التي أخوض فيها غمار التجربة، ورغم أن الشيء ذاته ينتابني في كل مرة، إلا أنني أجد نفسي الأن أكثر تشظيا وضياعا من كل مرة مضت، أجوب خباييا ودواخلي.. أنقب في ثناياها عن نقطة أنطلق من خلالها وأحلق، فأعود إلى شتاتي المستديم .. أعيد المحاولة مرة وأخرى، لعلي أمسك بطرف خيط يشدني، فيرهقني الأمر وينهكني، ألملم أوراقي من جديد وأمني النفس بجولة قد تكون فرصي فيها أكبر وأوفر حظا مما سبق.

هذه باختصار إطلالة سريعة ولمحة موجزة أحاول من خلالها أن أسلط الضوء على قصتي مع الكتابة، أو دأبي الذي اعتدت منذ أن كنت أحبو في البدايات الأولى وظل يرافقني إلى يومي هذا، وكأني أعيش المخاض في كل لحظة ويشتد وقعه أكثر حين تجبرني اللحظة على اقتنصها والتعاطي معها، فأنا من طبعي أن لا أفتش عنها .. أو بمعنى أدق لا أطاردها، لكني أنتظرها وأتحين الفرص لاصطيادها، وبمجرد أن تطل من بعيد أو تلوح بشائرها، تبدأ المطاردة .. المطاردة أو المكابدة إن شئت بكل ما فيها من مشقة وعناء، تنجح أحيانا وتخيب في الكثير من المرات لتستمر رحلة سزيف فى مسيرتها اللانهاية. هذا هو الدأب الذي اعتدت فأضناني وأعياني وسلب من سني عمري الكثير، فما بالكم حين يطلب مني أن أعبر عن هذا العناء بكل ما فيه من ضنك ولوعة أو أعيد رسمه في كلمت بسيطة أو سطور معدودة. 

في الحقيقة لم أستسهل الأمر ولم يبدو لي هينا وحين طلب مني أن أ قدم هذه الشهادة حول تجربتي في الكتابة وتحديدا كتابة القصة القصيرة، لم أدر من أين أبدأ وكيف، هل أتحدث عن معاناتي في الكتابة التي أشرت  إليها آنفا في بضع سطور بشكل أكثر اتساعا وتفصيلا، أم أعرض عن هذا الموضوع من أصله وأخوض في لب العمل الفني وطريقة تناولي له، سواء كان ذلك على صعيد الشكل أو المضمون، هل أعرض لمضامين الكتابة التي أتناولها بشكل مقتضب و من ثم أعرج على ما يقدمه البعض محليا وعربيا في عنوان سريعة ومختصرة، تبين آليات تعاملهم مع هذا الجنس الأدبي المميز، مع أن قناعتي الخاصة لاتؤمن بوجود تلك الفواصل والجواجز بين الأجناس الأدبية بشتى صنوفها وإن كان هناك من شيء منها، فهو لايكاد يذكر إلا في مجال البحث والدراسة التخصصية " المناهج النقدية"، أم أبقي الأمر قاصرا علي. وإن كنت سأتناول المضمون أو المضامين التي يتم تناولها فهذا بدوره أيضا " أي المضمون " يحيلنا إلى سؤال آخر حول طبيعة المضامين المطروحة والمواضيع التي يتم التطرق إليها وحتى لا تتشعب بنا السبل ونتوه في مسالكها  الرحبة والمتعددة، فأني سأقتصر الأمر علي وسأعود بالكرة إلى ملعبي وأتحدث بإيجاز عن تجربتي أنا، لأني لا أريد أن أنصب نفسي ناقدا أو حكما في هذا المقام ولأن قناعاتي راسخة بأن لكل كاتب الحق في  اختيار ما يشاء من مضامين ليكتب عنها، مع أن كثيرا من الكتاب لا يلقون بالا لهذا الموضوع من أصله ولا يلتفتون إليه، فالتقسيمات والتصنيفات الأدبية كثيرة في هذا الباب والتوجهات الكتابية ومدارسها أكثرمن أن نحصيها أو نخوض فيها ضمن هذه الورقة المتواضعة.

 وبالعودة إلي، فأني أرى في المضمون قلب العمل النابض وعموده الفقري الذي لا يستوي له قوام من دونه، أو بمعنى أدق وأكثر وضوحا، أقول بأني من الذين يرون أن للعمل الأدبي أو الفني عموما رسالة.. رسالة لابد من إيصالها إلى المتلقي ومن دونها فلا قيمة للعمل، شرط أن تكون هذه الرسالة موضوعة في قالب فني خلاق، قادر على حمل هذه الرسالة وإيصالها للمتلقي بيسر ومتعة. لكنا قد نواجه معضلة أخرى تتمحور حول طبيعة المضمون أو الرسالة المراد  إيصالها، لأن المضامين المراد تناولها في وقتنا الحالي تعددت و باتت مركبة ومعقدة وتستدعي من الجهد والمشقة لتناولها أو الخوض فيها، ما يستنزف الروح ويدمي الجسد ويصهر الأعصاب وبالكاد صوتك يصل وكأنك تنفخ في قربة مخروقة أو تؤذن في صحراء قاحلة و لا أجد لهذه الحالة من وصف إلا ما قاله الشاعر
أسمعت لو ناديت حيا        ولكن لا حياة لمن تنادي.

 فالمشاكل تمايعت والتبست والمضامين تداخلت واضطربت وما عدت تعرف الحق من الباطل.. الخائن من الثائر .. الغث من السمين ، في زمن كثرت فيه الأراء وتنوعت وراجت فيه الفتاوي وتعددت .وتاهت فيه المواقف وتبدلت وبات الناس سكرى وما هم بسكارى والسؤال الأزلي مازال يحاصرنا في كل مرة نحاول أن نخط فيها شيئا: ماذا نكتب وعمن نكتب ولمن نكتب ؟، هل عاد فينا حس لنسمع  أو نقرأ أو نكتب والكل في حالة تيه.. ضياع لا تبدو لها في الأفق نهاية، فما تراه اليوم من الأهمية بما كان قد تراه في الغد لا قيمة له وربما هو في ذات اللحظة التى تراه فيها كما تراه يكون في عيون أخرى هراء وما تظنه ذا جدوى يراه الآخرون عبثا لا طائل منه والذي تحسبه اليوم موسى تراه في الغد فرعون.

قد تبدو الصورة سوداوية قاتمة.. صادمة، لكنها تجسد الجزء الأكبر من الصورة، إن لم تكن الصورة كلها، هذه هي الحقيقة كما أراها وقد يراها معي كثيرون رغم مافيها من سقم ومرار. ومع ذلك فأنا متفائل راسخ القناعة، بأن أشد الساعات ظلمة هي التي تسبق الفجر بقليل وأن ماقلته آنفا رغم كل ما فيه من قسوة ورهبة ، لايشير إلى حالة يأس تنتابني أو تتملكني ولكنها صورة أجسدها من منظوري الخاص و بكل دقة محاولا قدر استاطعتي أن أجعلها محفزا يستثيرني ويدفعني للتعرض لها والخوض في غمارها بكل ما في النفس من قوة وإصرار. أما بالعودة إلى القصة القصيرة وما لها من خصائص وصفات، فأنا لاتهمني التسميات أو التصيفات التي ترونها بقدر ما يهمني العمل ، العمل الإبداعي بكل ما فيه من فنيات وتكنيكات ومضمون ومتعة، فلا فرق عندي حينها بين القصة الطويلة والقصة القصيرة والقصيرة جدا أو تلك التي انتشرت في الآونة الأخيرة وراج سوقها كالتي تعرف بالقصة الومضة و التي قد لا تتجاوز السطر الواحد أحيانا أوغيرها من التصنيفات والتقسيمات التي تنتشر الآن، فأنا لست ممن يلهثون خلف المسميات، أو يسعون لمواكبة كل صرعة تخرج هنا أو هناك ، أنا مع الأدب الذي يتملكني بكل كياني .. أنا مع الرواية التي أستصعب تركها قبل أن أكمل قراءتها، بغض النظر عن الكاتب أو المنهج الذي يتبعه ولا فرق عندي إن كانت تلك الرواية صغيرة أم كبيرة ، حداثية أم كلاسيكية وأنا مع القصة التي تتملكني بكل حواسي وجوارحي.. أنا مع القصيدة التي تشجيني ومع كل بيت فيها أردد بطرب واصطهاج " الله" .. أنا مع الموسيقى التي تتخلل مساماتي كلها وتأخذني في بحر لا قرار له .. أنا مع اللوحة التي تبهرني وأقف أمامها عاجزا..مبهورا بغض النظر عن المدرسة التي تنتمي إليها.. أنا مع الفن المبدع الذي يعجزني حتى عن التعليق عليه وهذا بالتحديد ما أسعى إليه دوما وأود أن أوصله لقارئي بأي شكل .. أن أجعله يعيش اللحظة كما أعيشها، بكل ما فيها من متعة وقسوة..بكل ما فيها من لذة ونشوة .. أن اكف عن الكتابة في اللحظة التي أشعر فيها بالملل أو التعب، لأني أدرك تمام الإدراك بأن القارئ سيملني إن واصلت وهذا ما لا أريد له بالمطلق، بل أريدها أن تتملك جوارحه كما تملكتني.. تستولي عليه كما استولت علي، بغض النظر عن طبيعة العمل الذي أكتبه سواء كان ذلك في الرواية التي تحتاج إلى جهد مضني وبحث مضاعف بمرات عدة عن القصة القصيرة، أوفي القصة التي هي إيضا لها من الخصائص والمميزات التي تحتاج إلى الكثير من الخبرة والدراية بتلك الخصائص، سواء كان ذلك في المضامين التي تتناولها أو الصور التي تبنى عليها والتكنيك المستخدم لصياغة هذه الأشياء كلها،أو اللحظة التي تنطلق منها واللغة التى تتكئ عليها وقد باتت أقرب إلى القصيدة في تراكيبها وانبعاثها ولحظة مخاضها.

هذه وقفة سريعة مع تجربي في كتابة القصة أو الكتابة بشكل أعم، حاولت من خلالها الإشارة إلى بعض ما يداخلني لحظة الكتابة أو قبلها وكلي أمل أن أكون قد لبيت المراد مني في هذا الخصوص وإن غفلت عن شيء فأرجو أن نتناوله في النقاش.