الرواية المصرية ابنة للشارع الحي بامتياز!

حوار مع الكاتبة الروائية الشابة ياسمين مجدي

إبراهيم الحجري

تعتبر الروائية المصرية الشابة ياسمين مجدي من الأصوات القادمة بقوة إلى عالم الرواية محملة بوعي نقدي عن الخطاب الروائي، وساعية إلى تجديد الرؤية السردية وتخصيبها. وقد راهنت في روايتها (معبر أزرق برائحة اليانسون) الفائزة بجائزة الشارقة الدورة الأخيرة، على احتضان أسئلة الذات في علاقتها بالطفولة والذات والحلم، راسمة لمسافة الوعي بالنص جغرافيا جديدة، تنهل من الرؤية الداخلية والإحساس المؤرق بالكون. حول هاته العوالم وأسرار الكون الروائي عندها، أجرينا معها الحوار التالي:

** من هي ياسمين مجدي الإنسانة بالنسبة لياسمين الكاتبة والمبدعة؟ وما نقط التقاطع والالتقاء بينهما؟
ــ في بداية أي حوار صحافي أستعد بارتداء ملابس الكاتبة، وأخبر نفسي بأن الفتاة ـ التي تعيش طفولتها الدائمة ـ سأخبئها في مكان ما. تلك الأسئلة تربكني بقدر، لأنها تعيدني إلى ما أدَّعي نسيانه، تعيدني إلى الواقع، الذي نهرب منه بالافتراضي والمتخيل والأحلام الملونة على الورق بحروف سوداء صغيرة. أسعى إلى أن أعيش كاثنتين، وأتجاوز كل نقاط التلاقي بينهما .. فتاة عادية بسيطة لا تخبر من حولها أنها تحقق شيئاً .. وياسمين أخرى تحاول شق طريق للحياة.


** كيف حال الرواية المصرية في استحضار المشهد الثقافي العربي؟
ــ الرواية المصرية ابنة للشارع الحي بامتياز .. خاصة فيما يحاول الأدباء الشبان كتابته الآن ليعكسوا به نبض المجتمع، عبر حديثهم عن تفاصيل الحياة في الشارع، متجاوزين أحلام المثقف والكاتب المنظِّر للعالم. تسعى الرواية المصرية للبوح الشعبي الحقيقي، بكل ما يحويه من ذكريات طفولتنا .. إعلانات التليفزيون .. أسماء المحلات والمصانع الحقيقية، مشروعات الشباب في الحياة، الشخصيات المهمشة.


** تتعدد مواهبك في الكتابة والإبداع. لكن أين يكمن التفوق لديك؟
ــ أكتب من مساحة قلبي عن الفتنة التي أحسها في الحياة وعظمة خلق الكون، كل ذلك يدفعك للكتابة بأي صورة عن الأشياء الجميلة التي تقابلها، سواء بكتابة رواية، قصة، مقال نقدي، حوار. لا أسعى إلى التفوق بقدر ما أسعى إلى أن تصل الرسالة إلى قلب قارئ معين ينتظرها، منذ فكرت بكتابتها. هو تواصل مكتوب له أن يتم، وأنا أنفذ ما تأتيني رسائل لأكتبه.


** هل هو زمن الشعر أم زمن القصة أم زمن الرواية؟
ــ في الفترة الأخيرة كتبتُ عدداً من المراجعات النقدية لكتب أدبية، واكتشفت ـ رغم اهتمامي بالرواية ـ أن أغلب ما كتبته عن مجموعات قصصية، كما قابلت دواوين شعرية كثيرة. أتبع في حياتي مقولة مهمة، وهي 'لا يجب أن تصدق كل ما تراه ولا نصف ما تسمعه'، إنه ليس مجرد زمن للرواية، وجابر عصفور نفسه نفى فكرة إزاحة فن أدبي معين بقية الفنون.


** يقال بأن المرأة المصرية حققت نجاحا مهما في الشعر عكس الرواية. ما رأيك؟
ــ المرأة المصرية عندي هي الروائية الرائعة رضوى عاشور .. هي المشروعات الروائية القادمة لمي خالد، وصفاء النجار، وعزة رشاد.


** هل الجرأة في تعرية الجسد وضرب الطابوهات كفيلة بتحقيق الشهرة والانتشار، كما تفعل كثيرات من المبدعات العربيات؟
ــ أحزن كثيرًا لهؤلاء الذين جاؤوا الحياة، لمسوا بأيديهم ماءً شفافًا، ورأوا المطر، ثم وجدوا قطع ثلج تعكس وجوههم، وبكل بساطة تلخصت نظرتهم إلى الحياة في جسد. أي عقاب لإنسانيتك أن تذهب وتترك خلفك أعمالا ً تحصر الإنسان في جسده؟


**عرفت القيم الفنية نكوصا كبيرا. ولم يعد الإبداع العربي، إلا نادرا، يحمل قيماً جمالية وفنية. إلام يعود في نظرك هذا النكوص؟
ــ الإبداع العربي ليس يتيمًا لنتحدث عنه وحده دون معرفة طبيعة أمه وأبيه، هذا المجتمع. فنكوص القيم المجتمعية إشارة إلى نكوص أشياء جميلة أخرى. وحين يصبح المجتمع مليئًا بأشياء رديئة، هل نشتري جنة الأرض لنكتب عنها؟


** تمارسين تجريبا روائيا حلوا، يستجيب لطبيعة النص الروائي، دون أن يضرب بناه المعيارية الأساسية. علام تقوم استراتيجية التجريب لديك؟
ــ أنا لا أسير على قضبان، إنما أتبع الأصوات التي تتحدث بداخلي، وأتدخل فحسب في منعها من البوح بكل شيء مرة واحدة. تأتيني أفكار وأحلام أعرف أنها جاءتني خصيصًا خلال شهور كتابتي للرواية، لأن ثمة طريقاً يبدأ من مكان لا أعرفه، وينتهي لديَّ.


** كيف تقيمين تأثير الوسائط الجديدة على الرواية العربية؟
ــ لم تؤثر على جيل الشبان وحدهم، فنجد الروائي المصري الكبير إبراهيم عبد المجيد يكتب رواية (في كل أسبوع يوم جمعة)، متأثرًا بتقنية الإنترنت والدردشة. أراه مفيدًا أن تنفتح آفاق أخرى، ومضرًا أن يلجأ آلاف الأفراد ـ ممن تتوفر لهم التكنولوجيا إلى كتابة رواياتهم على شبكة الإنترنت، ثم يصدرون بعد ذلك في كتب، فتتعثر الحركة النقدية، كما حدث الآن، أمام مئات الإصدارات، بعضها حقيقي وبعضها لهو، وامتداد لما لاقاه هؤلاء الكتاب من رواج إليكتروني خادع.


** ماذا يعني أن تكتبي الرواية في زمن التهافت الجشع على الملذات، والتسابق نحو امتلاك الرأسمال المادي؟
ــ أن تكتب رواية يعني أن تحلم قليلاً .. تتخلص من العالم حولك وتكون في مكان ما كما تريد، تكون مؤلفًا، ترى أشياء جميلة تتفتح أمامك على الورق، حتى لو كانت عنفاً وثورة وشجاراً، ستجد أشياءً حلوة تحدث، انتصارًا ما لك كمؤلف في هذا العالم.

** هل تستسيغين تجنيس الكتابة النسائية بهذا الوسم أم أنك مع الموقف القائل بكون الإبداع لا يؤنث ولا يذكر؟
ــ نعم أستسيغه، لأن بعض الكتابات تفرض ذلك، بما تنتهجه من اهتمامات متعلقة بقهر الرجل والمجتمع، وحكايات طلاق وزواج مكررة، بينما تستطيع الكتابة النسوية أن تؤثث مشهدًا قويًا وحقيقيًا عن عالمهن الخاص، عن النساء اللاتي يرين تفاصيل الحياة، يخضن تجربة الولادة .. تلك الروح الجديدة التي تأتي للحياة، ينغمسن في طهو تتشكل عبره الأشياء الحية في أيديهن لطعام. المرأة قادرة على كتابة أشياء أروع مما تحصر نفسها فيه بكتابتها عن الحب، فتسجن نفسها لدى الرجل مرة أخرى.


** ما هو الملمح الذي ترسمينه لرواية المستقبل في ظل التغير الخطير الذي تعرفه الدعامات والحوامل والوسائط؟
ــ الحياة تعرف إلى أين تسير حينما يحين الوقت. لا تكهنات في عالم يتغير كل يوم.


** تشكل القاهرة والإسكندرية وكل مدن أم الدنيا فضاءات خصبة لممارسة السرد. هل في نظرك هذا سر من أسرار نجاح الساردين المصرين في خلق عوالم تخييلية مثيرة؟
ــ المدن فى كل أدب العالم مساحة للتفرد. كونت بعض الروايات علاقات جميلة بيني وبين مدن لم أزرها أبدًا، كالمغرب والجزائر وتونس وفلسطين. المدن ذاكرة روائح وصور وحكايات ناس مروا وتركوا أثرًا خلفهم. الحقيقة أن المدن المصرية حية بدرجة كبيرة جدًا، مملوءة بالناس والشمس والعرق والسهر والمقاهي، شوارع نابضة، من يستطيع مراوغتها؟ لقد كتبت في روايتي (معبر أزرق برائحة اليانسون) عن منطقة العتبة، ولم أكن أعرف أنني متأثرة بها إلى هذا الحد إلا بعد الكتابة. اكتشفت أيضًا، كم هي عجائبية تلك المساحة التي أمر بها دون أن أنتبه إلى السحر الكامن. الكتابة عن المدن تشدنا لنرى المألوف على حقيقته.


** كثير من العرب المعاصرين يميلون إلى رصد سيرهم الذاتية عبر المحكي الروائي، عكس ما عرفنا عن روائيينا الكبار الذين نجحوا إلى أبعد الحدود في بناء عوالم أخرى. هل يعود هذا إلى ضعف مستوى التخييل لدى المبدع أم أن الأمر يتم بمحض المصادفة؟
ــ الكتابة عن الذات أراها محاولة للانتصار في حياة تتجاهلهم، وتنتهك حقوقهم الإنسانية. لم يعد أحد حتى يتصل بك ليطمئن عليك .. لهاث وتدني أوضاع مجتمعية واقتصادية، فلماذا لا يكتبون ليقولوا إنهم موجودون؟! أما من الناحية الأخرى فالبعض يسير وراء الشعارات الرنانة، والأشياء التي تحقق مبيعات أكثر، وهم الخاسرون، لأنهم جاؤوا وعاشوا غير حقيقيين، ومضوا.

** تنتمين إلى جيل عربي جديد يغامر في كل الاتجاهات بحثا عن صوت وهوية. كيف تصورين مغامرات الشباب العربي المبدع؟ وما آفاق الإبداع في ظل الحساسيات الجديدة في الكتابة الروائية؟
ــ المحاكمة الدائمة للجيل شيء غير لطيف، كأننا ونحن نسأل هذا السؤال نعبر عن خوفنا من ركض الزمن، لأننا لا نضمن أن نكون حاضرين حينما تأتي لحظة في المستقبل تقرر وضعا جيليا. علينا أن ننتظر حتى تتشكل ملامح الجيل جيدًا، فلم يعد بإمكاننا الحكم على كاتب بعد خمسة إصدارات فقط، فجيل الكتاب الشبان متعطش للصراخ والإعلان بأنه موجود، لذا يصدر أغلب الكتاب كل عام كتاباً، وهذا معناه أننا نستطيع التفكير في تقييمهم بعد عدد من السنوات، بصرف النظر عن كمية الكتب، لنرصد مدى قدرتهم على النضج والتبلور الحقيقي.
أرى أن كتابة الشبان لو تشكلت كما هو مأمول لها ستكتب حكايات حساسة وخاصة جدًا. أما لو غرقت وراء الشعارات لكسر التابو والمغامرات الجنسية، والغوص وراء المهمشين، فثمة طريق آخر.


** يجب أن يبحث الروائي عن حيوات أخرى لنصه. مثلا كأن يحول إلى فيلم، أو سلسلة مصورة، أو غير ذلك ... ما محاولاتك على هذا المستوى؟
ــ أسأل نفسي كثيرًا لو نطق البطل على الشاشة كيف سيكون؟ طبعًا لديَّ أحلام في ذلك. لكنني أترك الأشياء تأتي في وقتها. الله منحني الكتابة، ومنحني الطريق، وأنتظر أن يمنحني أشياء جميلة أخرى. أتمنى من نفسي فحسب أن أمنح الحياة كلمات جميلة.


** هل وجدت روايتك الاحتفاء اللازم من طرف النقاد والمؤسسات والنوادي والجمعيات؟ وهل روج لها بالشكل المطلوب على مستوى التوزيع والإعلام؟ أم ماذا؟
ــ الكلمة الجميلة من قارئ أعجبته الرواية هي الاحتفاء الحقيقي .. حدث أن كتب عنها البعض وأقيمت حولها مناقشات، الأهم الذي انتظره هو أن تقاوم لتبقى بشرط أن تقول أشياء نقية وإنسانية.


** هل من إبداعات جديدة لديك على المستوى الروائي؟
ــ أكتب رواية 'تلك الأيام' أستلهم فيها تراث جدتي، ومدينة جذوري السويس، أحاول الضغط على جدتي لتكتب معي، أنجح في بعض الأحيان فتمليني، وفي أحيان أخرى استسلم لصوت المرأة، راوية الرواية، التي تأتي فجأة وتخبرني بثقة أنها تريد أن تتحدث الآن، فلا أقاومها كثيرًا.


** ما طقوسك في الكتابة الروائية؟ وما الزمن الذي تفيض فيه مخيلتك، وتتفجر فيه قريحتك السردية؟
ــ أسال نفسي السؤال نفسه. لأنني بدأت أحس أن كل رواية تأتي بطقس معين، في روايتي (معبر أزرق برائحة اليانسون) كتبت في الظلام، كنت أحس أن الحكايات أراها تتحرك أمامي، فأكتبها دون أن أرى الصفحة أو القلم. الآن في روايتي الجديدة، تأتيني جمل تلغرافية فأهرع بسرعة لكتابتها، أو تأتيني فقرات وقصص، أحس أن الله يضعها في طريقي، لتتم حدوتة الجدة، ويتجدد المكان.