** الكاتبة ليلى الأطرش، هل لا زلت تعتبرين المثقف حاملا لرقابته الخاصة، والى أي مدى يقف هذا الجانب في وجه تفعيل دور المثقف في الوضع الذي نعيشه؟
ــ وهل تغير الوضع العربي كثيرا لتزول الرقابة الذاتية؟ ما زالت التابوهات والخطوط الحمراء خطرة الملامسة، قد تكون قبضة الرقيب السياسي تراخت قليلا، في عصر الفضاء الخاص، وفي الضغط العالمي لمزيد من الحرية مهما كانت الدوافع وراء هذه الدعوات، ما يدور من حديث سياسي في الكتب والمجلات أو الفضائيات معظمه سياسة مباشرة، وتنفيس، وما زالت الخلافات العربية تحدد كثيرا من هذه النقاشات وما يسمح به، ولكنه في النهاية لمصلحة المواطن العربي كي يعرف ما يدور في بلاد الفرقاء عن طريق مناهضيهم من المحطات وأصحابها، سقف الحرية السياسة ارتفع كثيرا، ولكن الرقابة الدينية والجنسية صارت أكثر تشددا في حركة الارتداد والسلفية. وما زالت المؤسسات الدينية تتعاون مع معظم قوانين المطبوعات العربية وتفرض وصايتها على الإبداع بأنواعه، مئات الكتب تصادر وكأن العقل الثقافي العربي قاصر عن التمييز، اللوحات تراقب، التفسير والتأويل والاجتهاد ملك لفهم رجال المؤسسات الدينية أو موظفي الرقابة على المصنفات، أو حتى جماعات اختطفت الدين واحتكرت الفهم والدعوة وترفض مغايرتها في أي أمر. لقد تربى الرقيب الذاتي في نفوس معظم العرب عبر عقود، الإعلاميين والمثقفين خوفا على أنفسهم أو أسرهم، فدجنوا توثبهم وأسئلتهم، وأقفلوا كل أبواب التي تجيء منها الريح، وصمتوا لئلا تسمعهم آذان الحيطان. ورغم كسر حدة الرقابة في عصر الفضاء إلا أن الاغتيالات والتصفيات الجسدية والاعتقال ما زال ممارسا، والأشد خطورة رقابة الجماعات التي أحلت لنفسها التكفير والمصادرة والقتل، والخوف منها يكمم الأفواه ويشل كثيرا من الأقلام والفكر.
** رواياتك جزء من هذا الكم والتراكم النوعي الذي تأسس داخل الكتابة النسائية، هل يمكن الحديث عن خصوصية ما نقدية في مقاربتنا لهذه الكتابات؟ أم أن الأمر لا يغدو أن يكون مفردا داخل الجمع؟
ــ لا أعتبر نفسي ضمن هذه التصنيفات الجنسوية للكتابة، كان سيسعدني أكثر لو أن هذا الكم والنوع الذي ذكرت عن رواياتي برز في مجمل الكتابة العربية. ولكن، إذا ما كان هناك إصرار على تقسيم الأدب بجنس كاتبه فيمكن القول إن الأدب الذي تكتبه النساء دخل مناطق عديدة لم يكن يقترب منها، وتغيرت طروحاته الإنسانية وهمومه، وتجاوز، في امتلاك الأدوات الإبداعية وجرأة الطرح وتعدد الفضاءات وقدرة اللغة والبيان، كثيرا مما كتبه بعض الأدباء الرجال. وأكره أن أجر إلى حرب الثنائيات وترويج مقولات النسوية، فمقياس الأعمال الأدبية هي بمقدار توافر الشروط والأدوات الإبداعية فيها، ولكن النقد الحديث في معظمه ـ للأسف ـ يحاول تطبيق هذه النظريات على نصوص النساء تحديدا، ويبدأ بالبحث عما يثبت هذه النظريات ولو قسرا، أو تحميل النص مالا يحمله أصلا، ومن هنا ولدت إشكالية الناقد والمنقود واتساع الفجوة بين النظريات الحداثية وما بعدها وغربتها عن النص الأدبي. وأنا ككثير غيري من الكاتبات كسرن التابوهات السياسية والدينية والجنسية بجرأة وبفنية عالية كما قال النقاد. وإذا كان هناك تمايز فيما أكتب فهو لأنني لا أضع قيودا من أي نوع على فكري حين أبدأ الكتابة، وأتحرر من الرقيب الداخلي والخارجي حين التحم مع الورق.
** أحقا ثمة اغتراب فلسطيني يمثل الإبداع الفلسطيني مجالاته الخصبة، أم أنه جزء من صدى هذا الاغتراب الجماعي الذي تعيشه الذات العربية ؟
ــ رغم أهمية الصراع العربي الإسرائيلي، وحمل الشعب الفلسطيني لقضيته منذ قرن تقريبا يوم وعد بلفور، إلا أن الفلسطيني عربي أولا وأخيرا، وجزء من قوميته ثم إنسانيته، والكتابة الإبداعية ليست منشورا سياسيا وتحريضا آنيا، لأن الأدب يفقد شروطه كلها إن لم يستطع تجاوز مشاعر الحاضر إلى أدب يبقى للأجيال ويقرأ بعد مئات السنين ودون حاجة حينذاك إلى الرجوع إلى كتب التاريخ والجغرافيا لفهم الشعر أو الرواية.
لقد أثقل الأدب بالسياسة حتى التخمة، وكأن تفاصيل الحياة اليومية والحميمية ليست فكرا، أو أن يوم الفلسطيني قتال وصراع دون المشاعر الإنسانية الأخرى وقد ظل النقد يعتبر من يكتب بعيدا عن القضية تافها وغير مثقل بالهم الوطني. بالعكس، رغم الإطار السياسي الذي يقيد الحياة الفلسطينية فإنها تستمر تحت الاحتلال وفي غفلة منه لتمور وتتوهج بكل ما هو إنساني نبيل أو شرير، خيانة ووفاء، حب وكره، إنهم بشر.أولا، وأصحاب قضية ثانيا. وقد كتب كثير من العرب عن القضية الفلسطينية وغربتها كأبنائها، ولكن المحزن أن القضية كانت في كثير من الأحيان جواز سفر لنصوص فلسطينية وعربية لم تملك شروط الإبداع، ولكن النقد جاملها لطروحاتها السياسية. الآن تغير هذا، وسقطت أسماء كثيرة على دروب التطورات السياسية الفلسطينية، وأعتقد أن الكاتب الحقيقي وإن كان صاحب قضية إلا أن حياته وتفاصيلها تخرج عن الزمن السياسي إلى التفصيلات والنمنمات والفسيفساء وتعقيداتها والتي تشكل الحياة.
تناول الصراع العربي الإسرائيلي قضية مهمة في الأدب ولكن بأن يخرج إلى اللمسات الإنسانية والمواقف التي تبقى حتى وإن حلت القضية لاحقا. لايمكن لأدب يصل إلى الآخرين ويتجاوز الزمان والمكان أن يحتاج إلى كتاب تاريخ لفهمه من الأجيال القادمة. أمهات الروايات العالمية التي تناقلتها الأجيال وما زالت جعلت الصراع والحروب إطارا عاما وزمنا فاصلا للحظات الإنسانية الشفيفة عند أبطالها، الحرب والسلام دكتور زيفاجو وغيرها الكثير.
** إضافة للرواية تكتبين المقالة، وأخيرا أصدرت مجموعة قصصية، أيهم أقرب لنبض ليلى الأطرش الإبداعي؟
ــ بدأت كتابة القصة ونشرها وما زلت في الإعدادية، والرواية وأنا في الثانوية، ولم تنشر ثم جرفني العمل الصحفي المطبوع مسؤولة عن التحقيقات الصحفية، وكاتبة عمود يومي، ثم انتقلت إلى المسموع والمرئي، معدة ومقدمة للبرامج السياسية والثقافية، وظل هناك عدم اكتفاء نفسي وروحي يعذبني بالسؤال إلى متى؟ وهل هذا ما تريدين؟ ولماذا ابتعدت إلى هذا الحد عما تحبين؟
توقفت إثر مشكلة مع التلفزيون، وشرعت أكتب روايتي المطبوعة الأولى (وتشرق غربا) عام 86. والرواية هي الأقرب والأحب إلى النفس، البناء الروائي عالم من التمرد والإيحاء والخلق والسرد، عالم مواز لما تعرف تتخيله وتخلقه وحدك، وتعيش مع شخوصها وتشابكهم وتقاطع حيواتهم وتحس بالسيطرة عليه تجذبه كلما حاول الإفلات أو التمرد، هم بشر يتحركون في عالم من خيالك ومعرفتك وصدامك وتمّاسك مع الحياة بتراكم وتركيب لا تعادله متعة أخرى. سعادتي لا توصف وأنا ألبس الشخصية لوجه أعرفه، ثم أبدأ بتحريكه، وأرصد ما يمكن أن يفعل، وأتنقل به بين الأماكن والمواقف والأحداث وكثيرا ما تفاجأني ردة فعله لأمر ما.
القصة القصيرة لا تعطي نفس الإحساس بالتنامي والبناء الدرامي كما الرواية، لأنها موقف أو وهج لحظة، أما المقال فهو تفاعلي اليومي، ووجهة نظري الخاصة في الأحداث السياسية والثقافية والاجتماعية الآنية، لهذا أكتب مقالا أسبوعيا سياسيا، وآخر ثقافيا، وشهريا في مجلة عمان. إنه التفاعل والرؤية ووجهة النظر الخاصة في الحياة وقد أقترح بعض الحلول مما لا مجال له في الرواية أبدا. الكتابة حياتي، مهما كان نوعها، ولكن الرواية هي شريان هذه الحياة.
** أثمة مشروع مسكوت عنه لم يستطع النقد الاقتراب منه في كتاباتك وتشعرين بهذا التعسف المجازي، بالتالي تصرين على كتابة المقالة والدراسات كي تجعلين من صورة القراءة العالمة أن تتكلم؟
ــ بداية لا أكتب لأبدو عالمة أو بأية فوقية، هي حاجة نفسية وامتلاء لا يتيحه لي إلا التعبير عنها بالكلمات، ولن أدعي أنني أكتب لنفسي، ولا أعتقد أن أي كاتب يستطيع ذلك، أو حتى أي مبدع، لا قيمة للإبداع بأنواعه إن لم يخلق ذلك التواصل مع الآخرين، الذين يملكون نصك منذ لحظة ولادته في المطبعة، لهذا لا أعود لقراءة أية رواية أو مقالة نشرت، أبدا، لم يحدث، حتى مع البرامج التلفزيونية، قلما وفي حالات معدودة جدا عدت لشيء انتهيت منه، لأنه لم
يعد لي، صار ملكا للآخرين يقيمونه ويتفاعلون معه، ولكنني أسعد وبلا حدود حين أتلقى ردة فعلهم، أو يثر مقالي بعض العواصف، أو أقرأ نقدا فنيا لكتابتي. المشروع المسكوت عنه نقديا هو تجاوز التابوهات، خاصة في رواية (مرافئ الوهم) أتمنى أن يكف النقد عن أطروحات التعصب لنساء فيما تكتبه المرأة، والبحث عن قدراتها الإبداعية، والحكم على نصها بها ومنها فقط.
وإذا تحدثنا عن النقد العربي فسنفتح باب قضية إشكالية، أهم نتائجها أن النقد قلما خدم الحركة الأدبية، لأنه يلهث وراء النظريات النقدية الحداثية وما بعدها، وهناك انفصام واضح بين النظرية والتطبيق. فاهتمام النقاد ينصب على نظرياتهم دون الاهتمام بالنصوص ومتابعتها. والنقد كالوسط الثقافي العربي تعتريه أمراض الشللية والمحاباة والترويج، ومحاولة تصنيع النجوم، وكثير من النقاد يتعاملون مع النقد كسلعة وبأبخس الأثمان. لقد ساهم النقد ومنذ الستينات في تكريس أسماء لا تغيب عن مهرجان أو ندوة رغم أنها لم تكتب جديدا، ولكنها سياسة شيلني وأشيلك.وللإنصاف، هناك قلة من النقاد الشباب ـ وعلى مساحة الوطن العربي ـ تسهم في دراسة النصوص بمعزل عن الجنسوية أو المحاباة.
** يعاد اليوم طرح سؤال المثقف ودوره في رهان التحديات التي يطرحها الراهن، أثمة أنتلجانسيا عربية قادرة على قراءة هذا المتعدد الذي نعيشه؟ أم أن ما نعتته بالرقابة الذاتية لا زال مهيمنا على الوعي عموما؟
ــ المثقفون العرب هم الأمل الوحيد لأي لمشروع نهضوي قادم، ولا يمكن التحدث عن التنمية الإنسانية التي صدعت الأنظمة العربية رؤوسنا بها بالمؤتمرات والدراسات والندوات، سياسية واقتصادية واجتماعية، بينما تهمِّش عامدة المثقفين في مشاريعها وخططها. وإشكالية المثقف والسلطة جعلت أرضهم متحركة، ومشاريعهم ومناهجهم غير مكتملة سواء كمثقفين أو ليبراليين، ولم تقدم الثقافة العربية حتى اليوم مشروعها خارج إطار المؤسسات الحكومية وهيمنتها رغم أن الحكومات غير حريصة على دور المثقفين، فهي تحدد وتفرض الثقافة التي تريد وتخدم توجهاتها في تغيب عمدي للمثقف وصاحب الرأي بالإقصاء والملاحقة أو
التقريب والتدجين، ولأن المؤسسات الثقافية لا تخدم المثقف، ولأن الثقافة العربية صنعة من لا حرفة له، انسحب كثيرون من الصراع واعتكفوا في بروج أفكارهم، وسقط آخرون بأثمان رخيصة لأصحاب القرار وبدأوا بالدفاع عن الشيطان. الأنظمة العربية تتعامل مع المثقف كعبء ونفقات وميزانيات ليس لها مردود اقتصادي، فالثقافة العربية مازالت قاصرة عن التحول إلى مُنتِج، حتى مهرجاناتها يخسر معظمها في تعددها وتنافسها، ولم يعد نجوم الغناء يستقطبون الناس. أما الشعر فمهازل عدم وجود حضور صفعة على جبينها. هناك عقول عربية في ميادين الفكر والفلسفة والإبداع والاجتماع، قادرة على وضع إستراتيجية ثقافية، ولكنها تصطدم بالتابوهات الثلاثة، الجنس والسياسة والدين، فهاجرت هذه العقول لتكوِّن مشروعها خارج أوطانها، حضورا أو كتابة، محمد أركون، فاطمة المرنيسي، محمد عابد الجابري، إدوارد سعيد وعشرات غيرهم. الأهم أن الثقافة بعيدة عن تحديد مفاهيم للشباب والتأثير عليهم وهو قصور مميت للثقافة ودورها، فالشباب العربي يعيش ممزقا بين التغريب والارتداد وغياب الأنموذج، حائرا في تردي الأوضاع الاقتصادية والبطالة، لقد صارت أحلام الشباب العربي تنمو وتكبر خارج أوطانهم، ولكنها تصطدم بالتقاطع السياسي بين العرب والغرب، فانجذب بعضهم في أوهام الهوية واستلابها إلى التراث كملجأ، ولجأ القليل إلى العلمانية وآخرون إلى ما يمكن أن تسميه العبثية.
الكاتبات كسرن التابوهات بجرأة وبفنية عالية
حوار مع الكاتبة الفلسطينية ليلى الأطرش