ليس صحيحا على إطلاقه القول بأن جنس الرواية الذي يكاد يبلغ نجمه عنان السماء قد ترك للأجناس الأخرى فضاء شاسعا من العتمة أو شعورا فادحا باليتم، لأن العبرة أولا وأخيرا بالجودة، والاعتبار كل الاعتبار للمستوى الفني والانساني اللافت. لكم طالع القراء قصصا قصيرة امتلكت القدرة والرهافة على أن تنفذ إلى أعماقهم وتعشش في بطون الذاكرة ويسهل استعادتها مهما مرت السنون، ورغم مرور العيون على آلاف الصفحات، هل طوي النسيان قصصا قصيرة لتشيكوف وادجار آلان بو وهيمنجواى وادريس وماركيز والليندى وهدايت ويحيى حقي وزكريا تامر وبورخيس وغيرهم ممن لا يتسع المجال لحصرهم، والإشارة إلى قصصهم اللافتة التي اجتذبت إليها القراء والنقاد بأكثر مما فعلت الرواية الأمر الذي يدعونا إلى التأكيد وإن اعترفنا ببعض الحظوظ لبعض النصوص فإن الأجناس الأدبية تتمتع بقدر غير قليل من العدل والشفافية، ونادرا ما يظلم عمل جيد، ،خاصة مع توفر قاعدة ثقافية، وتمتع القراء بدرجة مميزة من الوعي، وخبرة التلقي التي قد تتجاوز أحيانا برغم الانطباعية تحليلات نقاد أكاديميين و من المطلعين على أحدث النظريات الغربية التي اعتادوا النهل منها بوصفها صاحبة الرأي السديد سلفا وحاملة مفاتيح النشر والتأثير لدى القراء والنقاد ومنابر الأدب على حد سواء.
كانت المقدمة السابقة في زعمنا لازمة كي تمهد لحديث عابر ولا يطول كثيرا حتى لا يسبب الملل، ويكفيه أن يشير في عجالة إلى نصوص قصصية تستحق التمهل لاستقطار جمالياتها التي قد لا تتمتع بها رواية من خمسمائة صفحة. لقد صدرت مؤخرا عن دار أخبار اليوم (سلسلة كتاب اليوم) أحدث مجموعة قصصية للكاتب الروائي المصري فؤاد قنديل بعنوان (سوق الجمعة) وهى المجموعة العاشرة بعد "عقدة النساء وكلام الليل والعجز وعسل الشمس وشدو البلابل والكبرياء والغندورة وزهرة البستان وقناديل ورائحة الوداع".
المجموعة الجديدة تدور كلها في مكان واحد هو الذي تحمل اسمه "سوق الجمعة".. السوق الشهيرة بالقاهرة التي تقع بين عدة إحياء هي السيدة عائشة والمقطم والتونسي ومقابر الإمام الشافعي، ويرتادها يوم الجمعة وحده نحو نصف مليون زائر وتشغل مساحة جغرافية كبيرة وتمتلئ بجميع السلع أيا كان نوعها وشكلها ولا يكاد يغيب عنها منتج مادي أو حيواني، سواء كان قديما أو حديثا، من مشابك الغسيل وأقلام الرصاص الى السيارات ومن الأحذية والشباشب القديمة الى أفخم أنواع السجاد مرورا بالتحف والأثاث والأوسمة والثلاجات وأجهزة الكومبيوتر والمسامير والرخام والعصافير والقطط و الكلاب والسلاحف والأدوات الصحية والسيراميك والستائر.
لقد تعودنا عبر قراءة المئات من القصص العربية والأجنبية قديمها وحديثها، أن تضمها مجموعات قصصية لا تحرص إلا في النادر على أن تتناول القصص مكانا واحدا، تجوس خلال شخصياته وأحداثه، وإن وقعت أعيننا على مجموعات تضم قصصا تنتظمها حالة نفسية أو موضوعية، وأحيانا ما تدور قصص المجموعة في فلك فكرة مهيمنة وقد تتناول جنسا واحدا، رجلا كان أو امرأة، وقد تقترب من عالم الحيوانات، لكن سوق الجمعة في زعمي المتواضع من المجموعات القصصية القليلة جدا التي ركزت على معالم وشخصيات وصراعات مكان واحد ونكاد نقول خلال زمان واحد أيضا، وخاصة في أحداثه التي تجرى يوم الجمعة، ويردنا هذا بسهولة ومن العتبة الأولى الى العنوان الذي كان دالا رغم أنف الكاتب على هذا الحضور الزمكانى في أبهى تجلياته الواقعية والفنية.
عندما نقرأ قصص المجموعة الثمانية ذات النفس الطويل نسبيا نكتشف ذلك العالم الثرى الذي يفيض حيوية وسخونة.. المتشابك والمحتشد بالحركة والضجيج، حيث تطالعنا في القصص مختلف مفردات الحياة العارمة بكل تفاصيلها البسيطة والمعقدة، المعلنة والسرية، الزاعقة والهامسة. جاس الكاتب في بطن الحوت الممتد لمسافات بعيدة , وتأمل العيون والأيدي واستمع الى الكلام، والتقط الملامح الغاضبة والعابثة والصادقة والمتربصة، انه لابد أخذ طريقه بصعوبة بين أكداس اللحم والبضائع والنوايا المتناثرة .... يقول الكاتب:
عندما زرت السوق للمرة الأولى أدركت أنى وقعت في غرامها،، وأنها تعمل بأعماقي وتستفزني، شخصيات كثيرة ومواقف بلا حصر تستحثني للتعبير عنها، وكم من الأماكن تنادينا وربما نتجاهلها أو لا ندرك لغتها.. وهكذا تنبهت للرسالة فعدت وزرت السوق عدة مرات، ولما وجدتني ممتلئا به وأحسست أنه المكان الملهم بدأت العمل الذي كنت أثناء كتابته طوال العام (2008)سعيدا ومقبلا عليه.
استطاع الكاتب المعروف صاحب الخبرة أن يحمل قصصه وهج السوق، وأن يعينها على استنطاق ما يجرى وما يسيل وما يقفز وما تتجاذبه الأيدي والجيوب، وما تستره الملابس من عذابات وأمنيات، كما استطاع أن ينقل الى قصصه التوجسات والمؤامرات الصغيرة والصفقات الكبيرة والاغانى المدوية والنداءات لجذب العابرين، وكذلك ما وقعت عليه أحاسيسه من أنات القلوب المحطمة وحكايات العاشقين التي تربت على وهج مشاعر ساخنة أتاحتها ومهدت لها الوقفات الدائمة والعلاقات الحميمية بفعل المكان والزمان والمصلحة، رغم هاجس البيع والشراء المهيمن على المشهد كله.
فى قصة "ندى الورد" تموت البائعة وتشغل مكانها ابنتها وتترك المدرسة، وتحب جارها مرمم الآثار وتحمل منه الا أنه يختفى بسبب حادث اصابته في سيارة، ولا يعود الا بعد شهور ويبحث عنها الى أن يجدها فى السوق تحت منضدة بضاعتها تعانى المخاض وحولها البائعات يجتهدن فى معاونتها لوضع المولود.وفى هذه القصة نتعرف على صلاح الفني في ترميم مسجد قلاوون، والذى يحتاج هو نفسه الى ترميم بعد الحادث، وعندما كتب له الشفاء عاد ليرمم العلاقة بينه وبين وردة، لتتجمع عناصر التشكيل الانسانى الذى مهما تشظى بسبب الظروف إلا أنه قادر فى أحيان كثيرة على أن يدفع جراح البشر فى اتجاه الالتئام . فى قصة "محمد جرجس" يسير آلاف الباعة البسطاء فى جنازة زميلهم المشهور باسم الخواجة ويدهشون لحالة الثراء الغريب و الشخصيات المهمة التي تودعه، بينما أبناؤه في الحلل الفاخرة والسيارات الفارهة، ويكتشفون أنه كان ذا أسماء عديدة، فهناك اسم لكل مرحلة، إنه محمد الذي عمل في الصعيد عند صاحب مصنع اسمه بطرس،أ حبه وتمسك به إلى درجة تسميته جرجس على اسم ولده الذي رحل، ولكنه يهرب من البلد لأنه مطلوب في ثأر، ويبدأ في القاهرة متخفيا يبيع الكراكيب (الروبابكيا) وتتنامي الأملاك وتتعدد العلاقات ليتكشف كل شئ عند الموت فقط. الأمر الذي يثير الدهشة لأنه كان برغم ممتلكاته الهائلة ظل إلى آخر لحظة ذلك البائع البسيط الذي لا يغادر السوق، ويعاون كل البائين ويساندهم ماليا ويزودهم بالبضائع، وكان لهم جميعا الأب الحنون والصدر الرحيم. فى "المصيدة" يتعرف المقرىء الأعمى على بائعة في السوق، ما تلبث أن ترعاه وتحنو عليه وتتصاعد العلاقة حتى تصبح له اليد والبصر والحب، وعندما يعتزم الزواج بها يسمع بمقتلها وكانت قد علمته كيف يبيع مصائد الفئران، ولما تقبض عليه الشرطة كأول المتهمين يدرك أنه دخل المصيدة ويبدأ فى الحديث إلى الله.
تمضى القصص لتغوص فى لحم السوق مثل "ثمر الجنة وشطة وزنجبارى ويمامة خضراء بكعب محنى وبيت النار وغيرها" لتطالعنا فى أهاب لافت توافرت له طزاجة التجربة وحيوية المادة الى درجة العنف والقتل كما فى بيت النار والمصيدة وزنجبارى و توافرت لها قدرات فنية تمتلك أدوات مشحوذة تمكنها من التعبير ورسم اللوحات التشكيلية، واستبطان نفوس الشخصيات بلا تكلف أو افتعال، وكانت جميعها مثل السوق حاملة لبنية سردية بسيطة حينا ومعقدة حينا اخر.
ومما يلفت النظر منذ الوهلة الأولى تلك اللغة الحية، التي تواكب الأحداث في سخونتها فتسرع أحيانا وتهدأ في أحيان أخرى، وكما ترصد بدقة مظاهر الحركة والسلع والوجوه والجلبة، تغوص في النفوس لتستنطق ما يعتمل فيها ويختمر من أحلام و براكين صغيرة للغضب، المتأهب فأغلب الأوقات للاندياح والتلاشى مع أول كلمة طيبة، تنبت في الفضاء المشبوب. على أن البلاغة والشعرية اللفظية التى عودنا الكاتب عليها من خلال تراكيبه التعبيرية في معظم أعماله، اكتسبت في هذه المجموعة وهجا وبلاغة لم تصنعهما ملكة لغوية وإنما صنعتهما الأحداث وحيوية المكان ودفء العلاقات والزحام الذي يفرض عبقه المجنون.
وإذا كانت المجموعة الجديدة للكاتب الخبير بحاجة إلى كثير من التمهل لرصد التشكيل والبناء وحراك الشخصيات وسر إبداعها على هذا النحو، والدلالات الى لا تفتأ تقفز بين السطور، فإننا نزعم أ ن هذه القصص كادت بفضل ما بينها من وشائج المكان وتواصل الشخصيات والتحام ألوان النشاط والحركة وتقاطع الأماني والرغبات أن تصبح رواية، تصور عالما منسجما ومتداخلا على نحو من الأنحاء، ورغم ذلك فنحسب أن الكاتب الروائى الكبير فؤاد قنديل بهذه القصص وما سبقها يؤكد ولاءه لفن القصة القصيرة، وثقته في أن هذا الفن لن يعجز يوما عن الحفاظ على مكانته فى مقدمة الأجناس الأدبية المختلفة.