حين يولد الإنسان، يكون حاملاً معه سلسلة جاهزة من موروثات سلالته السابقة بشكل مباشر، وموروثات سلالات البشرية جمعاء. وفي المكان الذي يعيش فيه، والذي يسمي وطناً، تطبق عليه كل العقائد والعادات لترسيخ انتمائه إلي هذه البقعة، وتمييزها وتفضيلها عن كل بقاع الأرض الأخري. والمأزق الأكبر إذا أحس هذا الإنسان بأنه الأرقي والأحق بالعيش من باقي الناس الذين يسكنون في باقي الأقاليم، عندها سيصبح ترسانة من الحقد علي كل من عداه، ويتحين الفرص المناسبة لإفناء الآخر بقناعة تامة بأنه يملك هذا الحق. يدرك أورهان باموق ذلك النزاع بين الشرق والغرب، والذي تأزم وتحول إلي حروب بشعة، جرّت معها الويلات والأمراض والدمار. و القلعة البيضاء، هذه الرواية، حاول فيها باموق أن يمزج بين الشرق والغرب، أو بالتحديد، بين الشخصية الشرقية والشخصية الغربية، مؤكداً علي احترام انتماء كل إنسان إلي الوطن الذي ولد فيه وعدم أحقية الآخر في حرمانه منه.
تبدأ الحكاية علي لسان رجل إيطالي، يقول: كنا مبحرين من البندقية إلي نابولي، عندما اعترضتنا السفن التركية... وقعنا تحت قصف شديد... لذلك قررنا رفع راية الاستسلام. لا يذكر هذا الإيطالي اسمه، وينوه أنه كان في ذلك الوقت إنساناً آخر، ترك وراءه أمه وخطيبته وأصدقاءه. كان يعتقد أنه يعرف في الفلك والرياضيات والفيزياء والرسم. يعرف أنه أذكي من الآخرين ويتفوق عليهم في الإبداع، لذلك فهو معجب بنفسه. وبعد أن تم اعتقاله مع جميع من كان في السفينة، انتبه الأتراك إلي الكتب الموجودة في قمرته، وسأله الريس إذا كان يفهم في الطب، وكان جوابه بنعم. داوي جروح الأتراك اعتماداً علي ذكائه في التصرف وليس علي المعلومات التشريحية، فصدق الجميع أنه طبيب. يقص علينا الإيطالي حياته ومعاناته في تركيا، خلال فترة مكوثه الطويلة فيها. وبصفته طبيباً فقد عالج الباشا من ضيق النفس، مما وطد علاقته به وميزه عن الآخرين. إلا أن رجلاً يكبره بخمس أو ست سنوات، وكان يشبهه إلي حد لا يصدق ويدعي الأستاذ، طلب منه الباشا أن يحمل مسؤوليته ويأخذه إلي بيته، فأخذه الأستاذ ليعيش معه.
كان التركي يريد أن يستفيد من معلومات الإيطالي، ويتعلم منه، فيشرح الإيطالي: يتعلم أمراً ما، وعندما يتعلمه يزداد فضوله، ويبدو أنه متردد في خطو خطوة جديدة من أجل ترسيخ تلك المعلومات. وبناء علي تلك المعلومات، زاد الباشا من علاقته بالأستاذ، في حين بقي الإيطالي بعيداً عن الأعين في بيت الأستاذ. غير أن الباشا كان علي علم بأن الإيطالي هو صاحب الأفكار المبدعة تلك، فطلبه للحضور بين يديه. مدحه الباشا في البداية علي مواهبه وفكره وقال له: إذا صرت مسلماً سأحررك فوراً فوقع الإيطالي صريعاً، ورفض ذلك، مما أغضب الباشا وأعاده إلي الزنزانة. وكرر الباشا فيما بعد طرحه لهذا الموضوع، فلم يلق جواباً. هنا يلعب باموق لعبة جميلة وممتعة، إذ يبين لنا أن هذا الإيطالي لا يريد أن يكذب، ولهذا فقد رفض أن يغير ما بنفسه لأجل إرضاء الآخرين، أو حتي لأجل تحرير نفسه، باعتبار أن الكذب هو أخطر الأفعال وهو أسوأ من العبودية ذاتها.
أخبروه أن الباشا أمر بقطع رأسه إذا لم يدخل في الإسلام، وأخافوه حتي الموت باستخدام بلطة كبيرة، حين وضعوا رأسه علي جذع شجرة وهموا بقطعه. في تلك اللحظة رأي أحدهم عابراً بسرعة كبيرة بين الأشجار، فدهش وحاول أن ينادي صورته تلك وهي ذاهبة فلم يخرج صوته. ورغم تطبيق هذه الوسائل المخيفة، بقي الإيطالي علي رأيه. وهنا أراد باموق أن يرينا كيف أن هذا الرجل حافظ علي نفسه نظيفة من الكذب حين كان هذا سيكلفه حياته، وليس فقط حريته التي يتمناها. غضب الباشا من عناد الإيطالي من عدم تغيير دينه وأهداه للأستاذ نهائياً، أي أنه أصبح عبداً للأستاذ ويمكنه أن يفعل به ما يشاء.
أراد الأستاذ أن يتعلم كل شيء من الإيطالي، لكن هذا الـ كل شيء لم يكن مفهوماً بالنسبة له، فيحاكي نفسه: كان من الضروري مرور أشهر لمعرفة المقصود بـ(كل شيء)، فكل شيء هو ما تعلمته في المدارس، وهو العلم والهندسة والطب والفلك الذي يُعلم في بلدي.... كان الأستاذ في البداية يتصرف مثل أخ صغير ذكي يعمل علي إثبات أن ما يعرفه أخوه الكبير ليس شيئاً عظيماً. حين قرأ الأستاذ مرة أمام الباشا نصاً كان قد حفظه غيباً يدور حول منطق دوران الكواكب، قال له الباشا، وقد تذكر في لحظتها الإيطالي: هل هو الذي علمك هذا؟ وحاول بعدها الباشا أن يتذكر وجه الأسير، لكنه لم يخطر بباله إلا وجه الأستاذ.
باموق بدأ هنا لعبة تحول التركي أثناء معاشرته للأسير وتعلمه منه وتعليمه، إلي رجل شبيه بالإيطالي نفسه يتحرك حركاته ويتكلم كلماته، لكنه لم يبلغ بعد مرحلة الشبه النهائي. سأله مرة الأستاذ، كما لو أنه يبحث في موضوع يومي وعادي: لماذا أنا أنا؟، فأجابه الإيطالي بأن هذا السؤال يُسأل كثيراً في بلده. ثم تابع الأستاذ: يعني ماذا أفعل؟، فيجيبه الإيطالي: فكر لماذا أنت أنت؟ فيرد الأستاذ ساخراً: ماذا سأفعل، هل سأنظر في المرآة؟. شرح الأسير بأنهم في بلده ينظرون في المرآة أكثر مما ينظر الذين هنا (أي في تركيا) وليست قصور الملوك والأميرات والنبلاء فقط مملوءة بالمرايا المؤطرة والمعلقة علي الجدران، بل بيوت الناس العاديين أيضاً، ذلك لأنهم يفكرون بأنفسهم. وفيما بعد ينطق الأستاذ بلسان الإيطالي: يجب علينا أن نكتب الفكرة الأساسية كما يتفرج الإنسان علي منظره وهو ينظر في المرآة، يمكنه أن يتفرج علي جوهره وهو ينظر إلي داخل فكره.
يقصد أورهان باموق بأنه علي الإنسان أن يراقب نفسه عن كثب ويحاسبها دائماً ليعرف أخطاءه، وليس النظر في المرآة سوي ترميز للنظر بالأفعال التي يقوم بها المرء في حياته، وبناء عليه فمن واجبه أن يضع نفسه في موقعه المناسب. ويعود باموق بقصده هذا إلي حفاظ الإيطالي علي صدقه مع نفسه، بنفس الوقت الذي يبرهن فيه للتركي بأنهم في إيطاليا صادقون أكثر من الأتراك. يهرب الإيطالي إلي جزيرة (هيبلي)، ويشعر بعدم وضوح الهدف من هربه وقضائه عدة أيام في الجزيرة. يسأل نفسه: ماذا سيحدث لو كان قد عاد إلي البندقية، وهو مقتنع منذ زمن بأن أمه قد ماتت خلال الخمس عشرة سنة التي قضاها أسيراً في تركيا؟ وصار يفكر بأنه لم يعد يري نفسه بين أهله في البندقية، بل إنه يراهم في اسطنبول، ونادراً ما كانت أمه وخطيبته حتي تمران في أحلامه. لا يستطيع في البندقية أكثر من البدء بحياة جديدة، ولم تعد تثيره سوي من أجل كتابة كتاب أو كتابين حول الأتراك وعبوديته.
إذاً، لم يعد الإيطالي حراً بسبب الخمس عشرة سنة التي قضاها مع الأستاذ. لقد تغير تماماً، ولم يعد يحلم بحريته. وهذا يدل علي أنه بدأ يتحول إلي شخصية أخري غير شخصيته، وهو دليل علي تأثره بالمخالطة، وعلي تحوله شيئاً فشيئاً إلي تركي، يتصرف تصرفاته ويتحدث كحديثه. مثل الإيطالي بين يدي السلطان، الذي غضب حين علم بأن هذا الأسير في تركيا منذ عشرين عاماً ولم يدخل الإسلام. ومباشرة سأل: أنت الذي تعلمه هذه الأمور؟ وقصد بذلك: هل هو يعلم الأستاذ الذي صنع آلة حرب ضخمة للقضاء علي الأعداء. وحين يجتمع الإثنان عند السلطان، كان السلطان يستطيع أن يفصل حركات كل واحد وينسبها إليه قائلاً لأحدهما: لا. هذه ليست فكرتك، بل فكرته أو أنت الآن تنظر مثله. انظر نظرتك أنت أو هكذا، عافاك. هل نظرتما إلي المرآة معاً؟ هنا تصل مرحلة امتزاج الإثنين ببعضهما وتحول أحدهما للآخر إلي درجة يصعب معها التمييز بينهما. وصار كل منهما يتصرف كالآخر، وهي فكرة ابتدعها باموق ليؤكد لنا أنه بالعيش المشترك بين أبناء الشرق والغرب، سينتهي هذا الصراع القائم علي كره الآخر، وسيصبح الجنس البشري واحداً، دون حرب. انتهي الإثنان من صنع السلاح، وأمر السلطان بإشراك هذا السلاح في الحملة، وبمشاركة صانعيه أيضاً. كانت الحملة نحو القلعة البيضاء، التي لن يصلها الجنود في أي وقت، كما يقول الإيطالي. لقد غاص السلاح في المستنقع وأمات الرجال الذين في داخله وعلي أطرافه. وأثناء هذا فإن الأستاذ، ولأنه فشل في تحقيق النصر كما وعد، يعلم بأن السلطان سيغضب ويحكم عليه بالموت. لذلك فإن الإيطالي ينهي حكايته، عندما يتبادل مع الأستاذ الألبسة، ويهرب الأستاذ إلي إيطاليا بدلاً عنه، مستعيناً بشبهه الكبير به ومستنداً علي الدقائق التي قصها عليه الإيطالي حول بيئته وبيته وأهله. إنها مبادرة جميلة من أورهان باموق، يعبر فيها عن هذا التآخي، وإمكانية عيش الشرقي في بيئة الغربي وبالعكس.
في الفصل الأخير تأتي مفاجأة أورهان باموق، وسنعلم بأن المتحدث الذي قص الرواية كلها لم يكن الإيطالي، وإنما هو الأستاذ التركي، الذي تقمـص شخصية الإيطالي إلي أبعد حد، ويقول: لأنهم عندما علموا أن الكافر هرب طالب بعض الجنود برأسي، أي أن الذي هرب في المعركة الخاسرة هو الإيطالي وليس التركي. ويذكر أن السلطان قال له بألا يخجل لأنه تعلم من الإيطالي وتأثر به، وأنه (أي السلطان) علي علم بأن الإيطالي هو الذي يكتب الكتب والتقويمات والنبوءات التي قدمها له علي مدي سنوات علي أنها من أفكاره هو. متي كتب التركي هذا الكتاب؟ يقول بأن رجلاً عجوزاً قد أتي إلي غرفته وجلب معه حزناً عميقاً، وطلب منه أن يحكي له عن إيطاليا، وبالمقابل وعده العجوز بأن يحكي له حكايات عن البهلوانات في سماء عكا، والمرأة التي ولدت فيلاً، والثيران ذات الأجنحة الزرقاء. وتمت الصفقة بينهما. وحين انطلق العجوز وبقي الأستاذ وحيداً جلس وكتب كتابه فوراً. لم يستطع فصل العجوز عن نفسه، لذلك فقد تحدث عن نفسه وعنه قائلاً: لعلي تحدثت في كتابي بقدر ما استطعت عن نفسي، وعن ذلك الذي لم أستطع فصله عني، من أجل أن يستطيع الناس التفكير بشكل أفضل بعالم المستقبل المخيف.
يعي أورهان باموق بشكل دقيق أن العالم يتفسخ وتزداد شعوبه تعصباً وبعداً عن بعضها، وهو يأمل أن يتآخي أبناء الأرض جميعاً وبدون استثناء. وقد اختار الشرق والغرب لما بين الإقليمين من صراع تاريخي. باموق ضد الدمار في العالم، وضد كل الأسلحة التي تفتك بالإنسان. هو مع الخير والمحبة، وبرأيه أن الكائن البشري لا يمكن أن يعيش وحيداً في معتزله، مستغنياً عن أخيه غير متأثر به. لا فرق لديه بين الإيطالي والتركي، لدرجة أنه ابتدع شخصية تقمصت أحلام وأفعال غيرها، واستمتعت بهذا التقمص، حتي يخيل للقارئ بأنها هي من تتحدث وهي من عاشت تلك الأحداث.
لقد اخترع باموق في روايته أحداثاً لم تحصل في تركيا في الزمن الذي حكي عنه. وأهم اختراعاته كان الوباء الذي اجتاح اسطنبول بدل الحريق التاريخي المعروف تلك الأثناء. اختار قصة الوباء ليصل إلي غاية ما وهي أن الإنسان إذا أصيب بعدوي العلم، فلا يستطيع الهرب، تماماً كالإصابة بالوباء. ويقول علي لسان الإيطالي: بينما كنت ماراً بين الموتي والذين يموتون، فكرت أنني لم أحب الحياة كفاية وهذا يعني أن الغرق في العلم جعله يري أن الناس مصابون بوباء عدم المعرفة، وهو ما يدفعه إلي الاندفاع في هذا الطريق بكل ما لديه من قوة. هذا هو مسرح باموق الفانتازي المتألق، المسرح الخاص به، الذي وصل إلي كل أرجاء الأرض وباسمه الخاص أيضاً، وحاز عليه جائزة نوبل للأدب، ليقول للعالم أجمع: نحن أخوة... نحن كل واحد... أنتم أنا وأنا أنتم، فلنصنع الحياة الجميلة. وهذا المسرح الإنساني، تم نقله بأمانة كبيرة إلي لغتنا العربية، وقام بترجمته الأستاذ عبد القادر عبداللي، الفنان الحقيقي، من اللغة التركية مباشرة. ولا بد لنا أن نعترف بقدرة المترجم عبداللي، الذي لا يمكننا إلا أن نشكره علي هذه الأمانة العالية، ليس في هذا الكتاب فحسب، بل لما سبق وترجمه عن التركية لأهم الكتاب الأتراك المعاصرين، وكانت ترجماته الأجود حقيقة والأقرب إلي روح النص من كل ما قد تمت ترجمته عن التركية إلي لغتنا.
كاتب من سوريا