أتعجل بداية لأوضح مقصدي مما سيأتي عليه الكلام، مبينا أن البحث هو محاولة لتلمس حجم التأثير الذي قامت به قصيدة النثر، والأشكال السردية الشعرية الحديثة، في تشكل بنية الربيع العربي، ومسار الثورات الشعبية المتتابعة التي لا نزال نعيش خضمها حتى اليوم. وحري قبل الولوج إلى النقطة الرئيسة التي أدندن حولها، أن أتوقف وقفات سريعات أمام بعض الأشكال والأحداث التي شكلت مسار القيود الإيقاعية والزخرفة الخارجية لكل ما هو لغوي، وكيف استقر التقليد في الوعي العربي مع هالة كبيرة من التقديس والتهليل، وربط الإيقاع التقليدي المتجذر في التراث العربي بالرغبة الدينية، وبالنزعة المحافظة، وبأسلوب التفكير ونمط الحياة، مما جعل التفكير القائم في أصوله على اللغة يتوجه في مساحة كبيرة منه نحو الشكل.
الإيقاع والعصر الشفهي
لا يحسُن بدارسة شأنها الإيغال في العمق، تجاهل العصر الجاهلي على صعوبة ما يجده الباحث في إثبات كل ما نسب لذلك العصر، ولكن ما يهمنا بالعودة لما قبل الدين الحنيف، هو التذكير بما أفادت به الكثير من الدراسات - باستثناء من كتبوا بعاطفة تقديس غير المقدس - عن شفاهية الأدب الجاهلي برمته. وعند التوسل إلى استكشاف بدايات الربط بين الإيقاع وأشكال التعبير الجاهلية في المسارات الرئيسة لذلك العصر، مثل الشعر، والأمثال، والخطب، والمفردات الدينية. يبرز لنا الشعر دون ما ذكرنا آنفا من أشكال تعبيرية، ناضجا مكتملا له من خصائص الخلد ما للإلهة اليونانية عند رهبانها، وإيقاعا متطورا متنوعا أطلق عليه "الفراهيدي" بعد ذلك مسمى "بحور الشعر"، وساهم الإيقاع بشكل واضح في تميز الشعر عن أشقائه، بالرغم من تواجد الإيقاع في باقي أشكال الأدب الجاهلي، ولكن بشكل أقل وضوحا، كما أن المصادر الأدبية غير الشعرية للعصر الجاهلي لا تكاد تذكر إلا لماما. ومع أن شفهية الأدب لا تعني فقط الاتكاء على ملكة الحفظ، إلا أن للحفظ مكانا مهما ليس في غياب التدوين فحسب، بل في انعدام كل عوامل نشوء الكتابة وبالنتيجة كل الآثار الواعية وغير الواعية للكتابة، وسيكثر الكلام لاحقا عن ملكة الحفظ وعن السمع بصفته العنصر الرئيس في احتواء المعنى المتخيل للكلام المنطوق، وعن أثره في الإيقاع. وليس من الممكن هنا السفر بعيدا في موضوع شفهية الأدب فهو ميدان واسع، يجول به الكثير من الأكاديميين المتحمسين (المتحمسون الأوغاد مجموعة قصصية لمحمد طمليه) مشككين ورافضين.
واعتماد العرب على الحفظ كان نتيجة لغياب مظاهر التدوين، الأمر الذي وسّع من مجالات السمع، وما تثيره الكلمات من معاني مكررة ليسهل استحضارها في الذهن بسرعة، والشفاهية كانت مسرحا شمل حتى طقوس العرب الدينية - الذبح على النصب، الحج، الطواف - أي أنهم افتقدوا حتى إلى كتاب مقدس (العرب عموما كان تدينهم عمليا وغير إلزامي، ويفتقر للتفاصيل "كتاب الكهانة العربية قبل الإسلام لتوفيق فهد"). وبقيت القراءة والكتابة عند أفراد قلائل، (جاء الإسلام وفي مكة سبعة عشر كاتبا وفي المدينة إحدى عشر "فتوح البلدان للبلاذري") وذلك عند تخوم الإسلام، ويبدو من العسير إيجاد الكثير من الكتاب في أزمنة أكثر إيغالا. وجل ما وجد للخط العربي كان نتفا سياسية وتجارية لم تصل للأدب نهائيا، فلم يكتبوا بها كتبا ولا قصصا ولا رسائل أدبية (الفن ومذاهبه، في النثر العربي لشوقي ضيف)
وعند التنويه إلى ملكة الحفظ نستحضر (في خروج سريع من الزمن الجاهلي) تجارب الشعراء المعاصرين الذين سجنوا في زنازين انفرادية، (ما دمنا نتحدث عن الثورات التي قامت ضد الطغيان). المهم أن حالة هؤلاء المساجين جعلت تجاربهم الشعرية تتمحور في شكل إيقاعي منتظم، سواء الشكل المعروف " الشطرين " أو مقاطع تنتهي بقافية ثابتة، وذلك حتى لا تضيع تجاربهم طي النسيان، فالاسترسال الحر في القصيدة يصعب حفظه. (للشاعر المصري احمد فؤاد نجم تجربة مماثلة تكلم عنها في برنامج تلفزيوني لم استطع العودة إلى تاريخه). إذن يبدو أن عامل الحفظ - طبعا ليس الحفظ بمعناه الحالي ولكن كنتيجة لعصر شفاهي - كان من العوامل التي شكلت بينة الشكل الإيقاعي الهندسي في القصيدة القديمة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الصوت لا يكون في حيز الوجود إلا وهو في طريقه للعدم، لهذا احتيج إلى طريقة لحبسه في الذاكرة، وسوف نعود لهذه النقطة وهي الشكل الإيقاعي الهندسي لاحقا.
ولا يوجد في اللغة مثل الإيقاع في المساعدة على التذكر، وربما ساهم في ديمومته، الصوت الذي يخرج من إيقاع حوافر الإبل في الصحراء، (يا انجشه رفقا بالقوارير، حديث نبوي). واعتقد أن الصلة بين الإيقاع والتذكر صلة واضحة وقد أوضح "أونج" العلاقة الوطيدة بين الأنماط الشفاهية الإيقاعية، وعملية التنفس والإشارة بالجسم من ناحية والتناسب الثنائي للجسم الإنساني (كتاب الشفاهية والكتابة تأليف والتر ج. اونج). فالحاجة الشفهية هي التي أوجدت في اللاوعي العربي الشكل الإيقاعي. ولكن لعوامل سوف تأتي في السياق جعلت العرب يحملون الشكل الذي جاء في سياق طبيعي في بدايات نضوج الشعر العربي، إلى تقليد مفروض لا يجوز الخروج عنه. إذ ارتبط شكل القصيدة الإيقاعية ومظهرها الهندسي بالتقديس الديني، والعرفي. ورغم أن الاهتمام باللغة والبلاغة في عصور ما قبل التدوين ليس حكرا على العرب، فهو موجود في المجتمعات الشفهية بشكل فطري (يمكن تسميتها على طريقة التشومسكية بالفطرة التوليدية الإيقاعية)، ولكن العرب جعلت من الشكل الشعري الهندسي المتمثل بالإيقاع وحدود الجملة، مورثا دينيا حافظت عليه وعدت الخروج عنه خروجا عن "الدين" و"التقاليد" و"الفطرة العربية " و"عامود الشعر" وهذه مصطلحات لها مكان في الترسيخ الذهني عبر توارثها. وقبل الانتقال إلى زمن نزول الوحي بالقران الكريم، علينا أن لا ننسى أن نطرح جانبا ما ادعاه صاحب العقد الفريد "ابن عبد ربه ت 328 هجري " من دعواه أن المعلقات الجاهلية كانت مكتوبة بماء الذهب ومعلقة في الكعبة المشرفة. فهي دعوى مرسلة بين قائلها وبين حدوثها - على افتراض حدوثها - كما بيني وبين شكسبير من أعوام. وأعجب كل العجب لمن يثبت الكتابة الجاهلية بنصوص من كتب دونت بعد الإسلام بقرنين أو أكثر، وبروايات موضوعة في جلها.
نزول الوحي القرآني
ورغم أن القران الكريم نزل بشكل مغاير لما تعرفه العرب من فنون أدبية، مثل الشعر والخطابة والقصص، ("لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه فما هو بالشعر، ابن هشام) إلا انه كان عربيا خالصا من حيث اللغة، (العبرة بعموم اللفظ القرآني وإلا ففي القران بعض الأسماء والكلمات الأعجمية)، كما انه نزل مصحوبا بإيقاع خاص به، استحدث العرب المسلمون له بعد ذلك علما قائما كي يحفظوا طريقة قراءته أسموه "علم التجويد ".(مما يعني إمكانية تواجد علم مشابه يخدم قصيدة النثر لتكوين شكل من أشكال الغناء للقصيدة النثرية، "نحو نظرية عربية نقدية" لمثنى حامد). وبالرغم من ريادة النص القرآني وتشكله المغاير لصيغ الجملة العربية، مما كان يعطي فرصة لقفزة هائلة في اللغة العربية من حيث الإنشاء والتعبير، إلا أن ما حصل كان العكس فقد بقي النص بعيدا عن إنشاء شكل نثري جديد يمكن أن يكون انطلاقا لعهد لغوي، ولذلك أسباب. كان من أهمها ارتباط صياغة الشكل النثري الجديد بالوعي الديني حيث ارتبطت محاولة تقليد الجمل القرآنية بأدعياء النبوة الكاذبين. أي أن تقليد الجمل القرآنية يحيل في الذهن إلى محاولة تحدي الباري عز وجل، لهذا ارتبط تطور النثر بشكله الجديد بالخوف من الإلحاد والعصيان.
كما أن العرب في زمن الوحي لم يكونوا قد سئموا الإيقاع العروضي بعد، إذ انه في ذلك الوقت لم يكن قد تحدد بحدود، ولا أصبح مشكلا بشكل لا يمكن تجاوزه. فالإيقاع كان في حالة تشكل وتمرد مستمر. وفهم العرب التحدي القرآني ("فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين" (23، البقرة) فهما مغلوطا، وابتعدوا عن محاكاة النثر القرآني، وخسروا أن صيغ القران الكريم، وحتى السنة النبوية كانت ابعد الصيغ عن التكلف، وفي العهد الإسلامي الأول. تم رفض أشكال الجناس والطباق والرجز وما شابه. واتسعت الخطابة وتعددت أشكالها وعلت الخطابة الدينية ونمت بشكل ملحوظ، ولكن سرعان ما سيطر التصنع على أشكال التأليف ليس الأدبي فحسب بل والسياسي والاجتماعي، وأصبح شكل الجملة غاية في حد ذاته.
الشعر الجاهلي
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تراجع العرب لما قبل الإسلام، واستحضروا آداب العصر الجاهلي وأسقطوها على مدار عصورهم اللاحقة. وكان لزيادة أهمية الشعر الجاهلي بعد الإسلام والفتوحات عوامل من أهمها الاعتماد على الموروث اللغوي في بيان أعجاز القران الكريم، ولا يظهر الموروث اللغوي إلا في الشعر الجاهلي أولا وقبل كل شيء. كما أن المتقدمين من المفسرين (اصطلاح المتقدمون يقصد به الأقرب إلى زمن النبوة والمتأخرون هم العصور البعيدة عن النبوة كعصرنا) اتكئوا على الكثير من الشعر الجاهلي في استشهادهم عند تفسير آية أو تقرير بنية نحوية ما، أو إظهار أصل عقائدي مبني على اللغة (عقيدة الوعد والوعيد، مثلا، "شرح العقيدة الطحاوية " لابن أبي العز الحنفي). وتعدى الأمر إلى علماء اللغة والنحو الذين استقرأوا الكلام العربي بعد ذلك، ثم توافقوا فيما بينهم على أن يعتبروا الشعر العربي القديم، وفي اغلبه جاهلي، بالإضافة للقران الكريم والحديث النبوي -عند بعضهم - مصدرا ثابتا في إقامة القواعد الكلية للسان العربي.
سيطرة الإيقاع وأشكال الجناس
ومما وطد مكانة الشعر بشكله الإيقاعي القديم في الوعي الديني أكثر. ابتكار المنظومات العلمية، وهي التي عمد أصحابها - وهم في الأغلب غير شعراء - إلى نظم العلوم الدينية واللغوية شعرا لكي يسهل حفظ العلوم، ويقل نسيانها فهذه "ألفية ابن مالك ت627" عمد صاحبها إلى شرح القواعد النحوية في منظومة شعرية طويلة، وهذه ألفية العراقي ت "806" عمد صاحبها إلى شرح علم الحديث في منظومة طويلة. ولم يكد يوجد علم عند العرب إلا وحولت أركانه وقواعده إلى منظومات شعرية، حتى وصلت المنظومات إلى علم المنطق "السلم المنورق في علم المنطق "، كما أن الكتب الرئيسة في التاريخ الديني وجدت من يقوم بنظمها شعرا. وكانت السمة العامة لهذه المنظومات عدم اهتمامها بالبلاغة والتحسين اللغوي، لهذا احتاج ناظموها كثيرا إلى تمطيط الكلمات حينا، والى وقفها حينا وتسكينها حينا آخر، للحفاظ على الوزن الإيقاعي فقط. إذن لم يكن للشعر من هذه المنظومات نصيب إلا الوزن الإيقاعي، وجدير بالذكر أن هذه المنظومات لاقت اهتماما كبيرا لدى طلبة العلوم الشرعية والغوية منذ بداياتها إلى اليوم، ولا زالت ليومنا هذا تنظم منظومات بكلام اقرب لعصرنا، ولا زال الكثير من طلبة العلم يكبون عليها.
وكان للسجع الذي انتشر في كثير من الآداب التراثية صرامة تلازمت مع أساليب الكتابة العربية، وكادت أن تكتب بالسجع كتب كاملة وشابهت الرسائل وصيغ توقيع الخلفاء على أوامرهم ما سبق للكتب أن سجعته. ولو تقصينا السجع في النثر العربي لوجدناه يحتل مكانة كبيرة جدا من نثر العرب. ويحسن بنا أن نلتفت تلفت الكريم إلى مسألة تحتاج لبحث مستقل، وهي السجع في عناوين الكتب التراثية، وسوف يجد من لاحق الموضوع تكلف المؤلفين - على مدار اغلب التاريخ العربي - في انتقاء عناوين مسجوعة لكتبهم، وقد بلغ حجم بعض هذه العناوين سطرين وثلاثة. (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، لابن خلدون)، ولا زالت إلى اليوم العناوين المسجوعة ظاهرة وان انحصرت عند بعض أصحاب التوجه الديني السلفي. وعلى كل حال المقام لا يتسع لبحث هذه الظاهرة بالتفصيل، ولكنها بالتأكيد تصب في خانة ما نحن بصدده من تأصل الإيقاع والشكل في البنية الثقافية العربية.
الشكل الهندسي
ولنعد "للفراهيدي ت 75 هجري" فقد جاء في وقت مبكر، وكان صاحب اطلاع واسع وذائقة راقية، حيث قام باستقراء الشعر المسموع في زمنه، وحصر الأوزان ووضع المقاييس وأقام علما مكتملا استند عليه الشعراء في نظم قصائدهم وتمييز شذوذ البيت وتعديله حسب عملية حسابية مكتملة. ثم تناول التغيرات التي تعتري البحور الشعرية والتفريعات عنها وما يعتريها من زحاف وعلل فاستخلص لها القوانين والمقاييس (كتاب قضايا الشعر المعاصر تأليف نازك الملائكة) وبعض ما وجد له "الفراهيدي" مقاييس كان سوف يعد عيبا لو انه جاء بعد "الفراهيدي" بيوم واحد. إذن ما كانت العرب تعرفه بالسليقة أصبح علما قائما غير منقوص وأكمل هذا العلم الإطار الحديدي حول شكل الشعر، فأصبح للشعر شكل واحد متعارف عليه بحدود مرسومة بعناية، فان قيل كان الشعر قبل "الفراهيدي" ذو شكل واحد قلنا لم يكن هناك ما يمنع تجاوز عدد البحور التي حددها "الفراهيدي" و"الاخفش" من بعده (الستة عشر بحرا). أو شكلها التفعيلي أو إيجاد شكل جديد للوزن أو ما كان لله وحده به عليم، فنحن لا نعرف الكثير عن العروض القديمة التي أسست لهذه العروض الخليلية.
والشكل الهندسي يتجلى بشكل واضح عند تأمل الجمل الشعرية فنلاحظ أن البحر العروضي محدد بعدد تفعيلات صافية، مثل بحر الهزج له تفعيلتين بكل شطر أو ثلاث كما في البحر الكامل أو أربع كما في بحر البسيط. إذن تحديد البحر قائم على عدد التفعيلات في كل بحر ويجب التساوي في عدد التفعيلات في كل شطر.(وسوف نلاحظ أن كل ما فعله الشعر الحر هو عدم التساوي في تفعيلات الشطر. ولولا تقديس العروض لكانت قصيدة التفعيلة موجودة في الأدب العربي منذ زمن طويل. فهي ليست سوى شعر عامودي مكتوب بطريقة الشطر فوق الشطر مع عدم التساوي في عدد التفعيلات). ويبرز الشكل الهندسي بوضوح عندما يضطر الشاعر أن ينهي جملته عند مكان ما، حتى لو كانت فكرة الشاعر أطول، كما أن عليه أيضا من جهة أخرى أن لا ينهي جملته إلا في مكان معين آخر حتى لو انتهت فكرة الشاعر قبل بلوغ نهاية الشطر. لهذا على الشاعر أن يمط الجملة لتنتهي كما يريد الوزن، ولو على حساب الشعر، وحتى ولو على حساب اللغة (الضرورة الشعرية). وهو أمر ليس بالعسير على العربي للتشكل الإيقاعي في بنيته الفكرية والاجتماعية لهذا نجد الكثير من المقاطع الشعرية قالها أصحابها لحاجة ما، وهم غير معدودين من الشعراء ولم يقولوا غير قصيدة أو مقطع. وكتب التاريخ فيها الكثير من هذه الإحداث. إذن نصل إلى أن البحور الشعرية هي ثوابت هندسية قائمة محددة سلفا على شكل قوالب إسمنتية وعلى الشاعر أن يسكب شعره في تلك القوالب. وهذه القوالب رافقت الوعي العربي وصاحبته حتى أصبحت جزءا من نظرته الواعية لكل ما حوله.
القوالب الإسمنتية موجودة كذلك في النثر العربي، عبر تكلف أشكال السجع والطباق وتعمد قصر الجملة ومحاولة إيجاد نسق موسيقي حتى عند من نفروا من التقليد، فغلب التكرار والترادف وأصبح صاحب الحاجة ينال حاجته إذا أحسن تشكيل الشكل اللغوي، ولو على حساب ما يريد (يا قاضي بقم إنا عزلناك فقم). طبعا في النثر العربي أشكال سامية جدا وراقية ولكن الغالب على التشكيل النثري، هو التزويق وعدم الاقتصاد بالكلام. وساهمت المصطلحات التي ابتكرها النقاد واللغويين القدماء في إضفاء هالة من التقديس أو قل هالة من التوارث الصائب - على حد تعبير الجابري - على الشكل الشعري القديم، وأصبح الشكل الإيقاعي من المسلمات وهذه المصطلحات مثل "عامود الشعر"، و"مصطلح الذائقة العربية" و"مصطلح الفطرة" وما شابهها من اصطلاحات كانت بمثابة الطريق الوحيد للبلاغة، ويجب عدم مخالفتها يقول المرزوقي: «فهذه خصال عمود الشعر عند العرب فمن لزمها بحقها وبنى شعره عليها فهو عندهم المفلق المعظم والمحسن المقدم ومن لم يجمعها كلها فبقدر سهمته منها يكون نصيبه من التقدم والإحسان، شرح ديوان الحماسة».
وفي المجمل فقد كان الكلام العربي والبلاغي مبني على العاطفة والحماسة والشكل وكان التفكير في صياغة الجملة يستولي على مفهوم الجملة، لهذا نجد الكثيرين ممن يحسنون صف الكلمات بالطريقة البلاغية القديمة، عندما يريدون شرح فكرة ما يتخلون عن أسلوبهم، ويتجهون للاقتصاد في الكلمات، وربما التكلم بالعامية ليوصلوا فكرتهم. إذن كان العربي حتى عهد ليس بالبعيد مثقل بشكل كلامه كما هو مثقل بطريقة لباسه وهندامه الفضفاض.
اثر الطباعة في النص
وأخيرا لم تكن الكتابة هي التي غيرت مسار النثر الذي بقي لعقود طويلة بعد التدوين أسير الإيقاع المتمثل بأشكال الجناس والزخرفة الشكلية، ولم يتبلور بشكل واعي إلا مع الطباعة التي جعلت الكلمة تضيء معناها بنفسها مستغنية عن عربة الإيقاع، والطباعة أوجدت في عقود قليلة ما لم توجده الكتابة طيلة قرون. فسارع النثر ينازع الشعر في مكانته كديوان للعرب ونشأت آداب كتابية كان النثر كثير المشاكسة بها، وكثيرا ما طغى على الشعر لهذا تطور النثر وتعددت أشكاله وتنوعت، وساعد النثر أنه عملية مرئية تحتاج إلى البصر، مما يعني سهولة التوقف عند الكلمة، وسهولة العودة إليها، وسهولة إعادة تكرار المعنى، فصار ممكنا إيجاد كلام يعتمد على نفسه دون الحاجة لسياج إيقاعي، وصارت قصيدة النثر شكلا شعريا أصيلا تأخر ميلاده. (استغرب عدم التفات من قرأت لهم ممن تكلموا عن إرهاصات قصيدة النثر إلى هذه النقطة المهمة). «إن الانتقال التاريخي الكوني من الشعر إلى النثر إنما يتم على وجه التحديد في زمن التحولات العظيمة، عندما يصبح الأدب تفكيرا فنيا أو معرفة في معظمه. عندئذ يتجلى التناقض بين الإيقاع والكلمة التي أصبحت فكرة، (كتاب الوعي والفن لغيورغي غاتشف).»
وبالفعل سرعان ما تخلصت قصيدة النثر من أعدائها والمشككين بها. ولكنها لم تجد مكانا في الشعور العربي إلا مع دخول الكتابة الالكترونية إلى الوطن العربي، لسهولة انتشار كافة أنواع الفنون، خصوصا شكل الشعر الجديد، وصار السرد كذلك ينحى نحو الشعر، ويقيم كيانات مستقلة أكثرها سردي مع مساحة شعرية غير إيقاعية فجرتها قصيدة النثر. كما أن الجهد المبذول عند إخراج كتاب مطبوع من تأليف ونشر ومراجعة وتصحيح لم يعد له مكان في النشر الالكتروني. ولم يعد المبدع يحتاج لشهور في انتظار أن تنشر مجلة له عملا وشهورا بعدها أكثر في انتظار أن يحدث العمل ضجة ما حوله. في النشر الالكتروني بمجرد رغبة المبدع بنشر عمله لا يحتاج إلا إلى دقائق معدودة كي يصبح عمله تحت أنظار الكثير من القراء. عداك عن المجانية في التلقي والنشر، وتحميل الكتب الالكترونية. هذه السهولة في النشر والتعليق كانت سببا في تنمية كثير من المواهب. الأمر الذي خدم قصيدة النثر بشكل خاص. حيث انتشرت القصائد بشكل كبير وتكاثر عدد شعرائها وأصبح القارئ يستسيغ هذا اللون من الكتابة عبر تموسق الأذن مع الشكل الشعري الجديد، وتكونت مجالات ثقافية عديدة عبر تلاقح الأفكار وتنامي الرغبة في الحوار الجاد.
وصار لقصيدة النثر مساحة أينما ولى القارئ وجهه إلا مساحة ضيقة في عقول أكاديميين وعلماء دين، وهم في جلهم نظروا شزرا لهذا الشكل الجديد. وسوف لن نجد كثير فائدة من إعادة حجج الرافضين لقصيدة النثر، فليس لها اليوم كبير مكان. ويكفي سطرا واحدا قالته المنظرة الأولى لقصيدة التفعيلة الشاعرة نازك الملائكة «ليس من حق أي نثر أن يكتب مقطعا»، (قضايا الشعر المعاصر، نازك الملائكة). لإظهار شكل النقد الموجه لقصيدة النثر. وهكذا أصبح الإيقاع التقليدي لونا مهما من ألوان الشعر العربي، ولكنه لم يعد اللون المسيطر والوحيد. وأصبحت الشعرية العربية لها طرق شتى شكلت مكانا لها في الوعي العربي الحديث، وأصبح للشعر تعريفات لا تحصى، أو ليس له تعريف ما، بينما استقرت جملة «الشعر كلام موزون ومقفى» في التراث. نعم مازال هناك مسارات تقليدية كثيرة ولها أنصار ومعجبون. ولكن هذه المسارات لم تعد تسيطر إلا على أنصارها، وبالتالي لم يعد تأثيرها جوهريا فقد أغنى السلف عن تقليد الخلف.
الإشكال الشعرية والسردية الحديثة
تتجلى أهمية الأشكال الشعرية والسردية الحديثة بعدة سمات أهمها أنها غير نهائية، وأنها متجددة، وأنها في الأصل قائمة على التمرد، وباينت الشعر القديم كونها أصبحت لا تعتمد على إيقاع عروضي. فهناك إيقاعات في الحياة كثيرة، وغير مقيدة بطول وحيد للجملة، وغير مقيدة بشكل واحد، وغير مقيدة بخلفية تراثية وحيدة، وغير مقيدة بنظرة واحدة، واعتمدت الكلمة على نفسها، وصارت تحيل إلى مدلولات غير مكررة، وصارت أكثر اقتصادا في الحروف، وأكثر سرعة نحو ما تريد، وتخلت عن الشكل الزخرفي الذي أثقل الجمل، وبالتالي التفكير الذي اعتمد الجمل ذاتها في بنيته. وقاربت هذه الأشكال الأدبية اللامعقول لدرجة لم يعد يمكن تلمس جنس النص بمجرد النظر السطحي، مما ألهب الخيال وأجرأ العقول على نقض السائد، وتباينت الطرق السردية وتنامت مع تنامي الوعي، واختفى التشنج أمام النص الغامض أو التجريبي، أي لم يعد الرفض المسبق موجودا، ولا يعني هذا تقبل كل ما جاء على لسان الحداثة، ولكن صار يمكن تذوق الجملة بشكلها الجديد.
اثر الأشكال النثرية الحديثة في الثورات العربية
التصورات والأفكار التي نشأت نتيجة لكل أشكال الحداثة اللغوية ساهمت في تشكل الوعي العام للفرد، وأثرت على مسار حياته بشكل لا واعي، وبشكل واعٍ. وساهمت المشاعر التي أنتجها النص الحداثي في التسارع المدني، وشكلت تغييرا في نواحي غير قليلة، ولكن للأسف لم يتم دراستها، وهذه النواحي مثل الأزياء حيث اختفى النمط اللوني السائد، وتغير معنى التناغم اللوني - طبعا مع اخذ بعين الاعتبار كل المؤثرات الأخرى المادية والاجتماعية وتأثيرات العولمة والتبعية - ولكن ابرز التغيرات التي نتجت عن الحداثة كانت التغيرات السياسية والتغيرات الاجتماعية التي نشأت عن التغيرات الفكرية. وتمثل كل هذا بالربيع العربي والثورات العربية التي فاجأت القوى الاستعمارية قبل الأنظمة خصوصا في أول ثورتين. وبعد ذلك أخذت هذه الأنظمة الاستعمارية المحلية والعالمية تفيق من صدمتها. وبدأت تعرقل المسارات الثورية، فإذا اشتدت قوة الثورة، ساندتها هذه الأنظمة الاستعمارية، وكما قال المثل العامي «إذا جاك الغصب خليه بالجميله».
لهذا الربيع الثوري أسبابه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وهي معروفة وغير مبهمة، ومجال دراستها متنوع ومتشعب، وليس مقصد البحث هنا دراستها. ولكن ما علينا تلمسه في هذه العجالة هو تأثير الشعر والسرد الحديثين في إنتاج الربيع العربي، ولا اعني بالتأثير هنا ما يمكن للأدب الخطابي أن يخلقه في الأفراد من حيث الحماسة وإلهاب المشاعر وطرق إثارة العواطف فهذا موجود منذ القدم، ولكن المقاربة هنا هي في تمرد الربيع العربي على الشكل القديم من الاحتجاجات والثورات التي شهدها العرب في عصورهم القديمة والحديثة. وكان هذا التغير في شكل الثورة بسبب عوامل من أهمها - وهو ما يهم البحث هنا - هو الشعر والسرد الحديثين على اعتبار ما أحدثاه من خلخلة في السياج الفكري المتمثل بالخروج عن معطيات كثيرة، كانت فيما مضى مُشكلة لوعي الجمهور. لو راجعنا معظم الثورات (الفتن عند البعض) القديمة في التاريخ العربي، وما شاكلها في العصر الحديث (انقلابات عند البعض) فسوف نجد لكل تلك الثورات الفتن الانقلابات أشكال ثابتة مشتركة بينها. ولكن الربيع العربي المعاصر اختلف عن كل ما سبقه من حركات ثورية بمسارات يمكن تلمس أهما بما يلي:
«القائد الملهم»
ليس من ثورة قامت قبل الربيع العربي، إلا وكان لها قائد أو أكثر، ملهم، له الأمر من قبل ومن بعد، ولن يعجزنا التاريخ منذ استشهاد الخليفة الراشد عثمان بن عفان إلى اليوم مرورا بكل الثورات. (طبعا هنا شكوك بتسمية بعضها ثورات) كان دائما هناك ملهم وقائد، وكانت الثورات الشعبية والعسكرية تنقاد بإمرة هذا القائد أو الملهم. ولكن في الربيع العربي الحالي تم التنازل عن القائد، أو قل لم تعد الثورة بحاجة لقائد ملهم، فتشكل التمرد أصبح أكثر نضجا في الوعي العربي، وذلك بتخليه عن من يكشف له الطريق. فالعقل الجماعي لم يعد هو المحرك، وأصبح الفرد العربي أكثر استقلالية وتحررا من الأشكال الجامدة "الإيقاعية" التي كانت تشكل طريقة تعامل العربي مع ولاة الأمر. فالشفاهية كانت تتطلب جمهورا للاستماع، وكان التوافق بين هذا الجمهور والشاعر يشكل توافقا تاما. فالقصدية التي كانت خلف الشاعر عند إلقاء شعره كانت تشابه قصدية القبيلة التي استمعت للشاعر (ادونيس)، لأنه من الصعب تشكل وعي فردي في آداب شفاهية.
ولكن مع الكتابة تم التغير الجزئي والمحدود (بسبب صعوبة الكتابة والقراءة في مجتمع تأصل على الشفاهة، لهذا حتى بعد التدوين كانت دروس العلم جماعية وكان الطالب يقرأ والباقي يستمعون، مما ساعد على إطالة مدة الشفاهة)، وعندما جاءت الطباعة أصبح القارئ يملك الخصوصية في التعامل مع النص، ولم تعد معرفة شخصية الكاتب مهمة، إذ لدى القارئ وعيه الخاص بالكتاب وطريقته الخاصة بتمثل النص. وعندما تم التداعي للخروج من أجل الاحتجاج عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كان لهؤلاء المتداعين وعيهم الخاص الذي تشكل اثر الممارسة الثقافية الكتابية والخاصة لكل واحد منهم. لهذا لم يعد القائد الذي يمثل كل الاتجاهات الفكرية موجودا. لهذا سمعنا كثيرا من المدافعين عن الأنظمة قولهم: «هل يعقل أن يبقى ملايين من البشر في ميدان التحرير دون أي قائد أو جهة تدفعهم للخروج على الحاكم».
«الشعارات»
تحتاج الشعارات التي كان يهتف بها المتظاهرون إلى دراسة جادة. وبداية النظر هنا للشعارات سيكون على اعتبار أنها نتيجة للتمرد اللغوي الذي تشكل في بنية الجملة الحداثية، ولا ننظر للشعارات هنا على اعتبارات أخرى حماسية، أو ما شابه فهذا له مكان آخر. الشعار الأساس الذي أصبح عنوانا للربيع العربي، «الشعب يريد إسقاط النظام». تشكل كما قلنا نتيجة للتمرد الحداثي. ففيما كانت الهتافات تتشكل وفق صيغة سجعية مركبة ركيكة، وبمنظور خيالي بعيدا عن الواقع. اتجهت أهم الهتافات إلى الاقتصاد بالكلمات والولوج إلى الصميم بشكل مباشر مبتعدة عن السجع والغنائية المجانية. وها هو الشعار الرئيس للربيع العربي المكون من أربع كلمات يقرر ما يريده الشعب الثائر بدون حاجة إلى سكب الشعار في بنية إيقاعية معدة سلفا ولو تأملنا في بنيته ورددناه من جديد «الشعب يريد إسقاط النظام» سنجده سطر واحد غير إيقاعي، ولو اعتبرناه شطرا شعريا فلا يقابله شطر ثانٍ. كما أن القافية هنا ليست موجودة ولم يتم البحث عنها. ونستطيع أن نكرر نفس الكلام مع بعض الشعارات الأخرى التي كان لها صدى قوي في الثورات العربية، وهو الشعار المكون من كلمة واحدة، والذي صرخ به الملايين، مقررين بشكل نهائي ومباشر مطالبهم مثل شعار «ارحل». فان ترديد هذا الشعار لا يستقيم في الذهن إلا إذا تخيلناه مكتوب بشكل عامودي فوق بعض على الطريقة الشعرية الحديثة هكذا:
ارحل
ارحل
كان لترديد هذه الكلمة بصوت واحد، وبرغبة أكيدة، دور كبير في إعلان التغيير، وترسيخ المفهوم الثوري الذي خرج من اجله الناس في الطرقات والميادين.
الايديولوجيا والمطالب
الثورات التي نشأت في العصور الحديثة، تشكلت وفق منهج ايديولوجي غالب، ديني، يساري، يميني، وكان كل أتباع منهج يدافعون عن أشقائهم. وكانت معظم الصبغات لها لون واحد. في الربيع العربي ليس هناك أيديولوجيا معينة تملك التكلم عن الثورة حصريا، فالتنوع الفكري الإيقاعي في هذا الربيع العربي ملفتا للنظر، ففيه المتدين والعلماني والمتشدد والمتعلم والمحجبة والسافرة والمتعرية. وحتى لو نظرنا إلى التيار الديني على اعتبار انه تيار سائد وله أغلبية في الساحة العربية، وهو مؤطر بأيديولوجيا واحدة. فسيبدو جليا أن خروج بعض هؤلاء لم يكن بسبب الدافع الأيديولوجي. لهذا لم يتم فرض نوع من الايديولوجيا على الثورة وهي تستعر، كما أنهم لم يكونوا ليستطيعوا إقصاء أصحاب الأيديولوجيات الأخرى - لو أرادوا ذلك - وكان خروجهم لأسباب كثيرة تتساوى بها كل الأطراف.
إذن فالأفكار والمعتقدات الكثيرة في الربيع العربي هي السمة المميزة لهذا الربيع العربي. قد ينشئ الربيع العربي شكلا ما من أشكال الايديولوجيا بعد عقود يعلم الله عددها، وهذه الايديولوجيا ستكون شكلا جديدا في بنية الإنسانية. في التاريخ الحديث لم توجد ثورة عربية شاملة كما يحصل هذه الأيام. فلم يعد إسقاط شخص القائد هو المطلب الوحيد أو إبدال صيغة أيدلوجية بصيغة ثانية هو المطلب. والثورات الحالية لم تكتفِ بالجزء بل طلبت بالكل. وهي خرجت على كل الأشكال النمطية القديمة، بطرق شتى غير مسبوقة. وغير مقيدة بنسق واحد، وأصبح التغيير شعارا على الأرض، بعد أن كان حلما طوباويا فيما مضى، ولم يعد ممكنا التحايل على الثورة ولا السيطرة على العقول الجديدة.
شاعر وكاتب أردني