هذه مرثية جميلة يكتبها الشاعر المصري المرموق في رحيل الكاتب الكبير الذي فقدناه مؤخرا، وخصصت (الكلمة) له ملفا ضافيا نضيف له مقالا هذا الشهر، مرثية مترعة بالتناصات الدالة التي تفتحها على آفاق متراكبة من عالم الروائي الفقيد، ومن التاريخ العربي القديم، ومن الحاضر الذي تعرب فيه عن قلقها على الثورة في آن.

أحوال إبراهيم أصلان

حلمي سالم

 

(1)

يدخل كل بيت

لا بدّ أن يستوثق الموتى من أن القبور ستكون

بها لمباتٌ من الكهرباء،

حتى يستبينوا المسافة الرَّواغة بين

الملاك والشيطان.

كان الرجل يبذر قمحاً على الثورة من

جبل المقطم،

بعد أن كان يوزع أقمشة على مصدُورين

في فضل الله عثمان،

حيث يتجاور أبو ذرٍّ والمودوديُّ على مائدة العشاء.

طائر البلشون يرفّ على رؤوس المهمشين،

ويرفّ على رؤوس أطفال الشوارع،

وهو يعلم أن ساعي البريد يدق الباب مرتين،

لكنه هذا المساء دق دقة واحدة

ودخل كل بيت مسلِّماً على سكانه،

وغفا في أفئدة جريحة قرب طرح النهر،

بينما العصافير مصابة بالدفتريا،

وشارب كثيف يغطس في كوب ليمون.

أنا داعبته حينما قلت:

«لن أغار من ميل الجميلات إلى بسمة الساردين»،

لأن طيوراً مشت في شرايين مهتوكة،

والشرايين المهتوكة مشت في أزقة فقيرة،

والأزقة الفقيرة أرسلت إلى الكورنيش الميتين،

والميِّتون لا بد أن يستوثقوا من أن القبور

ستكون بها لمباتٌ من الكهرباء،

حتى يستبين المعذبون الطريق إلى قيامة

الحساب والعرش.

 

(2)

يحمل أشجاراً على كتفين

هنا منطق الطير،

حيث قال سيد لسيد:

يجلس المحرومون تحت جلبابي،

ويجلس المصابون فوق ركبتي،

أما الذين فقدوا العيون من أجل أن

تطير يمامة،

فسوف أعطيهم يديَّ كي يعبروا البرزخ.

هذا الذي يتهكم على عروقه وعلى الدراما،

يعرف أن قطعة فضية تدحرجت على سلالم

العمارات،

تشير أن المجد للمقاولين،

ولذا فهو يحول العُقَد المسرحية إلى مَسْخَرةٍ.

تساءلتُ: هذه البرقيات روَّاحةٌ غديانةٌ

فهل فَقْدُ الأحباء زينة الحياة الدنيا؟

قيل لي: ذاك شيخ يمشي خفيفاً بين ناسه

مع أن الأشجار ثقيلة على الكتف.

معهد القلب مكتظ بالدراويش والثوار

وعازفي الكمان المسيحيين،

فمن يرقب العجوز وهو يباشر هَلَّةَ

النهايات؟

فوق هضبة كان صوت يذيع:

يوجد هنا عميان،

فلماذا شَحَّتِ الكلمات؟

- لأن الرؤى فياضة.

- لماذا تناسل البوسطجيون؟

- لأن الجروح قصاص،

والغسيل كان مسروقاً على سطح البيوت.

 

(3)

يخرج من ألف ليلة

عندنا حمام زاجل،

وأطباق مكسورة في مطبخ،

عندنا ناس طبيعيون يصنعون من الجغرافيا

التواريخ،

ومن سرادق العزاء منبع الشهوات.

صار طائر البلشون أمثولة،

عندما كان رجلٌ

يبذر أرزاً على الثورة من جبل المقطم،

بعد أن كان يوزع تمراً على الصبيان

في فضل الله عثمان،

حيث يتجاور أبو ذرّ والمودودي على مائدة

العشاء،

وبينهما مصحف وقناصة.

قلت: جاء الروائيون من ألف ليلة،

لكي يطعِّموا المسيرات بالكوميديا،

قيل: جاء الروائيون من كليلة ودمنة،

كي يهوِّنوا خوف خائفين من لصوص كل

ثورة.

عاد صوت من وراء المقطم:

هبت طوابير من أساطير الأولين

كي يحملوا النعش،

والوطاويط واقفة فوق كل صخرة.

قبل أن تقصَّ أحسن القصص،

طمِّن القلوبَ يا إبراهيم.