ينتقل المغربي مصطفى لغتيري في روايته (ليلة إفريقية) بتجربته الروائية إلى آفاق روائية جديدة، تنبش في تفاصيل حياة الكاتب ليصبح هو ونصه بين يدي القارئ، مزحزحاً ظروف الكتابة الإبداعية وما يدور حولها من حكايات من حيز المسكوت عنه إلى حيز المناقشة حيث تشغله إفريقيا بين صورتين: صورة مكرسة (أوربياً-استشراقياً) أظهرت إفريقيا على أنها مكان للعجائب والغرائب ربط بينها والرواية الجديدة التي تحاول مداعبة هذه الصورة المكرسة في نصوصها، وصورة أخرى نسبها الكاتب للتصور الكلاسيكي للرواية الأكثر واقعية ( وفقاً للروائي) وهي إفريقيا المستَغلّة المنهوبة الفقيرة التي تعج بالصراع الإثني والقبلي والديني المحتاجة للتنمية. وليحقق الروائي مآربه الروائية تلك فإنه يحوم حول تخوم الرواية الميتاسردية لتظهر للمتلقي جوانب كثيرة من عملية الاشتغال على النص من نواحي التقنية المتبعة و الثيم الخاصة التي ركز عليها موضوع الرواية لأن هذه الرؤية الفنية في الكتابة الروائية تخدم طريقته في الكتابة، لأن الميتا سرد أو (ما دعي في الثقافة العربية بالسرد الشارح) وهو بتعبير جيرالد برنس، سرد واصف للسرد، ولاسيما السرد الذي يحيل إلى نفسه، وينعكس على ذاته. ويعد انتشار هذا النمط من الصيغ الروائية تاليا لصيغة الرواية التقليدية والرواية المتعددة الأصوات. حيث يهدف إلى الكشف عن العوالم الخبيئة لصناعة النص الروائي في وقت كبرت الدعوة فيه لكشف كل ما يقبع {وراء الكواليس} متماهياً في ذلك مع ما يدعى بتلفزيون الواقع، وعوالم التصوير، لكثير مما يبث تلفزيونيا على مستوى الدراما والبرامج. ولعل ما يسجل لهذا النوع من السرد أنه نقل مراحل {صناعة} الإبداع من كونها مكاشفة تدور بين النص والكاتب إلى مكاشفة تدور أمام المتلقي، بل إن هناك من الروائيين من أدخل المتلقي كطرف في الصراع يبتّ ويقطع في النص.
يتناول مصطفى لغتيري عالم الما وراء للعملية الإبداعية ويكشف لمتلقيه أن الكاتب كائن من لحم ودم، يعاني ويضعف، انطلاقاً من أسئلة شخصية رئيسية في النص تنطلق على يدي الكاتب {يحيى البيضاوي} الذي يشعر أنه غدا كاتباً خارج حركة التاريخ الأدبي يتجاهله المهتمون بعد أن كان ذات يوم الشغل الشاغل لحركة الأدب والنقد والإعلام. حيث يتذكر التناصات التي سبق أن قام بها وكيف أنه كان يحمّل ما يقوم به من أعمال رسائل فكرية ناهضة ومحورية في أعماله الروائية السابقة مثل رواية "المهدي"، وبينما هو مستغرق في هواجسه الإهمالية تأتيه دعوة للمساهمة في منشط ثقافي في (فاس)، يتعلق بالرواية الجديدة والرواية التقليدية، وهنا يحضر في الرواية ما يمكن تسميته الميتا سرد الخفي حيث يوجه الروائي متلقيه نحو مهمته المفترضة في مشاركته همّه الكتابي و البحث عن فرصة العودة للأضواء، ومن دون فجاجة في إلقاء مهمة مشاركة المتلقي على القارئ، بل بالحيلة الذكية معولاً على طبيعة البشر الفضولية لمعرفة الخواتيم، وتلذذ القارئ بالتجسس على عوالم الكتاب و الكاتب، جاعلا مما يحدث مع يحيى البيضاوي نوعاً من السيرة الذاتية والحديث مع الذات والمكاشفة.
لا تغيب عن ذهن الكاتب فكرة تلازم النص الميتاسردي مع طرح ثيم وطروحات تشبه العصر الذي انبثق منه الميتاسرد عصر العولمة والثنائيات وإعادة النظر بكثير من الثوابت والغوص في التفاصيل الصغيرة والابتعاد عن طرق التناول التقليدية فيلتقي البيضاوي في القطار في طريقه إلى فاس، بشابة كاميرونية (كريستينيا) تتجه إلى فاس لتشارك في مهرجان للرقص الأفريقي، ليناقش من خلالها ثيمة الوجود الإفريقي في المغرب وهجرة الأفارقة إلى أوربا وصورة أفريقيا في أوروبا، ونظرة المغاربة لهم والموقف الرسمي والشعبي من أصحاب البشرة السوداء. ومن ثم لا ينسى أن ينقل لنا أوجاع الأماكن من مثل هجوم التقني وسيطرة العصرنة ليناقش وضع (فاس القديمة) التي ماينفك عن زيارتها كلما جاء إلى فاس وكيف أن هذه المدينة كانت محطة لهجرة المشارقة نحو المغرب قديماً. وبما أن الميتاسرد هاهنا هو السرد الذي يعي ذاته ويكشف نفسه لذا ينتهز (لغتيري) الفرصة ليبث أوجاع الكتابة و الكتاب ومظاهر النقد الروائي من خلال لقاء تدبره المشيئة الروائية في الندوة الفاسية بروائية شابة هي (أمل المغيث) من كتّاب الرواية الجديدة، مستثمراً الفرصة لمناقشة بعض المداخلات التي تحدث في الندوة النقدية والمواقف من مفهوم البطل والعجائبية والزمان والمكان بين رؤيتين.
وتثمر هذه الندوة عن لقاء مع أمل المغيث التي تطرح عليه فكرة كتابة رواية مشتركة، يشترط هو أن تكون بطلتها كريستينا الكاميرونية ومن ثم يتبادلان الرأي حول عنوان الرواية وهو (ليلة أفريقية) وهو ذاته عنوان رواية (لغتيري) ويتفقان على أنه من المهم أن يكون المكان بين الكاميرون والمغرب...ليكشف لنا الكاتب أن الحواجز بين الأجيال والحضارات هي حصيلة أوهام ( النمذجة) وأن هناك إمكانية للتلاقي والانسجام بين رؤى متغايرةمحلياً وعالمياً. لم يكن إعلان الكاتب الاتفاق على كتابة رواية مشتركة أمام عيني القارئ بريئاً وعفوياً، بل جاء تقنية فنية لتوظيف ثيمة مهمة جدا من ثيم العصر الذي نعيشه؛ وهي ثيمة الثنائيات والتخبط في تبنيها والتحيز لمدى دقتها والضياع الذي ولدته هذه الثنائيات لدى الشباب في شق طرقهم ونهجهم الحياتي واليومي، فالفريقان يتبنيان صراع جيلين أو بكلمة أدق رؤيتين للكتابة.
إحدى هذه الثنائيات تتبدى في رسم كل منهما لشخصية (كريستينا) في الرواية؛ أمل تتخيلها ابنة صياد إفريقي يطوف في الأدغال بينما يعترض يحيى البيضاوي على هذه الصورة بحجة أنها صورة نمطية مستمدة من كتابات الأوربيين التي تربط إفريقيا بالعجيب والغريب. في الوقت ذاته تقدم رؤيته هو لإفريقية صورة مغايرة حيث الصراعات القبلية والاثنية والفقر وحاجات التنمية، والاستغلال الرهيب من أوربا لخيراتها وجعلها دفنا لنفاياتهم. وفي نوع من ضرورة إدخال الشأن العام في روايته يحرص (لغتيري) على البحث عن الأسباب التي أدت بالمغرب للوصول إلأى طرق صعبة في الحياة اليومية، ويناقش الحلول في نصه فاردا المَشاهد والصور أمام المتلقي ليكون مشاركا في الآن ذاته من خلال الحديث عن مظاهرات الطلبة وكيفية تعامل السلطة معهم، مبدياً امتعاضه مما يحدث:( شباب عزل يحملون لافتات وسلاحهم الوحيد حناجرهم التي كلت من الصراخ يتعرضون لهجوم وحشي من طرف رجال أشداء، مسلحين بالهراوات}.
وتقدم الرواية ذاتها لمتلقيها بوصفها نصا ميتاسرديا في طبعتها النهائية موسومة بمفاهيم لغتيري عن الرواية وكتابتها وطرق بذلها للقارئ حيث يأتي حوار البيضاوي مع أمل مستثمراً دراستها وتدريسها للغة الإسبانية في طنجة، الحوار الذي كان سبيلا لأن ينسحب البيضاوي أولا بأول من ثوابته في فهم الرواية، إضافة لمراحل من التوتر على صعيد الحدث العاطفي من مشروع كتابة رواية مشترك إلى حلم متطابق يحلمان به عبر تدخل اللاشعور في مخيلة البيضاوي متمنياً أن يتم زفاف أمل إليه وقد بدأت تشغل باله مازجا بين التقاليد الأفريقية في الزواج وما يتمناه هو. لتعود وتحكي له هي عن ذات الحلم حين يلتقيان في الصباح على الإفطار لكن برؤيتها هي عن إفريقيا وليس برؤيته هو، بيد أنه هاهنا يتدخل الشخصي حيث تروقه رؤية أمل. وفي خضم هذا التوتر العاطفي تودعه أمل عبر رسالة جاء فيها { بداية أعتذر عن اضطراري إلى المغادرة دون أن أودعك، لقد حال ظرف طارئ دون ذلك...أستاذي إنني ملتزمة معك بمشروعنا الروائي ، حلمنا المشترك... سنجعل من ليلة افريقية رواية جميلة ومختلفة، إنني أتوقع لها نجاحا مبهرا..} تاركاً لغتيري عنصر التشويق بكسر قلب {البيضاوي} ومد خيوط آمال المتلقي للقاء الموعود بعد أن ولدت{أمل} في نفس {يحيى} الرغبة في الزواج، مشكلة نقلة في حياته العاطفية لا سيما أنه زواج يتصف بالمشاركة الفكرية و الوجدانية والروحية وليس فقط لقضاء الحاجات الجنسية لأنه اعتاد أن يقضيها بطريقته الخاصة {كلما حنت نفسي إلى الأنثى أقصد حانة من حانات المدينة ، أكرع ما تيسر من نبيذ ثم أنتقي فتاة من فتيات الحانة}.. وهنا يربط الكاتب بين فعل الكتابة والزواج فعندما يلتقيها تشتعل لديه همة الكتابة.
فهو في غيابها تأخذه خطواته للبحث عن كتاب في إحدى المكتبات إلى قراءة رواية لأمل المغيث بعنوان {أحلام مؤجلة}، والغريب أن رواية أمل تنال إعجابه مع أنه سبق أن أبدى امتعاضه من هذا النمط في مقاربة الموضوعات وسبب الإعجاب (انشغالها بنقل الأحاسيس وتركيزها على أمور عادية ) وقد منحته (متعة لم أتوقعها) لاهتمامها بالتفاصيل الصغيرة .. ثم يعاودان اللقاء في مقهى (باليما) بالرباط حيث تُحضر خطيبها للعلاج من حادث أصابه، وهو السبب الذي جعلها تترك الملتقى الفاسي، وفي إشارة ذكية يلفت الروائي النظر إلى{سبتة} حيث أصيب الخطيب في الحادث وهو في طريقه لزيارة أهله في{سبتة}. ونظرا لانشغال أمل بخطيبها ونتيجة خيبة التوقع بالشخصي فإن أمل تنسحب من إنجاز الرواية لتعود للغياب الذي لاتعرف آفاقه، ما يؤكد أن رغبة (يحيى البيضاوي) في كتابة الرواية المشتركة قد أخذت تنطفئ كلما تبددت العلاقة مع أمل.
وبذلك يترك الروائي باب الأسئلة مفتوحاً للبحث عن أسباب التخلي عن مشروع كتابة الرواية:
1 ـ هل هو الاختلاف في وجهات النظر ؟ أم التأكيد على صراع الأجيال؟
2 ـ أم الثنائيات الفكرية المأزومة التي لا تتقبل الآخر ووجهة نظره وما زالت تعيش تحت وطأة أحادية التفكير؟ أم الخلاف بين رؤيتين فكريتين فنيتين؟
ويعود في نهاية الرواية عبر دائرة دلالية إلى النقطة التي انطلق منها: "أحسست بثقل شيخوختي المبكرة ، وشيئا فشيئا كنت أنجرف نحو حياتي السابقة، التي كنت أعيشها قبل لقاء الرواية بفاس حيث التقيت بأمل.." حيث كان قد بدأ روايته بالإشارة إلى أنه صار خارج التاريخ الأدبي ولم يعد أحد ينتبه إلى نصوصه الروائية، مستعملاً ما يدعى نقدياً بتقنية {الصندوق الصيني}) أو بتعبير أحد النقاد (دمى البابوشكا الروسية} في النص الميتاسردي حيث ينتهي النص إلى ما بدأه من همٍّ أو فكرة مقوّضا كل ما هذى به الكاتب من كلمات ومشاريع وبنى فكرية. وليأتي بعد ذلك دور القارئ في إعادة إعمار وترميم ما هدمه الروائي، كي لا يختفي حضوره في النص بل ليبقى هو المتلقي صاحب الحضور الأقوى داخل وخارج النص، أثناء إنجازه وبعده متماهيا {لغتيري} في صنيعه ذلك مع تجارب سابقة مثل تجربة المصري يوسف القعيد في روايته شكاوي المصري الفصيح {بأجزائها}.