هنا يفند الكاتب الحجج التي تدعو للقيام بعملية عسكرية اسرائيلية-أميركية ضدّ المنشآت النووية الإيرانية، ويرى أنها تنطوي على مغامرة لاعقلانية كارثيّة على المنطقة العربية والإسلامية، وبعض الدول الأسيوية والغربيّة، وعدد من الأنحاء في بقية العالم.

هل هناك شيء أسوأ من عملية عسكرية ضدّ إيران؟

حمّودان عبدالواحد

إذا كانت قيمةُ المبتدأ في بِنية اللغة العادية التي يتكلم الناس بها في حياتهم اليومية تكمن في خَبَره، فإنّ العكس هو ما يحصل في اللغة السياسية، إذ أنّ أهمّيّة الخبر في نَحْوِ هذه اللغة تُسْتَمَدّ بالأساس من المبتدأ، ومن الشكل الذي يتخذه على وجه التحديد: لا يمكن للخبر بمفرده أن يفيَ بالغاية المقصودة من وراء كلّ خطاب سياسي، إنّه بحاجة قوية إلى مبتدأ يكون أحياناً على صيغة سؤال يثير فضولَ المتلقي ويحمّسه لمعرفة ما ينطوي عليه وما يرمي إليه.

من هنا الأهمية الكبيرة للسؤال التالي: هل يمكن تصوّرُ وجود شيء هو أسوء وأخطر وأشرّ من توجيه ضربة عسكرية ضدّ المنشآت النووية في إيران؟ هذا السؤال طرحه المسؤولون السياسيون في إسرائيل وأمريكا، وكرّره أكثر من مرّة، كلّ على طريقته وحسب ألفاظه، عددٌ من قادة الرأي وزعماء الأحزاب ورؤساء الحكومات في الغرب عموما. ولم يبذل هؤلاء جهداً ما للبحث عن جواب لهذا السؤال، لأنّهم كانوا يعرفون كلّ عناصره مسبّقاً ولهذا السبب طرحوا السؤال!

حين يواجهُ مسؤولٌ سياسي إسرائيلي أو أمريكي مثلاً جماهيرَ القاعات المجتمعة لسماع كلامه، أو ميكروفونات وآلات التسجيل وكاميرات الصحافيّين، ويخاطبهم قائلاً: هل تعرفون الشيء الأخطر على العالم من توجيه ضربة عسكرية نقوم بها ضدّ إيران؟ ثمّ يمرّ في سرعة الضوء – أيْ دون الوقوف على الأوجه السوداء، وما أكثرها!، لهذه "الضربة العسكرية" في شتّى الميادين والمجالات – إلى تقديم الجواب، وأيّ جواب!، فإنّ هذا يعني أنّه يعرف مسبّقاً أنّه لن يستطيع إقناعَ المخاطَبين بالأدلّة الواقعية والعقلية، فيلجأ إلى مراوغة شكلية تلعب بالكلمات آمِلاً أن يغيّبَ السامعون تحكيمَ العقل والتفكيرَ السليم الحكيم ويستسلموا للغة العواطف والانفعالات، وحتى لا نكون مثل هؤلاء، وقبل أن نُفْصِح عن خبر أو جواب السؤال أعلاه، نرى من الأنسب أن نقول كلمة بصدد "الضربة العسكرية" تهدف إلى استيعاب خفايا السؤال المطروح ونواياه.

يؤكّدُ أغلبُ الخبراء والمحللين والمراقبين السياسيين، شرقيين وغربيين على حدّ سواء، أنّ القيام بعملية عسكرية ضدّ المنشآت النووية الإيرانية هو إقدامٌ على مغامرة ستكون تداعياتُها دون شكّ كارثية على الجميع، على المنطقة العربية والإسلامية، وبعض الدول الأسيوية والغربيّة، وعدد من الأنحاء في بقية العالم.

ولن تقتصرَ العواقبُ الوخيمة لهذه المغامرة اللاعقلانية على المجال العسكري، وما سوف يَترتّب عنه من دمار وعنف وقتل وسفك للدماء وإهدار للأرواح البشرية، بل ستتعدّاه، حسب نفس المحللين، إلى مجالات أخرى - يأتي على رأسها كلّ من المجال الاقتصادي والمالي والثقافي - ستحصل لها أضرارٌ ضخمة وعميقة ستدفع ثمنَها غاليا الملايينُ من مواطني عدد كبير من الدول في العالم من الطبقات الفقيرة والوسطى على وجه الخصوص.

في ضوء هذا الإنذار الأحمر من تبعات الضربة العسكرية ضدّ إيران إنسانياً واقتصادياً ومالياً وثقافياً، يحسن بنا أن نعيد صياغة السؤال المطروح أعلاه حتى يدرك القارىءُ حجمَ وهولَ الزلزال الإقليمي والعالمي، الذي ينتظرُ العربيَ وغير العربي، المسلمَ وغير المسلم: هل يوجد فعلاً شيء أبشع وأشر من "الكارثة المأساوية اليقينية" التي ستنتج عن مهاجمة إسرائيل بالمعونة الأمريكية – مباشرة أو غير مباشرة – لإيران؟ هل العالم مستعدّ لمواجهة اشتعال المنطقة العربية والإسلامية بكاملها، ودخولها في دوامة من العنف أو تعرّضها لردود فعل هزّات الزلزال العسكري؟ هل فكّرنا بجدّية في إمكانية سقوط أعداد كثيرة أي آلاف من الضحايا الأبرياء (أكانوا من العرب والمسلمين، أو من اليهود وغيرهم.. كلّ نفس بشرية بريئة تبقى مقدّسة كيفما كان أصلُها ودينُها) والجرحى؟ هل سنكون مستعدّين لرؤية البُنى التحتية، هنا وهناك، مدمرة بشكل يرجع ببعض الدول والمجتمعات إلى القرون الوسطى؟ هل سنكون قادرين على الصمود في وجه الأزمات المالية والاقتصادية التي ستنتج لا محالة من اندلاع الحرب بين إيران وحلفائها، وإسرائيل وأصدقائها؟ هل نقبل بالدخول في نزاعات وفتن واشتباكات دينية وثقافية بين المسلمين - الذين لن يروا بعين الرضا والمتفرج ما ستتعرض له إيران كدولة إسلامية على أيدي تحالف يهودي مسيحي – وبين الآخر المنتمي إلى قوى هذا التحالف؟

تُخفّف إسرائيل من كلّ هذه العواقب وتهوّن من شأنها، وكذلك تفعل الإدارة الأمريكية، ويتبعهما في هذا الموقف بعضُ الزعماء الغربيّين الذين يقللون على سبيل المثال من ردود أفعال المسلمين ويعتقدون أنّ النزاع السياسي بين السنة والشيعة كفيل بردع العالم السني عن التجاوب السلبي مع الهجوم على إيران، بل يراهنون على ردود فعل إيجابية نظرًا – حسب رؤيتهم للأشياء – لما ستؤدي إليه العمليةُ العسكرية من شلّ النفوذ الشيعي، والحدّ من تقدّمه في العالم الإسلامي.. وحتى إذا ما سلّمنا بصحّة هذا الأمر فإنّه ينطبق فقط على الأنظمة الحاكمة، أما الشارع العربي الإسلامي فلا يشاطر حكامَه هذا الموقف بل يرفضه ويُحذّر منه..

لا يعرف أحدٌ بالضبط ما الذي سيحدث إثر الضربة العسكرية، لكن الردود والتداعيات ستكون عنيفة جداً ومؤلمة على جميع المستويات، وبعض الوزراء في إسرائيل يعترفون صراحة بأنّ حربًا ضدّ إيران ستكون كابوساً (ليبرمان) على الجميع، ومع ذلك يتجاهل متخذو القرارات من المسؤولين السياسيين والعسكريين في إسرائيل وأمريكا كلّ التحذيرات. لماذا ياتُرى؟ لأنّ الثمن الغالي الذي تتطلبه التكاليفُ الباهظة للهجوم على إيران لا يرقى في تقييماتهم إلى مستوى "هدف الأهداف" الذي يُرادُ تحقيقه..

هذا الهدف له علاقة حميمية بإرادة تتجاوز بكثير ظروفَ السياسة من انتخابات، وتحالفات حزبية وقواعد أخرى من قواعد اللعبة الديمقراطية. إنّها إرادة من طبيعة عقدية وإيديولوجية راسخة في تصوّر إسرائيل لأمنها ومستقبلها ووجودها. وهو تصور يقول بحتمية و"قداسة" تفوّقها العسكري على المسلمين والعرب، وبضرورة خدمة مصالحها بنفسها انطلاقا من قيمها ومبادئها القائمة على عنصريْ "النخبة المختارة" و "الوعد الإلهي"، وما يترتّب عنهما من الحق الديني والتاريخي في الهيمنة والتوسع والاستعمار. ولا يخفى على أحد أنّ هذه الرؤية للأشياء لا تعترف بالقانون الدولي لأنّه من صنع البشر، ويمشي في اتجاه ينفي الإرادة الإلهية، كما أنّها تقرّ بعدم مساواة البشر (أفراداً وجماعات ودولاً) أمام القانون، لهذا تتعامل إسرائيل مع القرارات الدولية وبنود الهيئات والمؤسسات الأممية بغطرسة واحتقار.

إنّ موقف الغرب من برنامج إيران النووي يندرج في إطار علاقاتها السياسية ومواقفها التوسعية الامبريالية من القضايا العربية والإسلامية. وهذا الموقف الذي تمثله خير تمثيل الفرنسية طِريز دِلْبِش Thérèse Delpech (المديرة السابقة للشؤون الاستراتيجية لوكالة الطاقة الذرية) ينبع، كما يقول باسكال بونيفاس Pascal Boniface في كتابه الأخير "المثقفون الملفِّقون: الانتصارُ الإعلامي لِخُبراء الكذب" (طبعة ج.ك. كاوسيفيتش، 2011، ص120)، من عقيدة شبه رسمية راسخة عند أغلب ساسة العالم الغربي تقول بأنّ الغرب له قيم كونية إنسانية، وينظم حياتَه السياسية وفق إطار ديمقراطي لا تشاطره فيها معظمُ بقية بلدان العالم، الذي تحكمه أنظمة ديكتاتورية معادية للغرب. لذلك على الغرب أن يظل حذرًا، ويسعى إلى حماية نفسه من كلّ من هو ضدّ القيم الكونية الإنسانية، وذلك بكل الوسائل حتى ولو كانت عسكرية.

وانطلاقاً من هذه الفكرة، يدّعي هؤلاء، بل ويسلّمون، بأنّ السلاح النووي لمّا يكون في أيديهم وأيدي إسرائيل، هو شيء مقبول لأنهم يحكّمون الديمقراطية في شؤونهم وما استجدّ من مشاكل في العالم! لكن لمّا يتعلق الأمرُ بالآخرين، فإنّهم يجزمون بأنْ لا حقّ لهم في امتلاك هذا السلاح بدليل أنّ مراجعَهم اللاديمقراطية غير موثوق بها، ومن شأنها ليس فقط أن تسمح باستعماله بل أن تُسَهّل تسريبَه إلى الخارج وتصديرَه إلى الجماعات "الإرهابية".

ولا فائدة من التدليل هنا على أنّ عدداً هائلاً من الخبراء والمثقفين ورجال السياسة الغربيين يروّجون لهذه العقيدة، ويسخّرون لخدمتها كلَّ جهد ووقت، وفكر ومال، ودعاية كاذبة وتلفيقات (لا يجب علينا أن ننسى كذبة أسلحة الدمار الشامل في عراق الرئيس الراحل صدام حسين التي لم يعثر عليها أحد حتى اليوم). وهؤلاء يحذّرون في تدخلاتهم وأنشطتهم، وأعمالهم وتقاريرهم من إغفال واقع البحوث العلمية النويية في الدول العربية والإسلامية، وإهمال ما توصلت إليه من نتائج والتطورات التي حصّلت عليها. وهم يمارسون كثيراً من الضغوط على كل الهيئات والمؤسسات الدولية المكلفة بمتابعة ما يحدث في هذا المجال، حتى تسرع في التدخل وتذعن لرغباتهم وأهدافهم. ولهذا لم يندّدوا بقتل العلماء الإيرانيّين، بل ربّما وجدوا في ارتكاب هذه الجريمة الخطيرة التي يحارب أصحابُها العلمَ والمعرفة والعقل شيئاً يدعو إلى الارتياح.

ولا يحسبنّ أحدٌ أنّ الشعوب العربية والإسلامية ساذجة إلى درجة أن يغيب عنها ما يحرّك الساسة الغربيين في التعامل مع قضاياها: إنّها لا تشكّ لحظة واحدة في أنّ بواعث أخرى كإرادة الهيمنة على أراضيها، والسطو على ثرواتها من بترول وغاز مثلاً، تقف وراء تجنيد كلّ ما بوسع الغرب للحيلولة دون انتشار العلوم في صفوف مواطني المجتمعات العربية والإسلامية، واقتناء الوسائل التقنية الضرورية للقيام بالتجارب في المختبرات وتطوير سبل البحث ومناهج الاستكشافات.

وترى هذه الشعوب أنها كلما حققت نجاحًا مرموقاً أو تقدمًا ملموسًا على مستوى المعرفة العملية والتكنولوجية في الميدان الذرّي والفزيائي والكميائي، إلا وشكّكت القوى السياسية الغربية فيه ورمت بظلال الريبة حول الأهداف منه. وعلى الرغم من نفي إيران أن تكون لها قنبلة نووية أو تفكّر في صنعها وأن تكون أهدافها من تطوير برنامجها النووي عسكرية، فإنّ القوى الغربيّة (الليبراليية - الانتهازية، المصنّعة للأسلحة الفتاكة بكلّ أنواعها) لا تتّسع عقولُها لتصور وجود علم وإنجازات علمية عند المسلمين والعرب من أجل أهداف مدنية وسلمية.

فلا غرابة إذن أن نرى العالمَ الغربي يعير كبير اهتماماته إلى كلّ البرامج العلمية في المنطقة العربية والإسلامية، ويفرض عليها رقابة وشروطاً تتوسل دائماً بالقوانين والعقود الدولية كعلل لفرض حذر عليها ومحاولة إيقافها أو تجميدها ومنعها.

في ضوء هذا السياق، لا نظنّ أنّ القارىءَ سيتفاجأ بالجواب على السؤال المطروح في بداية هذه الورقة. يُعْزى للسيناتور الأمريكي McCain John جون مكاين تصريحٌ مشهور - يُرجَعُ إليه وكأنّه برهان قاطع على صحة الموقف ونزاهة الرأي - يقول فيه: "الشيء الوحيد الذي يمكن له أن يكون أسوء وأشرّ من العملية العسكرية ضدّ إيران هو إيران النووية"!

ياله من جواب وياله من أسلوب إقناع! يالها من عملية بهلواني، وياله من مشهد سحري! المهرّج التعب الهرم يفاجأ المنبهرين بحركاته البائسة اليائسة في سيرك اللغة بالكشف عن كلمات لم يكن ينتظرها أحد! برافو عليك يامكين، لقد برهنتَ على أنّك تُجيد بامتياز ممارسةَ أسلوب الأدبيات الرخيصة التي تستهزىء بالعقل الإنساني وتشتم جانبَ الذكاء فيه بكلّ وقاحة!

أنْ يكذبَ الإنسانُ على الناس من أجل تضليلهم فهذا شيء فيه شرّ كبير، لكن أن يكذب الإنسانُ على نفسه فهذا هو الشرّ بعينه!

 

كاتب عربي يقطن بفرنسا