يشير الباحث المصري لنقاط يجب أن تُأخذ بعين الإعتبار من قبل لجنة الدستور، خاصة تلك التي تتعلق بتكريس المواطنة، وحرية الإعلام، والإدارة المشتركة للموارد، ووضع سياسية بيئية معاصرة، إضافة للتعامل العملي مع المفاهيم المطلقة المجردة مثل الحرية والمساواة والعدالة.

رؤى وأفكار حول الدستور الجديد

إسماعيل سراج الدين

الدستور هو الحاضر الغائب في النقاشات الحالية، الكل يتحدث عنه، وعن تشكيل لجنة المائة التي ستضع الدستور، وقد يتطرق النقاش بشكل استقطابي عند النظر للعلاقة بين الدين والدولة، أو يتعرض بشكل هامشي لأنظمة الحكم التي تصلح لمصر، هل هو النظام الرئاسي أم البرلماني أم المختلط؟ في كل ذلك الفكر الدستوري الحديث غير حاضر في النقاش، والقوالب الجامدة هي التي تهيمن على النظرة للدستور، دون إيلاء الأهمية الكبرى التي حدثت في هذا الصدد على مدار العقود الماضية.

نحن نضع دستوراً في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، كيف نفكر في الدستور؟ هل نستلهم دساتير سابقة جاءت في عصر غير العصر، وتصدت لمشكلات غير المشكلات الآنية، وانشغلت بتطلعات إلى مستقبل غير ذلك الذي نتطلع إليها؟

أنني أفضل أن أطرح على القراء الأعزاء، والقوى والحركات السياسية، والفقهاء الدستوريين بعضاً من الأفكار والقضايا، المسكوت عنها في الحوار حول الدستور المقبل، توضح كيف أن الفكر الدستوري بحاجة إلى التفكير خارج "الصندوق"، والنظر بشكل أكثر رحابة إلى مستقبل لم تتضح معالمه، ولم تظهر قسماته بعد. وسوف تلاحظون، أن ما أطرحه من أفكار يمكن أن تطبق في ظل أي نظام حكم، برلماني أو رئاسي أو مختلط، مركزي أو مفرط في صلاحيات المحليات، لا يهم، لأن هذه الأفكار تمثل علامات للتوجه المستقبلي، لا يصح أن يتغافلها واضعو الدستور في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

القضية الأولى: المواطنة، لأول مرة على مستوى العالم، الذي يبلغ عدد سكانه 7 مليارات نسمة، هناك ما يقرب من 3% من المغتربين، أي الذين يحملون جنسية دولة، ويعيشون لأسباب اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية في دولة أخرى. في السابق، كما شاهدنا في الهجرات الأوروبية للولايات المتحدة تنقطع صلة المهاجر بوطنه الأصلي، وهو ما لا يحدث الآن في أحيان كثيرة، حيث يظل حضور "المجتمعات المهاجرة" في السياسات الخاصة بالأوطان التي هاجروا منها ملحوظ ومتنام. هنا يصبح من الضروري إعادة التفكير في مفهوم "المواطنة"، وعلاقتها بالزمان والمكان والميلاد، والجنسية والتجنس وإزدواج الجنسية، وغير ذلك من الأسئلة، وما قد يترتب عليها من أسئلة فرعية: هل يكتسب الشخص جنسية الدولة لميلاده على أراضيها؟ أم لميلاده من أب وأم أو أي منهما يحمل جنسية الدولة؟ ما الموقف من التصويت في الانتخابات؟ إذا كان هذا الأمر مقررا لحملة الجنسية المصرية في المهجر حتى إذا كانوا مزدوجي الجنسية، فماذا عن أبنائهم في المهجر، الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين... الخ؟

القضية الثانية: المجتمع المدني، حيث لايزال لدينا التعريف الكلاسيكي للسلطات الذي قدمه مونتسيكو في القرن الثامن عشر، وهو التفرقة ما بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. الآن يتشكل المجتمع الحديث في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين من سلطات أخرى إلى جوار السلطات الثلاثة، ومنها مثلاً المجتمع المدني، الذي تنامي كماً وكيفاً، وأصبح طرفاً رئيساً في صنع السياسات العامة محلياً وإقليمياً ودولياً. خذ مثلاً الأمم المتحدة، رغم أنها تقوم على مفهوم السيادة للدولة بمعناه الكلاسيكي، إلا أنها لم تعد تستطيع أن تعقد قمة دولية لممثلي الدول دون عقد قمة موازية لمنظمات المجتمع المدني. وهناك منظمات غير حكومية دولية- مثل المنظمات البيئية العالمية ومنظمات حقوق الإنسان والشفافية الدولية- أصبحت لها قوة تأثير عبر الحدود وعلى الحكومات، وتتخطي مفهوم السيادة بمعناه التقليدي من حيث السيطرة على بقعة جغرافية، وسكانها من خلال تداخلها مع المنظمات غير الحكومية المحلية. وإذا كنا من ناحية أخري نرجو تعزيز الديمقراطية في المجتمع المصري، وغيره من المجتمعات العربية، فلا مفر من تدعيم منظمات المجتمع المدني، خاصة في ضوء الدراسات الكثيرة المتعاقبة التي أثبتت كيف أن انتشار الديمقراطية يرتبط بتمدد هذه المنظمات كما وكيفا. فلا يجوز أن يركز الدستور على السلطات الثلاث وتوصيفها وتحديد العلاقات بينها، بينما يترك المجتمع المدني لينظمه قانون تحت سيطرة وزارة واحدة من السلطة التنفيذية.

القضية الثالثة: الإعلام، هناك مقولتان سادتا الإعلام. مقولة اشتراكية تري ملكية الدولة لوسائل الإعلام، ومقولة أخرى نقيضة لها تري ترك الإعلام لملكية القطاع الخاص، يخضع لتقلبات السوق، ويقدم ما يرتأيه ملاك الوسيلة الإعلامية. قد نجد أنفسنا في موقف الرفض للإثنين معاً. لابد من تفكير مختلف، والبحث عن صيغة جديدة للتعامل مع الإعلام الذي بات تأثيره يتخطي المفهوم التقليدي لسيادة الدولة، ونحن الآن في عصر الفضائيات والسموات المفتوحة، وإذا كنا سوف نضع دستوراً لمصر لعقود تالية، لابد أن نفكر جدياً في صيغة جديدة للتعامل مع الإعلام، جديده وقديمه، الإعلام الجديد والإعلام التقليدي، فمن كان يمكن أن يتصور منذ عشر سنوات الدور الذي تلعبه الآن مواقع التواصل الاجتماعي "الفيس بوك" و"التويتر"؟ وماذا سيأتي من وسائل جديدة في هذا الإعلام الجديد في السنوات القادمة لتلعب مثل هذا الدور التأثيري الهائل، والذي أدى إلى إشعال ثورات؟ كل ذلك يهز المفاهيم التقليدية في الدستور. هناك مثلاً اليوم من يطالب بأن يصبح "الحصول على الانترنت" حقاً من حقوق الإنسان يضاف إلى طائفة الحقوق المدنية، السياسية، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الواردة في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، والعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كيف يمكن أن نضع دستوراً في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين دون أن نستشرف قضايا وإشكاليات على هذا النحو، ولن يفيد العودة إلى الدساتير السابقة في استلهام حلول لهذه الإشكاليات.

القضية الرابعة: الفكر البيئي الذي أصبح مؤثراً على المستوى الكوني، منذ مؤتمر "ريو دي جينارو" عام 1992، ومن الطبيعي أن يعرف طريقه إلى دساتير الدول المختلفة. نجد إشارات على ذلك في دستور جنوب أفريقيا الذي وضع في عهد الرئيس نيلسون مانديلا في الحديث عن المياه والغابات، لكنه لم يقدم تصوراً متكاملاً للتعامل مع البيئة. يطرح الفكر البيئي قضية مهمة هي مسئولية الأجيال الحالية تجاه الأجيال المستقبلية، والمسئولية تجاه كوكب الأرض، وكل الكائنات الحية به. هذه التصورات لم تكن موجودة من قبل. في الدساتير السابقة كانت الأجيال الحالية تنظم الأمور من وجهة نظرها، وفي يقينها أن الأجيال المستقبلية سوف تمضي على نفس المسار.

القضية الخامسة: الإدارة المشتركة للموارد، حتى الآن لا يزال هناك التصور التقليدي السائد بأن الدستور ينطلق من، ويؤكد على السيادة المطلقة للدولة على منطقة جغرافية معينة، ولكن هذا التصور، فضلاً عن أنه يتعرض لتحد حقيقي من جانب المجتمع المدني والإعلام، وكلاهما أصبح يتداخل مع قوي عالمية وغير قابل لهذا التحديد الجغرافي التقليدي، كما سبق الحديث، فإن هذا التصور الجغرافي يقف حائلاً أمام الإدارة المشتركة للموارد، وهو أمر لا غنى عنه في العصر الحديث، وسوف يزداد مستقبلاً لمواجهة التحديات، مثال على ذلك قضية مياه النيل، لن يمكن حلها دون تعاون مع دول حوض النيل.

القضية السادسة، إشكاليات في التعامل الواقعي مع تطبيقات المفاهيم المطلقة المجردة مثل الحرية والمساواة والعدالة. أظن أنه من المفيد حين نضع دستوراً في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين أن نرصد الإشكاليات التي مرت بها الدول الديمقراطية خلال الخمسين أو الستين عاماً الأخيرة من عمرها، في محاولتها لتطبيق أنظمة تضمن تحقيق هذه القيم النبيلة، ومنها مثلاً التعامل مع الحرية والمساواة والعدالة. الأصل الذي تأخذ به الدساتير أن المواطنين سواء أمام القانون بصرف النظر عن الأختلاف في اللون أو الدين أو الجنس أو العرق أو ما شابه. هذا هو المبدأ الأساسي، ولكن هناك من يري أن الناس لا يتمتعون- واقعياً- بالمساواة لأسباب عديدة منها فسيولوجية، واجتماعية، وتتصل بالمواهب والمهارات والذكاء الخاص بكل شخص. وبالتالي المجتمع لم يعد مجتمعاً عادلاً، بمعنى من المعاني. حل هذه الإشكالية استغرق نقاشات وطرح أفكار منها- على سبيل المثال- مفهوم "الحصة في المقاعد البرلمانية" أو ما يطلق عليه "الكوتا" وهو اختراع لتعزيز تواجد وتمثيل الفئات المهمشة. قد يقول البعض أن ذلك يخل بمبدأ المساواة أو الحرية (فيقيد حريتي كرجل أن أترشح على مقعد في كوتة المرأة) ولكن من ناحية أخرى يعزز هذا الإجراء مبدأ العدالة، بشرط أن يكون اللجوء إليه مؤقتاً حتى تتعادل مرة أخرى دفتي الميزان في المجتمع. من هنا في الحالة المصرية يجب أن نجري بحثاً دقيقاً لمعرفة الفئات المهمشة، ونضع من الحلول ما يساعدها على التمكين السياسي والاجتماعي، والتمثيل الأفضل في المجالس المنتخبة. هذه ليست قضية ايديولوجية، لكنها تتعلق بالخريطة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في المجتمعات، وقد يكون الآن ملائماً إعادة النظر في تخصيص نصف مقاعد البرلمان على الأقل للعمال والفلاحين، والبحث في فئات أخرى أقل حضوراً، وتمثيلاً، وأن يكون في الدستور فكر في المعايير التي يحسن أن يراعيها المشرعون عند البحث عن توافق بين القيم النبيلة التي لا يختلف عليها اثنان في صورتها المجردة المطلقة.

هذه  الأفكار، وهي قليل من كثير ينبغي أن تحظى بقدر من الاهتمام في هذه الفترة، بصرف النظر عما إذا كان الاختيار أن يكون النظام برلمانياً أو رئاسياً أو مختلطاً، المسألة أكثر عمقاً من ذلك تتعلق بمضمون التقدم، والرغبة في مواجهة تحديات العصر.

 

مدير مكتبة الإسكندرية