رغم التدهور الخطير في العلاقات بين الإسرائيليين والفلسطينيين في العقد الأخير، ورغم التوسع المسعور في الاستيطان الصهيوني، يرى الكاتب حتمية التمسك بالأمل. وبأنه على الطرف الصهيوني ضرورة إدراك أن حل القضية سياسي لا عسكري، ويجب التصرف على نحو عقلاني، خاصة بعد استنفاذ كل البدائل الأخرى.

إسرائيل وفلسطين .. رقصة الموت

هاني حجّــاج

يقول آفي شليم في مقدمة كتابه الهام "إسرائيل وفلسطين.. إعادة تقييم" أنه منذ عام 1993 والسؤال موجود: من هو المصيب ومن هو المخطئ؟ من لديه التحليل السليم؟ متى كانت الأمور تسير على ما يرام، ومتى تم تحقيق أي خطوة نحو الأمام، وحينما تم توقيع اتفاقية أوسلو الثانية، على سبيل المثال، كان يظن على صواب وأن إدوارد سعيد كان مخطئاً. وحينما أصيبت العملية السياسية بالشلل بسبب العودة المحتمة إلى العنف، اعتقد أن إدوارد سعيد كان على حق وإنه كان مخطئاً. ومن خلال الرؤية المتاحة له اليوم، بعد مرور ستة عشر عاماً، لا مجال للشك في إنه كان مخطئاً وأن إدوارد سعيد كان على حق في تحليله لطبيعة وقصور اتفاقية أوسلو. بإيجاز، رأى شليم أن إسحاق رابين هو رئيس الوزراء الوحيد في تاريخ إسرائيل الذي تحلى بالشجاعة والإخلاص والعزيمة لكي يمضي قدماً مع الفلسطينيين نحو حل الصراع.

بين من قاموا بتدمير اتفاقيات أوسلو هناك مكاناً خاصا لأريل شارون، زعيم حزب الليكود ورئيس وزراء إسرائيل من عام 2001 وحتى 2006. ومن الشائع على نطاق واسع أن جورج دبليو بوش وصف شارون بأنه رجل سلام! وعلى ضوء معتقداته فقد كان ذلك بالفعل. ولكن بناء على أي معيار طبيعي، كان شارون رجل حرب. لقد كان بطل الحلول العنيفة، والحاصل على المرتبة الأولى في التصرف من جانب واحد، إنه رامبو اليهودي. يجسد شارون التوجهات الأكثر وحشية واستعماراً وانتقاماً وعنصرية في الحركة الصهيونية. وعبر تعاملها مع السكان العرب، كانت الحركة الصهيونية تعتمد بشكل أساسي على القوة العسكرية وعلى خلق "الثوابت على الأرض" في هيئة مستوطنات يهودية في الأراضي المتنازع عليها. لقد أدت هذه المستوطنات إلى تخريب المفاوضات التي كان يرجى منها أن تقرر مصير الأراضي المحتلة. ورفضت حكومة شارون استئناف المفاوضات الخاصة بالوضع النهائي للأراضي المحتلة، كما جاء في اتفاقية أوسلو. عوضا عن ذلك، أطلقت العنان للتوسع في المستوطنات اليهودية وتدمير منازل الفلسطينيين وبناء "جدار أمني" عبر الضفة الغربية، وتقويض السلطة الفلسطينية وتمزيق أوصال الضفة الغربية إلى مجموعة من المقاطعات التي ليس بينها أي اتصال جغرافي. بإيجاز، كان الهدف النهائي للحكومة الإسرائيلية هو الإبادة السياسية التامة: بمعنى إنكار أي حق في الوجود السياسي المستقل على الفلسطينيين.

وصلت سياسة نبذ الدبلوماسية في ظل حكم إيهود باراك، نائب شارون وخليفته، والاعتماد المطلق على القوة العسكرية إلى ذروتها مع العدوان على غزة الذي بدأ في السابع والعشرين من ديسمبر 2008. لقد صورت الرعاية الرسمية الإسرائيلية عملية "الرصاص المسكوب" على أنها عمل من أعمال الدفاع عن النفس بهدف وقف هجمات حماس الصاروخية على المدنيين في جنوب إسرائيل. ولكن كان الهدف الحقيقي من الهجوم هو الإطاحة بحماس من السلطة (التي فازت بها في انتخابات نظيفة حرة ونزيهة في يناير عام 2006) وإرهاب شعب غزة لإرغامه على الخضوع وسحق كل أشكال المقاومة للاحتلال الإسرائيلي وكبح جماع الكفاح الفلسطيني من أجل الاستقلال وبناء الدولة.

كانت محاولة سافرة من جانب إسرائيل لفرض شروطها على الفلسطينيين دون أدنى اهتمام بالوسائل الديمقراطية، أو بحقوقهم، أو تطلعاتهم المشروعة. كان من أكثر جوانب هذه الحرب إثارة للأس القصف العشوائي بواسطة الجيش الإسرائيلي (أو جيش الدفاع الإسرائيلي، كما يدعي)، والوحشية الهمجية تجاه المدنين والعدوان على المدارس وخازن الغذاء التابعة للأمم المتحدة. وتقوم المحكمة الجنائية الدولية على نحو عاجل بالنظر فيما إذا كانت السلطة الفلسطينية "مؤهلة كدولة" لكي تقوم دعوى تتهم فيها القوات الإسرائيلية بارتكاب جرائم حرب في هذا الصراع الأخير. وحتى بدون المحاكمة عن الجرائم، فإن العدوان البشع على شعب غزة قد سحق إلى غير رجعة أي زعم بأن إسرائيل كان لديها في أي وقت أية مبادئ أخلاقية عالية.

إن الموت والدمار الذي ألحقته إسرائيل بالمدنيين الأبرياء في غزة يثير تساؤلا يقول: كيف يمكن لشعب كان ضحية لمثل تلك القوة غير المسبوقة أن يتحول إلى جلاد وحشي لشعب آخر؟ لقد تكلم كثيرا (سالو بارون)، المؤرخ الأمريكي اليهودي، عن الرؤية المأساوية للتاريخ اليهودي، ذلك التاريخ المتجسد في سلسلة لا نهائية من المعاناة اليهودية والتي بلغت ذروتها في الهولوكوست الشهير. إن اليهود صادقون في زعمهم بالفعل أنهم ضمن الشعوب الأكثر اضطهاداً، هذا إذ لم يكونوا الشعب الأكثر تعرضاً للاضطهاد على مدار التاريخ، ولكن تاريخ إسرائيل شيء آخر. فمنذ عام 1948، والإسرائيليون يقومون بدور الجلاد، وأدى انتصارهم في يونيو 1967 إلى تحويلهم إلى طغاة ينتهجون العنف ويدمنوه. أما إدوارد سعيد فله وجهة نظر تختلف عن تلك الخاصة بالغالبية العظمى من الفلسطينيين عن العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، حيث يصف هؤلاء بأنهم ضحايا لأولئك الضحايا. فهو يرى أن كلا الشعبين كان "تجسيداً للمعاناة". هذا لأن اليهود عانوا الكثير على أيدي النازي، حسبما يقول سعيد، لدرجة أن أصبحوا مهووسين بالأمن وانتهى بهم المطاف إلى أن أصبحوا طغاة مستبدين. ويساهم هذا المنظور في شرح السيكولوجيا الكامنة خلف العنف الإسرائيلي والمعاملة غير الإنسانية للفلسطينيين، ولكنه لا يبررهما.

هل هناك حل سلمي غير عنيف لهذا الصراع الذي يبلغ عمره قرناً من الزمان؟ يبدو للوهلة الإنسانية الأولى دون نباهة فكرية أن الحل الوحيد العادل والمنطقي هو تقسيم فلسطين، أي حل الدولتين. ومن خلال توقيع اتفاقية أوسلو، نبذ الفلسطينيون الكفاح المسلح واختاروا حل الدولتين. لقد تخلوا عن مطالبتهم بثمانية وسبعين بالمائة من فلسطين تحت الانتداب وذلك مقابل الحصول على دولة مستقلة على الإثنتى والعشرين بالمائة الباقية، المكونة للضفة الغربية وقطاع غزة. ولكن خلال العقد الأخير، اتجهت إسرائيل على نحو مستمر نحو اليمين ونتيجة لذلك أصبحت شروطها الخاصة بالتسوية أكثر صعوبة. لم يقبل حزب الليكود إنشاء دولة فلسطينية مستقلة. وتدافع الأحزاب الأكثر يمينية على نحو سافر عن سياسات عنصرية مثل الطرد الجماعي للفلسطينيين. كما لم يكن موقف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة نحو الفلسطينيين متوافقاً مع التسوية. فالتسوية لا يمكن أن يفرضها القوى على الضعيف. ولكن التسوية الحقيقة لا تولد إلا من رحم الاحترام المتبادل وتحقيق مبدأ المساواة.

وعلى الرغم من التدهور الخطير في العلاقات بين الإسرائيليين والفلسطينيين في العقد الأخير، فالتمسك بالأمل مسألة شبه حتمية أو بالأحرى لا يوجد سواها. وفي الوقت الحاضر، يشتبك الإسرائيليون والفلسطينيون في رقصة مدهشة للموت. ولكن على المدى الطويل، قد يدرك الإسرائيليون خطأ الأساليب التي يستخدمونها وقد يدركون في النهاية أنه لا يوجد حل عسكري لما هو في الأساس مشكلة سياسية. يوماً ما قد يتوقفون عن خداع أنفسهم من خلال الوهم القاتل بأن أمن بلادهم مرهون بالممارسة أحادية الجانب للقوة الغاشمة. وكتب التاريخ تعطي الدرس للشعوب، مثل الأفراد، كيف يمكن أن تتصرف على نحو عقلاني، بعد أن تستنفذ كل البدائل الأخرى.

 

Hany_haggag@hotmail.com