حين استيقظ عمر أميرالاي في صباح السبت 5 شباط/ فبراير 2011 من العام الماضي، كان يجهل حقيقتين على جانب كبير من الأهمية. واحدة ستغير مجرى تاريخ العالم عموماً وتاريخ بلادنا العربية خصوصاً، أما الثانية فسيكون لها أثر مأسوي على حياته. فأبو السينما التسجيلية السورية، كما يلقبه من عرفه عن قرب، ومن أحبه وقدر فنه الراقي، كان في تلك الأيام يراقب ويشاهد عبر شاشات وكالات الإعلام العربية والأجنبية، ومعه الملايين حول العالم، ما كان يجري في ساحة التحرير في مصر. فالثورة التي كانت قد اشتعلت في تونس في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 وأجبرت ديكتاتورها على الهروب في أقل من شهر، كانت ما لبثت أن انتقلت بالعدوى إلى مصر في 25 كانون الثاني/ يناير 2011. وما كان لايعرفه عمر ذلك الصباح أن ديكتاتور مصر نفسه، وبعد ستة أيام بالتحديد، سيتخلى هو أيضاً بدوره عن السلطة التي استبد بها لحوالي الخمسة والثلاثين عاماً، والتي كان يحضر لتسليمها لابنه على الطريقة السورية. بل كان لا يعرف أيضاً، ولا أحد حول العالم يعرف، أن هاتين الثورتين ستصلان بعد حوالى الشهر إلى بلده سورية بعد أن تمرا أيضاً عبر اليمن وليبيا.
ولكن عمر أميرالاي لم يكن يشاهد تلك الأحداث كغيره من بقية المشاهدين، بل كان يفعل ذلك كواحد ممن بدأوا بزرع بذور الثورة بأنفسهم منذ أكثر من أربعين عاماً. فالرجل اليساري الاتجاه المتحمس للاشتراكية كان قد عاد إلى سورية عام 1970 بعد أن درس السينما التسجيلية في العاصمة الفرنسية باريس. وصادف أن نشبت هناك خلال فترة دراسته مظاهرات الطلاب اليساريين عام 1968 فشارك فيها مع بقية زملائه، وتعلم منها أن التغيير لايمكن أن يأتي من دون المطالبة به وحتى من دون انتزاعه من الحاكم انتزاعاً إذا ما اقتضى الأمر. فكان أن دفعت تلك المظاهرات بشارل ديغول (رئيس الجمهورية الفرنسية الخامسة) لاجراء انتخابات مبكرة والاستجابة لمطالب المتظاهرين ثم الاختفاء عن الساحة السياسية نهائياً بعد عامين مما فتح المجال للاشتراكيين للوصول إلى الحكم بعد فترة قصيرة.
كان الانقلاب الذي قام به الأسد الأب في سورية ودعاه بالحركة التصحيحية مازال حديث العهد حين عاد عمر أميرالاي مخرجاً سينمائياً إلى الوطن. وبحسه الوطني وبحماس الشباب أراد عمر أن يساهم في بناء سورية الحديثة على الأسس الاشتراكية، وهي الدولة التي كانت تعرف حينها في المنطقة العربية بلقب جنة الاشتراكية، ولهذا ظن أنه سيكون بمثابة (المخرج المناسب في البلد المناسب). فقاده حماسه في نفس العام إلى منطقة الجزيرة السورية ليحقق باكورة أعماله (محاولة عن سد الفرات) لصالح المؤسسة العامة للسينما، والذي كان بمثابة المحاولة لتمجيد المنجزات الاشتراكية لنظام يدعي أنه يعمل بها. ولكن وفي هذه المرحلة بالتحديد وبعد هذا الفيلم بالذات، اكتشف شيئاً على جانب من الأهمية غير مجرى حياته إلى نهايتها، وهو أن هذا النظام الذي عاد ليعمل في كنفه وتحت مظلته، ليس له علاقة بالاشتراكية، كما وأنه لا يسعى إلى تحقيق الوحدة وغير مستعد لاعطاء الحرية، وذلك بعكس ما يقول شعار حزب البعث الذي يدعي النظام أنه يطبق سياسته.
وهنا كان أمام عمر الخيار بأن يعود إلى فرنسا ليعيش ويعمل هناك، خاصة وأن للسينما التسجيلية تقديراً وجمهوراً أوسع في أوروبا. إلا أنه اختار البقاء وتوظيف كاميرته وموهبته لنثر بذور التغيير، إن كان سلماً أو عن طريق الثورة. وقد فعل ذلك بالفعل، ليس فقط في سورية، ولكن في باقي الدول العربية. ولما رفض الحكام العرب، وخاصة الأكثر دموية منهم، أن يأتي التغيير سلماً، أتى عن طريق الثورات. فكان فيلم (هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يقولها المرء) عن هزيمة حزيران، وفيلم (مصائب قوم) عن الحرب الأهلية في لبنان، وفيلم (الحب الموءود) عن معاناة المرأة في مصر، وفيلم (عن ثورة) حول المعاناة في اليمن، وفيلم (الحياة اليومية في قرية سورية) عن التخلف في المجتمع القروي السوري، وفيلم (عطر الجنة) عن القضية الفلسطينية. وقد أنجز عمر خلال حياته الفنية حوالي العشرين فيلماً تسجيلياً كان يطرح في كل واحد منها سؤالين، الأول موجه إلى الحكام ويقول (ماهذا الذي تفعلونه بحق الشعب والمجتمع؟) والثاني موجه إلى الناس ويقول (ماذا تنتظرون لتطالبوا بحقوقكم؟).
وقد أتى فيلمه الأخير (طوفان في بلاد البعث) عام 2003 ليكون قمة أعماله بلا منازع، والذي تخلى فيه عن أسلوب التلميح والنقد غير المباشر إلى الاتهام الصريح للنظام الحاكم بارتكابه جريمة تاريخية بحق المجتمع السوري حين قهره وأرهبه وأوصله إلى الفقر والتخلف، لهدف واحد وهو تكريس سلطته وإحكام قبضته على كل مرافق الدولة. وهو وإن كان قد صوره في سورية، إلا أنه صاغه كبقية أفلامه بصورة شديدة المهنية والمهارة بحيث يمكن إسقاطه على كافة الأنظمة الديكتاتورية، ليس في العالم العربي فقط، ولكن في العالم كله. وذلك بعكس ما قاله أحد مسؤولي المؤسسة العامة للسينما السورية بعد يوم من وفاة عمر بأن أفلامه لم تصل إلى العالمية لأنها كانت (شديدة المحلية وضيقة الانتشار وتكاد لاتتجاوز حدود مواقفه الشخصية) وحتى لا يؤخذ عليه التحامل، اعترف ذلك المسؤول أن أفضل ميزات الراحل كانت وسامته!
وبالرغم من أن أفلام عمر أميرالاي وجدت طريقها إلى الكثير من المهرجانات السينمائية العربية والأجنبية وحازت على العديد من الجوائز، إلا أنها كانت ممنوعة بالكامل من العرض في الصالات السورية وتحت طائلة الملاحقة الأمنية. وهو نفسه كان قد تعرض للاعتقال والاستجواب لعدة ساعات بعد أن عرضت إحدى الفضائيات العربية فيلمه الأخير السابق الذكر. كما وتدخل النظام السوري عدة مرات للتوسط لدى حكومات عربية تشبهه بالطبيعة لسحب أفلامه من مسابقات المهرجانات السينمائية. فالرجل كان قد حصر مهام كاميرته على رصد الشقاء الانساني والمطالبة بالعدالة الاجتماعية وفضح الفساد والارهاب المحمي من قبل الدولة، وهي مهام ما كانت لتروق لأي نظام ديكتاتوري في العالم، والنظام السوري واحد منها. ولكل هذه الأسباب كان عمر في وطنه مهمشاً وهو الوهوب، ومقزماً وهو العملاق، كما وكان متبوعاً في كل خطوة يخطوها، ومنصتاً عليه في كل كلمة يقولها. وقد حاول النظام إغراءه وتدجينه واستمالته إلى جانبه بشتى الوسائل ففشل، وحاول ترهيبه ودفعه إلى الهجرة كما فعل ونجح مع ملايين السوريين ففشل أيضاً، ولم يحم الرجل من همجية النظام سوى عالميته، فلم تمض ساعات على اعتقاله بسبب فيلم (الطوفان) حتى انتشر الخبر على أمواج وشاشات الفضائيات العربية والعالمية، مما اضطرهم للإفراج عنه في نفس اليوم.
أما الحقيقة الثانية التي لم يكن عمر يعرفها حين استيقظ ذلك الصباح فهي أنه كان سيودع الحياة بعد عدة ساعات وبأزمة قلبية مفاجئة. ولكن ما جعل وفاته تضع الكثير من إشارات الاستفهام أن الرجل كان يتمتع بصحة جيدة يحسده عليها الجميع. فهو لم يكن يعاني من أي مرض كما ولم يتعرض لأي أزمة صحية ملفته للنظر من قبل، ولم يكن يشرب الكحول ولا يدخن، بالاضافة لكونه نباتياً لا يتناول اللحوم. هذا من جهة، ولكن من جهة ثانية، فقد كان أحد الموقعين على (إعلان دمشق) عام 2005 والذي طالب النظام بمنح المزيد من الحريات واجراء إصلاحات دستورية وانتخابات ديمقراطية، كما وكان قبل أيام من وفاته قد وقع على عريضة لدعم ثورة الشعب المصري السلمية. فهل كان هناك من رأى أن الثورة لابد وستصل إلى سورية عما قريب، وأن عدم وجود شخص مثله حينئذ سيكون أفضل بكثير من وجوده؟
كما أن أفلام عمر أميرالاي كانت ترسم الكثير من إشارات الاستفهام والتعجب خلال حياته، وتوجه أصابع الاتهام إلى جهات بعينها، فكذلك كانت الظروف التي أحاطت بوفاته. ولكن في نهاية المطاف، فإن الأسئلة التي كان يطرحها هو وأمثاله من المثقفين والفنانين العرب الأحرار في أعمالهم الشجاعة كانت في الحقيقة بمثابة بذور الثورات التي نشهدها اليوم والتي كان على الشعوب العربية أن تنتظر عشرات السنين قبل أن تجني ثمارها.