-1-
حين أصدر المفكر المغربي الدكتور عبد الله العروي الجزء الأول من "خواطر الصباح"، سرى اعتقاد لدى الكثير ممن تناول جانبا من جوانب الكتاب بأن هذا الأخير هو بمثابة توديع لعالم ألف العروي تناوله بألف يد وألف فكرة، وأن الكتاب سيكون، في أقصى الحالات، بمثابة خطبة وداع يلخص فيها المفكر جوهر أطروحاته الفكرية، من ناحية أولى، ويصفي مع مرحلة من تاريخ المغرب لم تنصفه بشكل ملموس من جهة ثانية ؛ لكن مع صدور الجزءين الثاني والثالث من الخواطر، اتضح لمن له رأي، أن العروي قد نوَّع، كما جرت عادته، من صيغ الخطاب، ليتمكن من قول ما يريد، وكي يتحرر من أوفاق المفكر الباحث الذي يحترم أصول التفكير وإواليات البحث.
-2-
لم تُكرَّسْ كتابةُ اليوميات عندنا، في المغرب، على الأقل، تقليدا أدبيا اجتماعيا، كما هو الحال في الغرب. ومعظم كتابنا لايميلون إلى هذا النوع من الكتابة، كما لم يميلوا إلى الأطبيوغرافيا. ومنهم من عدَّ ذلك مضيعة للوقت والجهد. فيما حظُّ هذا النوع (اليوميات) من الكتب المترجمة عن ألآداب الأخرى أقل من كتب السيرة والسيرة الذاتية. وقد يعود السبب ،في هذا، إلى الطابع الخاص لليوميات، وما تحفل به من تفاصيل وإسهاب في سرد الأحداث، ونقل المشاعر والانطباعات والتي يجدها القارئ العادي مملة، أو لا تعنيه من قريب أو من بعيد، فضلاً عن افتقار اليوميات إلى التماسك الدرامي، ذلك العنصر الذي يشد قارئ الرواية والأوطوبيوغرافيا. وكثير من مخطوطات يوميات الكتاب العرب تبقى منسية في الأدراج، وتتعرض للتلف المتعمد أو غير المتعمد، لاسيما أن عائلات الكتاب المتوفين، بحكم المواضعات الاجتماعية الحادة، لا تسمح بعرض أسرارهم وأسرار موتاهم في النور.
ومعظم الذين يدونون يومياتهم إنما يدونونها لأنفسهم ولايفكرون في نشرها على الملإ ؛غير أن الأمر لا يكون كذلك، غالبا، فيما يخص بعض الكتاب وعلى رأسهم الدكتور عبد الله العروي الذي قرر أن يكسر دائرة الصمت، وأن يثور على الحشمة أو الأمور التي تقال. بإيجاز. إن يوميات العروي هي دعوة لمواجهة النفس ومصارحة العالم، كي يتعلم قيم المراجعة، ويتربى على الحرية، حرية الثورة على ما اعتبره العروي، دوماً أصالة، أو ما سماه في كتابه "المغرب والحسن الثاني" بأصالة الجلابة والكسكس.
-3-
على العكس من كتاب اليوميات المألوفين( أمثال تولستوي، وجان جونيه وفرانز كافكا وأنابيس نن، وغيرهم كثير) الذين جعلوا من حيواتهم الخاصة ملاحم يبحثون لها عن خلود، فإننا مع صاحب "الخواطر" نجد أنفسنا قريبين من الجحيم، بعيدين عن جنة العواطف والمشاعر الجياشة. يكتب العروي عن ضعفه، وعن ضعفنا نحن المغاربة، ونحن العرب، في فترة خاصة من تاريخنا القومي والمغربي. خاصة وأن المؤلف عبد الله العروي فهم في السر والعلن أنه غير مرغوب فيه في رحاب الجامعة المغربية بسبب كتاباته غير المفهومة. وبين هذا وذاك تنشأ مناطق ظل تصلح للإقامة كما تصلح للهروب، فيها من الذاتية( حيث أن هناك أوراق وظفت في سيرة إدريس "أوراق") ما يجعلها سيرة ذاتية ، وفيها من الموضوعية ما يجعلها تاريخا. وفيها من الهم الأدبي ما يضفي على آراء العروي أصالة وعمقاً، وفيها من التحليل السياسي ما يجعل العروي صاحب نظر سياسي جدير بالقراءة.
- 3-
على هذه الوتيرة الحادة والصعبة يكتب عبد الله العروي انطباعاته اليومية، ليؤرخ لتفاعل الذات مع محيطها الصغير(المغرب) والمحيط الكبير( البلاد العربية). ولا غرو فإن اليوميات هي صيغة خطابية مختلفة لكنها تجد أنسابها في المدونة الأدبية التي تتشكل من الروايات والسير الذهنية. لليوميات صلة بأوراق إدريس بحكم أن كثيرا من الأوراق التي وردت في نص "أوراق" ذات صلة وطيدة بما في اليوميات، وأخال أن العروي فضل الاحتفاظ ببعض الأوراق أو تلك الأوراق التي قيل في نص "الأوراق" أنها ضاعت، لتجد طريقها إلى "خواطر الصباح" لكي ترتاح أخيرا من نسيان طالها لما يزيد عن أكثر من أربعين سنة، هل للأربعين علة كتابية في منطق كتابات العروي ؟ يعتبر العروي قارئا خاصا ومعلقا فطنا لما يقرأ، وإذا كانت أوراق إدريس مدونة غنية بالتلخيصات والتعليقات والاستنتاجات، فإن اليوميات تسير في نفس الدرب ونفس الطريق مولية للمقروء ما يستحق من العناية والتبصر.
وابتداء من الصفحة 70 يخصص صاحب الخواطر كثيرا من الكلام عن أحوال الأدب والثقافة العربيين فيتحدث عن أنشطته الثقافة وعلاقاته بالمستشرق فون غرونباوم والمهدي المنجرة وعلي الراعي وصادق جلال العظم وغاستون بونور وإبراهيم مدكور وغيرهم.يكتب العروي في تأبين صديقه المستشرق الأمريكي الألماني الأصل غرونباوم الذي وافته المنية إثر عملية جراحية بسيطة بتاريخ 28 فبراير 1972 :"في النهاية الثقافة مثل الثروة، لاتحمي من النسيان ". في مقاطع أخرى من
اليوميات يكشف العروي عن مدلول القراءة المتعددة، وأن يتغذى المثقف بكل شيء جميل، معناه أن يهب نفسه حيوات متعددة كما قال عباس محمود العقاد. يستدعي تجريدات "كاندنسكي"، وعوالم "كونديرا"، ومهارة "كونراد" وعبقرية"هنري جيمس". فالكلمات والصور التي أنتجها هؤلاء تفتح العيون والمسام، وتعطي القراءة إمكانية أن يضاعف المرء طاقة حواسه وكهرباء روحه. من هذه الناحية تتحول اليوميات إلى مدونة زاخرة بالصور والكلمات التي اقتبسها المؤلف ليبهر قارئه ويحرضه على القراءة المبدعة. سرد لتجربة القراءة، قراءة في القراءات، أدب يتخلل أدبا، تلك هي الصباحات بقهوتها الدافئة وشمسها الطفل، ووعيها الملتبس.فرغم الطابع الخاص باليوميات والمتمثل في تتبع الأحداث اليومية، أو وقائع أيام دون أخرى، حسب أهميتها التاريخية، فإن "خواطر الصباح" هي سلسلة من السرود المتدفقة، والمثابرة على الإظهار والإخفاء حتى لكأن ما يقوله العروي ليس إلا رأس جبل الجليد، حيث جزؤه الأهم ليس مما نراه أو نلمسه أو نشمه.
-4-
إلى جانب هذا، يهيمن على كتاب عبد الله العروي «خواطر الصباح»،أيضا، صوت المثقف في اليوميات، وحضور السياسي لا يتم إلا انطلاقاً من الهم الثقافي، وإن كان هناك غياب للسياسة فيها، فهناك حضور للسياسي( Le politique)، حيث يعبر الكاتب عن وعي حاد للمثقف العربي في المجتمعات العربية المعاصرة. فالعروي، وإن كان مهووساً بالسياسة، فإنه لم يغرق فيها على حد تعبيرعبد السلام بنعبد العالي. يقول بنعبد العالي في هذا الصدد: "ظل [ العروي]هنا أيضاً" "أستاذ تاريخ" يلاحظ ويسجل «كما يفعل المؤرخون القدامى»، لكنه ليس مؤرخ وقائع وأحداث، وإنما هو محلل شغوف بما هو سياسي، متابع للتطورات الدولية والعربية، "حامل لهموم بلاده وقضاياها المصيرية» (ص 31).
تنوس يوميات العروي، خاصة في جزئها الأول، بين هزيمة يونيو 1967، وبين ما عرف بانتصار أكتوبر 1973. وتكتسي هذه المرحلة دلالة كبيرة، وذلك على صعيد حركية وحراك الثقافة العربية وهي تروم تخوم الحداثة. لقد بنى العروي آمالا كبيرة على المثقف الثوري الذي يقطع مع المثقف التقليدي متأثرا بعناصر ثقافية خارجية مخصبة. غير أن العروي كان دوما يخشى من أن مواصلة نقد المثقف العربي قد يدفعه إلى التقليد، ذلك أن الخطاب المزدوج للغرب، وكيله بمكيالين، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ووقوف كثير من مثقفي الغرب وأمريكا إلى جانب إسرائيل ، سيكون لكل ذلك، حتما، عامل دافع ذاتي إلى التمسك بالتقليد ضدا على الحداثة الغربية الزائفة، يحصل سواء بالنسبة للمثقف التقليدي السلفي أو المثقف اليساروي الشعبوي.يقول العروي معلقا على هذا النفاق الغربي بإزاء حرب أكتوبر 1973 :"لا حظَّ للعقل فيما يذيعه ويكتبه الفرنسيون. يقول الوزير الأول :إن القوات المصرية والسورية هي المعتدية، ويتكلم الجنرال "غالْوا" (مُنظِّرُ الحرب النووية)عن الحدود الطبيعية لإسرائيل، ويتكلم الاشتراكيون عن إسرائيل الديموقراطية. " ويضيف الكاتب :"حسب هذا المنطق كان على العرب أن ينتظروا حتى تقرر إسرائيل من تلقاء نفسها الانسحاب من أرضهم المحتلة"(ص.195).إنه نفاق دائم لا نزال نعيش ذيوله ، وكأننا نعيش تاريخا يتكرر ببشاعاته وحروبه. كما لا يخفي الكاتب نظرته النقدية إلى "السياسي "، يقول محاولا صياغة صورة تقريبية للسياسي :
"السياسي البئيس. رأيته أمس بالمصادفة يسير مترنحا على رصيف كرنفال دو فنيز. قلت له : هل لك أن تشرب قهوة معي قبل أن تعود إلى الرباط. قبل على مضض.
جلسنا إلى مائدة في مقهى سايان. سألته عن أحوال المغرب فتأوه، وعن أحداث الشرق العربي فتأوه. يدخن بلهف ويتأوه. طرق سمعي أنه على أهبة الزواج رغم تقدمه في السن، بعد أن عاشر طيلة سنين نساء جميلات أنيقات من طراز لا وجود له عندنا ،على الأقل في محيطه الاجتماعي. أنصتُ لما يقول وأشعر أنه يتحفظ، يحسب ألف حساب قبل أن ينطق بجملة مقتضبة، أيكون ضمن من قالت عنهم جاكلين لغلام :إنه لا يحبونك. إنهم في الحقيقة لا يحبون اتجاهي الفكري.لا يهمهم في شيء أن يمنع هذا الكتاب أو ذاك"( الخواطر، ص.68-69).
-5-
وختاما، فإن يوميات العروي هي مدونة لمواد أرشيفية عالية القيمة، فهي كنز ثمين، وبئر تصطرع فيها مياه شتى. إنها تلقي نظرة فاحصة على الحدث الشخصي على خلفية الحدث التاريخي العام. وأعتقد ختاما، أن الخواطر ليست مدخلا ملائما فقط لفهم الذاتي والموضوعي في حياة العروي، فيما مضى، بل إن "خواطر الصباح" هي نص لابد لقارئ كتاب المغرب والحسن الثاني أن يقرأه وإلا فإنه لن يكون قادرا على تفكيك كثير من شفرات الكتاب التي خيبت انتظارات القراء الشعبويين، المتحفزين لإكتشاف المدهش والمبهر في حياة الملك الراحل. بايجاز إن "الخواطر" ليست مجرد خواطر، بالمعنى المعجمي للكلمة، إنما هي إصرار على إعمال العقل في وصف ومقارنة الوقائع والأحداث وتأويلها على اعتبار أن التأويل هو الطريقة الجيدة لتنظيم الأنشطة وتأويل المعيش.وهكذا ينحاز العروي للواقعية في الفكر والأدب وذلك ضدا على الطوباوية والرومانسية التي تؤثث الخطاب العربي المعاصر.