ظلت «قضية لوكربي» عنوانا كبيرا لوسائل الإعلام، وفي هذا الكتاب الذي صدر حديثا، توثيق لشهادة «المتهم الوحيد والمدان» في حادثة سقوط الطائرة والتي يحاول من خلالها إعادة كتابة براءته من على فراش المرض، ومعها نعيد نسج جزء من التفاصيل الغامضة والملتبسة في أحد أعقد القضايا التي شغلت السياسية العالمية، وخلفت 270 ضحية.

عبد الباسط المقرحي: أنتم المحلفون: متهم، مذنب، أم بريء؟

إبراهيم درويش

«إن كنت إرهابيا فأنا إرهابي ساذج» هكذا يختم عبد الباسط المقرحي، كتابه (المقرحي: انتم المحلفون .ـ دليل لوكربي)، وهو الكتاب الذي أعده مع الصحافي البريطاني جون آشتون، وفي الكتاب يحاول المتهم الوحيد- المدان في حادث تحطم طائرة بان ام-103 الأمريكية فوق بلدة لوكربي في 21 كانون الأول (ديسمبر) 1988، تقديم شهادته للعالم الذي يعتبره قاتلا بالجملة،  قتل 270 راكبا على متن الطائرة التي كانت متوجها لمطار جي اف كيندي في نيويورك.  

ويقول المقرحي الذي يرقد على فراش الموت، وسيموت في أي لحظة بسبب سرطان البروستات، أنه لا يهدف من كتابة شهادته إلقاء اللوم على الآخرين فقد حدث ما حدث له، وعانى تسعة أعوام في سجن اسكتلندي، ويعتقد نفسه بأنه بريء ومن يقرأ الكتاب يخرج بنفس النتيجة، ومعد الكتاب آشتون وإن اعتذر لعائلات الضحايا التي لا تزال تطالب بتسليمه لأمريكا،  يرى نفس الأمر أن الرجل “بريء” ربما من ناحية البراءة الإنسانية، إذ جاء هذا في معرض حديثه عن شخصية المقرحي. وفي معرض دفاعه عن نفسه يقول المقرحي أن هناك ثروة من الأدلة كانت كافية لتبرئته في المحكمة التي عقدت على أرض محايدة عام 2000 في كامب زيست ولكنها لم تستخدم.  ويقول أن المنطق يقضي أنه إن كان مجرما ومتواطئا مع الأمين فحيمة - المتهم الأخر،  وخططا للعملية ونفذاها نيابة عن الدولة الليبية فالمنطق يقتضي تبرئة ساحته مثلما برئت ساحة فهيمة.  ويقول المقرحي أنه سيموت ويحمل معه السؤال عمن ورطه وورط دولته في عمل لم يقوما به. فهو لا يلوم الشرطة التي تابعت أدلة قادت الى تحديد هويته ولا الادعاء الذي قام بتخييط قضية قامت على معلومات قدمها، عميل مزدوج ومرتزق، واستعراض مثير للضحك بهدف تحديد هوية القاتل،  وعميل ليبي للمخابرات الأمريكية، ووثائق تحقيق وجمع أدلة مليئة بالفجوات. كل هذا فقد كان مجالا للتشكيك في شهادة بائع الملابس المالطي توني، غوتشي ومعلومات العميل الليبي ماجد غيكا الذي اتهم المقرحي قبل أن يتوصل المحققون لتحديد اسمه، وادوين بوليير السويسري الذي تعامل معه المقرحي في مجال تجارة الالكترونيات وعقود للجيش الليبي، فبوليير اندفع نحو اتهام المقرحي من اجل المال. ويعتقد المقرحي أن غوتشي الذي “تعرف” على المقرحي في كامب زيست كان يعرف أن هناك جائزة مالية كبيرة تنتظره،  حيث قام بمهمة ما لصالح المخابرات الأمريكية أو غيرها من الهيئات الأمنية ذات المصلحة،  فقد جاء تعرفه على صورة المقرحي بعد عشرة أعوام من الحادث.

أسامح ولا أسامح
ومع ذلك يقول السجين الليبي السابق، أن غوتشي لم يكن إلا بائع البسة بسيطا وجد نفسه في وسط تحقيق دولي.  مما يعني أن جهات ما استفادت منه وأغرته بالوعود،  ولهذا يحرص المقرحي على توجيه رسالة لغاوتشي أكد له مقسما بالله انه لم يزر في حياته محله ولم يشتر منه أي ملابس “ لم أكن في محلك ولم أرك في حياتي حتى التقينا في قاعة المحكمة،  ومثلما تلقيت أنت وأخيك جائزة كبيرة على تأكيد اتهامي وجلبتما الألم على عائلتي وبلدي أريد توجيه سؤال لكما،  إلا تشعران بالندم،  وأود القول لكما،  إنني أسامحكما،  وفي يوم سنلتقي أمام الله وأتمنى أن يكون مسامحا،  وليس لدي ما أخافه”.  ولكنه يجد من الصعوبة بمكان مسامحة من قدموا له الجائزة ومن كانت أمامهم الأدلة الواضحة لتبرئته ولكنهم تعاموا عن الحقيقة،  فإنني ”لن أسامح من ضللوا المحكمة بناء على معلومات الجعايكة” (عبدالمجيد) العميل الليبي. ولم تخل رسالة المقرحي الأخيرة من مرارة لان فريق الدفاع عنه فشل في مساءلته لغوتشي ومواجهته وسؤاله أسئلة كانت ستكشف خداعه.  ويعبر عن مرارته من القضاء الاسكتلندي وكيف اعتبره ثلاثة من أحسن العقول القانونية في اسكتلندا مذنبا،  فيما اعتبره الاسكتلنديون العاديون ممن عرفوه بريئا.  وخاطب عائلات ضحايا لوكربي قائلا انه لا يرغب في زيادة المهم خاصة أنهم غاضبون على إطلاق سراحه،  وكل ما يرغب بقوله لهم انه “بريء”،  وانه يؤيد مطالب عائلات البريطانيين بتحقيق جديد في التفجير “ بالتأكيد سأموت وان احمل فوق كتفي قرار المحكمة،  لكن ضميري مرتاح، وسأصلي حتى أخر نفس أن يتم كشف قصص لوكربي في يوم من الأيام ويعرفها الجميع”.

ايران والقيادة العامة
قصة لوكربي هي شهادة من المتهم الوحيد في أيامه الأخيرة كتبها وبحث في ظروفها الصحافي البريطاني جون آشتون حيث يحاول العودة بنا الى الظروف التي قادت للتفجير ووضعه في سياق العلاقات الدولية،  وظروف الحرب الباردة وحرب إدارة كلينتون على الإرهاب،  ثم التفجير والتحقيقات التي تمت في كل خيوط القضية من فرانكفورت الى السنغال والتوغو واليابان وليبيا والسويد،  ومالطة،  والقوى التي شاركت في بناء القضية ضد الليبيين فحيمة والمقرحي.  وجون اشتون يفكك القصة من بدايتها،  حيث يحاول ملاحقة النظرية الأولى عن الدور الإيراني في العملية،  وعلاقة الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة بها،  حيث يشير الى أن ايران اتفقت مع جبريل على القيام بعمليات انتقامية في اوروبا بعد استهداف القوات الأمريكية لطائرة مدنية ايرانية (ايران اير 655) وقتل 290 شخصا كانوا على متنها.  ويقال أن جبريل في اجتماعه مع المسؤولين الايرانيين اتفق على تلقي مبلغ 1. 3 مليون دولار أو 10 ملايين بهذا الشأن.  ويكشف الكتاب عن نشاطات خلية للجبهة الشعبية القيادة العامة التي قامت بعدد من العمليات واستهدفت مكاتب وخطوط ،  وفي قلب نشاطات القيادة العامة كانت هناك خلية نويس قرب دوسلدورف فيما كان يعرف بألمانيا الغربية ،  التي كان يديرها حافظ دلقموني،  ومن أفرادها خبير المتفجرات الأردني،  مروان خريسات،  إضافة الى هاشم عباسي،  صهر الدلقموني والذي كان يدير بقالة في المدينة،  ويعتبر خريسات من أهم الشخصيات من الناحية التقنية لأنه قام بأعداد العبوات الناسفة بزرعها في عدد من أجهزة التسجيل من ماركة توشيبا وزودها بأجهزة توقيت.  وكشف لاحقا أن خريسات كان عميلا مزدوجا يتصل بالمخابرات الأردنية،  وهو ما أدى للكشف عن نشاطات الخلية في عملية أطلقت عليها الاستخبارات الألمانية “عملية أوراق الخريف”.  ومع أن الادعاء أثناء محاكمة المقرحي لم يلتفت الى الخلية ونشاطاتها إلا أن الكاتب يظهر أن هناك خيوطا لم يلاحقها الادعاء وكان يمكن أن تؤدي الى تبرئة ساحة المقرحي،  فهناك في القصة شخصية غامضة هي أبو الياس الذي كان من المتوقع أن يلتقيه الدلقموني مع خريسات،  والذي قيل انه خبير في صناعة المتفجرات.  وعندما تم تفكيك الخلية لم تتم مصادرة إلا أربعة أجهزة متفجرة فيما اختفى جهاز خامس وهي العبوة التي يرجح أنها استخدمت في تفجير الطائرة.  والسيناريو حول استخدام المتفجرة هذه يدور حول رجل أخر،  لبناني كان على متن الطائرة عندما تفجرت وهو خالد جعفر،  حيث كان يحمل معه كميات من المخدرات عثر عليها فيما بعد في المنطقة التي تحطمت فيها الطائرة،  ولكن تم التعتيم عليها.  ويشير تحليل الكاتب الى إمكانية وجود نوع من التعاون بين جعفر ومسؤولين في المخابرات الأمريكية الذين غضوا الطرف عن عملياته من اجل تقديم معلومات عن الرهائن الأمريكيين لدى حزب الله.  ويظل جعفر أبو الياس الرابط المهم الذي يرجح من إمكانية دور إيراني في العملية.  أدى تحطم الطائرة الإيرانية في 3 تموز (يوليو) 1988 الى انتشار توقعات بهجمات انتقامية.  وقد تم تجاهل التحذيرات التي صدرت من هيئات أمنية غربية من قبل حكومات غربية منها بريطانيا عن رد إيراني محتوم.  وكانت وزارة الدفاع الأمريكية غلفت الحادث بغلاف من السرية.  وقالت أن البارجة فينسنس اعتقدت أنها هدفا لهجوم من مقاتلة حربية ايرانية.  ولم يعتذر الرئيس الأمريكي في حينه عن العملية.  وبعيدا عن الوضع الإيراني فإن خلية ألمانيا كانت مراقبة نظرا لوجود العميل الأردني،  وأدت العملية لتفكيك البنى التحتية لخلايا القيادة العامة،  ولكن الحلقة المفقودة ظلت أبو الياس،  فقد كان من المتوقع أن يلتقي خريسات والدلقموني معه،  لكن الاعتقال حدث قبل أن تتم المقابلة.  وفي حيثيات محاكمة المقرحي فان الحلقة المفقودة وشخصية أبو الياس كان يجب أخذها بالاعتبار خاصة أن الجهاز الخامس الذي أعده خريسات فقد.  نقاط الضعف لم تقتصر على خلية ألمانيا،  بل شملت ملامح أخرى من القضية والتي حددها الكاتب،  بالعميل المزدوج ،  بوليير،  والعميل الفنتازي الذي باع المخابرات البحر مقابل المال وقصة الحقيبة،  كما حلل دور الخبراء في تضييع الكثير من الأدلة أما لنقص الخبرة أو للثغرات التي شابت عملية التحقيق وجمع الأدلة بعد تحطم الطائرة،  فالكاتب هنا يشير الى تداخل في جمع المعلومات بين خبراء الاف بي أي،  ومحققي الشرطة الاسكتلنديين،  وقد أدى هذا لإخفاء الكثير من الأدلة،  مما اثر على النتائج التي توصل إليها خبراء التشريح الجنائيون وتحليل العينات التي أخذت من الحادث،  وفي هذا الاتجاه فالقارئ للأقسام التي يتحدث فيها الكاتب عن التحليل والتحقيقات عليه أن يحضر نفسه لقراءة تفاصيل ومختصرات علمية وأسماء تحضر وتغيب وتحضر،  وأسماء غير مؤهلة في مجالها وأخرى محلا للشك،  وما يهم في تحليل الكاتب هنا انه يريد أن يقدم القصة بتفاصيلها من خلال التحقيق الأولي.  

قصة المتهم
وفي ثنايا الراويات المتداخلة تبرز قصة المقرحي،  التي يقدمها الكاتب بخطوط مائلة كي يميزها عن نصه وفيها يتحدث المقرحي عن عمله في الدولة الليبية وعائلته ودراسته الجامعية حيث حصل على منحة لدراسة الهندسة البحرية في جامعة كارديف،  ذلك انه اكتشف أن قصر نظره سيحول بينه وبين تحقيق حلمه بالعمل ككابتن بحري،  ولهذا قرر العودة حيث كان موزعا بين العمل أو اكمال الدراسة الجامعية،  لكن تقاعد والده عن العمل جعله يختار البحث عن عمل،  حيث وجد عملا في مجال الترحيل الجوي في الخطوط الجوية الليبية،  وترقى الى مدير عمليات الترحيل الجوي ثم مديرا للعمليات،  وأثناء عمله انتسب لجامعة بنغازي وحصل منها على شهادة في الجغرافيا،  ومع انه وعد بمنحة لإكمال الدراسة في أمريكا إلا أن المنحة لم تأت.

التعرف على الأمين فحيمة
خلال فترة عمله في الخطوط الجوية الليبية تعرف على الأمين فحيمة الذي انضم للطيران الليبي في عام 1975 وعين لاحقا مديرا لمكتب الشركة في مالطة،  وكان المقرحي يمر عليه في طريق ذهابه أو عودته من اوروبا حيث دعاه فحيمة عام 1984 مع زوجته عائشة لبيته.  وقد أصبحت مالطة بعد أن فرض الحصار الدولي على ليبيا المعبر الرئيسي لليبيين للخارج،  وكان عدد الليبيين فيها أكثر من سكانها،  وأنشأت الدولة الليبية فيها عددا من المصالح.  وبالنسبة للمقرحي فقد كان يسافر إليها بشكل دائم من اجل إحضار مواد غذائية لابنه التي لم تكن متوفرة في طرابلس لان ابنه كان يعاني من مشاكل صحية منذ ولادته.  بعد انتقاله من جامعة بنغازي الى الخطوط الجوية التي كان يعمل فيها في السابق،  انشأ مع مديره السابق في الخطوط الجوية شركة باسم “أي بي اتش” وهي شركة مستقلة عن الحكومة وتقوم بعقد صفقات نيابة عنها،  في استيراد أجهزة اتصالات،  ونظرا لطبيعة عمله خاصة في ظل الحصار الدولي على ليبيا قامت وزارة الاتصالات باستخراج جواز سفر خاص له باسم مستعار وباسم احمد خليفة عبد الصمد،  كي يستخدمه في رحلاته،  ومع أن المقرحي يقول انه نادرا ما استخدم الجواز في رحلاته إلا انه استخدامه في وتلك الرحلة التي قام بها في يوم 20 ديسمبر 1988 لمالطة وربط مصيره بتحطم لوكربي.  فحسب لائحة الاتهام التي حيث رسمت السيناريو بأنه حمل معه العبوة الناسفة في حقيبة سامسونايت وقام بوضعها في حقائب الرحلة الذاهبة لفرانكفورت، حيث تم وضعها في رحلة بان ام -103 والتي توقفت مرة أخرى في مطار هيثرو حيث تم تغيير الحقائب، وهذه الحقيبة والملابس التي تم شراؤها من محل توني غوتشي هي التي حددت مصير المقرحي.  في قراءة آشتون للأدلة يقدم الكثير من الثغرات،  فكيف مرت الحقيبة من ثلاث مطارات ولم يتم الكشف عنها بفحص الأشعة. كما أن المقرحي يقول انه في تلك الرحلة لم يخف هويته عن صاحب فندق هوليدي أن الذي كان ينزل به، ولو كان في مهمة سرية لأمرته الحكومة بالإقامة في واحد من فنادقها أو في بيت صديقه الذي كانت لديه شركة خدمات لتسهيل مهمة الزوار خاصة من كانوا يشاركون في رالي باريس- داكار حيث كان مسئولا عن مرحلته الليبية.

أخطاء العدالة
قصة المقرحي،  فلبيبا لم يتم الإشارة إليها كمتهم محتمل حتى الثامن من كانون الثاني (يناير) عندما نشرت صحيفة “صاندي تلغراف” تقريرا قالت فيه أن المنفذين وان كانوا إيرانيين إلا أنهم تلقوا مساعدة من ليبيا.  في عودة ليوم تحطم الطائرة يقول المقرحي يقول أن خبر الحادث وان لفت انتباهه لبشاعته ولأنه يعمل في مجال الطيران،  لكنه نسيه فيما بعد وركز على عمله في رالي باريس.  ولم يكن يعرف أن مصيره سيرتبط وحتى أخر نفس من حياته بهذا الحادث حيث سمع عن اتهامه من قبل اف بي أي والسلطات الأمنية الاسكتلندية من إذاعة بي بي سي وذلك في 14 كانون الأول (نوفمبر) 1991.  ويتحدث المقرحي عن شعوره بالصدمة ومخاوفه على عائلته عندما تسمع الخبر.  فبعد الاعلان عن اسمه وفحيمة صادرت الحكومة الليبية جواز سفريهما وعاشا تحت ما يشبه الإقامة الجبرية وفي ظل كابوس استمر حتى موافقته بالسفر مع زميله الى كامب زيست في هولندا.  

ليبيا وريغان
وقبل هذا يتساءل اشتون عن موقع ليبيا في السياسة الأمريكية،  وسبب تركيز إدارة ريغان عليها،  فهو أن لم يعرف طبيعة الضغوط التي للتحول نحو ليبيا ،  لكنه يقول أن إدارة ريغان جاءت للحكم وهي مهووسة بفكرة الحرب على الإرهاب،  ومن أهم المؤثرات التي ألهمت فكرة الحرب على الإرهاب كتاب أعدته الصحافية كلير ستيرلنغ،  “شبكة الإرهاب” وهو الذي ترك أثره على ويليام كيسي،  مدير “سي أي ايه” والكسندر هيغ وزير الخارجية،  مع أن مدير شؤون الاتحاد السوفييتي في الاستخبارات تلك ميلفين غودمان أشار الى أن الكتاب ما هو إلا إعادة إنتاج لتقارير استخباراتية ليس إلا.  وما يهم في سياق الحرب الباردة فإن سياسات ريغان لمكافحة الإرهاب كانت مدفوعة بأمر واحد وهو تأكيد قوة أمريكا التي خرجت مهزومة من حرب فيتنام،  ومن أزمة رهائن السفارة الأمريكية في طهران 1979-1980.  ولهذا فقد كانت ليبيا هدفا سهلا،  حيث مارست الإدارة على نظام العقيد القذافي سياسة تقوم على حملة تضليل إعلامي،  تبعتها سياسة “واسعة” تقوم على زيادة العمليات العسكرية ونشر البوارج الأمريكية في البحر المتوسط وقرب خليج سرت وأخرى “قاسية” وتقوم على عمليات سرية تهدف لزيادة الضغط على النظام الليبي بشكل يؤدي للإطاحة بالقذافي،  ومن هنا تم وضع خطة “وردة- زهرة” بإشراف روبرت غيتس تقوم على عمليات وقائية وضرب أهداف مختارة بما فيها معسكر العزيزية مقر القذافي.

كامب زيست
بالعودة الى قصة المقرحي وفحيمة اللذين لم يكونا يعرفان بمصيرهما.  فبعد محاولات من رئيس جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا والأمير بندر بن سلطان،  السفير السعودي السابق في واشنطن لإقناع بريطانيا وأمريكا لمحاكمة المتهمين في منطقة محايدة،  وما تبع ذلك من الاتفاق على عقد المحاكمة في كامب زيست.  ومع أن الحكومة الليبية تعاملت مع التطور كفرصة لرفع الحظر المفروض على ليبيا مند عام 1991 إلا أن محمد الزاوي،  وزير الخارجية في حينه خيرهما بين السفر والبقاء،  وقال لهما أن القرار قرارهما،  وكان ابراهيم الغويل،  أول محام عين للدفاع عن المقرحي قد نصحهما بعدم السفر،  وكذا اليستر داف والذي كرر لهما قبل السفر بأسبوع (في نيسان (ابريل) 1999) بأنهما لن يلقيا محاكمة عادلة وهو ما ثبتت صحته.  ويشير المقرحي الى سلسلة من الأخطاء التي يبدو انه ندم عليها أثناء جلسات المحكمة،  من مثل قراره بعدم المثول أمام القاضي للمساءلة لمخاوفه من أن يسأل عن جواز سفره المستعار وعلاقة شركته بالحكومة الليبية.  وما يهم في مرارة المقرحي هي معاملة الشرطة الهولندية لهما عندما وصلا على متن طائرة ايطالية لأمستردام حيث القي القبض عليهما رسميا،  وقيدا بطريقة غير مريحة لدرجة انتقدها رجال الشرطة الاسكتلنديون المكلفون بحراستهما.  ما جرى في المحكمة أهملته الوسائل الإعلامية،  فبعد بداية المحكمة في 3 أيار ـ مايو ـ2000 حزم الصحافيون حقائبهم وكاميراتهم وفروا من المكان ليعودوا إليه مرة أخرى ساعة نطق الحكم في الساعة الحادية عشرة من 31 كانون الثاني ـ يناير- 2001 حيث أدين المقرحي وبريء فحيمة،  وحكم عليه بالمؤبد ومن كامب زيست تبدأ رحلة أخرى له في اسكتلندا حيث نقل هذه المرة مدانا وليس متهما كان يأمل بالبراءة.  وفي حديثه عن فترة سجنه في اسكتلندا أولا في “بار- ال” وبعدها في غيت سايد في مدينة غرين اوك (نقل إليه عام 2005)،  فان تجربته في السجن وبشكل عام كانت بدون مشاكل باستثناء بعض المواقف العنصرية وحالة ضابط اضمر له الكراهية وكان يقول له “الليبي القذر”، لكن المعاملة كانت جيدة مع المسؤولين والسجناء،  ويبدو أن كرة القدم كانت المفتاح للعلاقة الحميمة. كانت رحلة السجن قاسية عليه وعلى عائلته التي تعرضت للمضايقات أثناء إقامتها قريبا من سجنه، كما تعرض هو للمساومات من قبل المسؤولين القضائيين الذين حاولوا الضغط عليه كي يكشف لهم عن المسؤول الرئيسي في العملية. ومهما كان السجن مريحا فيظل سجنا.

قصتا لوكربي
وما يثير في هذا الكتاب هو تأكيده أن قصة لوكربي هي قصتان،  قصة المقرحي والأخرى قصة الأدلة الضعيفة التي أدين بناء عليها،  وفي الكتاب صوت إنسان،  يشعر بالغبن وغياب العدالة ورجل ينظر للوراء ويحدث نفسه لو استمعت للنصائح لكنه الشعور بأهمية الوقوف أمام المحكمة كي يثبت براءته وهو ما ظل يحاوله في الاستئناف واحدا وراء الأخر،  وعندما خير في النهاية بين الموت بين أهله والتخلي عن الاستئناف كي يطهر نفسه اختار العودة يحمل ثقل الحكم على كتفيه لأنه يشعر في داخله كما قال لنا انه بريء،  وسيموت مرتاح الضمير وان ظل في عين العالم الذي حاكمه مجرما وقاتلا،  “المقرحي: انتم المحلفون” قصة مثيرة يتداخل فيها الكذب والجشع والرغبة بالانتقام والسياسة الدولية وتصفية الحسابات وفوق كل هذا أخطاء العدالة.  بعد كل هذا فما حكم هيئة المحلفين عليه؟ يقول اشتون في مقدمته للكتاب “دائما ما سئلت ـ كيف يبدو؟ وأجيب هو إنسان عادي تعامل مع ظروفه الفظيعة بصبر كبير وإباء،  ذكي، حيي قليلا،  ومرح وكريم،  عائلته وإيمانه كمسلم هما عماد حياته ويعنيان الكثير له. بالنسبة لي ولضباط السجن،  هناك ملمح مهم يشكل شخصيته، أنه بريء”،  فهل هو بعد كل هذا مذنب أم بريء علينا أن نقول انه ضحية وبريء.  هذه قصة المقرحي كما قدمها الكاتب والمدان نفسه،  وبالتأكيد هناك الكثير من القصص الأخرى والتي قد تؤيد أو تعارض الرواية،  لكن القارئ لا يملك إلا التعاطف مع المقرحي وكاتب كتابه.

 

ناقد فلسطيني من أسرة القدس العربي


Megrahi: You are My Jury” The Lockerbi Evidence -John Ashton, Birlin- 2012