في لقاء مع الأستاذ محمد الأشعري حول روايته الأخيرة (القوس والفراشة)، أشار إلى فكرة لا يخطئها تأمل متأمل في المشهد المغربي في كليته. هي في الواقع ليست مجرد فكرة وإنما قضية تلقي بظلالها، أو بثقلها، على الحياة اليومية للمجتمع. هي التي تحدد طبيعة العلاقات الاجتماعية، وهي التي تمنح شرعية الوجود والاستمرار للإطارات السياسية وأحيانا الثقافية، وهي التي تمنع المبادرات وتحد من الابتكار والأفكار الجديدة، وهي التي تتحكم، من قبل ومن بعد، في التمزق الذي يعيشه المجتمع المغربي بصدد نمط الحياة الذي يليق به في عصر السرعة والتحول ... والجنون أيضا. الفكرة هي، ببساطة، ذهنية الماضي، واستلذاذ الإقامة في هذا الماضي والاستكانة إلى أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وهذا بمقابل عقدة واضحة من الحاضر، العقدة التي تجعل هذا الحاضر منفيا، كما لو أننا لا نريد أن نعيشه بكل ما فيه من لحظات من الطبيعي أن تتأرجح بين الفشل والنجاح، والبياض والقتامة.
وقد يكون من نافلة القول، الإشارة إلى أن هذا التفكير هو الذي عمم الخيبة المجتمعية على جميع الأصعدة، بحيث لم تسلم منها لا السياسة ولا الثقافة ولا أي مجال من المجالات. لقد أعاقت ذهنية الماضي كل إمكانيات الانطلاق نحو المستقبل، لأنها ذهنية لا تعترف مطلقا بأن المستقبل لن يكون بأي حال من الأحوال وليد الماضي الذي لم نصنعه، وإنما صنعته أجيال مكنتنا من فرصة الوجود في الحاضر، أي بما يعني أن المستقبل هو بالضرورة، وبالقوة، لن يكون إلا وليد الحاضر. نحن من يصنع المستقبل وليس أولئك الذين عبدوا لنا إمكانية الحياة في الحاضر. كيف ننظر إلى المستقبل بعيون ليست عيوننا. إنه إذا كنا نقوم بتحليل معطيات الماضي التي قادتنا إلى لحظتنا الراهنة لكي نفهم التحولات التي جعلت الحاضر على شكله الحالي، فإننا لن نتمكن من النظر، بشكل صحيح إلى المستقبل إلا انطلاقا من معطيات الحاضر.
تتدخل ذهنية الماضي في تشكيل وعي الناس بالأشياء، وتحولت في المشهد السياسي مثلا إلى وسيلة للتشبث بشرعية الوجود والاستمرار في الساحة. فإذا كان الجميع يسلم اليوم بوجود خلل في الحياة السياسية، وبنوع من عجز الأحزاب عن تقديم حلول لقضايا اليوم، فابحث لأجل ذلك عن ذهنية الماضي. الآن لم يعد بإمكان أي حزب من الأحزاب الاعتكاز على الشرعية التاريخية أو الوطنية إذا أراد أن يستقطب مناضلين أو ناخبين، لأن المسافة التي تفصلنا عن أوائل القرن العشرين وعن الحماية والمقاومة اتسعت، والأجيال الجديدة الآن في حاجة إلى حلول لقضايا حياتها. لا يفهم من هذا أن ثمة تشكيكا، ولو بسيطا، في التضحيات التي قدمها السلف، ممن توفوا أو ممن لا يزالون على قيد الحياة، أو أن ثمة تنكرا لهؤلاء، بل كل ما في الأمر أن الحاضر في حاجة إلى خطاب يستمد مشروعيته من التطورات والمستجدات التي عرفها المغرب في سياق انخراطه، الاختياري أو الاضطراري، في الدينامية التي تحرك العالم اليوم، وليس من الارتكان إلى تمجيد الماضي كما لو أنه الوجه الناصع لعملة وجهها الآخر الحاضر "القاتم". أكثر من ذلك، لا يتم استحضار هذه الرموز، الحي منها والمتوفى، إلا باعتبارها وجوها تنتمي إلى هذا الماضي، وأن دورها، الآن، لا يتعدى كونها تمنح لهؤلاء أو أولئك، شرعية الوجود والاستمرار، في الوقت الذي ينبغي النظر إليها باعتبارها رموزا لهؤلاء وأولئك، ولنا جميعا نحن الذين نتقاسم نفس التراب وتظللنا نفس السماء، كما ينبغي، تبعا لذلك، أن نحافظ على ذكراها في القلوب وفي الوجدان من خلال مذكراتها ومن خلال السينما والأدب.
الإقامة في الماضي مع الرغبة في الانفتاح على ما وصل إليه العالم، يولد تمزقا وانفصالا في آليات العمل والتفكير، ويعمق الازدواجية في الشخصية الفردية والجماعية على السواء، ويعطل الانطلاق الفعلي نحو المستقبل. لا يمكن بناء المستقبل بالاعتماد على فاعلين من الماضي وفي تجاوز تام للفاعلين الآنيين، الذين يملكون من الطاقات ما يخترقون به سواد الحاضر من أجل القادمين، ولعله من المطلوب أن يفهم من المنطوق هنا أن عهد الزعامات السياسية التاريخية، أيضا، ينبغي أن ينتهي، وأن على هذه الزعامات أن تتفرغ لتدوين مذكراتها كما يفعل السياسيون في أماكن أخرى غير المغرب. ولا تختلف الثقافة عن السياسة، بالرغم من اختلاف السياقات ومجال الاهتمام. ربما لأن الثقافة نفسها في بعض جوانبها، جزء من الممارسة السياسية، أو ربما لأن الفاعل الثقافي يلبس في الكثير من الأحيان الجبتين معا. وهنا لا بد من استحضار السؤال المؤرق حول السبب الذي يجعل المثقف عاجزا عن التأثير في سير المجتمع. ما من شك في أن العوامل متعددة، وعدد منها لا دخل للمثقف فيها، لكن المؤكد أيضا أن المثقف فقد حظوته لدى الناس، أو هم فقدوا الثقة فيه، كما فقدوها في السياسي. هذا مؤشر على أن الناس يسقطون على الثقافة أمراض السياسة، وهم واعون بذلك تماما. لقد اكتسب المثقف، في العقود الأخيرة خاصة، الكثير من صفات السياسي. هذا الأخير براغماتي حتى النخاع، حتى ولو أسقطه ذلك في التناقض وربما في الكذب، وكل ما يهمه في النهاية هو الوصول إلى الغنيمة التي لا تهم طبيعتها. السلطة. الزعامة. الوجاهة الاجتماعية. أضواء وسائل الإعلام. زيارات إلى كل بلدان الدنيا. المال. كل هذا شيء واحد بالنسبة للسياسي. فئات من المثقفين امتطت نفس الجِمال، وهي تسير في نفس القافلة ونحو الهدف ذاته في ما يتعلق بالغنيمة، وهذا وضع أصاب دور المثقف بالعطب، ويبدو أن سيارة التنوير قد اصطدمت بحاجز من الماضي في الطريق السيار نحو المستقبل.
إن الاستعانة بالجمل هنا لم يكن اعتباطيا، بل للتعبير عن أن الذهنية التي تحكم كثيرا من المثقفين هي ذهنية تقيم في الماضي وتستلذ الانغماس فيه، فهم يسايرون الذهنية التي تتحكم في سير المجتمع، وهم يتعاملون مع الأشياء بنفس البراغماتية لدى السياسي التي توجهها رائحة الغنيمة، وتجعلهم غير عابئين بالمستقبل، ولا يلتفتون إليه مجرد التفات. إن مما يكرس التشابه، وربما التماثل والتطابق، بين ما يحكم السياسة والثقافة، عدم تمكن الفاعلين في الحقلين معا من الارتقاء بالنقاش إلى مستويات غير ما وصل إليه حاليا من هبوط وإسفاف. ذلك أن الرغبة في استلذاذ الإقامة في الماضي ومحاولة الظهور بمظهر الانفتاح يجعلهم إما غير قادرين على تحديد أولويات المرحلة، وعاجزين عن الإحاطة بمتطلبات مستقبل الأجيال القادمة انطلاقا من الحاضر، وإما بكل بساطة غير مهتمين مطلقا لهذا المستقبل. وبالتالي، فهم قدموا استقالتهم من كل ما له علاقة بالعمل وبالتفكير في الآخر، واكتفوا بوجودهم كمنتجين للكلام والشعارات والمزايدات، و"الانقلابات" على "الزعامات" في المنظمات السياسية والثقافية، ولنا أن ننظر بصدد هذا إلى ما يحدث في مشهدينا الثقافي والسياسي.
إن ذهنية الماضي والإقامة فيه، هي التي كرست منطق الوصاية في الواقع على كل شيء. هي التي عطلت المبادرات والطاقات، ودفعت بها إلى هوامش الهامش، دون أن تمنحها فرصة الانطلاق إلى مصيرها، بما فيه من إمكانيات الفشل والنجاح معا، إذ أن هذه الطاقات هي التي تصنع قدرها، أما الآخرون فقد صنعوا، في وقتهم، قدرهم ووصلوا إلينا على حالتهم الراهنة، ولعله من كرم الأخلاق أن يتأبطوا فشلهم ونجاحهم ويفسحوا المجال للذين يجعلون من الحاضر قاعدتهم نحو المستقبل.
شاعر من المغرب