رسالة من ليبيا

غسان بن جدو يستهزئ بثورات الربيع العربي

عبد السلام الرقيعي

غسان بن جدو المذيع المعروف بفضائية الجزيرة احتدم خلافه مع تلك القناة ووصل الأمر إلى تقديم استقالته واتخاذه قرار افتتاح فضائية جديدة سمّاها "الميادين". ولم يتبين بشكل واضح سبب خلاف بن جدو مع قناة الجزيرة، فمن قائل إن سبب الخلاف هو تجاهل القناة لأحداث المعارضة البحرينية حيث لم تعطها مساحة مماثلة لما أعطته لثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن. وقول آخر يرى أن سبب الخلاف هو موقف قناة الجزيرة المؤيد لثورة الربيع في سوريا، حيث أن غسان بن جدو من المؤيدين لنظام بشار الأسد.

وايّا ما يكون من أمر، فقد جاء في مقالة كتبها غسان بن جدو نشرها موقع «بإبرازي» الالكتروني بتاريخ 20 فبراير 2012 بعنوان " لماذا أتجاهل ثورة الربيع العربي؟ "، ما يلي: «لا أحب الثورات التي لا تعرف نكهة الفلسفة ولا نعمة الفكر، هذا برأيي ذروة الكفر.. لا تلام الديكتاتوريات إذا لم تكن لها فلسفة ولا فلاسفة يعتد بفكرهم... فالثيران لا ضروع لها لتنتج الحليب.. ولا أتوقع أن تنتج الديكتاتوريات فلسفة ذات أثر.. لكن لا يغفر للثورات فقرها بالفلسفة وغياب الفلاسفة والمفكرين عنها وهم الذين يضيئون ويتوهجون بالأفكار.. والثورات العظيمة يوقدها عظماء وتضيئها عقول كالشهب وتتكئ على قامات كبيرة ترسم بالنور زمنا قادما بالقرون... وغياب هؤلاء يسبب تحول أي ثورة إلى مجرد تمرد أهوج وانفعال بلا نتيجة سوى الدمار الذاتي.»

ويضيف السيد غسان بن جدو قائلا:-

«واليوم يحاول الكثيرون تسويق الربيع العربي على إنه ثورة من ثورات العالم الكبرى التي تتعلم منها الأمم والشعوب برغم أن هذا الربيع لا يعدو في أعلى المراتب أن يكون تمردا اجتماعيا متشظيا قائما على الانفعال العاطفي الوجداني لجمهور تائه .. فقد غاب عنا في هذه الثورة العربية " مترامية الأطراف " من شمال افريقيا إلى اليمن السعيد وإلى سوريا شيئان مهمان هما فلاسفة الثورة الكبار و مفكروها.. وكذلك غابت كليا فلسفة الثورة .. واللهيب الذي نراه اليوم لم يوقده فلاسفة ولا عمالقة ولا قامات ولا هامات و فكر.. هذه ثورات اوقدها النفط والجهل وحديث التعصب والتدين السياسي .. وليس القهر والحرمان والديكتاتوريات .. اما فلاسفتها الحقيقيون لا يتكلمون العربية. لا توجد ثورة عربية ولا ربيع عربي بل انفعال اجتماعي وقوده مال ونفط وفلاسفة أوروبيون .. هذه حقيقة مؤلمة. إن كل ما رأيناه هو حركة فوضوية لجمهور بلا قيادة وبلا قائد وبلا عقل مدبر... وهنا كمنت الكارثة الوطنية .. والفجيعة الكبرى ان كل هذه الثورات تتبع مرجعية قطرية خليجية مدججة بالزعران والمجانين وصغار الكتاب الذين كانوا اكثر أمية من الدهماء في شوارع الثورات وأكثر عددا من المتظاهرين في أحياء الثورة السورية .. وكانت هذه الثورات مجهزة بقاذفات الفتاوى الدموية الرديئة المخجلة والخالية من الإنسانية والمليئة بالإسرائيليات والأساطير. بالطبع ما يُثير السخرية الشديدة هي الثورات المدججة بالهزل الفكري والقحط التي تشبه مواليد المجاعات الأفريقية ... في غياب مفكري الثورة الكبار وفلاسفتهم العقلاء وفلاسفتهم تجد أن الجماهير العربية تعيش أقصى حالات التعتيم والظلام والتوهان. لدرجة أن مثقفين كثيرين ومتعلمين وليبراليين ومهاجرين في مؤسسات علمية من أطباء ومهندسين يساندون الثورات دون أن يواجهوا أسئلة مُخيفة مثل:-

-                     كيف لثورة يقودها قطري أن يقود تحررا ديمقراطيا؟

-                     وكيف يمكن لمن اقتحم الفلوجة العراقية بالسلاح الكيماوي وارتكب الفظائع وأكل لحوم البشر فيها وروى مياهها الجوفية بالمواد المُسَرْطِنَة... كيف له أن يبكي على مدينة حمص السورية المحشوة بالمقاتلين المغرر بهم والقتلة وسلاح " بلاك ووتر " الذى أحرق الفلوجة العراقية السنية؟.

-                     كيف نصدق الأمريكي الذي يبكي على حمص وهو بالأمس حول الفلوجة " السنية " إلى هيروشيما الشرق؟.

-                     كيف نصدق هذا الغرب في بكائه على حمص وهو منذ أشهر قليلة أمسك غزة من عنقها لتذبح وثبت ايدي وأرجل لبنان على الأرض كي يتمكن الإسرائيلي من ذبحه؟.

ويختم السيد غسان بن جدو مقاله قائلا:- «الديكتاتوريات التي ترحل لا يؤسف عليها لكن ما يؤسف عليه هو أن هذه الثورات تشبه فارسا مقطوع الرأس.. إنه فارس مُخيف بلا ملامح.. وبلا حياة.. جثة تنتقل من بلد إلى بلد على متن راحلة قطرية فيما هي تتعفن وتنشر الوباء والطاعون النفسي والأخلاقي... والذباب والدود والموت والاستعمار الجديد.. ولذلك لن نقول " فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " بل خذوا " برهانكم " وثورتكم إن كنتم صادقين مع أنفسكم.. وارحلوا.»

لا يخفى على القارئ الكريم مدى تحامل السيد بن جدو على ثورات الربيع العربي ويبدو جليّاً غياب الحيدة والموضوعية عن مقالته، بل وصل به الأمر حد الإسفاف عندما يتهم المثقفين والمتعلمين العرب بأنهم قد وقعوا تحت طائلة التعتيم والظلام والتوهان بمساندتهم لثورات الربيع العربي! ويستغرب بن جدو هذا كيف يساند أولئك ثورات الربيع العربي دون أن يواجهوا أسئلة سمّاها بالمُخيفة مثل قوله:-«كيف لثورة يقودها قطري أن يقود تحررا ديمقراطيا؟» ونحن لا ندري أي ثورة التي يقصدها بن جدو؟ وأي ثورة قادها قطري؟، كما أنه يتناقض مع نفسه فهو يقول في ثنايا مقالته «إن كل ما رأيناه هو حركة فوضوية لجمهور بلا قيادة وبلا قائد وبلا عقل مدبر»، ثم يأتي ليسأل كيف لثورة يقوده قطري؟،

ثم أليس في هذا التساؤل إسفافا وقذفا للمواطن القطري دونما سبب؟. إلا إذا كان السبب هو طرد بن جدو من قناة الجزيرة. وحتى هذا الطرد لا ينهض سببا يُبيح لأبن جدو أن يخرج عن الأدب وينزلق في هذا المطب السوقي من السب والشتم!!. كما أن زعمه بأنه يدافع عن سوريا انطلاقا من موقفه القومي لا ينبغي أن يجعله يُزيف الحقائق كقوله:- «والفجيعة الكبرى أن كل هذه الثورات تتبع مرجعية قطرية خليجية مدججة بالزعران والمجانين وصغار الكتاب الذين كانوا أكثر أمية من الدهماء في شوارع الثورات وأكثر عددا من المتظاهرين في أحياء الثورة السورية».

لا تغيب عن فطنة القارئ الكريم دس كلمة "مرجعية قطرية" كما لا تمر على فطنته أيضا سوقية وبذأة ألفاظ "الزعران"، "المجانين"، "الدهماء" و"صغار الكتاب" علما بأن مفهوم المُخالفة للفظ الأخير يعني أن بن جدو يحسب نفسه من كبار الكتاب! والأنكى من كل ذلك هو تغطية عين الشمس بالغربال عندما يقلل بن جدو عدد الثوار في سوريا ويحسبها ثورات في أحياء وليست في كل مدن سوريا من درعا إلى اللاذقية إلى حماة إلى ادلب إلى دير الزور إلى دمشق نفسها ناهيك عن حمص التى كانت مذبحة الأسد الصغير كما كانت حماة مذبحة الأسد الكبير. بن جدو لا يتورع عن وصف الثورات العربية بأنها تشبه فارسا مقطوع الرأس. وحقيقة الحال أن بن جدو هو الذي أضحى جثة بدون رأس، وليس الثورات العربية المعمدة بأرواح ودماء الشهداء المقدسة.

ثم أن قول بن جدو:- «لا أحب الثورات التي لا تعرف نكهة الفلسفة ولا نعمة الفكر فهذا برأيي ذروة الكفر ... فقد غاب عنا في هذه الثورة العربية "مترامية الأطراف" ... شيئان مهمان هما فلاسفة الثورة الكبار ومفكروها.. وكذلك غابت كليا فلسفة الثورة». وهذا القول يصدق عليه قول رجال القضاء قصور في التسبيب، وذلك لأن السيد بن جدو لا يزال أسير النظريات العتيقة للثورة والتي تنطبق على ثورات القرن الثامن عشر والقرن العشرين من الألفية الفارطة.

إن الثورات العربية تعدت التعريف الليبرالي للثورة الذي مؤداه أن الثورة ما هي إلا حالة سعي في تجاه الحرية المطلقة ومجافاة للدين وهو ما يعرف بالعلمانية، كما أنها تعدت التعريف الماركسي التقليدي للثورة الذي يراها هي انتقال من نمط إنتاج إلى نمط آخر. إن تعريف الثورة ينبغي أن يخرج من تقوقعه في هذه التعريفات التي رمتها ثورات أوروبا الشرقية في مزبلة التاريخ، ثم جاءت ثورة المعلومات وثورة الاتصالات لتحتم ليس البحث عن تعريف جديد للثورة فحسب، بل تقتضي تطوير نظرية وشروط ومحركات الثورة جميعها.

وإن كان البعض قد شرع يحاول البحث عن تسبيب معقول للثورات العربية مثل قول أحدهم:- «إن الثورات العربية هي حصاد مهاد فكري وبناء حقوقي طويل، ونتاج عمل مؤسسات وأحزاب وحركات وصحفيين وعدد هائل من المثقفين ومن المحتجين ومن عامة الناس الذين يذوقون مرارة والاستبداد إلى أن أصبح المجتمع جاهزاً للعمل، وكانت العدالة والحرية والديمقراطية ثقافة رسخت كحل شمولي للمأساة في الأذهان كادت أن تكون حلولا مشهودة، وأكبر من إمكان تجاوزها للتفسير بغيرها، فغلب التيار الشمولي على اجزائه. إن شروط نظريات الثورات - إن صحت – توضع على الرف مؤقتاً، فلا أيديولوجيا محددة، ولا يوجد زعيم ملهم، ولا تنظيم قاد الثورات العربية. فإن كانت الثورة الفرنسية سبقها عصر مكافحة شديدة للمسيحية واللاعقلانية الاستبداد وفي روسيا نظرية شيوعية، وفي ايران تنظيمات ومواجهه للاستعمار ووكيله، وكانت مثقلة بانتقام ديني ممن حارب الدين باسم الحداثة. فإن الثورة العربية لم تكن تماماً هذا ولا ذاك، بل كانت ثمرة للحاجات المغيبة، وثمرة لخير ما في الأيديولوجية، ولكنها لم تردد الأيديولوجية. وتعالى خطاب الحرية والكرامة والديمقراطية، ربما لأن هذا الخطاب الشمولي يخدم الخصوصيات الإيديولوجية الفرعية. إن الثورات العربية أحسنت هضم قصة الإيديولوجية، وأحسنت وعي الأفكار والتصرف بها، فقيمة الفكرة العظيمة هي في تنفيذها في الحياة اليومية وفي السلوك الشخصي، وإلا فما هي إلا متعة ذهنية تعبر ببعض العقول. فالذي يحتاجه مجتمع ليبني حياته ليس "ايديولوجية واحدة جاهزة " ولا صراع أيديولوجيات، بل حصاد ذلك أي الأفكار في مرحلة النضج والتنفيذ العملي لها، وهو المصلحة العامة المستخلصة من مساهمة هذه الأفكار في حل المعضلات، إنها الفكرة في ميدان العمل وهذا ما تحقق بدؤه.». ­ أنظر "هل غابت الإيديولوجية عن الثورات العربية"  محمد حامد الأحمري، الجزيرة نت. ورُغم أن الدكتور محمد حامد الأحمري حام حول فكرة تحجيم الإيديولوجية، غير أنه نأى بنفسه بعيدا عن التطرق لنظرية الثورة بالتفصيل وأكتفى بالقول «إن شروط نظريات الثورات - إن صحت – توضع على الرف مؤقتا»، وقوله إن صحت يوحي بأن تلك الشروط بل النظريات نفسها ينبغي إعادة النظر فيها. وعوضا عن ذلك تعمق الدكتور الأحمري في تفسير حالة الثورات العربية، حيث وفق كما يتبين للقارئ فيما أوردناه أعلاه في تحليل الأيديولوجية التي اعتمدتها الثورات العربية. والمطلع على ما جاء به الدكتور محمد الأحمري يرى مدى التمسك الحرفي بمنطوق نظريات الثورة الذي أسرف فيه غسان بن جدو حيث أ بن جدو:-    "اشتراط ضرورة توافر فلسفة للثورة وإلا لن تكون ثورة بل مجرد تمرد أهوج وانفعال بلا نتيجة سوى الدمار الذاتي". ويبدو أن غسان بن جدو قد ذهب إلى ما ذهب إليه " سبينوزا " الذي دان في كتابه ( رسالة في السياسة ) الثورة واعتبرها نوع من الخراب الذي يصيب البنية الاجتماعية والسياسية ويهدد أسس وكيان الدولة. ونحسب أن  تمسك السيد غسان بن جدو المتطرف بالنصوص الأكاديمية لنظريات الثورات، مَرَدَهُ إلى الغيظ الذي أنتابه إثر فصله من قناة الجزيرة، غير أن كيده هذا لا يذهبن ما يغيظ. ونجد نفس رأي الدكتور الأحمري وارد في مقالة بعنوان «الحقائق الإيديولوجية للثورات المعاصرة» للأستاذ مصطفى الحسناوي، الذي جاء فيه: -«ما يجري في العالم العربي اليوم، نقرؤه ونستنطق أبعاده وتأثيراته، فما يجري أكبر من أن تستوعبه فكرة أو حزب أو ايديولوجية، إنه طوفان يجمع المتناقضات من أطرافها، الافتراضي والواقعي، الفردي والجماعي، الإقليمي والدولي، ويحمل معه احلام وآمال الجميع.

ويمكن القول أن مفهوم الثورة، عموما، مفهوم زئبقي بامتياز يصعب القبض عليه، فهو لا ينتمي إلى ما يسميه المنظرون مثل "التوسير" (المفاهيم القوية (Les concepts forts، كما أن علاقة هذا المفهوم بالظروف والشروط التاريخية التي يتحقق فيها كحدث تاريخي تحوله إلى مفهوم متعدد الدلالات، متلون بألوان اللحظات والحقب التي أفرزته وبالثقافات السياسية للشعوب والجماعات البشرية التي أنجزته، لذا ينبغي الحديث عن مفاهيم عديدة للثورات، عوض الحديث عن مفهوم واحد.» ورُغم ذلك فإن الشروط الأكاديمية للثورة سواء تلك الشروط الموضوعية من شدة الاستبداد، وظهور الفساد السياسي والاقتصادي وحتى الأخلاقي كانت متوفرة في النخب المسيطرة سواء في تونس، ليبيا، مصر، اليمن وسوريا. أو الشروط الذاتية التي من بينها الرغبة في التخلص من انعدام الوعي السياسي، والتحرر من الخوف الذي يجعل النخب المسيطرة تشعر بعظمة هي عظمة وهمية في حقيقة الحال. هي الأخرى متوفرة

أما فيما يتعلق بعوز الثورات العربية للقائد الفرد الذي يطلب بن جدو ضرورة توافره لكي يرضى بن جدو بأن يسمي الحراك العربي ثورات، فهو قول مردود عليه بأن الأضرار التي أحدثتها الشخصيات الكبرى في التاريخ تفوق ما عملته من منافع ومحاسن. ويكفي هنا أن نُذّكر بأن الثورة البلشفية سرعان ما خلفت بعد وفاة  "لينين "، منظرها وقائدها الأساسي، نظاما اجراميا بزعامة  ستالين الذي نصب المشانق لرفاق الأمس، وأقام محاكمات موسكو الشهيرة، ونفى العديدين إلى مجاهل سيبيريا!. ولا ننسى مذابح الثورة الفرنسية، ومقولة (الثورة تأكل أبناءها).

ثم أن الحاجة إلى رجال عظام لم تعد قائمة في عصر ثورة المعلومات وثورة الاتصالات التي أدت إلى يقظة الشعوب، وإن مقولة أن «الرجال العظام هم الذين يصنعون التاريخ» هي مقولة قد عفى عنها الزمن وصارت من معطيات الماضي ولم يعد لها محل في الألفية الجديدة التي تصنع فيها الشعوب التاريخ والحضارة والمجد والرقي. وليرحل بن جدو إلى حيث شاء فالقافلة تسير و...!  

(الله ثم الوطن من وراء القصد)