ألقى الباحث المغربي الدكتور علي صديقي، مؤخّراً، بمقرّ "دار الأم للتربية والتكوين"، بالناظور، محاضرة قيِّمة، تحت عنوان "تقريب النحْو في التراث العربي الإسلامي: كتاب "الردّ على النُّحاة" لابن مضاء القرطبي نموذجاً"، ضمن سلسلة الحلَقات العلمية التي دأب "مركز الريف للتراث والدراسات والأبحاث" (وحْدة اللغات والأدب)، على تنظيمها، منذ انطلاق العام الجاري، بتنسيق مع "جمعية تيسير". وقد قسّم الأستاذ المُحاضر كلمته إلى ثلاثة محاور كبرى.
فأما المحورُ الأول فقد جعله مِهاداً لمحاضرته، عقده أساساً للتعريف بمفهوم "التقريب" لغة واصطلاحاً، ولتسليط الضياء على مسألة تقريب النحو قبل ابن مضاء؛ النحْوي والفقيه والقاضي الأندلسي المعروف، من خلال استعراض جملةٍ من المصنّفات التي ألفها علماؤنا القدامى لغرَض تبسيط النحو، وشرْح أصوله، وتقريب مسائله ومباحثه إلى المتلقين إبّانئذٍ، في المشرق والمغرب معاً.
وأما المحورُ الثاني فقد خصّه بالحديث المفصّل عن تقريب النحو في الكتاب/ النموذج المُختار للدراسة، وهو مؤلَّف "الرد على النحاة" لابن مضاء (تحقيق شوقي ضيْف)، وتبيان أهمّ مظاهره، مُوَطِّئاً لكلامه بتصْديرٍ قدّم فيه وصفاً مادّياً للكتاب، من حيث إبرازُ بنيته العامة ومنهجه ومقصدية مؤلِّفه من وراء تأليفه؛ والتي تكمُن، أساساً، في تيسير النحو، وجعْله بُرْهانياً، وتخليصه من كل ما هو ظنّي. وقد اختار المُحاضِرُ تركيز كلامه على اثنين من تجلّيات تقريب النحو في كتاب ابن مضاء؛ أولهما متعلق بنظرية العامل، والثاني بمفهوم التعليل. وذكر، في أثناء تفصيله القوْلَ في هذين المظهريْن، أن ابنَ مضاء أكّد فسادَ النظرية المذكورة، ودعا إلى حذف العوامل من النحو العربي جملة وتفصيلاً، سواء أكانت ظاهرة أم مقدّرة، لفظية أم معنوية. وذكر، كذلك، أن ابن مضاء لم يعترض على العِلَل الأُوَّلِ، على حين دعا إلى إسْقاط العلل الثواني والثوالث، وسجّل، في السياق نفسِه، ما لمسه من اضطرابٍ في موقف ابن مضاء من العلل. وللإشارة، فالعلة، كما أكد الباحث، ليست أصلا من أصول النحو، وإنما هي مجرد ركن من أركان أحد هذه الأصول؛ وهو القياس.
وأما المحور الختامي لمداخلة د. علي صديقي فكان مُنصرفاً إلى نفي تأثر ابن مضاء بالمذهب الظاهري في دعوته إلى إلغاء نظرية العامل وإسقاط العلل الثواني والثوالث، مستشهداً على ذلك بنصوص من الكتاب، ومقارناً بين موقف ابن مضاء من التعليل وموقف ابن حزم منه في النحو والفقه، ومُشيراً إلى أن المصري الراحل شوقي ضيف كان هو السّبّاق إلى إثارة هذه القضية وتأكيد علاقة ابن مضاء بالظاهرية، وإلى أنّ الذين تلَوْه ردّدوا فكرته هذه. ونالت هذه النقطة حظّا ملحوظاً من تدخلات الأساتذة والباحثين الحاضرين وتعقيباتهم التي أغْنَت المحاضرة، وفتحت آفاقاً أخرى للنقاش العلمي.