يخصنا الشاعر المغربي المرموق بقصيدة جديدة في شعرية الماء وتفاصيله، في مفارقات العالم وتضاداته، في شاهد ما يحدث وما ينتهي إليه، في اليومي المتسارع بأحداثه.. وبين تلك التفاصيل يصدح صوت الشاعر مستقصيا كنه اللحظة التاريخية وأفكارها، جاعلا من روح الإنسان أفقا للخلاص.

استسقاء

محمد الميموني

اهطلْ يامطري

سبعةَ أيامٍ

بلياليها

واجرفْ أحزانَ البؤسِ

وأوحالَ الفاقة

كي يتنفس هذا الشارع مِلْء الرئتينِ

طراوةَ إصباحٍ

لم تـتـنسمهُ رئاتُ الكهفْ

لم يألف أنوارَه أهلُه 

وُلدوا حيث يموتون غدا

بعيون بلهاء حسيرة 


صُبَّ أياما بلياليها

كي يتذكر مجراه النهر 

ويـَضمَّ إليه روافدَهُ

 يصفو حتى تلمع أحجارُ تواريخهِ

فنراها بلا غـَبَش القلم الخائفْ.

اهطل

حتى يطفو أجمل ما في عمق الإنسانِ

على الضفتين:

أحلامُ طلائعـهِ

ونفائسُ ماضيهِ.


اهطلْ حتى تبـْتـلَّ  خلايا دمي

وأرى في أعين كل الناسِ

منابعَ صافيةً

ومرايا مقدسةً

تـتنبأ بالزمن الغائبْ

 وترى زيف الدَّعِـيِّ الكاذبْ.


اهطلْ

حتى يغمرَ فيضُكَ صدري

ويعانقني  شلالٌ طفلْ

ويلاعبني  بين حقولٍ

ومحباتٍ خضراءْ

طالما انـتظرتـْها أناشيدُ الشعراء .

اهطلْ

فأنا ما زلت على أملي  

تحت سماء اللهِ

مكشوفَ الجلدِ

  كأوراق الشجـرِ

أنتظرُ بلا مَـللٍ

لأحِسَّ بأولى قطـْراتك

تحمل بشرى 

بزمان ما

 يوشك أن ينطق باللغة الأخرى

لغة تـُهدي كلماتِ العطر بلا مِـنَنِ

ورحيقَ الزهر بلا ثمنِ 

مثلما يتحاور سربُ  النحلِ

وبستانُ الزهر .          

الأشجار                                                                                       

لا تأْبَـهٌ الأشجارٌ بشحوب وٌريْـقاتها

ولا بما تمضي به الرياح من أزهارها

ولا ترثي   سقوطَ  ثمراتِـها

ولا تصدُّ قاطفا أو لائذا بفيئها

 ولا بخصبِ أوْ شـُحِ المواسمْ،

وما  يٌحزنها

إلا انصرافُ سِـْربِ الطير عن أغصانها

في آخر الخريف ونهاية الولائمْ .


تـُحب الشمسَ

 قدْر ما يؤنسها  

تنفسُ الطيور في أعشاشها

في ليل الصمتِ الحالمْ


تحنُّ للأمطار  وتـُراقِصٌ العواصف

وتعشق الأنداء وتـُعطـِّر الهواء

 وتملأ  الخلاءَ بالمَلاء،

تشيِّع الرياح لتستقبل الرياح

بفرحة الحضور في الوجود،

تداعب الترابَ بجذورها الخبيرة

وتستذرٌّ النسغَ للوريقةِ  

التي  أطلت بغتةً 

واستوعبت معادلاتِ الضوء والهواء

وتاقت لنصيبها من نسغ الجذر الدافئ.

   
تصغي الأ شجارٌ

لحوار كائـنات الليلِ

وكلامِها القديم

وترقبُ النجومَ

وتؤوِّل الومْضاتِ والغواشي   

تستوعب الحياة

بالسكوت عن أسرارها

وتقـْطع الزمانَ

بتجاهل الأحقاب والأجيال

ودورة النشوء والتلاشي .


                 أصناف الكلمات                                                                       

حدثـَني كليمٌ ذاتَ ليل عن أصناف الكلماتْ

فقال :

اعلمْ أن هناك عالَما مسكونا بالحروف والأصواتْ

وعالما موبوءا بأنصاف الكلماتْ

بلا معنى ،

وعالما فسيحا تتلاشى في خوائه الأصداء

بلا ألسنة ولا شفاه وأفواه .

وقال لي  :

هناك كلمات بظلال كالأشجار

وكلمات  ذاتيةُ الضوء كالنجوم

وكلمات تَسرق الأضواءَ كالأقمار

 وكلمات من شُواظ  نار

وكلمات ما أنْ  تلمس  الهواءَ

حتى  تختفي وتتلاشى

 بلا صدى

وتخبو في جليد سطحِ  كوكب مهجور.

وقال لي:                         

لبعض الكلمات سحْرٌ

يجذب الكنوزَ من مكمنها المحفوف بالأسرار

وبعضها كالرمل والحصى والطَّمْي

يَطمس المنحوتَ والمنقوشَ والمكتوب والمعمارْ


يهوَى كليمٌ فرزَ الكلمات من منجمها

ويُصغي لخطابها  بالصمت وبالفطرة السليمة

يستشعر الرسالةَ التي تأتيه عبْر الذبذباتْ

من قبل أن ينخدع الهواءُ بتَبَرُّج الحروف

 بالعطور المبتذلة الرخيصة

يَمل من ترادُف الأسجاعْ

في صَفٍّ متوالٍ  كسلسلة العميانْ

تمشي على إيقاع ضربة العصا

يخطو الأخيرُ وفْقَ خطْو القائد

ولا يحِيد حافرٌ عن حافرْ

بلا أفْق سوى جدار ثلجٍ 

 أو شفا جُرُف قادمْ

تهوي الأسجاعُ بعضها وراء بعضٍ

في فراغ اللغو أو متاهة الأصداء

 بلا ذكرى ولا لسان صدق

في كتاب العالـَمين.

 

 

بُرْج الثور

أوغلتُ في اللاشيء

حتى لاحتْ لي عيون الثور الشرس ِ

الذي أضناه حمْـلُ الأرض

فوق قرن واحدْ

بدا لي الثورُ غاضباً

أو هكذا خمَّنتُ

حين لم أبدِ رثاء لشقائه

ولم أُسْـعِفه حتى بالشماتة

حدسْـتـُه  ينوء ويَهمُّ بالخلاصْ

لكنه اكتفى ،لحسن الحظ ،بانتفاضة

رستْ مِن بـَعدها الأرضُ على قرنه الثاني

مستمتعا بحقه المشروع في استراحة،

ولـْتغضبِ البحارُ

ولـْتـَنكسرِ الجبالْ ،

ولـْتنطفئْ ،مرتابة ً في كل ما ترى،

عيونُ الموتى المهمَلين

ولْـتـَنظُـرْ هل تَرى سوى  لا منتهى  الفناء.

 

 

مزايا الطائر

حدقتُ في أشياء الليلِ ،

كانت الظلالْ

بمَـتْن حيوانيّ ٍ منقوع في الظلامْ

ألقيت بشباك الرمزِ

لم يعْـلق بها سوى أشباح ِ

حوريات وزعانفْ

وشبْـهُ ضوء عارٍ

وقصيدةٌ موءودة .

وكان الجناحان لازميْنِ لتصديق ويقينْ

أيقنتُ أن قيمة التحليقِ

في التقاء الكلماتِ

بمقامها الشعريِّ

ومضمونها الحميمِ

عند نشأة السماء والطيورْ.

مَزايا الطائر  الوحيدِ

السابح البعيدِ

المتوغلِ العنيدْ:

علوٌّ

لا عتوٌّ

وانفرادٌ لا انعزالٌ

وغناءٌ دون حاجةِ

سوى إلى هواء وفضاءْ

 

 

محفوظ  شائع
مِن عهْد الكهف إلى

زمن الإخفاق

هل غيّر وجهتـَه النهرُ

وارتدّ إلى رحِم النبعِ

هل ملّ البحرُ تزاحمَ أمواجه

وتوالِي أسرابِ النورسِ

مِن مطلعها في الفجرِ

إلى الشفق الغابر.

مَن علّم دلفيناً

 كيف يشُق الخطّ الفاصلَ 

ما بين البحر وأمواجه

من علّمَه ما لَم  يعلمْه ربابنةُ الطوفانْ؟

هل يوجد محفوظٌ شائعْ

محجوبٌ في بُعد خامسْ

لا يُبصره الرُّبانُ

 ويَحْدسهُ النورسْ

يتماهي بالزبَد الطائرْ

ويوَشوش في أذُن الأمواجْ

بالسر الغائب في حدس النورسْ

نُـدْرة                                                

دلني، إن وجدتَ، على كلِمة

وحدَها  تصف الأفُـقَ المتمَوِّجَ  مكتفية 

بخزائن ميراثها

لتحيط بما يتناجى بهِ

العاشقان  البنفسجُ  والأرجوانْ

في لقائهما السرمديِّ

على شرفات الغروبْ.


اعطني كلِمَة

تسَع الكيفياتِ وجوهرها

وتقول بمحض تنفسِّها

كلَّ وامضةٍ

من  مراتب  قوس قزحْ.

 
اعطني كلِمة

نسيـَتـْها المعاجمُ

واحتفظتْ

بكفاية كل المعاجم مجتمعة.


 اعطني كلمة  

تتفرع كالشجرة

وتبيح غصونَ مجازاتها

وثمارَ مواسمها

لاحتضان خلائق من زئبقٍ

لا تدوم ولا تستقـرُّ

على نمطٍ

أو مسَـلَّمةٍ

وتطير كما تشتهي

بين رطْب ومشتعلٍ

وقصِيٍّ ودانْ

 وتشف كلؤلؤة،

من لدنـْها، بما حلمتْ

في محارتها

قـبْل أن يُسفر الصمتُ

عن صخب النطقِ

ثم التراشقِ بالتسميات .                                 


اعطني لغةً

 قولها لُمَحٌ

لا حروفٌ ولا صورٌ

ترفض الخُـلـْفَ

والمتهافتَ

والمبهمَ الملتبسْ

وتسمِي الحُدوسَ بأسمائها

تتأملها عنصرا عنصرا

لترى من خلال بداهتها

سرَّ إكسيرها

وتـَجدُّدَ خِلقتها

كلما سلَخ الليلُ جلدتـَه

وارتدى حلةَ الشمسِ

في فجر يوم  جديد.

 

 

أين أنتَ مِن النهر
1 - في وقفة حساب
في وقفة حسابْ

يأتي منْ مطْـلق الأبعادِ

هاتفٌ رخيم ورحيمْ،

يسأل حيّاً ميتاً

مشدوهاً

لا يكاد يستفيقُ

من دَوار  المَيـّتين:

ــ لماذا كنتَ جامحَ السؤالِ

متمردَ الجوابِ

متذبذبَ اليقينِ

وعسيرَ الاقتناعْ ؟

ــ إلهي، حقا،

لم أكن متينَ الدينِ

لكنّ خيالي


كان دائما مسكونا بوجودك،

أرضَى ولو بلمحة جوابٍ منكَ

لكني أشك في دعاوى المفترين

وتغابي التابعينَ

وتواطؤ  المفتين والرعاة الوالغين.

ــ إذن من أهل الجنة تكونْ

ولكنْ

لن تطمئنَّ  إلى وجودك بها عيانا،

ولن تشفَى  من شكّكَ الأرضيِّ

لن تختبر اليقينْ.!

 

2 ـ الحكاية
سَرْد الحكاية على أوتار عودٍ

شاردِ الرنين

كالسير في الضبابِ

في المسالك المجهولة

وما الحَصى الذي يـَشق الخُـفَّ

ويمِضّ القدمَين

إلا نَـشاز لازمٌ  لوتر شريدٍ

 في متاهة الإحجام والندوب والذنوب

أما الحكاية فصْدق هيَّ

مثل حلْم طفلٍ خارقْ

يحكيه متلعثما كما رآهُ

قبل أن يستهزئ الكبارُ

من غريب محكياته ،

فكيف لا  تضيع من خياله الحكاية

ويَـفرُغ  الفراغُ للشرود والإحجامِ

 وخفوتِ صوت الروحِ 

وتراكمِ الضبابِ

وجفافِ نهر الحُـلم والخيال. 

 

نشاز الهُويات
العالم ،

الحياةُ،

واكتشاف سر الذاتِ،

أو معجزة الوجودْ،

حدود هيّ أمْ منطلقات؟

وما تكون الذات غير آلة التوفيق

بين حتميِّ الحياةِ

وجموح الرغبات

وما الهُوية إلا افتراضٌ

واختيار واقتناعٌ وإرادة.

هَباءٌ نحن ما لم نـتعرّفْ

ونُـعرِّف بذواتنا

ونكتشفْ جذورها الممتدة عميقا

في شعاب الهوياتْ،

نشاز العزف قد يأتي من سامِع أصمّ

بينما أوتار العود في تناغمٍ حميمْ

نشاز الهويات

مِن تـَشوش الخطاب

وخفوت صوت الماء في المنابعْ

تفور وتسيل في شعابٍ وجداول بعيدة

لكنها تصُون بـِلّوراتِها

وأصلَ هوياتها: 

 تمايزٌ مَرأيٌ

وتناغمٌ خفِي

 

 

سَـعـَـة الصمـْت
أيها الشبح الفرد في ملتقى السبلِ

لا عليك إذا لم تحاور سوى خاطرِكْ

لا عليك إذا لم يجبك سوى ظلك الصامتْ ،

مثــْل أمسكَ،

لا تنتظرْ مؤنسا أو رفيقا غدا

حين ينتشر النقع فوق الطريقِ

و يبحث  عن مستقر له في العيون.

 لن تراك الطريقُ

ويغرب وهْمُ السرابِ

وتبدو المتاهة تائهةً

 والسهول التي قد  تجاوزتـَها

ذات سَرْنمةٍ

دونـَها الآن حلْم مُعاد.

 قد يعود السرابُ

إذا انقشع النقعُ يوماً

ويبدو  قريباً

ولكنه يتباعد قدْر  توالى خطاكَ

إلى ما حسبتـَه نقطة ضوءٍ

تشير إلى منـْفـَذ في ختام النفقْ.

وسيمنحك الضوءُ فسحةَ خيط رفيعٍ

يقود إلى ضفةٍ طالما تـنبأتَ بـها

لتحط حِمالـَك في دَعَةٍ

مثل طير

تخلص من عبء تحليقه في الفراغ.

ربما لن ترى فسحة الضوءِ

حتى تخورَ جناحاكَ

 ثم تحطَّ على كومة من خرابْ

وتحسَّ بثقل الهواءِ

 الذي يتفسخ فوق المدنْ.

  
مثل آخَرَكَ المتوحدِ

في نفقٍ  عكْس خطِّ مَسيركْ،                  

تشتهي أن تصادف حلمكَ

في كل منعطف وتصافح آخَركَ

الخصمَ والمُبتـغـَى

وتـُبددَ صمتـَك عبر امتداد الطريقِ

الذي ما يزال عليك تحمّـل نـقعَ عواصفهِ

وسرابَ هجيره.


أنا مثلك أبحث عن حفرة ٍ

لأُراوغ َ ذاكرتي

وأذاري عماي

فإذا أنت صادفتني

لن أعيركَ أُنساً

ولكننا قد نشيِّد من صمتنا

مدنا وقرى في خفاءٍ

وفي غفلة عن كلامٍ

تحجَّر في كتلة من جليد.


أثرُ الصمتِ باقٍ

ولا تعرف الريح كيف تبددهُ،

لن يضيعَ هباءً ،

فما أضيق الكلماتِ

وما أوسع الصمتَ

في عين من يتلمس نَحْتَ

كتابته ومهارة إزميلهِ

وهو يحفر في لوحةٍ 

عَرْضُها

 عرضَ ما بين أعلى سماءٍ

وأسفلِ ماءْ.

 

 

منطـق الطيْـر
كنزان  ومفتاح  مفقودْ

 يفتح باب الكنزين  معا

أحد الكنزين على تـل عال

محجوب في منطقة الظل

والآخر مكنون محفوظ

 في معجم ذاكرة النسيان.

وعلى  مفرق منتصف البعد

 في نقطةِ  ما بين الكنزين

أحد ما مهووس حائر

مسلوب  التخييل الخالق

يتردد بين أعالي التل

ومنحدر الهامش

يتوهم أنه  قاب ذراعينِ

من كنز موعود جاهز

وعدتـْه به جهة عليا

تبحث عن منتهز ماكر

يجمع كل شروط الشره الأعمى

وتهور مقتحم 

لا يحمل خارطة

أو بوصلة أو وجهات

تفضي لعوالم خارج عالمه الواحد.

قرأ الحائر عنوان رسالته

وتسلح بالشره اللازم.                  

ومضى

يسأل هذا النازلَ 

أو يستفسر ذاك الصاعد،

 لا يسمع من أحد  نبْسا

لا تسعفه همسة  عينٍ

أو لافتةٌ

أو لمْحات تواطؤ   .


تغويه هواجسه

بتسلق أدراج التل العالي

فيواجهه الأفعوانُ الشرسٌ

الملتفُّ على  منطقة الظلّ

لا منفذ في جسد الأفعوان الحارسِ

بين الرأس المتحفز للنهش

 والذيل المسلوت الباتر.


يرتد الحائر مهزوما  

 يهوي  من أعلى التل

إلى  وهد الخيبة .

 ªªª

وعلى بعدٍ فلكي من منطقة الظل

بقعة ضوء دافئ

يتوسطها بيت معزول

لكنه مأنوس معمور

أبوابه مشرعة 

تستقبل  أسرابَ الرياح مرحبة

ملء مدار الأوقات.

 
يرتاب التائه في تلقائية الترحاب،

لا حارس  لا حاجز،

يسأل في منتصف المدخل:

هل مِن ساكن؟

 
لا صد ولا ترحابَ

سوى وَصْلات مقاماتٍ

وتجاوبِ  أصواتٍ

 وتذوق إصغاءٍ.

 لا سقف ولا جدران،

بل واحة أضواءٍ 

وكثافة أدواحٍ

أو هو مدينة أعشاش خضراء

في غابر ذاكرة العمران،

لم يبرحها ،أبدا ،قاطن،

لم يسأل عن مفتاح منازلها وافد،

تنفتح بها الأبواب بكيمياء الصوت

ومفاتيحها إيقاعات

تتحسسها آذان الطيرِ

وتقرأ شفرتها

بقواعد منطقها المكنون.


لم يدر الوافد كيف يدس نشازهُ

بين مقامات عليا،

من أين لأذنيه الإصغاء لأنفاس الألحان   

وهو اللاهث  

في شبه حياة

بين الكنز  الموعود

ومفتاح مفقود،

لم يسمع في غيبوبته الخرساءِ 

إلا  صخب البورصات

وهمهمة الصفقات.

هيهات لمهموس

بجداول دمياطه

أن يكتشف المعنى في تغريد الحسون

 وهذيل  السِـّلمِ

وإصغاء الماء .

من أين لمعطوب الذوق

أن يلتقط النغم الفاتحَ

والإيقاعَ الخاتم ؟

  
في أوج الصمت ،

قطع التائه سلسلة  النبضِ

بتدبير سمِج ماكر

ونشازٍ منحرف نافر:


"صمتا !

ياسكان  الدوحة

ياهواة  الجلبة

صمتا حتى أستخبر عارفكم

عن كنز مسحور مرصود

مفتاحه مكنون

 في  مأمن ظل مدينتكم 

ولعله في  الجذر

الأعمق من  دوحتكم  هذه. 


ما الجدوى من إجهاد حناجركم

ما لم ترسمْ خارطة الكنز

أو تكشفْ مكمنه المرموز؟"


ماجت بالشهقات الدوحة 

وانتفضت أجنحة  الطير  

وارتعشت أفراخ  الأعشاش

وتكسر إيقاع اللحن

واندس نشاز  المنتهز الماكر  

كفحيح مبحوح خانق .


سكت الحسون

 وأمسك عن زغرودته الكون

وأتاح الصمت لطاووس 

يخطو  تيها بدنانير أذياله،

أن يصرخ منفوشا

منفردا

مغترا بإثارة ألوانه .


لكن هديلا من شـُرَف الدوحة

 لا يبرز، في العادة،  بين الأصوات

إلا في لحظات الصمت الغاضب 

قطع الدهشة  والصمت بترديد ناعم.


أصغى أهل الدوحة في صمت صلاة

للشيخ الطاعن في السِـّـلمِ

الزاهد في فـُرص الغـُنـْمِ

أعلن من أسفل أدراج المنبر

همْسا أدنى للصمت

وكأنه يستفتي ذاته:

"هيهات لصوت مغرور زاعق

أن يتعالى فوق السنفونية

المتواصلة النوبات مدى تاريخ مدينتنا،

 
هيهات  لمهووس بجداول دمياطِهْ

أن يتخيل كنزا

في حرية التحليق.

من أين له أن يعرف

ماذا يرى الطائرُ                                        

حين يغادر  ظل جناحيه

ويغامر في علُوٍّ  يعلوه علُوّ.

كل الأغصان مطاراته 

وخيوط الشمس إشاراته

 تتلمسها أطراف جناحين

بشعيرات متحفزة حية

وتؤولها وفق رموز الهدهد.


كنز الطائر شِسْع أزرق

 ومفاتيحه حدْس ومغامرة

وفضول محبوب نادر.

لا حد لآفاق الهدهد

إلا الحرية والسفر  الدائم،

لا رمز ولا مفتاحَ

إلى سبع سماوات 

تـَسَـع الأبعاد بكل خرائطها،


كنز الطائر نـُسْـغٌ

يأتي رغـَدا في كل صباح

يصعد من أعراق الدوحة

حتى مهد البرعم في صرخته الأولى"

ªªª

كانت كلمات الشيخ الطاعن في السلـْمِ

متواضعة

لا تأمر أو تنهى

عبرت بسفينة أمته 

من صمت مذهول حانق

حتى فسحة  صمت يقظ خالق 

ونما من مصفاة هديله

صوت جذل حاد

أيقظ أهل الدوحة

من غفوة لوثات اللغو

ونشاز الطاووس الزاعق

فتناغمت الأصوات

وتسلسلت النوبات

من تغريد الحسون الحرِّ

إلى سجع وهديل سِلمي زاهد.


لكن التائه لم يصْحُ

من خدر الغيبوبة بعدُ    

ما زال يراوح في ذات المحور

يتوهم  أنه قاب ذراع

بين التل المتباعد يوميا

والكنز المرصود الغائب.            

 

شاعر من المغرب