الفرد هو منتهى الحرية ومبتغاها، ولهذا هما أيقونتان مقدستان ككينونة داخل الحياة ، فالفرد لا يجد ذاته وتعبيراته الثقافية والحياتية ألا في ظلال الحرية، من هنا رفعت الباحثة والناشطة السورية رندا قسيس قناديلها في ظلمات الحياة، بكل أشكالها وألوانها، ودخلت في صراع مع قوى الشر ، من أعداء الانسانية وحقوق الفرد وحرياته ، فحملت مع صولجاناتها النحاسية فكرا ومبادئ بيضاء وشفافة للبحث عن الذات الأنسانية وانعتاقها من نير الظلم والجور والفساد والتسلط الديني والسياسي والأجتماعي، لتصنع عبر الكلمة والفكر والثقافة منظومة ووشائج من الحريات يكون أساسها وتربتها وجذورها الفرد الانسان ، ذلك الكائن الذي يحتاج للضوء والماء والهواء، وقبلها للحرية التي تحتضن كينونة الفرد وأحلامه وثقافته والنشئة التي يتربى عليها داخل هذا المناخ . ولكن في ظل ثقافات رمادية متشعبة ومخيفة، دجنت الفرد وروضته ضمن ثقافة الحاكم والأله والسلطة ورجال الدين والقبيلة، وبوجود قوى تعتبر نفسها ألهة أرضية تسخر كل شيء لنفسها دون حواجز ورقابات وضمير واخلاق. كان لابد لرندا قسيس أن ترفع صوتها عاليا، وتعلن أنها معركة للحريات وللفرد ووجوده، أنطلاقا من تسليط الضوء على تابويات ومحرمات يخشى الكثيرون الكتابه فيها، لتخرج عن اللامألوف ، وتثبت أنها ليست أنثى تابعة لسلطات ذكورية ومجتمعات مدجنة تحت ثقافات وهرطقات مخيفة، ولتعكس أن للمرأة صوتها وفكرها في قضايا ثقافية آن الأوان لرفع الستارة عنها ، والحديث فيها بشكل علمي وفلسفي عميق وموضوعي ، بعيد عن نزق الشخصنة والنرجسية، لتضع بين يدي القارء كتابها الجديد وبحثها العلمي في فلسفة الدين والجنس والثقافة، ليكون مشروع فكري وبحثي للباحثة على مدى المستقبل ،للوصول لحقائق منهجية ستغير الكثير من المفاهيم والرؤى لدى الناس والمجتمعات.
تقول الباحثة في مقدمة كتابها : لقد أعددت هذا الكتاب، ليس من أجل نفي أو إثبات ديانات أو أخلاقيات، وإنما من أجل أن ننظر في سراديب الذات التي جاءت منها. وهذه خطوة أولى فيما أظن أنه مشروع يستحق التوغل فيه بهدف التحرر من جميع القيود التي تكبل فكر الإنسان من أجل ولادة جديدة للفرد في هذه المجتمعات.
تتحدث في كتابها عن الآخلاق ومنابعها ، من خلال معالجة انتربولوجية لها، فتبدأ بالنظام الطوطمي وبداياته لدى الانسان، كنظام عشائري وقبلي قائم على مجموعة من التابويات التي تتلخص في عبادة الطوطم والطاعة له.
ثم سارت في عوالم السحر والروحانيات ودلالتها النفسية. ايضا حلقت في متاهات الأساطير الغريبة، وكيف أنها نابعة من الروحانيات وشعور الانسان نحوها. ويبقى موضوع الجنس كثقافة وفكر حيوي لدى المجتمعات،ركيزة من ركائز هذا الكتاب ، حيث تتحدث الكاتبة عن الجنس وعلاقته بالنفس والعقل وسلامتهما، من خلال دراستها اكلينيكيا وكيف يمكن تحويل الطاقة الجنسية لعملية تمنح عطاءا وابداعا للفرد تجاه محيطه وبيئته.
كان للأم حضور في فكر الكاتبة، حيث تحدثت عن الطبيعة الازدواجية للأم لدى الطفل، وذلك من خلال مشاعر الحب والكراهية التي تنشئ لدى الطفل تجاه أمه والتي اعتبرها فرويد أن حياة الفرد مقترنة بطفولته وبمحيطه.
لكن المثير والشيق هو تطرق الكتاب لموضوع الخلق، انطلاقا من الآساطير القديمة، فنجد أن الإله الخالق يعكس حالة كمالية متكاملة ومتداخلة بكل أنواعها وأشكالها، فهو الخيال والهلوسات والرغبات وحالات القلق والخوف...الخ، كما يرتكز مفهوم الإله الأولي على أساس المعرفة والإدراك المطلق، فهو حالة إدراكية كاملة للداخل النفسي والخارج الواقعي، ليكون نقطة البداية والنهاية للحياة والموت.
ثم تنشأ الكاتبة نماذج ثقافية في دراستها بين المحيط الخارجي والأرضية التي تستند عليها، فتتحدث عن الأخلاق والعادات والقوانين والأعراف ،وكذلك في منابع النفس الأولية، والغرائز وماهيتها.
تظل تحلق بنا في عوالم ميتافيزيقية تجمع بين الفرد ومعتقداته الأولى تجاه كل شيء من حوله ، كمقدسات ومحرمات، وحاجات حيوية مرتبطة بكينونته ومجتمعه، وعلاقتها بالادراك والأخلاق ومنابع النفس والجسد والجنس والدين.
لكن رندا قسيس تأخذنا بعيدا للماضي الجميل والتاريخ المليئ بالألغاز والأساطير، لتعيدنا في نهاية المطاف لتربة الحرية، وعلاقتها بالحياة ، تقول في ذلك :
(الحضارة البشرية ناتجة عن تطور مرحلي للوعي والإدراك المتغير حسب المنظور المنفعي للبشرية والتي تخدم استمرار العرق الإنساني. من هنا، أعتقد بضرورة العمل على إعادة الحرية للفرد أولاً والحد من قمع غرائزه من أجل العثور على توازن سليم ما بين المصلحة الفردية والجماعية. فالهدف الرئيسي هو إيجاد وعي أكبر لتحرير الفرد من جميع الإلزامات التي قيدته بها الجماعة وإيجاد توازن بينه وبين مصلحة الجماعة).
هكذا هي رندا قسيس بأفكارها وأحلامها وحياتها، تضع أمام المجتمعات أفكارها الصحية، والجميلة بشكل علمي وفلسفي وثقافي سلس وممتع، من خلال سراديب الآلهة ، ودراسة كانت متعبة وشاقة بالنسبة لها، من منطلق تقديم خدمة ثقافية وفكرية للمجتمعات الانسانية، بغاية تطوير الذات الفردية وتطهيرها من كل الثقافات التي تقمع حريته وتكبتها وتقيدها، لتتحول لذات مبدعة وطاقة بشرية قوية وغير محدودة تساهم في خلق وبناء مجتمعات انسانية حرة ومتطورة تكون منبعا لديمومة البشرية بصورة صحية وسليمة .
أسم الكتاب : سراديب الآلهة.
تأليف الباحثة السورية : رندا قسيس.
مصمم الغلاف : الفنان لقمان أحمد.
دار النشر: الناشر الألكتروني العربي الأول للكتب.2012