يواصل الناقد والمبدع المغربي سلسلة مقارباته للمشهد القصصي الحديث في المغرب، على تنوع تجاربه ورؤاه. ومعه نعيد تشكيل هذه الخريطة المتعددة للمشهد القصصي في المغرب الذي يعرف حركا لافتا على مستوى المنجز والقراءة.

القصة المغربية القصيرة الأخرى: «ندف الروح»

عبدالرحيم مؤدن

لعل اختيار الكاتب "إسماعيل البويحياوي"  للقصة القصيرة جدا لم يكن محض صدفة.  فالقارئ للمجموعة، الحاملة للعنوان أعلاه، يلمس طبيعة هذا الإختيار التي كشفت عن مكونات هذه التجربة الفكرية والإبداعية.

1- حول العنوان:
يقدم لنا  عنوان المجموعة أعلى مراحل الكثافة السردية متلفعة بإهاب شعري زادها كثافة وتكثيفا. ف(الندف) من ألفاظ التضاد التي تحتمل الثقل( الثلج) والخفة، (القطن)، الصلابة والرهافة،  الملموس والمجرد، زخات المطر( ندفت السماء بالمطر)ورحيق لبن يرجعه عقودا إلى الوراء(الندفة: القليل من اللبن) مترعا بالنظرات الحانية والترديدات المدغدغة. (يضفرون لنا شواطئ حلمية.  نجري،  نتسابق،  نتلااش ماء الحكي،  ثم نغطس في بحيرة النوم)ص. 28.

وعندما تضاف الندف إلى الروح،  تصبح الصورة أقرب إلينا من حبل الوريد،  وأبعد من جبل "قاف". ف" الروح"  لن نلمسها إلا من خلال  ندف القصص المنشورة في المجموعة،  والتي لاتعكس،  بدورها،  سوى ما فاضت به هذه الروح  ببعض  ندف الذكريات والإستيهامات والسرنمات. الروح، إذن،  تفاعلات الفكر والخيال( المتخيل)عبر ميكانيزمات الزمان والمكان، وتحولاتهما في الماضي والحاضر, الروح تشف عن كل ذلك بحكم تجسيدها لترسبات الوجدان ،  من جهة،  وحركية العقل من جهة ثانية.

2- النص:
استعملنا المفرد الدال على الجمع. فالقصص القصيرة جدا،  حلقات من قصة  واحدة امتدت بامتداد ترجيعات الروح المتوثبة داخل جسد يعيش عده العكسي.  إنها صوى الطريق التي تقود السائر/ السارد في طريق الحكي،  طريق المعرفة،  والتعرف أيضا،  على الذات وتحولاتها.  ومن ثم،  فالمفارقة بين شباب الروح وشيخوخة الجسد لعبت دورا  محوريا في تجاوز الإحساس بفاجعة الزمن.  ولعل هذا ما يفسر إلحاح السارد على:

أ- التوثيق التاريخي من خلال سنوات الميلاد( سقوط. ص، 19)،  ومراحل تقدم العمر(العطلة. ص، 33) والتأكيد على تواريخ حاسمة (روافد القصة. ص، 32/مذكرة حارقة. ص، 46/حمى الذاكرة. ص. 48/ في. ص.    55. )  في هذه السيرورة- والصيرورة أيضا- للكائن ومحيطه.

ولايتردد السارد في حفر أخاديد زمن يتجاوز به أعطاب الجسد( ("تعب الطين"/ مظفر النواب) نحو زمن تحقق في لحظات التذكر التي لم تعد من نصيب الماضي ،  بل إنها رافقته في رحلة استباقية نحو العدم( سنة 3000. . . . وبينما تنهشه فلول الفراغ،  عانق رمق سيرته الإرتدادية وارتمى في شفرة العدم). سيرة ذاتية. ص، 31.  

التزمين ،  إذن،  يعكس هذا الإحساس الفاجع بالزمن،  بالرغم من نسمات الطفولة،  وذكرياتها الندية في  بعث الموات.

ب- الحفاظ على وشم الطفل في أعماق الروح من خلال الصور التالية:

&- الطفل طفلا.

&- الطفل يافعا.

&- الطفل شيخا.

&- الطفل نصّا.

وإذا كان القاسم المشترك بين هذه المستويات الأربعة،  يتجسد في الطفل،  والطفولة،  فإن ذلك لم يمنع السارد من استكمال عناصر الفضاء الطفولي الذي أثته  صورة الأب والأم، وذكريات الجدة ،  وشيطنة الأتراب،  ومحطات عمرية مختلفة لم يغادرها الطفل الذي ظل  ملازما له في  الحل والترحال. (...صرخت فأغمي علي وانتفخ جسدي, كبرت،  درست،  أحببت، تزوجت،  ثم شخت..... إثرها هاجمني الموت فصرخت.  حضنتني أمي،  سقتني حليبها, أفقت الرضيع الذي كنت،  ورحت أعدو في فصول غيبوبتي)ص. 15.

ومن الطبيعي أن يخلق الحنين إلى الطفولة  نوعا من " النوستالجيا" التي رانت على المجموعة بإهاب من الشفافية الحريصة على الإحتفاظ بطراوة الذكرى،  وطزاجة الشعور، خاصة ان مرحلة الطفولة شهدت،  لدى الكائن،  تخلق التجربة الشعورية،  والجمالية، وما رافقها من كشف، واكتشاف، لأبجديات الجسد والطبيعة والسلطة، ومختلف العلاقات الإنسانية بين الإنسان والإنسان،  بين الإنسان والعالم.  

من ناحية أخرى،  تعتبر مرحلة الطفولة بيتا دائما للحكاية.  وإصرار السارد على استرجاع هذه الذكريات محاولة لبناء النص الحكائي من خلال " تاريخ شخصي"،  سيتماهى،  في نهاية المطاف،  بتاريخ الحكاية. تعكس هذه المقاطع ملامح هذا البيت الحكائي.

&-" دونت رحلتي على لوح محفوظ قصيصاتي". ص. 15.

&-" يخلع قشرة شيخوخته،  يتوسد ركبة السارد.  يزوق لسانه بقرآن الطفولة)ص. 14.

&-( أبي وأمي قريبين بعيدين،  وسارد باسم  يغمس يده في طفولتي ويرضع ذاكرة قصيصته). ص. 18.

&- ( وبينما منقاري في منقارها،  تداهمنا مي وردية. نطيييير. تخترق بنا السنوات المسافات.  نحط في عش هذه القصيصة، فينا حمام الذاكرة). ص. 24.

نجمة. ضحكت أمي.  طفقت بكلتي يدي أمسك نجوما تتقافز في حضن" زلافتي" السحرية... النجوم والفنيد والزرقة والحمرة تتلألأ على محييهما. . . )ص. 18.

ه-وإذا كان الشفهي مكونا من مكونات الثقافة الشعبية،  فإن هذه الأخيرة تحضر بصيغ مختلفة مدعمة المحكي الشفهي ، من خلال المظاهر التالية:

& صورة الغلاف التي جسدت نافذة منزل بدوي.  الإطار الخشبي المتين من جذوع الأشجار،  والجدار المقشر يطل  منه الحجر الصم.  وفي القعر المظلم شيء أشبه بالصرة المنتفخة بالحب،  أوماشابه ذلك.  والمتأمل لهذه العناصر يشعر بتماهي النافذة مع هيكل بشري ، غلبت عليه احمرة بقايا أنسجة، وبرزت منه العظام،  لكنه ما زال قويا قادرا على الصمود والإستمرار.

وتجويف النافذة ، بدلالتها المركزية، يحقق الرؤية المزدوجة: الرؤية نحو الخارج،  أي الصلة بالعالم الخارجي، شهادة وتواصلا ( محمود أمين العالم.  تأملات في عالم نجيب محفوظ).  ويحقق،  من ناحية أخرى،  الرؤية نحو الداخل، بهدف استرجاع مامضى، والإحتفاظ به في قعر الذات.

ستأخذ الصورة ذاتها بعدا آخر عند نقلها ، إلى أسفل الغلاف الخلفي مذيلة،  من قبل السارد،   بتعريف  كفانا شر الإضافة. (هذه النافذة متحف لكثير من ندف روحي.  هنا صرخة ولادتي،  هنا حبوي،  طفولتي،  ختاني ،  عائلتي. . .  هنا ندفي.  عناقيد موت).  النافذة ،  إذن ،  سيرورة مزدودجة للذات والأسرة،  أو بعبارة أخرى: صورة عائلية تتقراها أنامل السارد لتنبجس ،  من بين أصابعه،  سردا وحكايات متعددة.

المظهر الثاني يتعلق بالمعجم البدوي  الذي حرص فيه السارد على الإحتفاظ بالكلام قبل الكتابة. وبالإضافة إلى ذلك،  فالمعجم صوت من لاصوت له أمام اجتياح الثقافة العالمة. والمعجم معاجم:

 +معجم اسم العلم،  سواء تعلق ذلك بالسارد في تنويعاته  القائمة على النطق الخاص( اسماعين عوض اسماعيل)، أو على التحبب  والدغدغة الأليفة( سمعون/سمينيع).  ينضاف إلى ذلك أسماء أخرى لعبت دورها في تأثيت ذاكرة السارد( ولد البرانس/ ولد العيان/الزعرية/فاطمة/)،  دون نسيان استنبات السارد لاسمه  تصريحا داخل الحكاية( سيرة ارتدادية. ص. 31/ذبيح. ص41/خطفة. ص. 50. ) أو تلميحا( معظم نصوص المجموعة). .  كل ذلك بهدف إثبات شرعية الإنتماء إلى علم الذاكرة الغميس  بحكايات لاتنضب. ( سيخبركم سارد السراد أن رواة سيرتي ،  سيرتكم الشعبية سيحكون يومها بأياديهم. . . . ) ص67. .

+ معجم الألعاب:(عرام التشيش/لقيوش/)

+ معجم المكان، ببعده الإثنوغرافي للتأكيد على هوية محددة (دوار الكرعة/دوار أولاد طالب/الخلوة/الحومة/..) ، أو قد يأخذ بعدا فضائيا يخدم السياق القصصي (باليما لإدانة الفساد.ص. 43/ مدرسة محمد الخامس )، أو اكتشاف اللحكي بأبعاد مختلفة( شجرة الخطيئة واللذة المحرمة. ص17/صبرا وشاتيلا وإدانة العدو الصهيوني/ثانوية عبدالكريم الخطابي والحب الأول/حمام الشط التونسي والغارة الإسرائيلية).

وإذا اضفنا إلى ذلك مظاهر الإحتفال المختلفة التي ساهم فيها الإنسان من جزاء وعقاب،  فضلا عن  تقاليد الختان  وطقوس مواجهة الموت(الأب/الأم / الجدة/ الأتراب/ الشخصيات ذات المرجع الواقعي  من معلم وجيران وأصدقاء ومتسلطين،  أو ذات المرجعية المتخيلة،  في الماضي والحاضر).  وساهم في هذه المظاهر، أيضا،  الماء والهواء والتراب والنبات  والحيوان...  كل ذلك يؤكد على ما سبقت الإشارة إليه من احتفال بالهو ية الذاتية التي لم تكن الحكاية سوى أداة لمسح الغبار عن  ملامحها.

&-  يخترق مظهر آخر من مظاهر الثقافة الشعبية المكتوب في عقر داره. وأقصد بذلك التوزيع "الكاليغرافي" على مستوى الكثير من صفحات المجموعة:

 (ص17/24/27/35/41/44/46/56/62/65/66).  

هكذا شكل هذا التوزيع ظاهرة مقصودة من قبل سارد،  قد لايستدعي تخطيطا حداثويا،  بقدر ما يستدعي تقاليد الرسم الساذج في " جداول " الفقهاء وخطوط الصمغ في اللوحات الخشبية،  أوفي قعر منحنيات " الزلايف"،  أو بين تلافيف  الأحجبة والتعاويذ.  التحديث هنا ينبع من داخل الهوية،  وليس من خارجها.

&- الإحتفال بالهوية لايتعارض مع  وضعية سارد لم يبق حبيس " نوستالجيا" مرضية،  بل كان شديد الحرص على التقاط ذبذات ما يحيط به من أحداث،  وطنية وقومية، عن طريق صياغتها من موقع الهوية ذاتها.  فمن المؤكد أن طبيعة هذه الأحداث والوقائع (التمايز (الإجتماعي/ العدوان الصهيوني/ الإستبداد السياسي..الخ) تؤثر في الهوية،  وتتأثر بها،  مادامت هذه الأخيرة  نابعة من قيم محددة تنتصر  للإنسان في ضعفه وقوته.

أخيرا ، وليس آخرا،  لايتردد السارد/ الكاتب في طرح– وهذه  بين كتاب القصة القصيرة جدا-طرح إشكالية الكتابة السردية.  والمجموعة تعكس هذا الهاجس الذي ينخرط  فيه السارد بوعي،  قصدي،  سواء تحول إلى شخصية باسمه الحقيقي(ص41/43)، أو النصي( ضمير المتكلم/ الصفة السردية/ نصوص عديدةة في المجموعة)، أو،  من جهة ثانية، قد يمارس هذا السارد  تقنيات التداعي- وهو الغالب على المجموعة- بهدف الإسهام في طرح لإشكالية اختيار هذاالنمط،  عن طريق الحكي ،  قبل التنظير  النقدي. أو بعبارة أخرى: لاينفصل التجنيس عن إنجاز النص القصصي ذاته. ولعل هذا ما يفسر وجود سارد يمارس "ألاعيبه" القصصية ،   دون إخلاله بمسار القص الذي يتجه نحو هدفه المرسوم، عبر تقنيات التذكر والإستباق، التوثيق والتخييل، التفسير والتأويل، الوهم والإيهام،  الجد والهزل)

ولاشك أن اختيار نمط الكتابة السردية،  في سياق القصة القصيرة جدا،  يرتبط  ب" الإزدهار" الكمي – والكيفي أيضا- الذي عرفه  هذا الشكل القصصي في الآونة الأخيرة.  ولم يتردد الكاتب في تبرير طبيعة هذا الإختبار – إبداعيا- مبرزا خصوصية هذه الكتابة ووظيفيتها،  خاصة أن – كما سبقت الإشارة- المتن برمته،  صياغة سردية لسيرة الذات، وسيرة الآخر، في آن واحد.  النص كان بمثابة فلذة من جسد لم يعد ملك السارد، بل أصبح ملكا للفضاء الذي وجد فيه من إنسان وحيوان ونبات ومرويات مختلفة. إنه احتفال بنسغ حياة  تتجدد،  بواسطة  سارد فاعل ،  ومنفعل بما مر عليه، ماضيا وحاضرا ومستقبلا.

 

هامش:1-إسماعيل البويحياوي: ندف الروح. دارالتنوخي. 2011