تقارب الكاتبة المصرية رواية تنفد الى دواخل الإنسان وتنتقد مفارقات الواقع من خلال أصوات رواة تتناوب على الحكي، فاتحة انجراحات شخوص ومخلخلة السائد المجتمعي، مع انفتاح على مطلب الوحدة كخلفية مؤطرة للحكي في ظل هذا التشظي التي تعيشه حيوات من جنسيات مختلفة.

البوح العاري: الشدو بالجراح كرثاء حار للحياة

مروة متولي

يحاور الكاتب إبراهيم الحجري العالم من حوله حواراً شاقاً في روايته "البوح العاري"، حيث يمعن في النفاذ إلى باطن الذات والتغلغل إلى أعمق أعماق النفس في مجتمعات لم تتعود الإفصاح عن مشاعرها، للكشف عن تناقضات الواقع وتحولات القيم وعن العديد من الظواهر الاجتماعية التي لا تفقد دلالاتها وقابليتها للتأويل سياسياً، لكنه بالتأكيد يذهب إلى ما هو أبعد فينزع إلى المتنوع والمتبدل مصرحاً بمعاني الحياة ووجوهها، فتجعلنا الرواية أشد استعداداً لتقبل الأشياء غير القاطعة ولرفض المنظور الذي يعتمد على اختزال الحياة في اللونين الأبيض والأسود.

أقام الكاتب روايته على أربع رواة – إضافة إلى الكاتب الفعلي للرواية – يتناوبون السرد فيما بينهم دون اقتطاع مبتسر أو توقف متعسف نظراً لعناية الكاتب بدرجة تجانس النص وتماسكه، ما أعطى الرواية صياغات متقاطعة ومتوازية من دون أن تخل تعددية الأصوات بوحدة الرواية أو بمرحلية المواقف المكونة للنص، وإنما أضافت إلى البنية الكتابية المتسقة معنى متعدد المستويات حيث تتمتع كل شخصية باستقلاليتها ونفوذها المعنوي من خلال المكاشفة والاعتراف بالأفكار التي تتخلق بأعماقها.

تبدأ الرواية مبكراً ومباشرة بالتعريف بشخوصها وبفضائها الضيق، فيلتقط القارئ خيوط السرد منذ اللحظة الأولى حيث نقرأ في أولى فقراتها:

 " أربعة كانوا، لاقتهم الصدفة على متن حافلة مجنونة تتمرد على كل الطرقات، حتى أن السفر على  متنها تحول إلى همٍّ مقيم مثلما يقف شبح الداء عائقاً في حلق الإنسان.. جاؤوا من بقاع متباعدة، تدفعهم رؤاهم وتميز بينهم سحنتاهم.. لكلٍّ لهجته وإن توحدت همومهـــم ومطامحهم.. جمعت بينهم راحات الطريق الوعرة بين الأدغال والقفــار، ويسَّر الوعثاء توتر أفكارهم واضطرابها.. كانوا يعرفون أنهم ربما لن يروا بعضهم البعض كما لم يكونوا يحلمون بالتقاء أنفاسهم وسط هذا الفضاء الصغير بين خمس وعشرين راكبا. طبعا لم يكونوا أطفالا.. ولم يكونوا لوحدهم في الحافلة.. لكن سلوكاتهم مميزة، تجعلهم نماذج تصنع الحدث تلو الحدث، كأنما هم الذين يؤججون الحركة ويزيدون اشتعالها.. لم يكن سفرهم هذا الأول من نوعه، لكنه كان سفرا متفردا أنساهم كل الرحلات، أنساهم أنفسهم جعلهم يحسون بلذة ولادة جديدة بعد الإفلات من مماتات عدة.. ثلاثة رجال وامرأة، المحجوب الصويري، صالح الوهراني، حيدة الطرابلسي ومنانة التي أرادت أن ينادوها هكذا حافية دون لقب عكس الآخرين الذين يكنون بأسماء مدنهم وبلداتهم.. كل منهم يحمل ملامح غضب دفين تجعل وجوههم تطفح بأشياء غريبة تُنَبِّه في مخاطبهم أحاسيس غامضة ".

هكذا نشعر بأن هناك ثمة تراجيديا صامتة ونعرف أن تلك الشخصيات التي لا تزال مجهولة بالنسبة إلينا لها آلامها وأن صمتها يخفي الكثير. في تلك الرحلة الواضحة/الغامضة التي يعرف القارئ موقع انطلاقها ولا يعرف شيئاً عما ستصل إليه وإلام ستنتهي أقلت حافلة "الحجري" مسافرين لم يلتق أحدهم بالآخر من قبل فإذا بهم يشكلون عالماً جديداً من العلاقات فتنفتح رحلة كل منهم على رحلة أخرى .... وما هي إلا صفحات قليلة حتى يتدفق البوح دون كبح فنكتشف كدر العالم وعكر النفوس وتتجلى مأساة الفرد المنهزم في وجوده القلق المأزوم. فنحن نقرأ في هذه الرواية عن رحلة شائكة عسيرة على متن حافلة بائسة، عن أناس ليس فيهم بقية من رمق، عن شخصيات مأزومة روحياً ونفسياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، عن بلدان هي بلدان المغرب العربي كموضوع للتأمل والمراجعة والنقد، وعن أحزان الحرمان والخيانة وأحاسيس الفقد الشامل والجزع المقيم.

ومن خلال هذا البوح المتدفق تظهر قدرة الكاتب على أن يقدم إلى القارئ فناً لغوياً مثقلاً بقضايا الإنسان وبالدلالات الإنسانية التي تثري اللغة، حيث توهج الإحساس وبلاغة التعبير وبديع تصويره لما في تلك النفوس من مرارة وضعف وحسرة وانكسار للروح وموت مجزوء، وقد برع الكاتب في التعبير عن أحاسيس الأنثى الوحيدة في الرحلة وتحليل المشاعر الخاصة بها، فضلاً عن براعته في التعبير عن مشاعر الشخصيات الأخرى في الرواية، "منانة" – العائدة إلى وطنها الذي لا يتذكر أحدا – التي تبدأ حكايتها من الحب وتنتهي إلى الكارثة، فهي فتاة قادها حب عاثر إلى ذاك الضياع الذي لا يعدله رزء، حيث الافتراس وامتصاص النخاع إلى أن تشوهت الروح كلياً حيث لا مكان للبراءة في حياة عفنة.

ترى رواية "الحجري" في مستوياتها المتعددة إلى أحوال المغرب العربي متوسلة جملة من الإشارات التي تتوزع على فصول الرواية، فنرى تعدداً معرفياً عن بلدان ومجتمعات تنزع إلى التجانس والتكامل حيث العجز يوحد الجميع في ظل انكسار حلم الوحدة والإخفاق الجماعي وسيرورة التدهور، ونحن حين نتأمل وصف الكاتب لتلك الرحلة التي تمر بكل من تونس والجزائر انطلاقاً من ليبيا وصولاً إلى المغرب أو إلى الحدود الجزائرية المغربية حيث لم يتمكن السائق من إكمال رحلته وحين نتأمل حديثه عن كل هذا العثار وعن وعورة الطريق وكثرة مطاويها وعن حال المسافر التعب المعذب المتعطش إلى الراحة، نشعر وكأنها رحلة في غياهب الزمن العربي تمر بتاريخ طويل من الحنين والأحلام والأشواق إلى وحدة تعبر عن ضرورة تاريخية في حياة تلك المجتمعات، وحين نقرأ عن مشاعر "الصويري" تجاه الشرطي الرافض لهذا الواقع الغريب المفروض فرضاً:

 " وأذكر أنني ضحكت لحظتـها حتى أنني نسيت كل ألـم السـفر، ونسيت فـواجع الانتظار.. أحببت ذلك الشرطي لأنني لاحظت في عينيه الصدق المفتقد في أصدقائه.. قال لنا وقد مل هو الآخر من سلسلة المراقبات المتتالية: - تصوروا اليوم بكامله وأنا ادس أنفي في حقائب عباد الله منذ الفجر راقبت سبعين حافلة..  ثم أضاف وهو يتأمل وجوهنا المتعبة وأجسادنا الناحلة:

-دمنا واحد.. نفس الملامح.. نفس النبض.. والنظرات الحادة نحن إخوة (قالها بحرارة واغرورقت عيناه).. أعيدوا حقائبكم اللعنة على السياسة!.."

نجد أن حلم الوحدة لا يزال رغبة تخامر الكاتب وتؤرقه، وهذه معضلة معقدة وشائكة ومضنية دون ريب، وإذا ما نحينا حلم الوحدة جانباً فإن الرواية بأكملها لا تخلو من هواجس سياسية واضحة، ربما لم يكن الحديث السياسي عالي النبرة بحيث يطغى على كل حديث سواه، إلا أنه كان يتجلى بوضوح من خلال شذرات تلمع هنا وهنالك، وكان من الطبيعي أن يشعر القارئ بأن السياسة هي السبب الأعظم في الأزمة المتفاقمة التي يرزح الجميع تحت وطأتها بعد أن انحرف الساسة بوجوههم وضمائرهم عن الناس. ويبدو هذا واضحاً على سبيل المثال في كلمات "حيدة الطرابلسي" الذي هو نتاج علاقة محرمة بين امرأة ليبية ورجل مصري حمل بلا ذنب خطيئة لم يرتكبها، ووسط مجتمع لا يعرف الرحمة قرر الانتقام لنفسه هو الذي يحمل لقب "اللقيط" من خلال أفعال منحرفة لا يتوقف عنها فلا ترحمه الحياة ولا هو يرحم من فيها:

 " لن أعيش على قيم هذا المجتمع ما دمت مطروداً من رحمته، سأهيم على وجهي في أرض الله الواسعة، أقتطف ما حل وحرم من ملذات ومشتهيات، سكر دائم، أنثى بالليل وأنثى بالنهار .. عبث ومجون، قلب الله الديا وما فيها .. اللعنة على السياسة والسياسيين، لن أهادن الحياة لأنها قست علي".

أما "صالح الوهراني" الذي هو حطام إنسان خرج من سجن ملعون في صحراء حاسي مسعود، بعد أن كان طالباً بالجامعة وأحد عناصر الحركة الطلابية بالجزائر فكان من الطبيعي أن يكون سرده محملاً بالكثير من الآلام الرهيبة: "الزنزانة كوة، من خلالها تطل على الجحيم الآخر، كثيرون يفضلون السجن على أنه ظل يمكن أن يستجار به من قيلولة الرذيلة والخطيئة وحمم الجريمة التي يمكن أن يتورط فيها المرء .. يفضله البعض على أنه مخلص من قيلولة واقع لا يرحم ولا تستطيع أن تضمن فيه لقمة عيش وكوب ماء. ولكن قل لي يا سعيد: هل خلقنا نحن لمثل هذه الكهوف المعتمة؟ ها أنت ترى أننا لم نرتكب جرماً ولم نغتصب حق أحد".

ويتساءل هو المناضل الشريف ببلاغة مؤلمة: "اللعنة! لماذا تبنى الصروح والأمم بدماء الشرفاء ليتمتع فيها الرعاع من دون عناء؟؟".

"صالح الوهراني" الذي لاقى من تعذيب وامتهان لإنسانيته واعتداء على آدميته، يتأمل حال بلاده وتاريخها العظيم: "أطل صالح بوجهه العربي العريض الجبين من نافذة غرفته الفوقية، فتراءت إليه الوجوه المكدودة تعبر الشارع الذي عرف سقوط دماء العديد من الشهداء وكانت أجسادهم المتعبة تترنح كأنما تتأمل الإسفلت لتقرأ قطرة دم أو أثر وشم لاصق".

"الوهراني" الذي خسر كل شيء في السجن سيبقى يخسر أبداً حتى بضائعه القليلة قد خسرها في تلك الرحلة البائسة، يعيش هكذا بلا أي علاقة بالحياة "وإن كنت الآن في عداد الأموات .. فإن لم يكن فأنا في عداد المفقودين .. وإن لم يكن فأنا في عداد المجانين والحمقى".

وبشكل عام تنطوي الأصوات الأربعة في إحالاتها المتبادلة على الإحساس العميق بالفجيعة والمرارة والحسرة حيث أرهق الواقع الذي يبدو جاثماً جثوماً أبدياً عقولهم وكدر صفو حياتهم، فترك فيهم ندوباً موجعة تلازمهم إلى الأبد، فهذه الأصوات في مجملها تمثل الإنسان المنهزم بالمعنى العميق الذي يلاحقه سؤال الهزيمة بينما هو يناغي أقل ممكنات الحياة.

 

كاتبة من مصر